الظواهر الإجرامية المستحدثة أكدت ذلك
عقوبات الجلد التعزيرية … هل حان الوقت لتقنينها بدلاً من الاعتماد على اجتهاد القضاة؟
تحقيق – نوال الراشد
من الملفات المحلية الساخنة التي أثيرت بدرجات متفاوتة في وسائل الاعلام مؤخرا تسليط الضوء على القضايا الجنائية والظواهر الإجرامية المستحدثة التي طرأت على المجتمع وما صدر عن تلك القضايا من أحكام وعقوبات شرعية تم تنفيذها على المجرمين والخارجين عن القانون حيث سعت هذه الأحكام لحماية الفرد والمجتمع ومكافحة الجريمة والحد من وقوعه.
ولقد كان أكثر ما تم طرحه للنقاش في مجمل هذه القضايا الجنائية التي لم تقتصر على وسائل الإعلام المحلية انما ايضا الأجنبية التي ركزت في نشرها على الأحكام التعزيرية وخاصة المتعلقة بعقوبات (الجلد) مما فتح المجال للمناقشة والبحث حول أهمية تقنين و(تقدير العقوبات التعزيرية) في أنظمة القضاء في المملكة وخاصة بعد صدورور نظام القضاء الجديد الذي جاء ليعمل على تطوير وضبط العمل القضائي وتحقيق استقلالية القضاة وتوحيد جهات التقاضي، ولأهمية هذا الموضوع تم فتح هذا التحقيق الصحفي حول تقنين العقوبات التعزيرية في (الجلد) والذي شاركنا في بناء محاورة عدد من أصحاب الفضيلة المشايخ والباحثين والمتخصصين الشرعيين والقانونيين الذين قدموا آراءهم الشرعية والفقهية على كل ما يتعلق بهذا النوع من العقوبات.
الطفرة التشريعية في المجتمع
في بداية هذا التحقيق ذكر لنا الباحث القانوني الاستاذ محمد السهلي اهمية تطوير نظام العقوبات في القضاء فقال تشهد المملكة في السنوات الأخيرة ما يمكن ان نطلق عليه بالطفرة التشريعية، فقد صدرت العديد من الأنظمة والتي شملت مجالات عدة، وهي تعتبر نتيجة طبيعية للتغيرات الملحوظة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع السعودي، ولعل آخرها كان صدور نظامي القضاء وديوان المظالم في رمضان الماضي وما ترتب عليهما من اعادة تشكيل المحاكم ودرجات التقاضي، وهي نقلة نوعية في مسيرة اصلاح وتطوير اجهزة القضاء في المملكة، الا ان هذه المسيرة لن تكتمل الا بخطوات اخرى لا تقل عنها اهمية وهي تقنين أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالعقوبات، اي اصدار للعقوبات خاصة فيما يتعلق جرائم التعزير، ونشير هنا الى أن بعض الدول الإسلامية لديها تجارب متميزة في سن قانون متكامل للعقوبات دون ان تكون اي من مواده مخالفة لأحكام الشريعة الاسلامية، وفي المملكة لدينا بعض الأنظمة المقننة لجرائم التعزير مثل الرشوة والتزوير والتزييف، وهي أنظمة تعطي أنموذجا لامكانية التقنين متى ما دعت الحاجة والمصلحة لذلك، وهي قائمة الآن بلا شك، وكذلك صدرت وثيقة الدوحة للقانون (النظام) الجزائي الموحد لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1418ه وهو قانون استرشادي أقر من وزراء العدل في دول المجلس، ويتكون من 556مادة اشتملت على الأحكام العامة والعقوبات والتدابير الوقائية، والحدود والقصاص والدية والعقوبات التعزيرية، وهو قانون يستحق الاشادة من ناحية صياغة مواده وشموليته، ولعل المطلع على مثل هذا القانون وغيره قد تبدد لديه أية مخاوف او شكوك قد تعتريه من عدم امكانية سن نظام للعقوبات لدينا مطابق لأحكام الشريعة الإسلامية.
التعزير معناه وعقوبته
التعزير في اللغة هو التعظيم والنصر، ومعناها الشرعي هو التأديب على الذنوب التي لم يشرع فيها الحدود، والتعزير تأديب كل معصية لله أو لآدمي لاحد فيها ولا كفارة، يقول الشيخ عبدالمحسن العبيكان لا يشك مسلم في مشروعية تنفيذ عقوبات التعزير فهي ثابتة في كتاب الله والسنة قال تعالى: (والزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) الآية 2سورة النور، ولقد قام النبي صلى الله عليه ولم بجلد شارب الخمر 40جلدة وكذلك فعل أبوبكر الصديق في عقوبة شارب الخمر واما عمر بن الخطاب فقد زادها الى 80جلدة واجمع المسلمون على مشروعية تنفيذه على من يقوم بمعصية.
أنواع التعزير وكيفية تنفيذه
الشيخ عبدالمحسن العبيكان يقول اشترط الفقهاء في ضوابط وحدود وتنفيذ آلية التعزير في الجلد الشرعي هو ان يكون بسوط لا جديد ولا خلق، بحيث لا يؤذي المجلود ولكنه يؤلمه ألماً محدودا وايضا ان يتم الضرب في مواقع في الجسد التي يكثر فيها اللحم كالفخذين ونحو ذلك، بحيث لا تشوه له خلقه ولا تكسر له عظماً، ولابد من ملاحظة قوة بدن الشخص المجلود او ضعفه فالعلماء قالوا لا يرفع يد الجلاد بالسوط بحيث يرى أبطه فلا ينبغي للجلاد رفع اليد في تنفيذ الجلد بحيث يرى ابطه فالقصد من الجلد الايلام بالزجر وليس الاتلاف او التعذيب.
كما يذكر الشيخ العبيكان بان الجلد هو جزء من أجزاء التعزير ومنه التوبيخ والايقامة من المجلس بان يقل له قم هذا نوع من التعزير، اللوم نوع من التعزير والحبس نوع من التعزير، حرمان الانسان من شيء نوع من التعزير.
جلد المرأة والرجل
وعن تنفيذ الجلد على المرأة يقول الدكتور محمد المشوح لقد حفظ الشرع حقين من حقوق الناس حق الصغير وحق المجنون وهما فقط من لا يحسبان أو يعاقبان أما المرأة فهي كالرجل في الأحكام لها ما له عليها ما عليه وينالها ما يناله حين تخطئ أو تقصر الا ان القضاة عند حكمهم غالبا ما يقدرون الفروق النفسية والجسمية بينهما وانه ربما يكفيها جزء يسير مما يستحقه الرجل لترتدع وتتأدب.
ايقاف الجلد على المرأة
وحول ايقاف تنفيذ التعزير بالجلد على المرأة يقول الشيخ عبدالله بن منيع على المنادين بايقاف تنفيذ الجلد على المرأة في العقوبات التعزيرية ان يتقوا الله فالمرأة اذا اقترفت جرما وأدينت به عليها ان تتحمل ما اقترفته وتنفيذ العقوبة التعزيرية عليها بالجلد تتحمله مثل ما يتحمله الرجل فهي تخطئ وتصيب وتذنب وتتوب مثله، وكذلك فيما يتعلق باقامة حدود الله سبحانه وتعالى وتنفيذ اوامره في الأحكام وتطبيقه للحدود فلقد ورد في القرآن تطبيق الحدود على الرجل والمرأة فقال (الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) فاذا كانت امرأة مستقيمة فلها حق الاعتراض واذا كانت منحرفة فيجب ان يعدل انحرافها حسب ما اقترفته من ذنب ولا فرق بين الرجل والمرأة في اقامة الحدود والأحكام التي يقدرها القاضي من خلال الامور والقرائن ثابتة لديه وتنفيذ فيها مثل ما ينفذ على الرجل.
تعزير العقوبات الشرعية
الشيخ عبدالله بن منيع يؤكد تميز القضاء الإسلامي بأنه صالح للتطبيق في كل زمان ومكان والقوانين الشرعية مستمدة من (كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم) واهمية العمل على تعزيز العقوبات الشرعية واجب على المجتمعات المسلمة المحافظة عليها وتطبيقها، والله سبحانه وتعالى هو خالقنا وهم اعلم بأحوالنا وبالأمور التي تتحقق بها مصالحنا وهو المشرع لهذه الأحكام الحدودية أو التعزيرية ولا شك أن في تطبيقها صالح للمجتمع وتنفيذها يعتبر مصدر من مصادر الأسباب في زجر المجرم ردعه والابتعاد عن الدخول في قضايا الإجرام، ونحن مع الأسف الشديد اليوم أصبحنا نرى أن حقوق الإنسان من مبادئ العمل فيها النظرة إلى المجرم نفسه ونصرته والوقوف معه وهذا في الواقع يتنافى مع ما تقتضيه العدل ومع ما تقتضيه تطهير المجتمعات من الظلم والعدوان والانحراف والإجرام، كما يجب ان يتعلق المجتمع بحقوق المسلم المظلوم أو العامل والنافع في مجتمعه الذي يحتاج إلى العناية به والدفاع والمحافظة على أمنه والاطمئنان عليه والحريص على جميع ما يتعلق بحقوقه المدنية أما المجرم الذي يتجاوز حدود الله فهو مجرم يجب أن يعاقب ويزجر لردعه ولا يجوز لأي مسلم من المسلمين أن يستكثر أو يستغرب أو يستنكر ما ذكر من أحكام شرعية قد ذكرت في كتاب الله أو سنة رسوله فهذه الأحكام والحقوق والحدود والتعزيرات تشريع من رب العالمين وهو خالقنا وهو اعلم بأحوالنا ما تصلح به تلك الاحوال وما يجب ان تظهر به تلك المجتمعات من أسباب الجرائم ومن أسباب الظلم والعدوان وانتهاك المحارم.
الباحث الشرعي يوسف أبا الخيل يفند أهمية تعزيز العقوبات الشرعية بقوله كما هو معلوم بأن العقوبات في الشرع الإسلامي تنقسم إلى قسمين:
الأول: العقوبات المقدرة والمحددة سلفاً وهي المعروفة ب”الحدود”. والحد في اصطلاح جمهور الفقهاء: “عقوبة مقدرة شرعاً، سواء أكانت حقاً لله أم للإنسان”.
وهذه الحدود عند جمهور الفقهاء هي: حد الزنا وحد القذف وحد الإسكار وحد الحرابة وحد السرقة وحد القصاص. ولا مناص أمام القاضي من الحكم بغير هذه الحدود إذا توفرت في القضايا المعروضة عليه أركان وشروط الجريمة التي تستوجب عقوبتها بحد من تلك الحدود، وبالتالي فهذه العقوبات تعتبر – من ناحية نظرية – بمثابة عقوبات مقننة محددة لا مجال فيها للاجتهاد، كما لا مجال فيها للعفو أو الإبراء أو الشفاعة أو الإسقاط. ويمكن لنا تعزيز هذه العقوبات بما يلي: العقوبات الشرعية المحددة في القرآن هي خمس عقوبات: حد الزنا وحد القذف وحد الحرابة وحد السرقة وحد القصاص، وأضافت لها السنة (سنة الخلفاء الراشدين) حداً سادساً هو حد الإسكار. ويمكن في تقديري تعزيز هذه العقوبات بتحديد مجالات تطبيقها تحديداً حازماً لا تهاون فيه ولا تجاوز. فمن قامت عليه الحجة في ارتكاب أي من تلك الجرائم المستحقة لواحدة من تلك العقوبات، وجب تنفيذالحد فيه، سواء كان الحد قتلاً أو قطع يد أو جلداً، ويجب أن لا تأخذنا في تنفيذها لومة لائم مهما كان، سواء كانت دوائر غربية أو شرقية، فبلدنا “المملكة العربية السعودية” شاسع المسافات، تقارب مساحاتها مساحة قارة بأكملها، ولا يمكن أن يحتفظ بالأمن في هذه المساحات الشاسعة ما لم تطبق الحدود على تلك الجرائم كما نصت عليها الشريعة.
الباحث القانوني محمد السهلي يذكر أهمية تعزيز العقوبات الشرعية فيقول الجرائم في الشريعة الإسلامية تنقسم إلى حدود وقصاص وتعزيز، وجرائم الحدود والقصاص تم النص على عقوباتها بشكل دقيق بخلاف جرائم التعزير. والتعزير هي عقوبة تقدر على معصية لا حد فيها ولا كفارة، وتندرج العقوبة التعزيرية في الفقه الإسلامي من النصح والوعظ والتوبيخ إلى التشهير والإنذار والغرامة وتنتهي بالسجن والجلد وقد تصل أحياناً إلى القتل تعزيراً. فالحاجة العملية تحتم الآن سن نظام للعقوبات لما في ذلك من مصالح جمة رغم مايكتنف الموضوع من جدل وخلاف كبيرين، فهناك عدد من علماءالدين والفقهاء سواء في الوقت الماضي أو الحاضر يؤيدون مثل هذا العمل بل ويطالبون به. والتقنين سيكون خلاصة ما يمكن العمل به من الأحكام، وبالتالي يسهل على القضاة وأعوانهم من المحامين بل وعامة الناس الاهتداء إلى القاعدة القانونية بيسر وسهولة، واختصار الكثير من الوقت والجهد.
اختلاف العلماء في التعزير
الشيخ العبيكان يقول تكلمنا في هذا الموضوع منذ سنوات ولازلنا نتكلم في أهمية هذا الأمر وهو تقديرالعقوبات التعزيرية في الجلد بل هذا ما نصت عليه الترتيبات القضائية في استحداث لجنة مختصة بحيث يوضع لها حد أعلى لا يتجاوزه القاضي ولكل جريمة عقوبة مناسبة يضعها أهل الاختصاص من علماءوقضاة كبار ومتخصصين في العلوم النفسية والاجتماعية والمسؤولين في أجهزة الأمن، إذا اجتمعت هذه اللجنة واتفقت على تقدير العقوبات لكل جريمة بحيث يوضع لها حد أعلى في الحكم كما يوضع لها شيء تقريبي للقاضي فهذا يحد من الاختلافات التي نراها في الأحكام الصادرة اليوم وتضارب هذه الأحكام وتفاوتها تفاوتاً كبيراً يدعو إلى الانتقاد والتظلم، ولانعرف في سلفنا الصالح من العلماء الإجلاء انه كان يضرب المجرم ويجلد الى عدد كبيرمن الجلدات يصل إلى الآلاف، فعمر بن الخطاب قد قام بجلد من زور خاتمه 100جلدة واعتبرت هذه في وقتها كثيرة والمبالغة فيها، فإصدار اعداد الجلد الى حد الآلاف لانعرفه في الشريعة والرسول (صلى الله عليه وسلم) جلد 80جلدة والقرآن ذكر 100جلدة بحق الزاني أما المبالغة بآلاف فهذا أمر غير مستساغ في الأحكام ويكتفى بهذا العدد الكبير من الجلد بالسجن، ويختم رأيه في هذا المحور ويقول فالتعزير بابه واسع ولكن من المؤسف أننا نلاحظ عدداً من القضاة لا يعرفون في التعزير سوى الجلد والسجن والجمع بينهما يسجن ويجلد وهذه نراها في أغلب القضايا التي تصدر الآن ليس هذا مسلكاً سديداً بعض الجرائم يكتفى فيها بالسجن فقط وبعضها يكتفى بالجلد فقط وبعضها يجمع بين الأمرين فليس دائماً يجمع بين الجلد والسجن الذي نسمع به كثيراً وهذا خلاف المطلوب فينبغي أن يحدد لكل جريمة عقوبة ولكل جنحة عقوبة مناسبة له.
الشيخ ابن منيع يقول في الواقع فيما يتعلق بالحدود الشرعية فهي محددة من الله تعالى فمعلوم أن الزاني على سبيل المثال أن كان محصناً فله حد وان كان غير محصن فله حد والسارق كذلك شارب المسكر وهؤلاء مكتملة فيه أسباب وشروط إقامة الحد فالحد معروف ولا يختلف عليه واحد عن آخر وكذلك في حد المحاربة ونحو ذلك، أما إذا كانت المسألة مسألة التعزير والردع ولا يجوز أن يصرف النظر عنه بل يجب أن يعطى المتهم ما يستحقه من العقوبة في التعزير بالجلد وفق ما لدى القاضي من بينات وقرائن وأدلة تدينه فلا ينبغي ان نقول يجب أن نقنن التعزير رادعاً للمجرم على ما اقترفه من جريمة توجيه القاضي إلى الحكم بتعزيره بناء على ما لديه في القضية التي تأتي في أحوال مثبتة فيها الظروف والقرائن والأحوال فنحن نقول بناء على هذا فيما يتعلق بالحدود فهي مقننة وأما ما يتعلق بالتعزيرات فلا يجوز تقنينها فكل قضية تختلف عن الأخرى من حيث الاتهام والإثبات والقوة الضعف إلى اخره.
الباحث أبا الخيل : تقنين العقوبات هذه الأحكام تخص القسم الثاني من أقسام العقوبات الشرعية وهي العقوبات التي لم يقدر فيها حد معين، بل ترك أمر تقديرها للإمام، والذي ينوب عنه القاضي في عصرنا الحاضر، وقد سميت بالفقه الإسلامي ب”الأحكام التعزيرية”.
وهذه هي التي تقع فيها الإشكاليات الكبيرة من ناحية اختلاف الاجتهادات فيها بين قاض وآخر. مما يستوجب ضرورة تحديد ثم تقنين العقوبة لكل منها تلافياً للحرج الذي تولده تباين الأحكام في القضايا المتشابهة، وهذا الحرج يؤثر على من وقعت عليه العقوبة وعلى المجتمع الذي سيتضرر سلباً في حالة عدم كفاية العقوبة أو زيادتها عن المعقول، طالما بقيت بلا ضابط يضبطها لكن لابد لنا قبل المطالبة بتقنين الأحكام التعزيرية من مراعاة عدة أمور:
أولاً: أن الإسلام أناط بالإمام – من حيث الأصل – مهمة تحديد العقوبات التعزيرية، وتصدي القضاة لهذه المهمة هو من باب إنابته لهم فيما هو من اختصاصه، ومع ذلك فلابد من التأكيد على أن الإسلام – حين شرع العقوبات التعزيرية – كان يشرع لوضع سياسي واجتماعي مختلف تماماً عن وضعنا الحالي. فمن جهة، كان إمام المسلمين واحد، وكان يتولى بنفسه، غالباً، القضاء والإفتاء والخراج وكل شيء تقريباً، وبالتالي فمن الطبيعي أن المحيطة بكل جريمة على حدة. وإذا ناب عنه القضاة، فهم بدورهم محدودون، مثلما هي محدودية مجتمعاتهم والجرائم التي كانت تعرض عليهم كماً ونوعاً. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فقد ترك الإسلام الباب مفتوحاً لتقنين أحكام محدودة للجرائم المستقبلية المصنفة عقوباتها تحت بند العقوبات التعزيرية، لتكون حدوداً معروفة بعد ذلك، كما هو الحال مع جريمة السكر التي لم يكن لها حد معين، بل كانت عقوبتها تعزيرية ترجع لرأي الإمام، إلا أن أتفق على وضع حد نهائي لها في زمن الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثانياً: الشرع وإن أعطى سلطة إنابة الإمام للقضاة في تقدير العقوبات التعزيرية، فهو لم يتركها سائبة، بل وضع لها ضوابط، من أهمها أن يكون القاضي الذي سيقدرها عالماً بلغ رتبة الاجتهاد، كما هو مقرر عند المالكية والشافعية والحنابلة. فهل القضاة الذين يتصدون لتقدير العقوبات التعزيرية في محاكمنا حالياً قد بلغ علمهم هذه المرتبة؟ هذا فيما اختلف الوضع تماماً في حياتنا المعاصرة، التي لا يميزها تعدد دول وأئمة المسلمين فحسب، بل وكذلك تعدد القضاة في المحلة الواحدة، بما سيعطي تبايناً شديداً يؤثر على فاعلية الحكم نفسه تجاه الجريمة التي يغطيها، وهو ما نشاهده اليوم في واقعنا المحلي، وتقنين الأحكام التعزيرية أصبح من الضرورات الملحة علينا في وقتنا الحاضر، يقول الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (الفقه الإسلامي وأدلته) ما نصه: “لابأس من تقنين العقوبات التعزيرية واعتماد الدولة نظاماً محدداً للجرائم والعقوبات التعزيرية، فإن أصل التفويض في تقدير التعزير هو الإمام أي رئيس الدولة إذا كان مجتهداً وتصدى للقضاء، أما إذا ناب عنه قضاة متخصصون فيجب أن يتقيدوا بما يقيدهم به من أنظمة وقواعد”.
الدكتور المشوح يقول من الطبيعي أن نعرف أن الاجتهادات بين القضاة غالباً أو دائما ما تكون وتظهر في القضايا التعزيرية والتي تعرف بأنها معصية لله أو لأدمي لاحد لها ولا كفارة وإنما تكون باجتهاد الحاكم أو القاضي ويقصد به بذل القاضي جهده وسعته في استنباط الحكم وحين نعرف أن القضايا التعزيرية هي مناط وموضع اجتهاد القاضي فمن المتوقع ان تجد التفاوت والتباين وذلك لأمرين اختلاف آراء القضاة واختلاف احوال المحكوم عليهم المهم أن نعرف ما هو المقصود في القوانين الشرعية هل هي الحدود الشرعية أو الأحكام التعزيرية التي تلجاء إلى تقديرات القاضي فالحدود التي ورد فيها النص ليست مجال اجتهاد أو تقنين أو مراجعة لورود النص المحكم فيها، إما التعزير فقد وضع الشارع للعباد مساحة وفسحة للرأي والاجتهاد ولقد اختلف أهل الرأي في أولوية التقنين من عدمه والحقيقة أن التقنين في التعزير يختلف عن التقنين في الشريعة وذلك أن الأول مبني على اجتهاد الحاكم أو القاضي بينما الثاني قطعي الدلالة والثبوت فتقنين التعزير بمثل هذا الزمان وهذه الأوقات تظهر منفعته وأهمية من جوانب عدة منها مساعدة للقضاة في انجاز قضاياهم وسرعة إنهائها وكذلك توعية الناس في العقوبة المنتظرة ليكون رادعا وزاجرا ومحذراً للمجرمين إضافة إلى أن التقنين يساعد على ضبط الأحكام من عواطف بعض القضاة فطبيعة كل قاض تختلف عن الآخر في حزمة ولينة وتقديره وتحليله وتهويله وتهوينه كذلك التقنين الحفظ من التهم التي تنال القضاء والقضاة في أحكامهم وتفاوتها بينهم مما يشكك في عدالة القضاء ونزاهته عند الآخرين كذلك يساعد على ضبط الجرائم فتتكرر جرائم متشابهة في أوقات متقاربة تتباين وتتفاوت فيها الأحكام مما يدعو ويثير التساؤل وهناك غيرها من الأسباب التي تدعو إلى تقنين التعزير بمثل هذا الوقت والزمان.الحلول في تقنين التعزير.
يقول السهلي أما فيما يتعلق بعقوبة الجلد كعقوبة تعزيزية فتحتاج الى مراجعة، فالجلد بلا شك انه عقوبة مقررة في الشريعة الإسلامية في بعض جرائم الحدود، فمثلاً عقوبة الزاني غير المحصن مائة جلدة، وعقوبة القذف ثمانين جلدة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “لا يجلد فوق عشرة اسوطا الا في حد من حدود الله” رواه داود في سننه، ورغم الاختلاف في تفسير هذا الحديث من قبل العلماء، والاختلاف في المذاهب الأربعة على الحد الأعلى لعقوبة الجلد في الجرائم التعزيزية، الا ان هذا الخلاف لم يصل الى العدد الذي يحكم به بعض القضاة الآن. فهناك اسراف ومبالغة واضحة في العقوبات قد تصل الى 2000جلدة على سبيل المثال، وهذا التفاوت الملحوظ في احكام القضاة في عقوبة الجلد هي نتيجة حتمية لغياب اي ضابط او معيار او نظام للعقوبات.
الباحث ابا الخيل ويمكن ان نعزز رأينا بضرورة “تقنين” الأحكام التعزيزية بما يلي:
@ مقصد العقوبة في الشريعة الإسلامية اصلاح المجرم وتقويمه وزجره عن ان يأتي بمثلها او غيرها مستقبلا، وكذلك صيانة المجتمع من ان يكون عرضة للجرائم والفساد. يقول الدكتور حسن درويش في (الجريمة والتنمية) “إن الهدف من الشريعة والأنظمة الوضعية هو تقويم المجرم، ومعنى هذا المبدأ ان ألم العقوبة ليس هدفا بحد ذاته، وإنما هو وسيلة الى غاية، هي تقويم الجاني، فلا داعي والحال هكذا لإيلام المجرم او إذلاله ولا تكليفه بعمل في السجن ما لم يكن وراء ذلك تقويم المجرم”. وإذا كان الأمر كذلك، فلابد من تناسب العقوبة مع المجرم، فإذا نقصت عنه لم تؤد هدفها من تقويم المجرم وردعه، وإذا زادت عنه هدمت نفسية المجرم وأعادته مرة اخرى الى حظيرة الإجرام بأشد مما كان عليه سابقا. ولذلك، فقد اختلف العلماء في الحد الذي يجب ان لا تتجاوزه عقوبة التعزير، فقال الحنيفة: لا تتجاوز اقل الحدود، وهي اربعون جلدة (حد العبد في الخمر والقذف).
وذهب الشافعية الى نفس الرأي، فيما رأى الحنابلة – وفقا لما ذكره ابن رجب في القواعد – انه لا يبلغ بتعزير الحر ادنى حدوده. ودليلهم فيما ذهبوا اليه حديث ابي بردة الأنصاري في الصحيحين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يجلد فوق عشرة اسواط الا في حد من حدود الله تعالى).
وقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الطبراني والبيهقي (من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين). لكن قد يعترض على هذا القول بأن الجرائم النوعية التي قد تزلزل المجتمع في عصرنا الحاضر لا يمكن معها تطبيق الحد الأعلى من عقوبة التعزير الوارد في هذه النصوص، مثلا: جرائم الاختطاف، لا يمكن ان نتصور ان عقوبتها المقومة للمجرم والحامية للمجتمع تكون مجرد أربعين سوطا!! وللخروج من هذه المشكلة نؤكد على ان الشريعة قد حثت على تقنين العقوبات بما يتناسب والجرم التي تغطيه، ومتى ما قننت العقوبة اصبحت عقوبات أصبحت حداً لها نفس احترام الحدود المعروفة فمثلا عقوبة شرب الخمر، كانت عقوبتها تعزيرية لم تقدر بقدر معين، ما عدا ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال (من شرب الخمر فاجلدوه) وهناك روايات عنه صلى الله عليه وسلم انه جلد اربعين كما جلد ابو بكر اربعين ايضا، وعند ما جاء عمر زادها الى ثمانين، فثبتها (قننها) علي رضي الله عنه على الثمانين، فصارت حدا. وعلى هذا فمتى قننت العقوبات، أصبحت عقوبات محددة لا تطبق عليها آلية العقوبات التعزيرية، خاصة من ناحية الحد الأعلى الذي لا يجب ان تتجاوزه، لأن هذا الحد الأعلى الذي جاءت به النصوص، لم تأت به الا لقطع دابر المجاوزة في العقوبات التعزيرية وتناقض تلك الأحكام فيما بينها، اصبح مبدأ “لا عقوبة الا بنص” مبدأ عقابيا عالميا بعد أن تبنته الثورة الفرنسية عشية انطلاقها عام 1789م.
وجاء هذا المبدأ على اثر ما لاحظه المفكرون والفلاسفة الذين اثروا الثورة الفرنسية فكريا من تعسف القضاة الذين كانوا يحكمون بلا مواد قانونية مكتوبة ادت بهم الى مجاوزة الحد في العقوبات والإسراف في انتهاك حريات الأبرياء.
الهيئات الحقوقية
@ كيف نوضح للمنظمات والهيئات الحقوقية العالمية اهمية المحافظة على الأحكام الشرعية في القضاء الذي نستمده من تعليم ديننا الإسلامي؟
@ الشيخ ابن منيع يقول في الواقع والمستغرب الآن من مناداة منظمات حقوق الإنسان العالمية الدفاع عن المجرم وهذا يعتبر من اكثر الأمور الخاطئ، كما ان هذه المنظمات الحقوقية التي تطالب بمنع الجلد في المملكة نقول لهم ان هذه العقوبات والأحكام انها مستمدة من الشريعة الإسلامية الذي هو ديننا ودستور عيشنا وحياتنا وان تنفيذها نابع من تعاليم ديننا الإسلامي لنا ونحن نتبع ما امرنا به الله عزوجل.
@ الشيخ العبيكان يقول لكل بلد دستور وأنظمة ولا يجوز لبلد او منظمة او هيئة ان يتدخل في البلد الاخر وهذا نوع من التسلط نوع من فرض الوصاية نحن لنا دين ولنا دستور ودستورنا القران الكريم ونعمل به ونحن راضون جميعا بهذا الدستور والعمل بما في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم).
أبا الخيل ينبغي ان نؤكد على ان رفض الهيئات العالمية او المنظمات الحقوقية لنوعية عقوبة معينة، يجب ان لا يكون معيارا لنا لتقريرها من عدمه. فتقرير وتحديد العقوبات التعزيرية يجب ان يخضع لظروف بلادنا واحتياجاتها الأمنية التي تختلف بالتأكيد عن كثير من البلاد غيرها. كونها – أي المملكة – ذات أراض شاسعة ومفازات ومساحات تصل الى شبه قارة، وبالتالي فمن المهم التأكيد على ضرورة ردع المجرمين وتنفيذ العقوبات المقررة بحقهم متى ما صدرت وأصبحت واجبة التنفيذ، سواءً أكانت حدودا او عقوبات تعزيرة. ولا يمكن في تقديري ان يستتب الأمن ويأمن الناس على حياتهم وعلى اموالهم وأعراضهم مالم تكن العقوبات رادعة بحقهم. خذ مثلا جريمة الاختطاف، والتي بدأنا نسمع عنها بين الفينة والأخرى، لا يمكن في تقديري الحد منها وردع من تسول له نفسه القيام بها اذا نحن فتحنا آذاننا لنقد المنظمات الحقوقية العالمية المسيسة في كثير منها، واكتفينا بمجرد جلد مرتكبها بضعة اسواط وسجناه بضع سنوات يقل عددها عن عدد اصابع اليد الواحدة. نحن نستطيع ان نرد على نقد تلك المنظمات بتقنينا للعقوبات التعزيرية تقنينا يضمن تناسب العقوبات مع الجرائم التي تعالجها، وبتحديث جهاز القضاء على مستوى الأفراد بعد ان حدثناه على مستوى الأنظمة والأجهزة. وحينها لا يمكن لتلك المنظمات ان تدعي اننا غير مراعين لما يجب علينا مراعاته من تناسب العقوبات مع الجرائم.
@ الدكتور المشوح من منا لا يعرف ان لكل بلد ودين منهجه وطريقته في حفظ الأمن وتأديب المقصر والمجرم ومن حق هذا البلد ان يمارس ما يعتقد ويفعل وما يرجو انه هو الصواب ولعل هذا السؤال هو ما يدعونا الى التقنين في التعزير حفظا لصورة الإسلام من مريديه ولكن من المهم الا نجعل هذه الآراء هي التي تسير قراراتنا وحين نتحدث عن بعض هذه الجهات المطالبة بالكف فإننا نذكر كذلك آخرين منهم قد اشادوا بالشريعة الاسلامية وحفظها للحقوق واذكر مقولة للمفكر ادمونديرك يقول فيه ان القانون المحمدي قانون ضبط للجميع من الملك الى اقل رعاياها وهذا القانون نسج بأحكام نظام حقوقي وشريعة الإسلام هي الأعظم تشريع عادل لم يسبق قط للعالم ايجاد مثله ولا يمكن فيما بعد.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً