جريمة التمييز وخطاب التحريض على الكراهية
عبدالله الشملاوي
محامٍ بحريني
في السنوات الأخيرة، أسفرت الأحداث المنطوية على خطاب الكراهية، والتنميط السلبي في وسائط الإعلام، حتى على دعوة شخصيات عامة وقيادية وأحزاب سياسية إلى الكراهية الدينية أو القومية، وأسفرت عن عمليات قتل لأشخاصٍ أبرياء وهجمات على أماكن عبادة ودعوات إلى الانتقام، ودوامة للعنف.
وهو ما يُحتم البحث عن التوازن الصحيح بين حرية التعبير، وهي من أثمن حقوقنا كبشر وأكثرها جوهرية، والحاجة التي لا تقل عنها أهمية، إلى حماية الأفراد والمجتمعات من التمييز والعنف أو التحريض عليهما، أو على أيّ منهما، بحسب ما ورد على لسان مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان السابقة السيّدة نافي بيلاي.
وفي معرض الإشارة إلى المعادلة المعقدة بين حرية التعبير والحماية من التحريض، سلّمَتْ بيلاي بأن الآراء بشأن هذه المسألة شديدة التباين، حيث دعا البعض إلى فرض قيودٍ أشد صرامةً على التعبير المسموح به، بينما أكد آخرون أن حُرية التعبير ينبغي أن تكون شِبهَ مطلقة، وأشاروا إلى أن القوانين التي تقيّد التعبير والحرية كثيراً جداً ما تُسيء السلطات استخدامها لتكميم أفواه الناقدين ولإسكات المعارضة؛ بزعم أن فيما تقوله المعارضة ما يتضمن تحريضاً على الكراهية لها كسلطة، أو بُغضاً لطائفة معينة، وذلك بتطبيق انتقائي للنصوص، حتى بعدم السير بنسق واحد في خفة أو شِدة العقوبات، فيتحوّل القانون من وسيلة إنصاف، إلى أداة للبطش.
وقد تناول قانون العقوبات البحريني مسألة التحريض على الكراهية في المادة رقم (172) حيث نصت على أنْ: «يُعاقب بالحبس مدةً لا تزيد على سنتين وبالغرامة التي لا تجاوز مئتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين من حرّض بطريقٍ من طرق العلانية على بُغض طائفة من الناس أو على الازدراء بها، إذا كان من شأن هذا التحريض اضطراب السلم العام».
ولا شك أن هذا النص ظاهر العيب من جهة صياغته الفضفاضة التي تتنافى مع الفلسفة الجنائية في وجوب انضباط النص الذي يتضمن تجريماً لسلوك إنساني؛ وخصوصاً مع انعدام وجود معيارِ أو ضابط لمفهوم السلم الأهلي، وكيف ومتى يتعرض للاضطراب من نقد معارض لرأي السلطة، النّزاعة للتسلط أصلاً، فضلاً عن وضوح مفهوم وحدود ذلك الاضطراب.
خطة عمل الرباط
ولقد وضعت خطة عمل الرباط، أداةً عمليةً لمكافحة التحريض على الكراهية، وفريق الخبراء المرموقين الذين عملوا معاً في تناول هذه المسألة خلال العامين الماضيين، حقق آمالاً إذ توصل هؤلاء الخبراء إلى توافق في الآراء بشأن كيفية المعالجة الفعالة لمسألة التحريض، واستنبطوا مساراً واضحاً للمساعدة على تحديد موضع الخط الفاصل بين حرية التعبير والتحريض على الكراهية، كما ورد على لسان المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان، نافي بيلاي، في بيانها الافتتاحي في خطة عمل الرباط.
وقد رحب الممثل السامي لتحالف الحضارات، جورج سامبايو بخطة عمل الرباط، التي تقدّم مجموعة توصيات عملية إلى الدول ومنظمة الأمم المتحدة والقيادات السياسية والدينية والمجتمع المدني ووسائط الإعلام، وشدّد على الدور الرئيسي الذي يتعين أن يؤديه التعليم في تغيير العقليات.
وبعد عدة حلقات عمل بشأن حظر التحريض على الكراهية القومية والعنصرية والدينية، نظمتها الأمم المتحدة في شتى مناطق العالم، حيث قدم خبراء مشهودٌ لهم دوليّاً، في اجتماع عُقد في جنيف في 21 فبراير/ شباط الماضي، خطة عمل لحظر التحريض على التمييز والعداء والعنف، على النحو المبين في المادة (20) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وقد أوصت خطة عمل الرباط بشأن حظر الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف، باعتماد تشريعات وطنية شاملة لمكافحة التمييز مع إجراءات وقائية وعقابية من أجل المكافحة الفعالة للتحريض على الكراهية، وبتمكين الأقليات والفئات الضعيفة من ممارسة حقوقها التي انتظمتها الشرعة الدولية، والتقنين المحلي؛ ذلك أن السلطات الوطنية والمحلية يُمكنها أن تفاقم حدّة الخطاب، لكن لديها أيضاً القدرة على مكافحة خطاب الكراهية من خلال الخطاب الإيجابي ورسائل التسامح وضبط النفس.
وقد أعلن المستشار الخاص للأمم المتحدة المعني بمنع الإبادة الجماعية، أداما ديينغ، عند إشارته إلى دور الدولة والسلطات الدينية والمحلية والمؤسسات التعليمية ووسائط الإعلام؛ وفيما يتعلق بدور التشريع، سلّم ديينغ بأنه دورٌ مهمٌّ لكنه محدود، ونصح باتباع نهج متعدد المستويات لمنع التحريض على الكراهية.
ومن العوامل الرئيسية المطروحة في خطة عمل الرباط لمنع التحريض على الكراهية هو المسئولية الجماعية للمسئولين القياديين، سواء في ذلك الشخصيات العمومية السياسية أو القيادات الدينية والمجتمعية ووسائط الإعلام والأفراد، وضرورة تعزيز الوعي الاجتماعي والتسامح والاحترام المتبادل والحوار بين الثقافات.
وتحتوي خطة العمل كذلك، على معيار من ستة أجزاء كأساسٍ لأشكال التعبير المحظورة بموجب القانون الجنائي. ويؤخذ في الاعتبار في المعيار: سياق التحريض على الكراهية، والمخاطِب، والنية، والمحتوى، ومدى الخطاب، ورُجحان إحداثه الضرر.
وعلاوة على ذلك، فإن التثقيف بشأن التعددية يمكن أن يُسهِمَ كذلك، وفقاً لما أورده الخبراء، في منع التحريض على الكراهية والتعصب والتنميط السلبي والوصم بما يُسيء، والتمييز على أساس الانتماء القومي أو الأصل العرقي أو الدين أو المعتقد، أو التحريض على التمييز وفقاً لدوافع خطاب الكراهية تلك.
وهذه أول مرة يُسفِرُ فيها إجراء مشترك لتحقيق تضافر بين نشاطات العديد من آليات حقوق الإنسان وهيئات المعاهدات والإجراءات الخاصة، بما فيها تلك المعنية بحُرية الرأي والتعبير، وحُرية الدين، ومسألة العنصرية، والخبراء المستقلين والمنظمات غير الحكومية عن اعتماد خطة عمل شاملة بشأن جانب مهم جامع في قانون حقوق الإنسان؛ لتعيين الحدود بين حرية التعبير والتحريض على الكراهية. وقد اعتُمدت خطة العمل تلك، في اجتماع عقده مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الرباط بالمغرب في (أكتوبر/ تشرين الأول 2012).
وتمثل هدفُ اجتماع الرباط في إتمام المناقشات والتوصيات التي جرت منذ العام 2011 في أربع حلقات عمل إقليمية لإجراء تقييم، على الصعيدين الوطني والإقليمي، للأنماط التشريعية والممارسات القضائية والسياسات العامة المتعلقة بمسألة التحريض على الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية.
وقد أفضت تلك العملية التشاورية إلى اعتماد خطة عمل الرباط التي شارك فيها ثلاثة مقررين خاصين للأمم المتحدة (المقرر الخاص المعني بحرية الرأي والتعبير فرانك لا رو، والمقرر الخاص المعني بحرية الدين أو المعتقد هاينر بيليفيلدت، بالإضافة إلى موتوما روتيري المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بمسألة العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب)، وأنييس كالامار، المديرة التنفيذية لمنظمة المادة 19، و45 خبيراً ينتمون إلى خلفيات ثقافية وتقاليد قانونية مختلفة. وعُقدت حلقات العمل الإقليمية في أوروبا (فيينا، 9– 10 فبراير/ شباط 2011)، وإفريقيا (نيروبي، 6– 7 إبريل/ نيسان 2011)، وآسيا والمحيط الهادئ (بانكوك، 6– 7 يوليو/ تموز 2011)، والأميركتين (سانتياغو، 12– 13 أكتوبر 2012). وبناء على خطة عمل الرباط تلك، شارك مقررو الأمم المتحدة الخاصون الثلاثة، المشاركون في المشاورات الإقليمية، في استضافة حلقة دراسية، في جنيف يوم 22 فبراير، لتحديد الخيارات السياساتية لوقف ومنع التحريض على ارتكاب جرائم فظيعة في الحالات التي يكون فيها العنف على وشك الوقوع.
محور التمييز والتحريض عليه
«يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق»… هذه الكلمات القليلة الشهيرة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل 60 سنة مضت، أنشأت المقدمة المنطقية الأساسية للقانون الدولي لحقوق الإنسان. غير أن الكفاح ضد التمييز لايزال يمثل نضالاً يومياً لملايين البشر في مختلِفِ أنحاء الكرة الأرضية. وقد اتخذ مجلس حقوق الإنسان، بدءاً من يوم حقوق الإنسان العام 2009، محور تركيز خاص على التمييز.
وحددت الأمم المتحدة منذ بدايتها هدفاً لها: «نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره» دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين. إذ إن هذه الظاهرة أشد احتيالاً وحثاً وقدرةً على البقاء مما تبادر إلى ذهن أي أحد.
وبالنسبة إلى ملايين البشر على صعيد العالم، يعتبر النضال الذي يخوضونه للخروج من أحوال بل أهوال التمييز التي تقابلهم في كل منعطف من حياتهم اليومية تقريباً، بمثابة طموح مستحيل. ومن المؤسف أن سياسات الإقصاء العرقي والإبادة الجماعية والسياسات المستندة إلى أيدلوجيات تمييزية أسفرت، كما سبق وأن رأينا في العشرين سنة الماضية، عن التدمير والنفي والموت.
وعلى رغم التحديات والعقبات، فقد كان، وسيظل هناك، رفض للتمييز، رُغم أنه قد حدثت نجاحات كافية للتدليل على أنه بالإمكان استئصال شأفة هذا البلاء المُدمِر للحس الإنساني من جانب من يقوم بالتمييز ضد أخيه الإنسان.
وتعتبر المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان قائداً عالميّاً لمعركة التصدي لقوى التمييز. وتدعو المفوضية، بوصفها القيّم على القانون الدولي لحقوق الإنسان، إلى القيام بإصلاحات حقوق إنسان في الكثير من البلدان عبر العالم، وتعمل على النهوض بهذه الإصلاحات.
مكافحة التمييز القائم على الدين أو المعتقد
يواجه الكثير من أفراد الجماعات الدينية أو العَقَدية في حياتهم اليومية تمييزاً يقوم على دينهم أو معتقدهم. وتقييد حريتهم في التمتع بحقوقهم المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية بشكل لا داعي له. ومن ثم، فإن أفراد جماعات دينية معينة يعانون من التمييز في وصولهم إلى التعليم العمومي أو الخدمات الصحية أو الوظائف العمومية. وفي بعض الحالات المتطرفة، يتم القبض على بعضهم أو حتى اغتيالهم بسبب انتماءاتهم الدينية، وفضلاً عن التخاذل عن تجريم ذلك السلوك، فقد تغض السلطات الرسمية النظر عن التحريض على ممارسة التمييز، من خلال التحريض على كراهية هؤلاء الناس.
وكانت الأمم المتحدة معنيةً بهذه القضية منذ تأسيسها، وحظر التمييز الديني مسطور في جميع المعاهدات الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان. ويتعين على الدول في هذا الصدد أن تمتنع عن التمييز ضد الأفراد أو الجماعات على أساس الدين أو المعتقد، وهي مطالبة بمنع مثل هذا التمييز أو التحريض عليه، بما في ذلك ما تقوم به الفعاليات غير الحكومية، حيث يجب عليها أن تتخذ خطوات لكي تكفل، عملياً، لكل شخص في أراضيها أن يتمتع بجميع حقوق الإنسان دون تمييز من أي نوع كان، والتزام الدولة بمكافحة التمييز أو التحريض عليه ليس التزاماً ببذل عناية، بل يقع على الدولة التزام بتحقيق غاية، هو المنع الفعلي للتمييز أو التحريض عليه.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً