الصلح عن دم العمد بأَكثر من الدية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد :
فهذا بحث حول موضوع
( الصلح عن دم العمد بأَكثر من الدية )
من إعداد : د/ منصور بن فايز الثبيتي.
فيما يتصل بهذا الموضوع أُورد نقلاً مستلاً من رسالتي للماجستير بعنوان ( موقف القاضي من الصلح بين الخصوم في الفقه الإِسلامي والنظام القضائِي السعودي مع التطبيق الجاري في محاكم المملكة) وهذا نصه : ( تقرّر في ثنايا البحث جواز الصلح على أكثر من الدية، درءاً للقصاص في حال سقوط القوَد بالتنازل عن طلبه أو العفو من ولي الدم بعد الحكم به. وقد وُجد من يرى ألا يُقبل في ديات العمد إلا الدية المقرّرة شرعاً، فردّه سماحة رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله – بقوله – بعد أن ساق الأدلة الشرعية على ذلك، وطرفاً من النقول عن أهل العلم ).
إنّ التصالح على أكثر من مقدار الدية الشرعية، درءاً للقصاص أمر شرعي، ولا يجوز إبطاله، وقصْر الناس على دفع الدية المقرّرة ) ا.هـ(1)، غير أنّ المبالغة والمغالاة في دفع طائل الأموال بما يخرج عن المألوف، قد تكون محلّ نظر مصلحي. فينبغي التأني والتأمل في الصلح على أكثر من الدية، وليُنظر هل فيه مصلحة، أو أنه مجرد عواطف وانفعالات للإبقاء على نفس الجاني، فإن كان عضواً صالحاً في مجتمعه ولم يُعهد عليه سوء فلا بأس بالسعي في بذل المزيد. أمّا إن كان من أرباب السوابق، والإفساد في الأرض كما هو حال كثير من القَتَلة، فلا ينبغي التدخل في الإصلاح مقابل الأموال الطائلة التي لو صُرفت على الفقراءِ لأغنت كثيراً منهم، وقد يكون في قتل هذا الجاني قصاصاً صلاحٌ للمجتمع بأسره. فليتنبه أصحاب الجاه والمال لهذه المسألة، كي تكون مساعيهم في سبيل الخير والإصلاح(2). ورأي فضيلة الشيخ أحمد – وفقه الله وسدده – في هذه المسألة حريٌّ بالاعتبار، ففيه بعد نظر، وتحرٍ لمقاصد الشريعة في المصالح والمفاسد. ولهذا فالعافي محسن بشرط ألا يحصل بالعفو ضرر، وإلا كان العافي ظالماً. قال الشيخ تقي الدين – رحمه الله – ( استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكنّ هذا الإحسان لا يكون إحساناً إلا بعد العدل، وهو ألا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل به ضرر، كان ظلماً من العافي، إمّا لنفسه وإما لغيره، فلا يُشرع ) ا.هـ (3). وقال الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – ) إنّ في قوله تعالى : ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) إشارة إلى أنّ العفو لا يُمدح إلا إذا كان من الإحسان، وذلك بأن يقع موقعه ويكون إصلاحاً، فأمّا العفو الذي تزداد به جريمة المعتدي، فليس بمحمود، ولا بمأجور عليه ). ا.هـ(4)، وقد قيّد ذلك سماحة الشيخ عبد الله بن حميد – رحمه الله – بقوله : ( لا بأس بالسعي في الصلح لإسقاط القصاص، فإنّ لك أجراً متى سعيت بينهم، مادام لم تكن له عادة، ولم يكن له أي شيءٍ، إنما حصل ما حصل …)(5). وقد صدرت فتوى اللجنة الدائمة رقم 9596 تتضمن جواز الشفاعة في طلب العفو عن القصاص(6).
ومن المؤسف حقاً انتشار ظاهرة افتداءِ قَتلة العمد بملايين الريالات في أوساط المدن والقرى على السواء، والتي أخذت تستفحل – وكذلك الجناية العمدية على مادون النفس – وبخاصة في المنطقة الجنوبية من المملكة العربية السعودية، وبالذات في منطقة عسير، و يسمّونها المغارم ( حق المغرم )، يتسلّطون بها على رقاب الناس، فيحمّلونهم ما لا يطيقون، ويكلّفونهم ما لا يحتملون، لأنه عندهم من باب السّلوم القبلية التي لو فرّ أحد من تحمّلها لنبذته القبيلة، مع أنّ العاقلة في شرع الله لا تحمل العمد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه، مما تعطّلت به أحكام الشريعة في القصاص أو ما دونه وفي العَقْل، وجرّأ المتهوّرين الجبناء على رقاب الناس، وشجّع المجرمين وفتح لهم الأبواب، ومهّد الطرق بالاعتداء على المسلمين. وهذه الظاهرة العجيبة المخجلة يزعم مروجوها وزبانيتها وسماسرتها أنّ هدفهم الصلح والإصلاح، في الوقت الذي يشهد ويقول واقعهم ومكاسبهم ورشاواهم واختلاساتهم أنها عكس ذلك تماماً، بل إنّ آثارها السيئة المدمّرة لَشاهد صريح على خبث نوايا المنتفعين منها، والمروّجين لها، والمتباكين عليها، فما الذي يردع القتلة غير القصاص، إذا عرفوا أنّ السماسرة سيجمعون القبائل بالمئات والآلاف، فيفتدون المجرم بالملايين والرشاشات والخناجر والسيارات الفارهة والبشوت والأراضي، وبكل ما في وسعهم القيام به على حساب غيرهم! طبعاً حتى إذا أقاموا المغرم اقتات هؤلاء السماسرة بواسطته من جيوب أبناء القبائل المساكين مابين الواسطة ورشاوى الشهادة وأتعاب الصلح والسعي لأهل القاتل بالضغط على أولياء الدم، وهلمّ جرّا !!
إنّ واقع هذه الظاهرة جرّأ حتى النساء على الاستخفاف بحقوق المجتمع وتهديد الآمنين، فرأينا نساءً يأتين من مكان إلى آخر يحملن أسلحتهنّ، ويتهجّمن على المواطنين في بيوتهم بدون رادع، بل حتى الأطفال أصبحوا يرونها بطولة عندما يتهجمون على أندادهم، وعلى من هم أكبر منهم سناً بالضرب والاعتداء . ومما يدل على تسبب هذه المغارم في ارتفاع نسبة جريمة القتل العمد أنّ جرائم القتل العمد بلغت على مستوى المملكة في سنة فقط ثلاثمائة وثمان وأربعين جريمة قتل عمد، سجّلت منها على مستوى المناطق أكبر نسبة ( تسع وسبعين ) جريمة قتل في منطقة عسير وَحْدَها، وهي المنطقة التي تنتشر فيها هذه الظاهرة بصورة أكثر من غيرها من المناطق، كما وردت بذلك إحصائية لوزارة العدل السعودية لعام 1419هـ. أمّا في الوقت الماضي، فيذكر كبار السنّ أنه في عهدهم القريب، وفي الوقت الذي لم تكن فيه هذه المغارم الكاذبة، كانوا يعدّون جرائم قتل العمد على أصابع اليد الواحدة على مدى المائة أو المائتي سنة، بل وأكثر من ذلك، ولقد بلغت هذه المغارم المخالفة ما يزيد على خمسة وثمانين مليوناً من الريالات في منطقة واحدة، في مدة لا تزيد عن الست سنوات تقريباً، فمَن الأولى بها، أما كان الأولى أن تصرف على رعاية الفقراء والمحتاجين والأرامل! وما أكثرهم في أوساطنا اليوم !؟ أما كان الأولى بدلآً من أن يُفتدى بها أناس باطن الأرض خير لهم من ظاهرها، بل وصلاح البلاد والعباد وأمنهم في قصاصهم ليرتدع غيرهم بهم ؟ أما كان الأولى أن تُجمع لمساعدة المجاهدين، أو لشق الطرق وتوفير الخدمات الضرورية للقرى والهجر، وإقامة المشاريع الاستثمارية لصرفها على المحتاجين، لسد جوعة الجائعين، وتنفيس كرب المكروبين، ونصرة المظلومين المضطهدين في كل مكان، بدلاً من افتداء من يتتبعون محارم المسلمين وعوراتهم، ويستبيحون دماءهم على ذرّة من تراب أو على خلاف يسير، لا يحتمل إزهاق نفس بسببه، لكنه الأشَر والبطَر!!؟ ونحن نعلم أنّ أوضاعنا الاقتصادية لا تحتمل دفع هذه الملايين وتحمّلها، وأوضاع الاقتصاد على مستوى العالم متردّية، مما تندفع معه القبيلة إلى صورة مخجلة حينما تنصب خيامها على الطرقات العامة للشِّحاذة باسم المغارم ( لله يامحسنين )!! بعد استنفاد قوت أبناء القبيلة باسم المغارم، والتي يثور بعد جمعها خلافات على ما جمع وزاد عن حاجتهم، مَن الأحق به ؟ بينما لو قُتل القاتل لخمدت نار الفتنة والثأر والحقد وارتاحت النفوس، لأنها نالت حقها الطبيعي والشرعي الذي هو علاج لكل داءٍ(7). وعلى هذا فإنّ لجان الإصلاح للسعي في طلب العفو يجب أن لا تتدخل في النواحي المالية، وأن لا تقرّ المبالغات فيها، ولكن إذا كان أهل الجاني لديهم قدرة واستعداد على دفع عوض معقول، فإنه يطرح ضمن العرض، وتكون مسؤوليته وجمعه على أصحاب القضية، لأنّ ذلك يحرج لجنة الإصلاح ويثقل كاهلها، ويشغلها عن أداء رسالتها. ومما يلاحظ أنّ هناك قضايا قد ترى بعض لجان الإصلاح أنّ من المصلحة عدم السعي للعفو فيها، وهي ما قد ينتج عنها أخطر منها وأكبر، وذلك من باب دفع أعظم الضررين، فإنّ هنالك في بعض القبائل فتناً كبرى، قد تنشب لو عُفِي عن القاتل، ولا تنطفئ إلا بالقصاص، فالأولى البعد عنها(8).
(1) «مجموع الفتاوي» (11 /287).
(2) انظر « الصلح في الجنايات» للشيخ أحمد العريني (ص/6 ) .
(3) انظر «الإنصاف» (10/3 ).
(4) انظر « مجالس شهر رمضان» لابن عثيمين (ص / 227 ).
(5) انظر فتاوي ابن حميد (ص/259) .
(6) انظر «فتاوي اللجنة» (21/213).
(7) انظر «مغارم القبائل» لمحمد آل دليم ( ص / 2 وما بعدها) .
(8) انظر « نبذة تعريفية عن لجنة السعي في العفو وإصلاح ذات البين في إمارة منطقة مكة المكرمة» (ص/3 ،4). ( غير منشورة ).
فهد بن علي الحسون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً