من المبادئ الأساسية في القانون الجنائي أنه لا يمكن تحميل شخص تبعة واقعة مؤثمة جنائية ما لم ترتبط هذه الواقعة بنشاط ذلك الشخص برابطه السببية المادية أو العضوية . ذلك لأن مساءلة الشخص عن واقعة مؤثمة جنائيا بغير توافر الإسناد المادي أي بغير إسنادها ماديا إلى نشاطه الإرادي بحسبانه السبب المباشر في حدوثها ، يعني المسئولية الجنائية إما عن فعل الغير – كما لو كان هذا الغير قد أكرهه ماديا على إحداث الواقعة الإجرامية – وإما عما يقع بفعل القضاء والقدر ، إن كان مصدر الواقعة هو القوة القاهرة أو الحادث الفجائي أو ما يجرى مجراها ولا دخل لإرادة المتهم فيما حدث وسوف نتناول فيما يلي امتناع المسئولية الجنائية بسبب القوة القاهرة والحادث الفجائي .
1 – القوة القاهرة : Force majeure
هي ذلك السبب الأجنبي أو القوة الخارجة الطبيعية التي يخضع لها الإنسان لا محالة ، ولا يمكنه دفعها أو مقاومتها ، وتسخره في ارتكاب فعل أو امتناع . وتتصف القوة القاهرة بأنها قوة غير أدميه ، ولكنها قوة طبيعية أي من فعل الطبيعة كالعواصف والزلازل . كما تتصف بأنها قوة كاسحة لكل نشاط مادي أو مقاومة عضوية للفرد الذي يغدو حينئذ مجرد أداة طبيعية سخرتها قوى الطبيعة .
وعلى ذلك فإن القوة القاهرة تسلب الشخص إرادته واختياره بصفة مادية مطلقة ، فترغمه على إتيان عمل – فعلا كان أو امتناعا – لم يرده وما كان يملك له دفعا . ومن أمثلة القوة القاهرة المعدمة للمسئولية الجنائية ماديا ن أن تعصف الرياح بملابس شخص تركها على الشاطئ أثناء استحمامه في البحر فيضطر إلى السير في الطريق عاريا ، أو أن يجمح حصان على صوره تفقد راكبه كل قدره على كبحه ثم يصدم إنسانا فيصيبه أو يميته ، أو أن تهب ريح عاتية فتدفع في طريقها جسم إنسان على سفح جبل ، وتلقي به على أخر يقع صريعا من جراء ذلك . ففي هذه الأمثلة تجد أن القوة القاهرة كانت سببا في أن يأتي الشخص عملا ينطبق على صورة جريمة مما نص عليه القانون ، كالفعل الفاضح العلني أو الإصابة بجراح أو القتل .
التطبيقات الجنائية للقوة القاهرة :
أثير موضوع القوة القاهرة مرات قليلة أمام القضاء الجنائي المصري فدفع بالقوة القاهرة سائق سيارة اعترض طريقه فجأة غلام صغير في نفترق الطرق ، فلما أراد تفاديه بالصعود على الإفريز قتل شخصا كان عليه . وذهبت محكمة النقض على أساس من الصواب إلى أن هذا الفعل لا يصح أن يوصف بأنه كان نتيجة قوة قاهرة لا دخل لإرادة السائق فيها ، وإنما هذا الفعل أدنى إلى أن يوصف في القانون بأنه من قبيل أفعال الضرورة التي تحدث عنها المادة 61 عقوبات ” إذ أن إرادة المتهم وقت وقوع الواقعة لم تكن منعدمة متلاشية كما هو الشأن في القوة القاهرة ، بل أنه لم يرتكب ما ارتكبه إلا مزيدا مختارا بعد أن وازن بين الأمرين : القضاء على حياة الغلام الذي اعترض سيارته عند مفترق الطرق أو الصعود بالسيارة على إفريز الشارع حيث وقعت الواقعة “
( نقض 17/11/1941 – مجموعة القواعد القانونية ج5 رقم303 ص572)
كما قضى كثيرا بأن المرض الذي يعتبر من الأعذار القهرية هو ذلك الذي من شأنه أن يعيق صاحبه عن حركته الطبيعية ومباشرة أعماله كالمعتاد . أما التوجه إلى المستشفى في فترة محددة لتلقي علاج معين والعودة في ذات اليوم فإنه لا يعتبر من الأعذار القهرية .
(نقض 16/1/1972مجموعة أحكام النقض س23 رقم 20 ص72 ) مجموعة أحكام النقض س23 رقم20 ص72)
كما دفع بالقوة القهرية شخص اتهم بتحويل عملة أجنبية إلى الخارج ، وكان عليه استرداد البضائع التي حولا عنها تلك العملة ، فتعذر عليه الاسترداد لارتفاع أسعارها ، فقضت محكمة الموضوع بأن هذا الارتفاع لا يعد قوة قاهرة تعفي المتهم من الواجب الذي فرضه عليه القانون . وأيدت محكمة النقض هذا الحكم . أما إذا تعذر الاستيراد تماما بسبب نشوب حرب ، أو سبب غرق البضاعة وهي في الطريق ، فعندئذ بداهة القوة القاهرة .
( نقض 12/6/1956 – مجموعة أحكام محكمة النقض س7 رقم243 ص884)
2 – الحادث الفجائي :
يراد بالحادث المفاجئ عامل طارئ يتميز بالمفاجأة أكثر مما يتصف بالعنف يجعل جسم إنسان أداه لحدث إجرامي معين ، دون أي اتصال إرادي بين هذا الحدث وبين ذلك الإنسان ، ويستوي في ذلك العامل أن يكون ظاهرة طبيعية أم فعلا إنسانيا (دكتور رمسيس بهنام ص561 وما بعدها) فالحادث الفجائي هو قوة مادية تؤثر بصفة مباشرة ومطلقة على الجانب العضوي أو المادي للإنسان فلا يقوم الركن المادي في الجريمة ، وبالتالي لا يقوم أيضا الركن المعنوي ،وتتجرد الإرادة من أية صوره من صور الخطأ الجنائي
تطبيقات الحادث المفاجئ :
من هذه التطبيقات أن يصاب سائق سيارة بإغماء مفاجئ ولا يرتبط بحالة مرضية سابقة ولا بظواهر سابق تنذر به ، في عقد السيطرة على سيارته مما يتسبب في إصابة شخص كان يسير على جانب الطريق ، أو أن يقع طفل فجأة من شرفة أحد المنازل أمام عجلات سيارة بالطريق فتهدمه .
ولا يعتبر حادثا مفاجئا أن يكون نعاس قائد السيارة مبعثه عوامل وظيفية ترجع إلى التعب والإرهاق الناتج عن جهد عضوي زائد لساعات طويلة . فالسائق مسئول ومخطئ إذا لم ينتبه ولم يأخذ في اعتباره احتمال فقد السيطرة على القيادة حتى انتهاء رحلته الطويلة ، وهو يسأل حينئذ عن خطأ غير عمدي . كما لا يعتبر حادثا مفاجئ ما يصيب قائد السيارة من ارتباك في الرؤية بسبب الأنوار المبهرة لسيارة قادمة في الاتجاه المضاد ، أو بسبب وهج الأشعة الشمسية
ويشترط في القوة القاهرة والحادث الفجائي شرطان هما :عدم إمكان التوقيع Imprévisibilité وعدم إمكان الدفع Irrésistibilité فإذا توقع الحادث حتى لو استحال توقعه . والمعيار هنا موضوعي لا ذاتي . فيجب أن يكون عدم إمكان التوقع ولا الدفع مطلقا لا نسبيا ، لا بالنسبة للمتهم وحده ، بل بالنسبة لأي شخص يكون في موقفه ، أسوه بنفس الضابط المدني في تقدير استحالة التوقع والدفع بالنسبة للمدنيين بالتعويض .
(الدكتور عبد الرازق السنهوري – الوسيط ج3 ص778 وما بعدها)
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً