دعاوى حماية الحيازة في النظام السعودي
تمهيد :
الحيازة حق من الحقوق المقصودة للإنسان ، تتعين حمايتها شرعاً ما لم يتبين ارتكازها على سبب باطل من غصب ، أو سرقة ، أو نحوهما ، وبما أن هذا الحق قد يُعتدى عليه فقد شرعت الدعوى لحمايته ، كما شرعت لحماية سائر الحقوق المعتبرة.
قال ابن القيم: ” فالأيدي ثلاث :
الأولــــــى : يد يُعلم أنها مبطلة ظالمة ، فلا يلتفت إليها.
والثانية : يد يُعلم أنها محقة عادلة ، فلا تسمع الدعوى عليها.
الثالثـة : يد يحتمل أن تكون محقة ، وأن تكون مبطلة فهذه هي التي تُسمع الدعوى عليها ، ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها ، فالشارع لا يغير يداً شهد العرف والحس بكونها مبطلة ، ولا يهدر يداً شهد العرف بكونها محقة ، واليد المحتملة : يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب ، وهو الأقوى فالأقوى “.
وتتنوع دعاوى حماية الحيازة بتنوع الاعتداء الواقع على الحيازة ، فقد سن المنظم ثلاث دعاوى لحماية الحيازة ، وهي :
الدعوى الأولى : دعوى استرداد الحيازة.
الدعوى الثانية : دعوى منع التعرض للحيازة.
الدعوى الثالثة : دعوى وقف الأعمال الجديدة.
ووجه انحصار دعاوى الحيازة بهذه الأنواع الثلاثة : أن الاعتداء الممكن وقوعه على الحيازة لا يخرج عن ثلاثة أنواع هي :
1- سلب الحيازة من الحائز ، وهذا يواجه بدعوى استرداد الحيازة.
2- التعرض للحيازة وهي تحت يد صاحبها بأي نوع من أنواع التعرض والتهديد ، وهذا يواجه بدعوى منع التعرض.
3- العمل خارجها بما قد يترتب عليه وقوع ضرر عليها ، وهذا يواجه بدعوى وقف الأعمال الجديدة.
مراتب الاعتداء على الحيازة :
الاعتداء الذي يُدفع بدعوى الحيازة على ثلاث مراتب :
1- إذا كان الاعتداء على حيازة الحائز الشرعي في طور الإنشاء ولم يتم ، ولا يمثل اعتداء فعلي وقت تنفيذه ، ولكنه لو تم فإنه سيشكل اعتداء فإن الاعتداء في هذه الحالة يدفع بدعوى وقف الأعمال الجديدة.
2- أما إذا تمت أعمال الاعتداء على حيازة الحائز الشرعي ، وصار اعتداء واقعياً فعلياً ، ولكن مع وجود الاعتداء لم يمنع الحائز من مباشرة حيازته على المحوز ، فإن الاعتداء في هذه الحالة يُدفع بدعوى منع التعرض للحيازة.
3- أما إذا تمت أعمال الاعتداء على الحيازة ، وأدى الاعتداء إلى منع الحائز من مباشرة حيازته على المحوز ، وذلك بسبب سلب المعتدي لحيازة المحوز ، فإن الاعتداء في هذه الحالة يُدفع بدعوى استرداد الحيازة.
وعليه فيمكن أن نقول إن أشد أشكال الاعتداء في دعاوى الحيازة هو الاعتداء الذي يُدفع بدعوى استرداد الحيازة ، ثم الاعتداء الذي يُدفع بمنع التعرض للحيازة ، ثم الاعتداء الذي يُدفع بوقف الأعمال الجديدة.
ونبيّن فيما يلي نبذة مختصرة عن دعاوى الحيازة في نظام المرافعات الشرعية السعودي :
الدعوى الأولى :
دعوى استرداد الحيازة : عرّفتها اللائحة التنفيذية رقم (209/3) من نظام المرافعات الشرعية بأنها:
طلب من كان العقار بيده وأخذ منه إعادة حيازته إليه.
الدعوى الثانية :
دعوى منع التعرض للحيازة : عرّفتها اللائحة التنفيذية رقم (209/2) من نظام المرافعات الشرعية بأنها:
طلب المدعي (واضع اليد) كف المدعى عليه عن مضايقته فيما تحت يده من عقار.
الدعوى الثالثة :
دعوى وقف الأعمال الجديدة : وهي طلب المدعي إيقاف ما شرع المدعى عليه في القيام به في ملكه ومن شأنها الإضرار بالمدعي.
وبيّنت المادة السادسة بعد المائتين أن دعوى الحيازة الثلاثة من الدعاوى المستعجلة.
خصائص دعاوى حماية الحيازة
لدعاوى الحيازة خصائص تتميز بها ، وهذه الخصائص يمكن تلخيصها فيما يلي :
أولاً : دعاوى الحيازة تحمي الحيازة في ذاتها :
فهذه الدعاوى إنما جُعلت لحماية الحيازة في ذاتها دون نظر إلى ما إذا كان الحائز يملك الحق الذي يحوزه أو لا يملكه ، فالحائز لأرض – مثلاً – تحميه دعاوى الحيازة ، ولا يطلب منه في مباشرته لهذه الدعاوى إلا أن يثبت حيازته للأرض بالشروط الواجب توافرها في الحيازة ، فلا يطلب منه أن يثبت أنه مالك للأرض ، فالملكية تكون محلاً لدعوى الاستحقاق ، وهي دعوى ملكية لا دعوى حيازة تتميز عن دعوى الحيازة بإجراءات طويلة معقدة ، وبطرق إثبات تزيد كثيراً في الصعوبة والعسر على طرق إثبات الحيازة.
وسواء كان الحائز مالكاً أو غير مالك فإنه متى أثبت حيازته كان له أن يحمي حيازته هذه بدعاوى الحيازة فيستطيع أن يسترد حيازته إذا كانت قد اُنتزعت منه عنوة أو خلسة بدعوى استرداد الحيازة ، وإذا لم تنتزع منه الحيازة ولكنها تعرضت للاعتداء أو التهديد فـإنه يستطيع أن يدفع عنها الاعتداء أو التهديد بدعوى منع التعرض ، وإذا لم تتعرض حيازته للاعتداء أو التهديد ولكنها توشك أن تتعرض لذلك من جراء أعمال بها ولم تتم فإنه يستطيع أن يطلب وقف هذه الأعمال بدعوى وقف الأعمال الجديدة.
وما قلناه في حق الملكية يُقال في الحقوق الأخرى التي تكون محلاً للحيازة ، فدعاوى الحيازة تحمي حائز حق الانتفاع ، أو حائز حق الارتفاق ، أو حائز حق رهن الحيازة ، أو حائز حق المستأجر ، فلا يُطلب من الحائز لأحد هذه الحقوق إلا أن يثبت حيازته لهذا الحق ، فتُحمى حيازته دون أن يُطلب منه أن يثبت أنه صاحب هذا الحق فعلاً ، ومن ثم يستطيع أن يسترد حيازته للحق بدعوى استرداد الحيازة ، وأن يرفع عنها الاعتداء أو التهديد بدعوى منع التعرض ، وأن يطلب وقف الأعمال الجديدة التي توشك أن تهدد حيازته بدعوى وقف الأعمال الجديدة.
ثانياً : دعاوى الحيازة تحمل طابع الاستعجال :
دعاوى الحيازة تحمل طابع الاستعجال ؛ إذ هي لا تتعرض للملكية – كما تقدم – بل تقتصر على مجرد حماية الحيازة في ذاتها ، فإجراءاتها غير طويلة ، وغير معقدة كدعاوى الملكية ، وهي قريبة الشبه بالدعاوى المستعجلة التي لا يجوز التعرض فيها للموضوع.
وقد بيّنت المادة السادسة بعد المائتين أن دعوى الحيازة الثلاثة من الدعاوى المستعجلة.
ثالثاً : دعاوى الحيازة تحمي حيازة العقار دون حيازة المنقول:
قال السنهوري: ” ودعاوى الحيازة لا تحمي حيازة المنقول ، فالمنقول ليس له كالعقار مستقر ثابت يتيسر معه تمييز الحيازة عن الملكية في شأنه ، فيد الحائز للمنقول تختلط بيد المالك ، ومن ثم اختلطت الحيازة في المنقول بالملكية ، وحمت دعوى الملكية حيازة المنقول وملكيته معاً ؛ إذ أصبحت الحيازة في المنقول إذا اقترنت بحسن النية هي نفسها سند الملكية ، هذا إلى أن دعاوى الحيازة قد نشأت في القانون الفرنسي القديم حيث كان المنقول على خلاف العقار غير ذي خطر ، فلم يستأهل أن تكون حمايته في حيازته مستقلة عن حمايته في ملكيته “.
موقف الفقه الإسلامي من دعاوى الحيازة وخصائصها
دعاوى الحيازة وخصائصها التي نص عليها نظام المرافعات الشرعية هي من تنظيم أمور المسلمين التي يقوم بها إمام المسلمين ، حيث أنها داخلة تحت نظام المرافعات الذي أصدره ولي الأمر لتنظيم الدعاوى التي تُعرض أمام المحاكم الشرعية.
وما يصدره إمام المسلمين من أحكام تنظيمية الأصل فيها الجواز ، والأصل فيها وجوب السمع والطاعة ما لم تخالف الشريعة الإسلامية ، قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، قال الشوكانـي: ” وأولي الأمر هم : الأئمة ، والسلاطين ، والقضاة ، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية ، والمراد : طاعتهم فيما يأمرون به ، وينهون عنه ما لم تكن معصية ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله “.
وقال السعدي : ” وأمر بطاعة أولي الأمر وهم : الولاة على الناس ، من الأمراء والحكام والمفتين ، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم ، طاعة لله ورغبة فيما عنده ، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله ، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول ، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله ، ومن يطعه فقد أطاع الله ، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية “.
قال العز بن عبد السلام: ” لا طاعة لأحد من المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته كالرسل ، والعلماء ، والأئمة ، والقضاة ، والولاة ، والآباء ، والأمهات ، والسادات ، والأزواج ، والمستأجرين في الإجارات على الأعمال والصناعات ، ولا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل ؛ لما فيه من المفسدة الموبقة في الدارين أو في أحدهما ، فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له “.
فما يأمر به إمام المسلمين يجب فيه السمع والطاعة ، ما لم يخالف شرع الله ، فمتى وافق ما يأمر به إمام المسلمين شرع الله وجبت فيه السمع والطاعة ، وليس المراد بالموافقة هنا ألا يأمر بما لم يرد به الشرع ، بل المراد بالموافقة هنا ألا يأمر بما يخالف الشرع، نقل ابن القيم عن ابن عقيل قوله : ” جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الجزم ، ولا يخلو من القول به إمام ، فقال الشافعي : لا سياسة إلا ما وافق الشرع ، فقال ابن عقيل : السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي ، فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط ، وتغليط للصحابة ، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف فإنه كان رأياً اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة … ، وهذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك ، ومعترك صعب ، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، محتاجة إلى غيرها ، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له ، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعاً أنه حق مطابق للواقع ، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع.
ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول ، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة ، وتقصير في معرفة الواقع ، وتنزيل أحدهما على الآخر … “.
وكما يجب على الرعية السمع والطاعة لولي الأمر فإنه يجب على ولي الأمر ألا يتصرف في شؤون الرعية إلا بما هو أصلح لهم ، فإن تصرف الإمام منوط بالمصلحة ، قال في الأشباه والنظائر : ” تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ، وقد صرحوا به في مواضع ” ، ثم قال : ” وإذا كان فعل الإمام مبنياً على المصلحة فيما يتعلق الأمور العامةلم ينفذ أمره شرعاً إلا إذا وافقه فإن خالفه لم ينفذ “.
وقال ابن فرحون عن تصرف ولي الأمر : ” وينظر للمسلمين بالمصلحة ، ولأجل ذلك قدم الأمراء على الناس ، قال ابن عبد السلام: وإذا جاز هذا لأمير فلأن يجوز لأمير المؤمنين أولى ، ولا يجوز إتباع الهوى في شيء من ذلك ، ولا إتباع الصالح وترك الأصلح “.
وقال العز بن عبد السلام : ” يتصرف الولاة ونوابهم بما ذكرنا من التصرفات بما هو الأصلح للمولى عليه درءاً للضرر والفساد وجلباً للنفع والرشاد ، ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح إلا أن يؤدي إلى مشقة شديدة ، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم مثل أن يبيعوا درهماً بدرهم ، أو مكيلة زبيب بـمثلها ؛ لقول الله تعالى : {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وإن كان هذا في حقوق اليتامى فأولـى أن يثبت في حقـوق عامة المسلمين فيما يتصرف فيه الأئمة من الأموال العامة ؛ لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة ” .
وقال في الشرح الكبير بعد أن بيّن أن الإمام يتخير الأصلح في أسرى المعارك بين القتل والفداء والمن والاسترقاق : ” إذا ثبت ذلك ، فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة ، فمتى رأى المصلحة في خصلة لم يجز اختيار غيرها ؛ لأنه يتصرف لهم عـلى سبيل النظر لهم فلم يجز له ترك ما فيه الحظ كولي اليتيم “.
فدعاوى حماية الحيازة وخصائصها التي تم تنظيمها في النصوص النظامية هي من السياسة الشرعية التي ينظم فيها إمام المسلمين عمل المحاكم بما يحقق المصلحة ، وقد سبق أن الأصل فيها الجواز والإباحة ما لم تخالف الشرع ، فتبين أن موقف الفقه الإسلامي من دعاوى حماية الحيازة وخصائصها هو الإباحة والجواز ، هذا من حيث الأصل العام.
إضافة إلى أن بعض الفقهاء قد نصوا على مشروعية دعاوى تقارب دعاوى الحيازة – كما سيأتي بيانه –.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً