اثرالخبرة في تكوين عقيدة القاضي الجزائي – الجنائي
تعريف الخبرة :
الخبرة هى إبداء رأى فنى من شخص مختص فنيا فى شأن واقعة ذات اهمية فى الدعوى الجنائية . فهى وسيلة قررها المشروع لمساعدة القاضى فى تقدير المسائل التى يحتاج اثباتها الى معرفة خاصة ، علمية كانت أو فنية (محمود نجيب حسنى – امال عثمان) وقد ازدادت اهمية الخبرة فى الوقت الحاضر ، نظرا لتقدم العلوم والفنون الى تشمل دراساتها الوقائع التى تنصل بوقوع الجريمة ونسبتها الى المتهم ،ودقة النتائج التى يمكن الوصول إليها عند الاستعانة بالمتخصصين فى هذه العلوم والفنون ، مما يمثل عونا ثمينا للقضاء وسائر السلطات المختصة بالدعوى الجنائية فى اداء رسالتها( محمود نجيب حسنى – ص486 – المرجع السابق) .
التنظيم التشريعى للخبرة فى الدعوى الجنائية :
تضمن قانون الاجراءات الجنائية المصرى نصوصا تناول بها المشرع مسألة الخبرة فى الدعوى الجنائية فى مرحلتى التحقيق والمحاكمة ، واشار اليها كذلك فى مرحلة جمع الاستدلالات ..
عن الخبرة فى مرحله جمع الاستدلالات: تنص المادة 29 من قانون الاجراءات الجنائية على أن ” المأمورى الضبط القضائى اثناء جمع الاستدلالات ان يسمعوا اقوال من يكون لديهم معلومات عن الوقائع الجنائية ومرتكبيها وأن يسألوا المتهم عن ذلك . ولهم ان يستعينوا بالاطباء وغيرهما من اهل الخبرة ويطلبوا رأيهم شفهيا أو بالكتابة”.
ولا يجوز لهم تحليف الشهود او الخبراء اليمين الا اذا خيف الا يستطاع فيما بعد سماع الشهادة بيمين”
ويتبين من هذا النص ان المشروع أجاز لمأمورى الضبط القضائى الاستعانة بمن يرى من الخبراء ليستطلع رأيهم فى بعض الامور التى تعرض له اثناء تأدية مهمته . وله مطلق الحرية فى اختيارهم وفى تحديد الاعمال المطلوبة منهم وكيفية تقديم اراءهم شفاهة او كتابة ، دون ان يكون له الحق فى تحليفهم اليمين الا فى الحالة المشار اليها . ولما كانت هذه الابحاث الفنية تؤدى دون اتباع الاجراءات التى اوجبها القانون ، فانه لايترتب عليها الاثار القانونية للخبرة ،بل تعد من اجراءات الاستدلالات التى يقوم بها اصلا مامورو الضبط القضائى وترفق بوصفها هذا بمحاضرهم (د/امالعثمان – د/فتحى سرور ) .
عن الخبرة فى مرحلة التحقيق : نظمت احكام ندب الخبراء فى مرحلة التحقيق بالمواد 85و87و88و89من قانون الاجراءات الجنائية .وقد نصت المادة 85 على ان :”اذا استلزم اثبات الحالة الاستعانة بطبيب او غيرة من الخبراء يجب على قاضى التحقيق الحضور وقت العمل وملاحظته
وإذا اقتضى الامر اثبات الحالة بدون حضور قاضى التحقيق نظرا الى ضرورة القيام ببعض اعمال تحضيرية او تجارب متكررة أو لأى سبب اخر وجب على قاضى التحقيق ان يصدر امرا يبين فيه انواع التحقيقات وما يراد اثبات حالته .
ويجوز فى جميع الاحوال ان يؤدى الخبير مأموريته بغير حضور الخصوم.
ونصت المادة 86على ان : يجب على الخبراء ان يحلفوا امام قاضى التحقيق يمينا على ان يبدوا رأيهم بالذمة , عليهم ان يقدموا تقريرهم كتابة .
والأصل فى الخبرة انها من اجراءات التحقيق الابتدائى ،لانها تهدف الى الوصول الى الحقيقة . وبالتالى فإن انتداب الخبراء يعتبر بدوره اجراء من اجراءات التحقيق . واذا افتتحت النيابة العامة الخصومة الجنائية ، كما اذا انتدبت الطبيب الشرعى لتشريح جثة القتيل فى جنحة القتل الخطأ اعتبر هذا الانتداب محركا للدعوى الجنائية , وإذا رأت النيابة بعد الاطلاع على تقرير هذا الخبير عدم رفع الدعوى الى المحكمة ، فإنها تامر بعدم وجود وجه لاقامة الدعوى (د/احمد فتحى سرور – المرجع السابق -ص487) .
عن الخبرة فى مرحلة المحاكمة : نصت المادة 292 من قانون الاجراءات الجنائية على ان :” للمحكمة سواء من تلقاء نفسها او بناء على طلب الخصوم ان تعين خبيرا واحدا او اكثر فى الدعوى .
ونصت المادة 293على ان : للمحكمة سواء من تلقاء نفسها او بناء على طلب الخصوم ان تأمر بإعلان الخبراء ليقدموا ايضاحات عن التقارير المقدمة منهم فى التحقيق الابتدائى او امام المحكمة.
ويتبين من هذا النص ان الخبرة فى مرحلة المحاكمة تتجه الى تحقيق غرضين فقد يستدعى الخبير الذى سبق له اداء المأمورية امام سلطة التحقيق الابتدائى ، لتقديم ايضاحات عن التقرير المقدم منه . اما الغرض الاخر فهو ان يطلب من الخبير أداء مهمة جديدة ، سواء اكان الامر يتعلق بمسألة سبق بحثها فنيا فى نفس الدعوى ام لم تكن كذلك . والامر فى كافة الاحوال يخضع لسلطة القاضى التقديرية (د/امال عثمان – المرجع السابق -ص179) .
تحديد الطبيعة القانونية للخبرة :
استعرضت الدكتورة امال عبد الرحيم عثمان فى رسالتها النظريات المختلفة فى الطبيعة القانونية للخبرة وسنشير فقط الى الرأى الراجع فقط والذى انتهت فيه الدكتورة امال عثمان الى ان الخبرة اجراء مساعد للقاضى . ونحن نوافقها على ما ذهبت اليه ، نظرا لما استندت اليه من حجة قوية مقنعة : فقد او ضحت ان وظيفة الخبير فى الدعوى الجنائية تشمل اساسا تقدير مسألة معينة متعلقة بشخص أو شئ أو حالة ، إذا تبين للقاضى ان هذا التقدير يحتاج الى معرفة خاصة . ثم خلصت من وراء ذلك الى ان المادة موضوع الخبرة قائمة فعلا فى مجال الدعوى ، وان الاستعانة بالخبير تكون فقط بقصد المساعدة على فهمها وتقديرها على وجه يتفق مع المبادئ العلمية والفنية . وفى ردها على القائلين ان الخبرة وسيلة اثبات لتقدير دليل ،تقول انه مما يتنافى مع قواعد المنطق السلم القول ان هناك وسيلة اثبات غرضها اثبات او تقدير وسيلة اثبات اخرى :- فإما ان يتعلق الامر بوسيلة اثبات ، واى وسيلة اكتشاف لعناصر غير قائمة اصلا فى الدعوى – وما ان يتجاوز الغرض منها هذا الحد ، فنكون امام وصف اخر . وعلى ذلك ، ولما كانت الخبرة وسيلة لتقدير او فهم او تفسير مسألة ما ثابته فى مجال الدعوى ، فاقرب الى الصحة القول ان الامر يتعلق بإجراء مساعد للقاضى ،حيث انه يختص اصلا بتقدير تلك الوسائل والعناصر المختلفة .
هذا عن الطبيعة القانونية للخبرة .فهى ، كما تبين لنا ، اجراء مساعد للقاضى فى تكوين عقيدته ، اى على وجه ادق استشارة فنية للقاضى فما هى الاحوال التى يتخذ فيها القاضى الجنائى هذا الاجراء ؟ وما مدى التزامه به ؟
لقد سبق لنا ان اشرنا الى التنظيم التشريعى للخبرة فى قانون الاجراءات الجنائية وشهدنا حق المحكمة فى تعيين خبير واحد او اكثر فى الدعوىوحقها فى استدعاء الخبراء ليقدموا ايضاحات بالجلسة عن التقارير المقدمة منهم فى التحقيق الابتدائى او امام المحكمة . وهذا الحق للمحكمة مستمد من حقها فى ان تأمر ، ولو من تلقاء نفسها ، اثناء نظر الدعوى بتقديم اى دليل تراه لازما لظهور الحقيقية ، وهو مظهر من مظاهر حرية القاضى الجنائى فى تكوين عقيدته ( المادة 291،293 اجراءات جنائية) .
وإذا كان ذلك حقا للمحكمة ، فمتى يكون حقا عليها ان تنتدب الخبراء ؟
أن الاصل العام ان القانون لم يعين للمحاكم الجنائية طرقا مخصوصة للاستدلال لابد منها ، فلم يوجب عليها تعيين خبراء لكشف امور وضحت لديها ، بل جعل للقاضى مطلق الحرية فى ان يقرر بنفسه الحقيقة التى ينتفع بها استمداد من الادلة المقدمة فى الدعوى ما دام لقضاءه وجه محتمل ومأخذ صحيح . فله ان يرفض طلب الخبرة اذا ما راى انه فى غنى عنها مما استخلصه من الوقائع التى تثبت لديه . وكذلك فان محكمة الموضوع ليست ملزمة بالاستعانة بخبير فيما ترى من مشاهدتها انه لايحتاج الى خبرة فنية.
لكن الحاجة الى الخبرة تقوم اذا ثارت اثناء سير الدعوى الجنائية مسألة فنية يتوقف عليها الفصل فى الدعوى ،ولم يكن فى استطاعة القاضى البت برأى فيها لان ذلك يتطلب اختصاصا فنيا لايتوافر لديه . وفى ذلك تقول محكمة النقض انه متى واجهت محكمة الموضوع مسالة فنية بحت ، فإن عليها ان تتخذ ما تراه من وسائل لتحقيقها بلوغا الى غاية الامر فيها . فالمحكمة غير ملزمة بالالتجاء الى اهل الخبرة الا فيما يتعلق بالمسائل الفنية البحتة التى يتعذر عليها ان تشق طريقها فيها .(د/ محمود نجيب حسنى – نقض26/1/1976 – مجموعة احكام النقض ،س27رقم 24- ص113) .
ولا يجوز للمحكمة ان تحل نفسها محل الخبير فى مسألة فنية . وقد اكدت محكمة النقض هذا المعنى وبالغت فى تأكيده فى احكام عديدة جاء فى أحدها أنه ” أن كان للمحكمة أن تستند فى حكمها إلى الحقائق الثانية علميا إلا أنه لا يجوز أن تقتصر فى قضاءها على ما جاء بأحد كتب الطب الشرعى متى كان ذلك رأيا عبر بألفاظ تفيد التعميم والاحتمال . وكذلك فإنه على المحكمة متى اوجهت مسألة فنية ان تتخذ ما تراه من الوسائل لتحقيقها بلوغا الى غاية الامر فيها ” . وأنه ” وإن كان لها ان تستند فى حكمها إلى الحقائق الثابتة علميا – إلا أنه لا يحق لها أن تستند فى تنفنيد تلك المسألة الفنية على الاستناد الى ما استخلصة احد علماء الطب الشرعى فى مؤلف له من مجرد رأى عبر عنه بلفظ “ربما” الذى يفيد الاحتمال ( نقض 13/4/1978 – مجموعة احكام النقض ، س26رقم 79،ص413، ونقض 10/4/1962 – مجموعة احكام النقض -س12رقم 84-ص336) .
هذا عن التزام المحكمة باستفتاء الخبراء فى المسائل الفنية التى تعرض فى الدعوى الجنائية . وقد انتهينا من قبل الى ان الخبرة اجراء مساعد للقاضى فى تكوين عقيدته ، فلا يبقى سوى القول ان استفتاء الخبير فى المسائل الفنية هو قيد على القاضى فى تكوين عقيدته فى الدعوى الجنائية . واذا كان الاصل أن المحكمة لها كامل السلطة فى تقدير القوة التدليلية لعناصر الدعوى المطروحة على بساط البحث ، وأنها الخبير الاعلى فى كل ما تستطيع ان تفصل فيه بنفسها او بالاستعانة بخبير يخضع رايه لتقديرها – الا ان ذلك مشروط بأن تكون المسألة المطروحة ليست من المسئل الفنية البحتة التى لايستطيع المحكمة بنفسها ان تشق طريقها لابداء رأيها فيها . ( نقض 9/4/1978 – مجموعة احكام النقضس29رقم 74،ص388)وقد قضت محكمة النقض بأن” فاذا كان الحكم قد استند ، بين ما استند اليه فى ادنة المتهمين ، الى ان المجنى عليه تكلم بعد اصابته وافضى بأسماء الجناة الى الشهود ، وكان الدفاع قد طعن فى صحة رواية هؤلاء الشهود ، ونازع فى قدرة المجنى عليه على التمييز والادراك بعد اصابته – فإنه يتعين على المحكمة أن تحقق هذا الدفاع الجوهرى عن طريق المختص فنيا ،وهو الطبيب الشرعى ، أما وهى لم تفعل،فإن حكمها يكون معيبا لاخلالة بحق الدفاع مما يتعين معة نقضة – نقض 17/2/1959- مجموعة احكام النقض ،س10 رقم 48، ص223)وأنه “متى كان الدفاع عن الطاعن قد تمسك بطلب استكمال التحليل لتعيين فصيلة الحيوانات المنوية ومعرفة ما اذاكانت من فصيلة مادتة أم لا ، وكانت الحقائق العلمية المسلم بها فى الطب الحديث تفيد إمكان تعيين فصيلة الحيوان المنوى – فقد كان متعينا على المحكمة ان تحقق هذا الدفاع الجوهرى عن طريق المختص فنيا وهو الطبيب الشرعى أما وهى لم تفعل ، اكتفاء بما قالته من أن فوات مدة طويلة على الحادث لا يمكن معه بحث الفصائل ، فإنها بذلك تكون قد احلت نفسها محل الخبير فى مسالة فنية بحتة ،ومن ثم يكون حكمها معيبا باخلال بحق الدفاع ؛ مما يتعين معة نقضة والاحالة (نقض 26/11/1963-مجموعة احكام النقض،س14،رقم 152،ص 853)
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً