إشكالات قضايا نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة
من أهم الأنظمة المرتبطة بحركة التعمير والبناء ومشروعات البنية التحتية في المملكة، نظام نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة الذي ينظّم إجراءات نزع ملكية العقارات الخاصة التي تحتاج إليها مشروعات الجهات الحكومية المختلفة.
وتكشف الأحكام الصادرة عن ديوان المظالم خلال العقود الماضية، والدعاوى المنظورة حالياً لدى كافة محاكمه عن العديد من الإشكالات التي تعتري تطبيق نصوص وأحكام هذا النظام، والتي يعود أكثرها إلى مخالفات ٍترتكبها بعض الجهات الحكومية أثناء مباشرتها لإجراءات نزع ملكية العقارات أو تنفيذ المشروعات، كما يعود بعض هذه الإشكالات إلى ثغرات في نصوص النظام أو نقص ٍفيها يستدعي المراجعة والتصحيح.
وهذا الموضوع طويل ومتشعب لا يغني فيه مقالٌ واحد؛ إلا أن من المناسب الإشارة إلى هذه القضية بشكل ٍعام، والتنويه عن أبرز الإشكالات التي لاحظتها من خلال القضايا التي اطلعت عليها، والمتمثلة في التالي:
أولاً: مسارعة بعض الجهات الحكومية إلى منع صاحب العقار من التصرف في عقاره، بدعوى الحاجة إلى هذا العقار في تنفيذ مشروع ٍترغب الجهة في تنفيذه، قبل أن يتم اعتماد هذا المشروع في الميزانية والموافقة عليه، وذلك بالمخالفة الصريحة لنص المادة الأولى من نظام نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة.
ومما يؤسف له أن هناك بعض القضايا التي تتنصل فيها الجهة الحكومية من واقعة منع مالك العقار من التصرف في عقاره، معتمدة على عدم وجود مستند رسمي يثبت قيامها بذلك، بينما المواطن قد استجاب للمنع الشفهي من الجهة، مما يتعذر عليه عند المطالبة بالتعويض إثبات أن الجهة قد منعته بالفعل.
ثانياً: إنه لا يتم التحقق من صحة سند ملكية العقار، قبل تقدير التعويض عن العقار، بل تكتفي الجهات الحكومية بتلقي سند الملكية من مالك العقار، وضمه للملف، وتسير إجراءات التقدير إلى آخر مراحلها، حتى إنه في كثير من الأحيان قد يصدر الشيك بالتعويض ولم يتبق سوى صرفه لمدعي ملكية العقار، ثم تكتشف الجهة المختصة – وهي غالباً مصلحة أملاك الدولة في وزارة المالية – بعد دراستها لصك الملكية أن هذا الصك غير سليم أو فيه مخالفات نظامية قد تؤدي إلى إلغائه، وبالفعل يتم الرفع بطلب دراسة هذا الصك من المحكمة المختصة، وتنتهي المحكمة إلى إلغائه، بينما كان التعويض قاب قوسين من أن يصرف لمن يدعي الملكية، ولولا أنه صادف موظفاً أميناً حريصاً على المصلحة العامة، لتم صرف المبلغ بغير حق لمدعي ملكية العقار.
وفي هذا الصدد لا يفوتني أن أؤكد على ما شهدته من خلال عملي في القضاء والمحاماة، من الدور الرائد المشكور الذي تقوم به إدارة القضايا في مصلحة أملاك الدولة، تلك الإدارة – المنسية – التي تزخر بالعديد من الكفاءات المؤهلين في الشريعة والقانون، الذين يعملون بكل جد ٍوأمانة ٍفي حفظ مقدرات الدولة فيما يتعلق بالعقارات والتعويض عنها، وقد اطلعت على عشرات القضايا التي كان لهذه الإدارة فيها جهد ملموس لا يخفى أدى لاستعادة أو حفظ (مليارات الريالات) على خزينة الدولة، و(ملايين الأمتار) من الأراضي المعتدى على ملكيتها بصكوك غير نظامية، لولا الله ثم يقظة رجال هذه الإدارة لذهبت تلك الثروات هدراً. وكم يؤسفني أن أمثال هذه الجهود قد لا تحظى بالتقدير والتكريم اللائق بها، الذي يساعد على تشجيع الأمناء من الموظفين، والاحتفاظ بالأكفاء منهم.
ثالثاً: عدم التحقق من مدى أهلية أعضاء لجان التقدير الذين تتساهل بعض الجهات الحكومية في اختيارهم.
رابعاً: إنه في حال معارضة وزارة المالية أو الجهة صاحبة المشروع على تقدير اللجنة الأولى للتعويض لا يتم التقيد غالباً بما نصت عليه المادة التاسعة من نظام نزع الملكية من مدد محددة، مما يجعل قرار اللجنة الأولى نهائياً، وفي حال كان التقدير الأول مبالغاً فيه، فإن القضاء يحكم بالالزام به تطبيقاً للنظام، وهنا نقع في إحدى إشكاليتين خطيرتين: إما إهمال الالتزام بالنظام، وإما إهدار المال العام؛ وهذه الإشكالية الكبرى تستدعي ضرورة معالجتها، ولعل ذلك يكون بتعديل المدد الواردة في المادة التاسعة من النظام، وزيادتها لتتسنى للجهات الحكومية التحقق من عدالة التقدير خلال مدة ٍ معقولة.
ولعله أن يكون لهذا البحث بقية في المستقبل.
تناولت في المقال السابق بعض إشكالات قضايا نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة، ووعدت باستكمال الحديث عن هذه القضية المهمة لكثرة صورها وأثرها الكبير على حقوق الناس وعلى المال العام.
وكان مما ورد في المقال السابق الإشارة إلى إشكالية إهمال التحقق من سلامة صكوك الملكية قبل استكمال إجراءات تقدير التعويض عن العقار، مما يؤثر سلباً على تعريض المال العام للضياع بسبب التعويض عن عقارات قد لا تكون ملكيتها صحيحة؛ إلا أن هناك إشكالية ٌ أخرى لا تقل أهمية، وهي أن كثيراً من العقارات المملوكة ملكاً شرعياً صحيحاً لا يكون لدى ملاكها عليها صكوك مستوفية لكامل الإجراءات الشرعية، فيحرمون من حقهم في التعويض بينما ملكيتهم لا ينازعهم فيها أحد، وهنا ينبغي إعادة النظر في مثل هذه القضايا حفظاً للحقوق.
أما بقية الإشكالات التي لم ترد في المقال السابق فمنها:
أولاً: أنه في بعض الحالات تم الاستعجال بنزع ملكية عقارات مقرر نزعها لمشروعات عامة، وبعد استكمال النزع قررت الجهة المختصة العدول عن تنفيذ المشروع، وتم استغلال تلك العقارات لمشروعات لا ينطبق عليها أنها منفعة عامة ضرورية، مثل بناء مشروعات استثمارية يعود ريعها للجهة الحكومية، وعن هذا الجانب جاء نص المادة (19) من نظام نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة مشوباً بخلل واضح؛ إذ نصت على أنه إذا استغنت الجهة عن كامل عقار سبق نزع ملكيته وأمكن الانتفاع به بتخصيصه لمشروع آخر ذي نفع عام فإنه ليس لصاحب العقار المنزوع حقٌ في استعادته.
وهذه العبارة فضفاضة، وبالتالي قد تتذرع الجهة أن استغلال العقار لبناء مشروع استثماري لصالحها يعدّ مشروعاً ذا نفع عام، وهذا الاتجاه محل نظر؛ لأن حق الملكية الفردية من الحقوق الثابتة التي لا يجوز التعدي عليها إلا في حالات الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ومن الضرورة تنفيذ مشروعات النفع العام التي تكون المصلحة العامة في حاجة ماسة إليها، وليس من ذلك إنشاء مشروع استثماري على عقار منزوع، إذ صاحب العقار أولى باستثمار عقاره.
ثانياً: يحدث كثيراً في قرارات لجان تقدير التعويض عن العقارات المنزوعة أن تغفل تلك اللجان التعويض عن الأضرار التي تصيب آخرين من مجاوري العقار المنزوع أو المستأجرين له، وتنحصر التعويضات لملاك العقارات المنزوعة فقط، وهذا يخالف نص المادة (10) فقرة (3) من نظام نزع ملكية العقارات التي نصت على أن تقوم اللجنة بتقدير قيمة التعويضات لأصحاب العقارات المتضررة من المشروع دون أن يقتطع شيئاً منها لصالحه وذلك على أساس الفرق بين قيمة العقار قبل تنفيذ المشروع وقيمته بعده.
وهذا النص وإن كان خاصاً بصورة واحدة هي وجود عقار متضرر من المشروع رغم عدم نزعه أو جزء منه؛ إلا أن قاعدة التعويض عن الضرر تقضي أيضاً بتعويض مستأجر العقار الذي تم نزعه، عما لحقه من ضرر بسبب هذا النزع.
فمن الخطأ أن ترفض الجهة صاحبة المشروع تعويض أصحاب العقارات المتضررة وفقاً لهذا النص النظامي مع ثبوت تضررهم، وتلجئهم لرفع دعاوى قضائية للمطالبة بذلك رغم كون هذه الدعاوى معلومة النتيجة سلفاً، وهذا من التعنت وعدم المبالاة بالحقوق.
ثالثاً: كما أن من إشكالات هذه القضايا أيضاً عدم تقدير أجرة المثل عن العقار الذي تم منع مالكه من الانتفاع به وتأخر تسليمه التعويض، وإحواج الناس في مثل هذه الحال إلى رفع دعاوى قضائية للمطالبة بإلزام الجهة الحكومية بالتعويض عن أجرة المثل مدة الانتفاع قبل استلام التعويض. وفي هذا مخالفة صريحة للمادة (16) فقرة (3) من ذات النظام التي أكدت على وجوب إعطاء أجرة المثل لمالك العقار الذي تم منعه من الانتفاع به قبل تسلم التعويض.
وهنا إشكال ٌ كبير مرتبط بهذه الصورة، وذلك في بعض الأحكام القضائية التي ترفض الدعاوى المرفوعة من أصحاب العقارات للمطالبة بأجرة المثل من الناحية الشكلية، ما لم يتقدم المدعي بدعواه خلال مدة ستين يوماً من تاريخ إبلاغه بقرار لجنة التقدير الذي لم يشمل تقدير أجرة المثل؛ تأسيساً على أن هذه الدعوى تعتبر طعناً على قرار لجنة التقدير فيجب أن يكون خلال هذه المدة. وهذا القول غير صحيح ولا عادل إطلاقاً؛ بل إن مطالبة مالك العقار بأجرة المثل عند عدم تقدير اللجنة لها يعتبر مطالبة بالتعويض عن أمر مستقل وهو أجرة المثل، وليس طعناً على قرار لجنة التقدير الذي لم يتطرق أصلاً لتقدير أجرة المثل قبولاً أو رفضاً، إنما اقتصر على تقدير أجرة العقار فقط.
وقد اطلعت على عدة أحكام قضائية متناقضة حول هذه المسألة، فبعضها تقرر أن مثل هذه الدعوى تعتبر طعناً على قرار لجنة التقدير الإيجابي، وبعضها تعتبر ذلك من قبيل الطعن على القرارات السلبية الممتدة الأثر والأمد -وهذا الصحيح العادل-.
ختاماً هذا بعض ما يكتنف قضايا نزع ملكية العقارات من إشكالات، وإن كانت كثيرةً لا يسعها مقال أو مقالين، إلا أني ما سبق كان أبرزها وأهمها حسب استقرائي.
والحمد لله أولاً وآخراً.
الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً