تنفيذ أحكام القضاء
كثيراً ما تناول الحقوقيون – وأنا منهم – مشكلة تعطيل بعض الجهات الحكومية لتنفيذ أحكام القضاء، والالتفاف عليها، ما يجعلها مفرغة ً من قيمتها.
والحقيقة التي يجب أن نؤكد عليها أننا حين نقول :” الجهة الحكومية ” فإن المقصود بذلك في حقيقة الأمر، موظف فاسد أو جاهل متعسف هو الذي يقف وراء تعطيل حكم القضاء ويعبث بالأنظمة والتعليمات.
ومتى ما أردنا حسم هذه المشكلة من جذورها، فلابد أن تقوم كل جهة رقابية بدورها الواجب عليها في تتبع مثل هذه المخالفات التي وصفها نظام التنفيذ في المادة التاسعة والثمانين بقوله :” يعاقب الموظف العام ومن في حكمه بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات، إذا منع التنفيذ أو أعاقه. ويعد ذلك جريمة من الجرائم المخلة بالأمانة “.
نعم إن تعطيل أحكام القضاء وإعاقة تنفيذها جريمة بكل المقاييس، وخيانة للأمانة بكل الاعتبارات، لأن الحكم القضائي النهائي يعتبر هو عنوان الحقيقة، وإنفاذه معيار العدل وسيادة الشريعة والقانون على الجميع، الكبير والصغير، القوي والضعيف.
وإننا ونحن نسير خطوات الأمل والتفاؤل نحو تحقيق الرؤية الوطنية الطموحة 2030 يجب أن نضع هذه القضية في سُلّم أولوياتنا، لأنها تمس العدل، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بحماية الحقوق، وقبل ذلك باستقلال القضاء وهيبة أحكامه، التي لا يمكن لأي نهضة أو خطط تنموية أن تقوم في ظل غيابها وضعفها.
وإذا كان خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – يؤكد في كلمته المشهورة المتداولة بين الناس، أن حق التقاضي مكفول للجميع، حتى يستطيع المواطن أن يقاضي الملك أو ولي عهده في الحقوق الشخصية الخاصة، ويقف الملك أمام القضاء كما يقف المواطن سواسية؛ فإن ذلك يبعث رسالة واضحة وقوية للجهات الرقابية أن تضطلع بواجبها نحو صيانة أحكام القضاء من عبث العابثين، وردع كل من تعرض لها بالتعطيل والتلاعب.
ومن خلال موقعي كمحام مرّ بي بعض التجارب التي تنطوي على خروقات خطيرة لمبدأ استقلال القضاء وهيبة أحكامه، يقف وراءها مسؤول قد يكون ينطلق من منطلقات مصلحته الشخصية وأهوائه، وقد يكون جاهلاً لا يعي خطورة هذه الجريمة وآثارها الكارثية، وكانت الجهات الرقابية تتفرج رافضة التدخل رغم اطلاعها على هذا العبث والتعطيل.
وإليكم هذه الأمثلة الواقعية التي أحتفظ بمستنداتها وأدلتها :
المثال الأول : صدر عن محكمة التنفيذ حكم بحبس أحد المنفذ ضدهم بسبب امتناعه عن سداد مبلغ شيك دون رصيد قام بتحريره للدائن، وبعد أن تم حبس هذا المدين فوجئ الدائن أنه ما لبث أياماً حتى تم إطلاق سراحه، وعند المراجعة تبين أن ذلك كان بموجب خطاب صادر عن إمارة المنطقة!.
ولأني أعلم تماماً، وبشكل يقيني أن سمو أمير المنطقة التي حدث فيها هذا التلاعب، يعتبر من أكثر أمراء المناطق حرصاً على الالتزام بتطبيق النظام، واحترام أحكام القضاء، فلم يعد لدي أدنى شك أن وراء هذا الخطاب الصادر تلاعباً خفياً، والتفافاً واضحاً.
ولأن نظام القضاء يقول في مادته الأولى :” القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء ” . وهذا ما تم تأكيده في المادة السادسة والأربعين من النظام الأساسي للحكم. وفي المادة الخمسين نص النظام الأساسي للحكم.
وفي نظام المناطق نصت المادة السابعة على أن من واجبات أمير المنطقة ” تنفيذ الأحكام القضائية بعد اكتسابها صفتها النهائية “.
ومن المبادئ الراسخة التي قامت عليها هذه الدولة، أنه لا يتدخل أي أحد في أحكام القضاء.. ولهذه الاعتبارات تقدمت ببلاغ بخصوص هذا الخرق الجسيم للحكم القضائي، الذي قام فيه مسؤول عابث بانتهاك سلطة القضاء والتعدي على أحكامه القطعية، ووجهت هذا البلاغ لكل الجهات الرقابية ذات العلاقة، فكان مما يؤسف له أنها جميعها لم تحرك ساكناً!.
المثال الثاني : في دعوى ضد أمانة إحدى المناطق، مارست الأمانة من أساليب التضليل وإخفاء الحقائق أمام القضاء، ما لا يليق أن يمارسه الشخص العادي، فأنكرت الحقائق، وزيّفت الوقائع، إلا أن الله ألهم القضاء لكشف زيفها، وحكم بالحق بعد أن ظهر له موجبه الشرعي والنظامي.
وبدلاً عن أن يكون هذا الحكم القضائي الذي صدر خلال مدة تجاوزت خمس سنوات، ومرّ عليه أكثر من ثمانية قضاة اشتركوا في إصداره، بدلاً من أن يأخذ طريقه الفوري للتنفيذ، امتثالاً لجميع الأنظمة، وما صدر من أوامر سامية تؤكد على التنفيذ الفوري لأحكام ديوان المظالم؛ إلا أن المسؤول نفسه الذي مارس تضليل القضاء في الدعوى، ما زال يصرّ على الرفض فامتنع وبكل جرأة ٍوصراحة عن تنفيذ الحكم، وسعى – مستخدماً سلطة الأمانة – إلى الاعتراض على الحكم بادعاءات كاذبة، وكلما طرق باباً من أبواب الاعتراض، فشلت جهوده ومساعيه .
حتى وصل الأمر إلى الرفع للمقام السامي بطلب الاعتراض على الحكم، وعلى يد مسؤولي الديوان الملكي ظهر وثبت كذب الادعاءات الواردة في خطاب أمانة المنطقة، فصدر لهم التوجيه الكريم برفض طلب الاعتراض على الحكم، والأمر بإنفاذه.
والسؤال الذي يجب أن يطرح : هل من المقبول أن يمرّ هذا التلاعب والتضليل الذي ارتكبه هذا المسؤول مرور الكرام ؟!
إن ترك مثل هذه الممارسات القبيحة تشويه لوجه الوطن، وزعزعة لثقة الناس في قضائه، وفي جهاته الرقابية، وإن لكل ذلك عواقب وخيمة أخشى أن يصعب تداركها مستقبلا.
وفي هذا المقال صيحة النذير، وصرخة المشفق، المؤمل في علوه واستقراره، بأن نأخذ على أيدي هؤلاء العابثين بأحكام القضاء، وأن يفتح تحقيق في كل واقعة تعطيل لحكم ٍ قضائي، حتى ينكشف ستر المتسبب الحقيقي وراءها، فيأخذ جزاءه .
والحمد لله أولاً وآخرا.
الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً