استقلال ولاية المظالم عن القضاء الإداري
في مقال سابق طرحتُ مقترحا بدمج ديوان المظالم مع وزارة العدل، وأشرت في ذلك المقال إلى أن هذه الخطوة – لو تمت – سيكون لها من الآثار الإيجابية الكثير، سيما وأنها تتلاءم مع احتياجات هذه المرحلة، وتناسب توجه الدولة الجديد نحو تطوير الأداء مع ترشيد المصاريف.
وإذا قلنا: (ديوان المظالم) فإنه يتبادر إلى الذهن تلك الصورة الفخمة الجليلة لذلك الكيان التاريخي الإسلامي الذي يستمد منه ديوان المظالم اسمه، ويخالفه في حقيقته في كثير من الجوانب.
فمن الخطأ البيّن أن نجعل القضاء الإداري بصورته الحالية قسيما لولاية المظالم التي كان يطلق عليها هذا الاسم في التاريخ الإسلامي؛ إذ بنظرة فاحصة إلى ما ورد في المصادر الفقهية والتاريخية التي تناولت تطبيقات وأحكام ولاية المظالم في الدولة الإسلامية، نجدها تختلف كثيرا عن التطبيق الحالي المتمثل في القضاء الإداري من جوانب كثيرة.
فولاية المظالم في الأصل هي من صميم أعمال وواجبات ولي الأمر وهو الحاكم أو الملك، وتختلف تماما عن ولاية القضاء في الكثير من أحكامها وقواعدها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يباشر هذه الولاية بنفسه، وتبعه في ذلك خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، وسار على نهجهم خلفاء وملوك الإسلام بدءا من خلفاء بني أمية، إلى خلفاء بني العباس، الذين كانوا يتولون بأنفسهم النظر في مظالم الناس.
قال الإمام الماوردي في تعريفه لدَور هذه الولاية:
“ونظرُ المَظالِم هو قَود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفَّة، قليل الطمع، كثير الورع؛ لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحُماة، وثَبْت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين”.
وحين بدأ الخلفاء والولاة يفوضون هذه الولاية العظيمة إلى غيرهم، كانوا يختارون لها رجالا بمواصفات خاصة، فيهم قوة الولاة، وعدل القضاة، وعلمُ الفقهاء، وذلك ليكون عندهم من القدرة والسلطة والقوة ما يردعون به الظالم أيا كان مركزه، ولا يستعصي عليهم أحد لأنهم يستمدون قوتهم من قوة الخليفة وتفويضه المباشر لهم.
وقد سار على هذا النهج الإسلامي الأصيل جلالة الملك عبدالعزيز “رحمه الله” منذ تأسيس هذه الدولة، وذلك بإنشاء صندوق للشكاوى يضع فيه كل من اغتصب حقه شكايته، ومفتاحه لدى جلالة الملك. ويعتبر هدا الصندوق أساس قيام ديوان المظالم في المملكة، واستمر الوضع هكذا الى سنة 1373ه إذ تم استحداث شعبة في ديوان مجلس الوزراء تدعى “شعبة المظالم” اختصت هذه الشعبة بتلقي جميع الشكاوى التي تقدم إلى مجلس الوزراء والتحقيق فيها وإعداد تقرير عنها متضمنا الجزاء الذي تقترحه ثم تقوم برفع التقرير إلى جلالة الملك للتصرف فيه.
ثم ما زال التطور والتحديث مستمرا إلى أن استقر نظام ديوان المظالم على ما هو عليه اليوم، ليكون هيئة قضاء إداري يسير على قواعد القضاء الإداري الحديث.
لكن الناظر في المبادئ والقواعد التي يسير عليها القضاء الإداري، والواقع الحالي له، يدرك تماما أنها لم تعد تقوم بذات الغاية الجسيمة التي كان يتولاها ولاة الأمر بأنفسهم في الدولة الإسلامية، وأن هناك الكثير من القيود النظامية التي تحول بين القضاء الإداري، وبين ممارسة كم هائل من الصلاحيات في ردّ المظالم وإنصاف المظلوم، وردع الظالم. فالقضاء الإداري محكوم باختصاصات دقيقة يخرج عنها الكثير من المطالبات والدعاوى، حتى صارت نسبة كبيرة من أحكامه تقرر عدم اختصاص الديوان بنظر تلك الدعاوى، كما أن القيود الشكلية المتمثلة في المدد النظامية التي يجب على المتظلم التقيد بها وإلا فلا تسمع دعواه، تحول دون إنصاف الكثير من ذوي الحقوق الذين قد يجهلون هذه المدد.
وواقع القضاء الإداري يشهد بحجم معاناته مع كثير من الجهات الحكومية التي لا تتعاون التعاون التام مع القضاء، ويمارس ممثلوها – بكل أسف – دورا سلبيا في تعطيل سير القضاء، ثم بعد صدور الأحكام تبرز أمامنا معضلة كبرى سبق لي تناولها مرارا، تتمثل في امتناع بعض الجهات الحكومية عن تنفيذ أحكام ديوان المظالم، دون أن يكون لقضاء الديوان أي صلاحية تجيز له التدخل لحمل تلك الجهات على تنفيذ أحكامه، أو محاسبة من يثبت تعطيله لتنفيذها.
هذا بالإضافة إلى العديد من الشكايات والمظالم التي يتقدم بها أصحابها بشكل مستمر إلى الملك أو ولي عهده – حفظهما الله – حين يعجزون عن نيل حقوقهم من بعض الجهات الحكومية.
وهذا ما يقودني إلى طرح مقترح إعادة (ديوان المظالم) إلى محضنه الأصلي تحت مظلة خادم الحرمين في ديوانه مباشرة، بحيث يتولى هذا الديوان النظر في كل التظلمات التي يعجز عنها القضاء العادي أو الإداري، ويتحقق من مصداقية صاحب المظلمة، ويكون هو سمع الملك وبصره على رعيته، ومحل ثقته، وتكون هيبة الملك وسلطته هما الأساس الذي تقوم عليه أوامر وتوجيهات هذا الديوان، فبعد أن يتحقق من المظلمة، يرفع باقتراحه إلى الملك فيصدر الأمر باسمه وتوقيعه، وعندها لا يمكن أن يجرؤ أحد على الامتناع عن التنفيذ، ويصبح هذا الديوان هو المرجع لكل من أعيته الحيلة، وأوشك حقه على الضياع، ويحسب له الظلمة والفاسدون ألف حساب.
أما القضاء الإداري بوضعه الحالي فيتم إلحاقه بوزارة العدل على شكل محاكم إدارية، كما جاء في مقالي السابق (دمج ديوان المظالم مع وزارة العدل).
أسأل الله أن يحفظ ولاة أمرنا ويمدهم بعونه وتوفيقه.. والحمد لله أولا وآخرا.
الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً