إصلاح نظام المهن الصحية لإنصاف المتضررين من الأخطاء الطبية
أظهرت وسائل الإعلام المحلية في المملكة خلال الأيام الماضية اهتماماً كبيراً بقضية الطفلة رهام الحكمي على إثر الخطأ الطبي الشنيع الذي ارتكبه مستشفى جازان ومطالبات بإنصاف الطفلة ليس فقط من خلال معاقبة من يتحمل مسؤولية هذا الخطأ الطبي، إنما كذلك بتعويض الطفلة الضحية وأهلها وجبر ما أصابهم من أضرار جراء هذه الجريمة الشنعاء. وهذا الاهتمام الكبير والتفاعل وإن كان يبين ارتفاع درجة الوعي لدى أفراد المجتمع وتفاعلهم الإيجابي وتعاطفهم مع رهام الطفلة الضحية المكلومة وأهلها، إلا أنه كان منصبا بشكل كبير على مهاجمة وزارة الصحة وكأنها الجهة المقصرة الوحيدة دون إدراك جميع الجوانب المتعلقة بهذه القضية، خصوصاً الجانب المتعلق بإنصاف الطفلة رهام وأهلها والأداة العادلة والوسيلة المؤدية لجبر ما أصابهم وسيصيبهم من أضرار جسمية ونفسية ومادية ومعنوية، إضافة إلى المساءلة التأديبية للمسؤولين عن الخطأ الطبي الشنيع.
ولعل من الإنصاف القول إن وزارة الصحة بادرت باتخاذ الإجراءات التأديبية في وقت قياسي حددت خلاله المسؤولين عن هذا الخطأ الشنيع وأصدرت عقوبات شديدة وسريعة، ربما لم تتبع فيها الإجراءات التي يقررها نظام تأديب الموظفين، خصوصا عقوبة الفصل التي تدخل ضمن اختصاص ديوان المظالم، كما أحالت الوزارة ما يخص الضرر للطفلة وتعويضها إلى الهيئة الصحية الشرعية المنصوص عليها في نظام مزاولة المهن الصحية الصادر عام 1426هـ لتطبيق ما نص عليه هذا النظام.
لكن بالرجوع إلى ما نص عليه هذا النظام نجد أنه نص على أن تتكوَن هذه الهيئة من قاضٍ لا تقل درجته عن قاضي (أ) يعينه وزير العدل رئيساً ومستشار نظامي يعينه وزير الصحة وعضو هيئة تدريس من إحدى كليات الطب يعينه وزير التعليم العالي وعضو هيئة تدريس في إحدى كليات الصيدلة يعينه وزير التعليم العالي وطبيبين وصيدلي من ذوي الخبرة والكفاية يختارهم وزير الصحة. ونص كذلك على أن تختص هذه الهيئة بالنظر في الأخطاء المهنية الصحية التي ترفع بها المطالبة بالحق الخاص (دية، تعويض، أرش)، والنظر في الأخطاء المهنية الصحية التي ينتج عنها وفاة، أو تلف عضو من أعضاء الجسم، أو فقد منفعته أو بعضها حتى ولو لم يكن هناك دعوى بالحق الخاص. كما أجاز هذا النظام التظلم من قرارات الهيئة أمام ديوان المظالم خلال 60 يوماً.
لكن هذا النظام أتى خاليا من أي أحكام أو آلية تنظم كيفية تقدير التعويض، وبالتالي ليس أمام هذه الهيئة سوى الرجوع إلى ما هو مقرر تطبيقه في المحاكم العامة بالنسبة إلى طلبات التعويض، الذي لا يتناسب مع الأهداف والمقاصد التي تعمل على تحقيقها هذه الهيئة، كما لا ينسجم مع ما يعرف عن حرص قضاتنا الأفاضل وقضائنا النزيه على تحقيق العدالة، ولعل ما ذكره في هذا الخصوص القاضي سابقا الشيخ محمد بن سعود الجذلاني بعد مراجعته عددا من الأحكام القضائية أن فيها إهدارا لكثير من الحقوق، وإقرارا لكثير من المظالم، وإبقاء لكثير من الأضرار التي جاءت الشريعة الإسلامية بوجوب رفعها، ورأى فضيلته أنه يجب أن تعيد المحاكم النظر في آلية تقدير التعويضات بما يتناسب مع حجم الأضرار الفعلية التي لحقت بالمتضرر، وبما يتضمن معنى الزجر أيضاً للمعتدي.
وترتيبا على ما تقدم فمن المتوقع أن القرار الذي ستصدره هذه الهيئة في دعوى التعويض الخاصة بالطفلة رهام الحكمي سيكون مخيباً للآمال ولن يحقق الجبر العادل للأضرار الجسمية والنفسية والمادية وغير المادية التي أصابت وستصيب الطفلة رهام طوال حياتها. وستستمر المعاناة من أحكام التعويض ولن تنتهي ما لم تقم السلطة التنظيمية في المملكة بواجبها المنصوص عليه في النظام الأساسي للحكم والمسؤولية الموكلة إليها الخاصة بوضع الأنظمة واللوائح فيما يُحقق المصلحة أو يرفع المفسدة في شأن جبر ضرر المواطنين، وتسارع في سن نظام جديد للتعويض أو إصلاح نظام مزاولة المهن الصحية على نحو يتضمن أحكاما تنظم تقدير التعويض ويتخلى أولاً عن النظرة الفقهية الضيقة التي تحصر التعويض عن الضرر المالي المحسوس الواقع فعلا ويقبل النظرة الفقهية الواسعة التي تتبنى قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وقاعدة التعويض عن الألم عند بعض الفقهاء المسلمين، ويتضمن ثانياً معايير وآليات منصفة لتقدير حجم الأضرار والتعويض عن أنواع الضرر كافة التي تصيب المتضررين بما يتناسب مع ما أصابهم من أضرار جسمية ونفسية ومادية ومعنوية، وأن يطبق ذلك النظام بواسطة القضاء ولا يترك لاجتهادات لجان أو هيئات كما هو الحال مع الهيئة الصحية الشرعية التي يفتقد أعضاؤها الذين يعينهم وزير الصحة الاستقلالية والحيادية.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً