الـDNA وحجيته الشرعية
1-أقام زوج دعوى ضد زوجته طلب في ختامها نفي نسب الطفل إليه فقررت المحكمة إجراء فحص الحمض النووي و بناء على نتيجته رفضت دعوى الأب و أكدت على صحة الوثائق المثبتة لنسب الطفل إليه .
2-رفعت سيدة دعوى للمطالبة بإثبات نسب طفلها لفلان المتوفى و ادعت أنها زوجته بعقد غير مكتوب وأفادت زوجته الرسمية(أرملته) و أولادها بعدم علمهم بواقعتي الزواج و الحمل منه فقررت المحكمة فتح قبره لأخذ عينة منه لإجراء فحص الحمض النووي .
3-تقدم رجل للجهات الرسمية لاستخراج وثائق لشاب ولد في الهند مقررا انه ابنه من هندية قد تزوجها هناك و لما حضر الولد للبحرين و مكث فيها حينا تقدم الأب بدعوى للقضاء مطالبا بنفي نسب الولد إليه فقررت المحكمة إجراء فحص الحمض النووي لهما .
4-إذاً فما هو محل هذا الفحص في الأدلة القانونية الشرعية , بداية فانه من المسلم ب هان هذا الفحص هو دليل علمي معترف به قانونا معتمد لدى المحاكم الجنائية متى كانت نتيجة حاسمة و لا يكاد يُحتاج إليه أمام المحـــاكم المدنية و لكن يبدوا أن الحاجة إليه ستزداد أمام المحاكم الشرعية
5-و الجدير بالذكر أن دولة مجاورة قرر وزير داخليتها في فترة من الزمن اعتماد هذا الفحص كإجراء ملزم لإصدار جوازات سفر للمواليد الجدد فكتب احد مواطنيه في الصحف يتمنى عليه أن يلغي قراره تجنبا لمشاكل و اضطرابات اجتماعية ,و في سياق مقاله قال انه كان يرى أن أباه يفضل أخاه عليــــه و لا يعرف الســـبب و بعد وفاة الأب و مرض الأخ فســــافر معــه لدولة أوربيـــة للعلاج و هناك و بدافع الفضول سحب عينة من دمه و طلب من المستشفى عمل مقارنة بين دمه و دم أخيه فكانت النتيجة هي ( أنت و أخيك لا تنتميان لنفس الأب ) فبلع غصته في حلقه و لم يستطع أن يكلم أحداً و لا أن يسال أمه و هي عجوز تقادم بها العمر فلم يجد مناسبا البتة أن يسألها عن أبيه الحقيقي و يذكرها بجرم قد عفا عليه الزمن و ظنت انه تلاشى و اختفى.
6-من المقرر شرعا أن الإقرار حجة على المقر فمن اقر ببنوة طفل و لم يكن هناك من يدعي نسبته إليه فانه يلحق به و من المقرر أيضا (الولد للفراش و للعاهر الحجر) إذا فلماذا قررت المحكمة إجراء هذا الفحص رغم تمسك المدعى عليهم بالقاعدة و الحديث المذكورين ؟
7- الحقيقة هي أن هناك قاعدة علمية مهمة و قوية تحكم المسائل المذكورة و هي بتعبير الفقهاء حاكمة على الأدلة الأخرى بمعنى أنها مقدمة في العمل على سائر الأدلة و لا يصح العمل و التصرف إلا تحت مظلتها و في نطاقها و نعني بذلك قاعدة اجتماع المقتضي و المانع أو وجود احدهما و انتفاء الآخر .
8- و وفقا للقاعدة المذكورة فان المانع مقدم على المقتضي اذا اجتمعا و إذا وجد المقتضي و انتفى المانع فالأمر المطلوب إثباته يعتبر قابلا ًو صالحاً للثبوت (ليس شرطا أن يثُبت )
9-و نقدم مثالا ماديا قبل أن نواصل بحث الموضوع و مثالنا هو (أن وجود النار بجانب الخشب هو مقتضي للاحتراق و لكن لو كان الخشب مشبعا بالماء فان الرطوبة تكون مانعا من الاحتراق)فنرى أن المانع أقوى من المقتضي و طاردا له .
10-ففي القضية الأولى المذكورة فان معاشرة الزوج لزوجته مقتضي لثبوت نسب الطفل إليه و لكن لو كانت نتيجة الفحص الفني للحمض النووي سلبية فان هذا سيكون مانعا من ثبوت نسبة الطفل إليه و أما الحديث (الولد للفراش و للعاهر الحجر) فيبدوا من سياقه أن المقصود منه انه إذا اشتبه نسب الولد بين الزوج و بين العاهر أو العشيق للزوجة فيحمل على انه ابن الزوج ما لم يثبت بطريق قطعي خلاف ذلك .
11- و أما الإقرار فمع التسليم بحجيته و لكنه لا يسلم من التدليس و الخداع و الجهل و الغلط الذي قد يقع فيه المقر و متى ادعى المقر حصول أمر من هذه الأمور له فعليه تقديم الدليل فتبقى للإقرار حجيته حتى يلغيها الدليل – إن وجد – و إلا فالإقرار باق على حجيته و هذا يفسر قرار المحكمة إجراء الفحص النووي للولد مع ا ناباه هو من استخرج له جواز السفر و الوثائق الرسمية الأخرى و هذا اقرار صريح منه بأبوته للولد .
12-أما القضية الثالثة فإن إجراء الفحص المذكور ينتج عنه ثلاثة احتمالات الأول أن تكون النتيجة سلبية قطعية و هذا يعني رفض الدعوى لان تولد الطفل من الشخص المحدد مستحيل علمياً و ثانيها ان تكون النتيجة غير حاسمة كأن يقول التقرير الفني (يحتمل انه يكون منه و يحتمل ان يكون من غيره ) و في هذه الحال أيضا ترفض الدعوى ما لم تقدم المدعية دليلا آخر , و الثالث أن تكون النتيجة ايجابية و هنا يثبت للمحكمة أن المتوفى هو أب طبيعي للطفل و لكن هل هو أب شرعي أم لا؟ ربما –نقول ربما- تعتبره المحكمة أباً شرعيا إذا حلفت الأم أن المتوفى قد تزوج بها و أنجبت الطفل بسبب معاشرة جنسية ناتجة عن ذلك الزواج , وربما يستشعر ذلك من دليل الانسداد و مما روي في مجال آخر وهو إذا ادعى شخص على شخص متوفٍ بمال فانه يطلب من الحلف لان الميت لا لسان له لينفى المطالبة عن نفسه و أيضا لحمل عمل المسلم على الصحة .
13- و مما سبق يتضح جليا أن الشرع الأغر يعترف اعترافا كليا بالدليل العلمي الفني و لكن قد يسأل سائل -تفهماً أو تعجرفاً- فلماذا يرفض الدليل العلمي في موضوع الهلال و لماذا يرفض في موضوع الحد للزنا ؟
14- للإجابة عن هذا السؤال نقول أن موضوع الهلال -كما هو عليه اغلب الفقهاء -فان الرؤية مأخوذة كشرط في ثبوت الهلال فلا يكفي المعرفة العلمية الأكيدة بتولده و حيث أن العبادات توقيفية فيجب التقييد بالطريق الذي حدده الشرع .
15- و أما بالنسبة لموضوع الحد للزنا فمن المعلوم ان العقوبة هي استثناء و كل استثناء يجب الاقتصار فيه على المقدار المتيقن و لا يجوز التوسع في نطاقه و حيث أن الدليل الشرعي قد دل على جلد أو رجم الزاني بقيد أن يثبت الزنا بأربعة شهود فانه لا يجوز أن يقام الحد لثبوت المعاشرة الجنسية بينهما بالدليل العلمي الفني فقد تكون زوجة سرية له كأحد الاحتمالات الممكنة و قد لا تكون احتمالا ممكنا مثل التي في عصمة زوج و مع ذلك لا يقام الحد لان الشرع قد حدد الجريمة و حدد طريق إثباتها و لكن هذا لا يمنع من إقامة العقوبة التعزيرية عليها (اي عقوبة اقل و اخف من الجلد 100 جلدة أو الرجم ) .
فمما ذكرناه بشيء من التفصيل يتضح لنا أهمية الأدلة العلمية و يتبين لنا حجيتها أمام القضاء بأنواعه المختلفة و يبقى أن نحسن توظيف هذه الأدلة لصالح الدعاوى .. و الله ولي التوفيق .
الشيخ عبد الهادي خمدن
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً