الامتيازات القانونية لحق الفيتو
الڤيتو veto كلمة من أصل لاتيني، من فعلvetare، ومعناها (يمنع ـ أو ـ يعارض)، ومن هنا فالأصح تسميته بالعربية ( حقّ الاعتراض ـ أو ـ حقّ الرفض الناقض) بدلاً من حقّ النقض كما هو شائع؛ لأن النقض يتم على القرار الكامل القابل للتنفيذ، والأمر هنا يتعلق بمشروع قرار لا يمكن أن يصبح قراراً إلا بعد إجازته من قبل تسعة أعضاء على الأقل بمن فيهم الخمسة الدائمون وإعلانه من قبل رئيس المجلس قراراً رسمياً.
وقد كان الڤيتو أو حقّ الاعتراض مطبقاً في مدينة روما في العهد القنصلي، حيث كان يحكمها قنصلان، يحق لكل منهما أن يمتنع عن توقيع أحد الأوامر التي أصدرها الآخر إذا شاء ذلك، فيحول دون تنفيذها.
ومن الناحية القانونية الدولية ُيعرّف «الڤيتو» بأنه: سلطة ممنوحة للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي تخولها منع هذا المجلس من اتخاذ أي قرار لا يتفق مع مصلحتها عن طريق التصويت السلبي على مشروع القرار المذكور.
ومن الواضح من هذا التعريف أنه لكي يكون هناك ڤيتو يجب على الدولة المعنية أن تعترض على مشروع القرار بالتصويت سلباً عليه، أما الامتناع أو الاستنكاف عن التصويت abstention أو التغيّب عن حضور الجلسة؛ فإنهما لا يشكلان تصويتاً سلبياً على المشروع، ولا يمنعان من صيرورته قراراً نافذاً.
ومن الثابت أنه كما انبثقت من الولايات المتحدة الأمريكية فكرة مشروع التنظيم الدولي الجديد والدفع به إلى نهايته دون انتظار نهاية الحرب، انبثقت منها أيضاً فكرة حق الاعتراض، وهو ما يؤكده السناتور الأمريكي ـ جون سيرمان كوير ـ بقوله: «إن نصوص حق الڤيتو للدول الكبرى ظهرت بانتظام في المشروعات الأولية لمنظمة دولية عامة التي وضعها المخططون في حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. فطوال المفاوضات الهادفة لإنشاء الأمم المتحدة في دومبارتون اوكس وفي يالطا [ر] وفي سان فرانسيسكو[ر] وقفت الولايات المتحدة الأمريكية كتفاً إلى كتف مع الدول الكبرى الأخرى في مساندة هذا المفهوم ودعمه…».
وقد أكد وزير الخارجية الأمريكي آنذاك Hull في مناقشته مشروع الميثاق التمهيدي مع مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ في أيار/مايو سنة 1944 أن «حكومتنا لن تبقى هناك يوماً واحداً دون الاحتفاظ بحقها في سلطة الڤيتو».
ما لحقّ النقض وما عليه
اختلفت آراء الدول ووجهات نظر فقهاء القانون الدولي حول أهمية الڤيتو وفائدته للتنظيم الدولي المعاصر، إذ يرى بعضهم أن «الڤيتو هو صمام الأمان الذي يحول دون تعهد الأمم المتحدة بالتزامات في الميدان السياسي تفتقر إلى السلطة اللازمة للوفاء بها…».
فيما يرى آخرون أن «الڤيتو ضمّن في الميثاق كنتيجة للخضوع لواقع تكوين القوة الراهنة في العالم في سنة 1945، واتجاه السياسة آنذاك…، وأن حق الڤيتو كان له أثر بالغ في شل حركة مجلس الأمن، وفي وقف الدعوة إلى تعديل أحكام ميثاق الأمم المتحدة؛ كي تستجيب لهذه الأحكام والأوضاع و الملابسات الجديدة، مما يهدد مستقبل المنظمة الدولية».
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد استندت في تزعمها للدول الكبرى من أجل المطالبة بهذه السلطة إلى ذريعة أنها تحاول أن تمنع المنظمة الجديدة من أن تحيق بها الكارثة التي عدت العيب الجوهري في عصبة الأمم[ر]، وهي عدم مشاركة بعض الدول الكبرى فيها، ولذا نجد أن الناطقين الرسميين باسم الحكومة الأمريكية لم ينل منهم التعب أبداً من ترديد النظرية القائلة بأنه إذا كان يتعين عليهم عرض ميثاق بلا ڤيتو لمجلس شيوخ الولايات المتحدة الأمريكية وشعبها؛ فإنهم سيكونون عاجزين عن منع الأمم المتحدة من أن تكون محملة بعائق الامتناع الأمريكي نفسه الذي أدى إلى كثير من النتائج السلبية في المنظمة العالمية السابقة، بمعنى أن قبول الدول الأخرى بحق النقض وإقراره هو الضمان لكي توافق الدول الكبرى ـ وعلى الأخص أمريكا ـ على الانضمام إلى الأمم المتحدة، وإلا فإن مصيرها سيكون الإخفاق، كما حدث لعصبة الأمم.
وعلى أن بعض الدول حاولت في مؤتمر سان فرانسيسكو المطالبة بإدخال بعض التعديلات على مقترحات دومبارتون اوكس ـ وعلى الأخص فيما يتعلق بسلطة الڤيتو ـ فإن تلك الدعوات كان مصيرها الإخفاق بسبب تمسك الدول الكبرى بما عدّته حقاً لها، لتنصب من نفسها حكومة من القلة تستأثر بالسيطرة على بقية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وإن كانت الدول الكبرى قد أصدرت مذكرة تفسيرية إلى الدول المعارضة في المؤتمر حاولت فيها توضيح الحكمة من تمسكها بسلطة الڤيتو ومتذرعة بأن:
ـ تبني هذا النظام يجعل عمل المجلس أقل تعرضاً للتعطيل عما كانت عليه الحال في مجلس عصبة الأمم في ظل قاعدة الإجماع الكامل.
ـ إضافة إلى أن الدول الكبرى لا تستطيع بمقتضى نظام التصويت المنصوص عليه في الميثاق أن تتصرف وحدها؛ إذ يلزم لها بجانب أصواتها أصوات عدد من الأعضاء غير الدائمين في المجلس، بل يمكن للأعضاء غير الدائمين أن يمارسوا حق الاعتراض مجتمعين.
ـ فضلاً عن أنه لا يمكن أن يتوقع من الأعضاء الدائمين ـ بالنظر إلى المسؤوليات الأساسية التي ينهضون بهاـ أن يتصرفوا في مسائل خطيرة خاصة بحفظ السلم والأمن الدوليين نتيجة لقرار لم يوافقوا عليه.
وبالمقابل فإن الآراء المعارضة لسلطة الڤيتو ترى أن حق الڤيتو يتناقض تناقضاً جذرياً مع مبدأ المساواة، وهو أحد المبادئ الرئيسة التي يقوم عليها الميثاق، ولا يجوز المساس بها، وأنه يؤدي إلى ترسيخ الممارسات غير الديمقراطية في المجتمع الدولي، ويظهر غطرسة القوة والرغبة في ممارسة السيطرة أو الاستبداد بالرأي، كما يؤدي إلى ازدواجية المعايير، ويميز بين سلوك الدول وتصرفاتها على أساس قوتها السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو على أساس طبيعة تحالفاتها مع الدول الكبرى، وليس على أساس مدى تمشي هذا السلوك أو تلك التصرفات مع قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ُيضاف إلى ذلك أن ممارسات الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن طوال فترة الحرب الباردة تؤكد سوء استخدامه وعدّه سلاحاً ُيشهر للدفاع عن مصالح دول بعينها، وليس للدفاع عن الشرعية أو حماية الاستقرار أو المحافظة على السلم والأمن الدوليين.
انعكاس حق النقض على التنظيم الدولي
تميزت الفترة الماضية من عصر التنظيم الدولي بالإسراف في استخدام حق النقض (الڤيتو) وإساءة استخدام ذلك الحق بصورة أدت إلى شل فاعلية مجلس الأمن الدولي وجعله عاجزاً عن أداء المهام المنوطة به، ذلك أن انقسام الدول الكبرى في فترة الحرب الباردة جعل تلك الدول تستغل عضويتها الدائمة في مجلس الأمن وتمتعها بحق الڤيتو لخدمة أغراضها والحيلولة دون صدور أي قرارات تتعارض مع مصالحها أو مصالح حلفائها الخاصة بصرف النظر عن اعتبارات حفظ السلم والأمن الدوليين، إذ تشير الإحصائيات إلى أن حق الڤيتو قد استخدم في فترة الحرب الباردة حتى انتهاء آثارها تماماً، أي من الفترة من عام 1945 إلى عام 1992 (244) مرّة، وتعكس هذه الأرقام فداحة الضرر الذي ألحقه الإسراف في استخدام حق الفيتو وإساءة استخدامه بآلية العمل في التنظيم الدولي في مرحلة الحرب الباردة، ويكفي أن يشار هنا إلى أنه وفي إحدى سنوات تلك المرحلة ـ وهي سنة 1955 تحديداً ـ تم استخدام حق الفيتو ضد 70% من مشروعات القرارات المعروضة على المجلس، أي إن عدد مشروعات القرارات التي تم رفضها في ذلك العام بلغ أكثر من ضعف عدد القرارات التي صدرت بالفعل عن المجلس.
وإضافة إلى ما سبق تجدر الإشارة إلى أن الأرقام السابقة ـ وعلى رغم ضخامتها ـ لا تعكس الواقع الحقيقي لآثار الڤيتو السلبية في تعطيل مسيرة عمل التنظيم الدولي ونشاطه إذ إن الفقه يشير أيضاً إلى ما يعرف بالاعتراض المستتر veto camoufle الذي كانت تلجأ إليه الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً للحيلولة دون صدور ما كانت تعارضه من مشروعات القرارات، إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية تمكنت عن طريق السيطرة على عدد كاف من الأصوات داخل المجلس من منع صدور أيّ قرار من المجلس يتعارض مع مصالحها أو مصالح حلفائها، وذلك بتجميع أغلبية سبعة أصوات ضد مشروع القرار المعروض، وهو ما كان يستحيل معه صدور قرار من المجلس. وفي مطلق الأحوال وأياً كانت التسمية، فقد أدت تلك الممارسات إلى شل حركة الأمم المتحدة وإطلاق يد الدول الكبرى في مناطق نفوذها بعيداً عن الخضوع لأي شريعة أو قانون.
مستقبل حق النقض
توجد بدائل عديدة ومشروعات مختلفة وخيارات متنوعة، يدعو بعضها إلى إلغاء حقّ الفيتو تماماً باعتبار أن وجوده والإبقاء عليه ليس له ما يسوّغه قانونياً أو أخلاقياً، فيما يذهب رأي آخر إلى الاكتفاء بعدم توسيع نطاقه، أي عدم منحه للدول التي يمكن أن تقبل أعضاء جدداً دائمين في المجلس، وأما الاتجاه الثالث فهو يدعو إلى تقييد نطاق استخدامه ووضع ضوابط لهذا الاستخدام، ومثال هذه الضوابط اقتراح كولومبيا أن يقتصر استخدام حق الفيتو على القرارات التي تتخذ في إطار الفصل السابع من الميثاق، واقتراح هولندا بتعديل شرط إجماع الدول دائمة العضوية بحيث يلزم اعتراض دولتين أو أكثر من الدول دائمة العضوية للحيلولة دون صدور قرار ما من مجلس الأمن في مسألة موضوعية.
وهكذا فهناك عملياً عدة مشروعات للإصلاح، لكن السؤال هنا: هل توجد أي إرادة للإصلاح لدى الدول الكبرى وعلى الأخص الولايات المتحدة الأمريكية؟
إن المطالبة بالإصلاح وتقديم المشروعات وإعداد البدائل والخيارات ليست هي المشكلة، ولكن مشكلة القانون الدولي ومشكلة الأمم المتحدة الحقيقية هي عدم وجود إرادة جدية وصادقة من أجل الإصلاح من قبل الدول الكبرى… فما الذي يدفع تلك الدول للتخلي طوعاً عن امتيازات منحها إياها الميثاق أو قبول بمن يشاركها فيها؟
26 يناير، 2018 at 6:31 م
من الاجدى ذكر المصادر ؟