الدستور العراقي وقوة القرارات في مقال قانوني
الدستور والقوى المتحكمة في القرار
القاضي سالم روضان الموسوي
تعود بدايات ظهور الدساتير إلى القرن الثالث عشر، وبالتحديد سنة 1215 عندما منح الملك جون ستير الملقب بجون لاكلاند الميثاق الأعظم المعرف بماغنا كارتا (MAGNA CARTA) للنبلاء الإنجليز الثائرين عليه.
ومنذ ذلك الحين ولغاية الآن ظهرت الدساتير بأشكالها ومضامينها التي تطورت كثيراً عن أول ظهور لها، لأنها تعدت فكرة تنظيم الحكم وتوزيع الصلاحيات إلى مبادئ حقوق الإنسان وأمور أخرى اجتماعية واقتصادية. وكانت الغاية الأساسية من نشأة الدساتير توزيع السلطات ومنع حصرها بيد الحاكم، ثم تعددت النظريات حول هذا الموضوع وتطورت إلى أن وصلت إلى ما عليه الآن، لكن السؤال الذي ينهض: من الذي ينفذ ويطبق مضامين الدستور، هل هو الشعب أو نخبة منتخبة من الشعب أم جمهور معين هو الذي يتولى هذه المهمة؟
الجواب على ذلك كان في الجانب النظري بأن الشعب هو من يقرّ الدستور عبر وسائل عدة أهمها الاستفتاء عليه. ويعمل الشعب أيضاً على تطبيق الأحكام الواردة في الدستور عبر مؤسسات دستورية وبوسائل أهمها وأشهرها الانتخاب. وفي دستور العراق نجد إنه قد أشار بصريح العبارة إلى أن الشعب هو من يتولى هذه المهام جميعاً عندما ذكر في نص المادة (5) بأن الشعب مصدر السلطات والسيادة للقانون ويمارسها الشعب عبر المؤسسات الدستورية وعن طريق الانتخابات(الاقتراع)، وهذه قيم مبادئ سامية لا غبار على سموها ورقيها.
وفي العراق مثلما هو في كل بلدان العالم الثالث ذات الأنظمة الديمقراطية الحديثة نسبياً لم تأت الديمقراطية عبر مساقها الطبيعي ولم يتطور العمل النيابي وينمو بشكل طبيعي باعتباره نتاجاً لعمليات الصراع الاجتماعي أو من خلال التنافس الحر بين القوى الاجتماعية والسياسية المحلية نظراً لغياب المؤسسات الاجتماعية التي تتناغم مع المقتضيات الفكرية وتجليات الوعي الاجتماعي الجمالية والفلسفية والسياسية والحقوقية، مما أدى إلى تأثرها بالعامل الخارجي ، إلا أن العهد الملكي كان يمثل العهد الدستوري التأسيسي الأول في العراق لأن فيه شهدت البلاد ولادة للأحزاب ونهوضاً للفكر العراقي الحديث فضلاً عن حيادية الدولة إزاء التنوعات الثقافية والدينية والطائفية وتوحيد العشائر المتشظية لأنها تأسست على أعقاب تلك المجتمعات العشائرية المتشظية المتصارعة والمجتمع الساكن وهذا ما يراه الكاتب الدكتور عقيل الناصري ، لكن بعد ذلك ظهرت الانقلابات العسكرية التي أدت إلى تحولات جذرية في طبيعة السلطة والدستور وقيادة الدولة حيث انتهى عهد النظم السياسية الديمقراطية وظهور حكم العسكر لغاية عام 2003 عند سقوط النظام السابق الذي أدى إلى تحولات زلزالية في بنية المجتمع العراقي في كل النواحي.
وهذا التغيير لم يأت عبر وسائل ديمقراطية، وإنما عبر انقلاب من نوع آخر، وهو الاحتلال العسكري من دول أجنبية فرضت شكل الديمقراطية الذي يتناسب وغاياتها التي من أجلها احتل العراق، وبلا شك إنها غايات لا تتعلق بمصالح الشعب العراقي، مما أدى الى ظهور الفوضى بكل أشكالها، ثم ظهر في ظل تلك الفوضى الدستور وتشكلت المؤسسات الدستورية وجرت الانتخابات لأكثر من دورة وحصل التبادل السلمي للسلطة، إلا أن ما يجري في أرض الواقع، أن القوى الفاعلة التي تتحكم بأدوات السلطة ليست القوى الديمقراطية التي تصل عبر صناديق الانتخابات الحقيقية غير المزيفة، وإنما قوى حزبية أو كما تسمي نفسها (جماهير تمثل الشعب)، والمراقب يلاحظ إن ذلك الأمر لم يكن من نتائج ما بعد عام 2003 وإنما هو كان منذ حدوث أول انقلاب في عام 1958م حينما استنفرت الجموع تحت مسميات مختلفة أطلقتها عليها الأحزاب في ادبياتها منها مسمى (الجماهير) ومنها مسمى (الشعب)،
وانعكس ذلك على طبيعة المؤسسات الدستورية التي يفترض بها أن تخضع لسلطة وسيادة القانون، إلا أنها كانت تسمى بمسميات تلصق بالشعب مثال ذلك ( محكمة الشعب او ما تسمى شعبياً محكمة المهداوي) أو بمسمى (محكمة الثورة)، والغاية من هذه المسميات إضفاء المشروعية التي ظهر لاحقاً لها مصطلح (المشروعية الثورية) على غرار المشروعية الدستورية، واستمر الحال لغاية الآن، حيث نرى أن القوى الفاعلة في الأرض ليست المؤسسات الدستورية وإنما جموع كما سماها احد الكتاب بانها (جموع ليس لها هوية طبقية او ثقافية او هوية سياسية وتمارس هذه الجموع الهيمنة على الشارع والمجتمع وتعطي تفويضاً كاملاً لزعيم قادم من مؤسسة عسكرية أو عشائرية أو إقطاعية أو دينية وهذه الجموع لاتميز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي) .
ومن الجدير بالذكر إن الفرق بين مصطلح المجتمع المدني والمجتمع السياسي واضح حيث إن المجتمع المدني كما يراه المختصون يرمز إلى حالة انتماء اجتماعية سياسية ومدنية متحضرة بينما المجتمع السياسي هو المجتمع الذي يشمل الإفراد الذين يساهمون في الحياة السياسية فقط . وفي العودة إلى هذه الجموع نجد إنها لا تعبر عن نفسها إلا بالهتافات وليس لها أدبيات توضح ماهيتها وعقيدتها ، لذلك يرى البعض أن هذه الجموع وكذلك الأنظمة العسكرية التي توالت على حكم العراق كانت هي المساهم الأكبر في تدمير الدولة التي تحلم بها أجيال العراق ولغاية الآن . ومن الجدير بالذكر إن هذه الجموع لم ينحصر وجودها في العراق وإنما لها وجود في اغلب البلدان وتسمى بالظاهرة الشعبوية التي يعرفها المختصون بانها إيديولوجية و فلسفة سياسية، أو نوع من الخطاب السياسي، الذي يستخدم الديماغوجية (سياسة استهواء الجماهير واستغلال ميولها) ثم إثارة عواطف هذه الجماهير بالاحتجاج الجماهيري لتحييد القوى الأخرى المختلفة معها.
وأحيانا يتعدى الأمر الاحتجاج السلمي إلى استعمال العنف بمختلف أوصافه وأنواعه. وظهرت الشعبوية في بلدان منها تعد في مقدمة الدول الديمقراطية مثل أمريكا في ظاهرة (ترامب) وأخيراً في البرازيل بظهور الرئيس الجديد (بولسونارو). ومن أكبر النتائج الكارثية للشعبوية قدرتها على أقناع عدد كبير من عامة الشعب وغالبا ما يشكلون الأكثرية للقبول بالسلطة المطلقة للفرد أو لمجموعة من الزعماء.
ومن خلال ما تقدم نجد أن مجرد أن يكون نظام الحكم ديمقراطياً (برلمانيا) لا يكفي لأن نقول بان ذلك البلد ديمقراطي، وإنما علينا أن نبحث عن القوى الفاعلة في الأرض والمتحكمة بالقرار السياسي، هل هي القوى الديمقراطية التي تمثل حقيقة الشعب أم إنها مجرد جموع تنفذ ما يوجه إليها؟ ولا تؤمن إلا بما يؤمن به زعيمها حتى وأن تقلب في إيمانه وتوجهاته فإنها تتبعه بشكل مطلق ودون تفكير، وهذا سائد في الأنظمة الديكتاتورية الشمولية التي تعمل وفق المقولة الشهيرة التي كان يرسخها حزب البعث المنحل ((نفذ ثم ناقش)).
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً