أثر التنمية على الامن القضائي في المغرب

لقد أوضحت التجربة وبينت جليا أن مصلحة الأفراد والجماعات لا تكمن فقط في سن القوانين أو النصوص التنظيمية للقول بوجوب الانصياع لها وفرض تطبيقها بتبرير وجود دولة الحق والقانون، بل إن الأمر يتعدى ذلك ويتطلب بالإضافة إلى النصوص التشريعية والتنظيمية المحكمة والمستجيبة للمصالح الاجتماعية والاقتصادية تحقيق ما يسمى بالأمن القضائي .
هذا الاخير يتجلى في توفير الاطمئنان للمتقاضين لدى المؤسسة القضائية، وهذا لا يتأتى إلا بالرقي بمستوى الخدمات التي يؤديها من خلال جودة الأداء واستقرار الاجتهاد والعمل القضائيين بما يتوازن وروح التشريع وتحقيق العدل بين مكونات المجتمع، ولا يختلف لديه في ذلك الأفراد أو الجماعات والأشخاص المعنوية أو الإدارة والمؤسسات العمومية، إذ أن الأمن القضائي يعتبر حقيقة ملاذا للكل لدرء تعسف البعض وطغيانه

كما أثبتت التجارب الإنسانية العالمية أنه مهما وضعت النصوص القانونية الملائمة فإنها تبقى دائما قاصرة عن إيجاد الحلول لكل النوازل والقضايا، لأنها تبقى أولا من صنع البشر المتسم بطبيعته بالنقص، ولأنها – أي النصوص- تتناهى باعتبار عددها، علما أن الوقائع لا تتناهى من حيث دلالاتها فيبقى الملاذ إذن هو القضاء لتدبر هاته الوقائع اللامتناهية والاجتهاد الخلاق في إيجاد حلول لها.

وعليه فانه لتوفير الأمن القضائي ينبغي تأهيل مهنييه، كما جاء في خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش والذي جاء فيه ” يتعين على الجميع التجند لتحقيق إصلاح شمولي للقضاء لتعزيز استقلاله الذي نحن له ضامنون، هدفنا ترسيخ الثقة في العدالة وضمان الأمن القضائي الذي يمر عبر الأهلية المهنية والنزاهة والاستقامة وسيلتنا صيانة حرمة القضاء وأخلاقياته ومواصلة تحديثه وتأهيله…”

وبالتالي فان الامن القضائي يعتبر احدى الوظائف الاساسية للدولة، هذا الاخير له دور فعال في حماية الحقوق واستقرار المعاملات والتحفيز على الاستثمار من اجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث اولى المشرع المغربي عناية خاصة للجهاز القضائي، وذلك بجعله كسلطة مستقلة عن السلطة التشريعية والتنفيذية ، والتي تعتبر من اولى الخطوات لتحقيق الامن القضائي.
إذا كان تاريخ المغرب قد أفرد للقضاء مكانة هامة ومحورية في ترسيخ وحدة الدولة والحفاظ على مقوماتها، وذلك بوجود سلطة قضائية مستقلة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني ودلالات، يكون هدفها خدمة المواطن وحماية حقوقه وحرياته وأمنه القضائي والتطبيق العادل للقانون .
حيث أصبحت حقوقا دستورية لفائدة المواطن والتزاما يقع على عاتق القضاء أداؤه وتنفيذه على أحسن وجه، وفي هذا السياق فإن أهمية المرحلة التي يعرفها المغرب بعدما أصبحت الوثيقة الدستورية الجديدة سارية المفعول بعد استنفاد كافة الآليات القانونية والديمقراطية وإتباع منهج تشاركي تشاوري سواء في اقتراحها أو إعدادها أو بلورتها ومن ثم نشرها في الجريدة الرسمية، تفرض علينا الآن إنزالها إلى أرض الواقع وتفعيلها ليحس المواطن والمتقاضي بآثارها الملموسة على أمنه القضائي. هذا التفعيل الإيجابي يقتضي منا تحليل الموضوع من كافة جوانبه المتشعبة ومناهجه المتنوعة، إذ يحمل أبعادا قانونية وحقوقية واقتصادية واجتماعية ودينية وأخلاقية وسياسية، ويكتسي أبعادا وطنية ودولية ويطرح الكثير من المقاربات والمداخل ويفرض الكثير من التساؤلات والتصورات.

والحقيقة ان موضوع الامن القضائي هو من المواضيع التي تحتفظ براهنيتها الممتدة في الزمن المستقبل، فهو مقياس اصيل في بناء دولة الحق والقانون وسيادة ثقافة حقوق الانسان والحكامة الجيدة في تدبير الشان العام عموما والشان القضائي على وجه الخصوص، سيما وان معدل الثقة في القانون وفي جهاز العدالة اصبح يتراجع يوما بعد يوم وهو ما اثر سلبا على فرص الاستثمار الاجنبي ببلادنا باعتباره المعول عليه من اجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة . كل هذا يدفعنا الى التساؤل الى أي حد يلعب الامن القضائي دوره في تحقيق التنمية؟
للإجابة على هذا الإشكال سوف تعتمد على المنهجية التالية

المبحث الأول: دور القضاء في توفير الأمن.

المبحث الثاني: دور الأمن القضائي في تحقيق التنمية

المبحث الأول: دور القضاء في توفير الأمن

إن للقضاء تأثير كبير على الأمن القضائي، فبقدر ما يكون ناجعا و متطورا بقدر ما يوفر ثقة كبيرة للمجتمع فيه و للفرد في اللجوء إليه لكي يسترد له حقوقه، و تتجلى نجاعة القضاء في مدى استقلاله و تحديثه، لكن من جهة أخرى نرى بأن اجتهاد القاضي في عمله يعطي صورة مباشرة للمتقاضي لمعرفة مدا نزاهته و حياده، لذلك سنحاول أن نتناول في هذا المبحث دور استقلال القضاء و تحديثه ( المطلب الأول) و دور الاجتهاد القضائي في تحقيق الأمن (المطلب الثاني)

المطلب الأول: دور استقلال القضاء و تحديثه في تحقيق الأمن القضائي

يعتبر مبدأ استقلال القضاء من الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة، و معنى ذلك أن تصدر الأحكام عن سلطة قضائية مستقلة و محايدة و مشكلة بحكم القانون، و بالتالي فهو يعتبر رهانا قويا لتوفير أمن قضائي بجودة عالية للمترفقين – أي المترددين على مرفق القضاء -، و استقلال القضاء هو مبدأ دستوري و عالمي عملت جل الدساتير على الاخذ به.
كل هذا يدفعنا الى مناقشة دور استقلال السلطة القضائية في توفير الأمن ( الفقرة الأولى) و مسألة استقلال القاضي و نزاهته و دورهما في تحقيق الأمن القضائي ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: دور استقلال السلطة القضائية في توفير الأمن

يعتبر استقلال السلطة القضائية مبدءا عالميا نصت عليه مختلف الإتفاقيات و المواثيق الدولية، ووضعت له مبادئ، و المغرب بدوره تماشى مع السير العالمي لتكريس هذا المبدأ، حيث يقصد به – مبدأ استقلال السلطة القضائية -، استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية و التنفيذية، و يعتبر هذا المبدأ من النقط الفاصلة و المساهمة في إحساس الفرد و المجتمع بالثقة أثناء اللجوء إليه، لذلك جاء الدستور الجديد ليكرسه بقوة، من خلال الفصل 107 منه.
لذلك يعتبر أي تدخل في أعمالها يشكل مساسا باستقلالها وفعلا معاقبا عليه، ومنع القضاة وهم يمارسون مهامهم من تلقي أي أوامر أو تعليمات ومن الخضوع لأي ضغوط كيفما كان شكلها أو مصدرها، وألزمهم بإحالة كل تهديد لاستقلالهم على المجلس الأعلى للسلطة القضائية تحت طائلة المساءلة والعقاب.
فترسيخا لمبدأ الاستقلال تم إذن إحداث مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية بتركيبة ووظائف جديدة مع فك ارتباطها إداريا وماليا عن وزارة العدل، انسجاما مع المعايير والمواثيق الدولية بخصوص استقلال السلطة القضائية التي تفرض على الدولة أن تكفل استقلال السلطة القضائية مؤسساتيا وماليا عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتلزم القضاء بالبت في القضايا المعروضة عليه وفقا للقانون دون تحيز وبعيدا عن أي قيود أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات.
و المقصود باستقلال السلطة القضائية ليس فقط قضاة الأحكام بل المقصود حتى قضاة النيابة العامة، بحيث أن المشرع الدستوري أوكل لقضاة النيابة العامة السهر على التطبيق السليم للقانون ترسيخا للعدالة وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للأفراد.

علما ان إحساس المجتمع بالثقة في المؤسسة القضائية رهين بإصلاحها و إبعادها عن أي تدخل خارجي الذي يمكن أن يضر بحقوق الناس و حرياتهم، و بالتالي فإن ذلك لن يتأتى إلا بإرادة حقيقة وواعية بأن استقلال السلطة القضائية هو من بين الخطوات لبناء دولة الحق و القانون و توفير الأمن القضائي.

الفقرة الثانية: تحديث القضاء وتطويره لتوفير الأمن

يعتبر تحديث القضاء و تطويره إحدى أهم أوراش الإصلاح القضائي، فمن خلال الدراسات الأخيرة في الموضوع تبين أن المؤسسة القضائية لا ترقى إلى المستوى المطلوب، و بالتالي فهو يعيق رحى التنمية الاقتصادية و الاجتماعية.

وعليه فإن جودة و فعالية العمل القضائي رهينة بنوعية الوسائل و المناهج المتبعة من قبل القاضي، و من بين هذه الوسائل المواد القانونية التي يعتمدها في الفصل في القضايا، و بالتالي فإن الأمن القضائي لن يتأتى إلا باستعمال المادة القضائية بطريقة سليمة.

ومهما يكن من امر، فان مهمة القضاء هي السهر على التطبيق السليم للقانون، لدى فهو ينقل القاعدة القانونية من حالة السكون إلى الحركة ، لكن هذا التطبيق المنشود رهين بسلامة الترسان القانونية، و من خلال اطلاعنا على القواعد القانونية المغربية، نجد أن المغرب يمشي في الإتجاه الصحيح لتوفير الأمن القضائي.

فلكي يمنح المشرع قضاء فعالا وذا جودة عالية، عمل – المشرع المغربي- على إدخال مجموع من التعديلات على القوانين، تتعلق هذه الأخيرة بقانون الشركات و مدونة التجارة ومدونة التأمينات و قانون حرية الأسعار و، مدونة الأسرة، و مدونة الشغل، و المساطر الجنائية و المدنية، و القانون الجنائي و المدني، و غيرها من القوانين.

أما على المستوى العمودي للقضاء، فقد سهر المشرع على اعتماد مبدأ التخصص في الفصل في القضايا، فقد تم إحداث محاكم إدارية و تجارية و محاكم استئناف إدارية و تجارية، و أقسام لقضاء الأسرة وقضاء القرب.

كذلك، لمواجهة ظاهرة البطء التي يسير بها العمل القضائي، أدخلت و زارة العدل نظام المعلوميات لمختلف المحاكم قصد الإنفتاح على قضاء العالم و القوانين المقارنة، كل ذلك من أجل مواكبة المرحلة و تحديث الآلة القانونية للقاضي لكي يوظفها في عمله، تحقيقا للأمن القضائي المنشود و بالجودة المطلوبة.

المطلب الثاني : ظاهرة تحولات الاجتهاد القضائي و انعكاسها على الأمن القضائي

تأسيسا على الدستور الجديد الذي شكل طفرة نوعية في مجال حقوق الإنسان، بتكريسه للحق في الأمن القضائي ، بخلاف التشريع المقارن فالدستور الفرنسي الحالي لا يشير مطلقا إلى الحق في الأمن القانوني أو القضائي، مما دفع المجلس الدستوري إلى رفض اعتبار الأمن القانوني مبدأ دستوريا قائم الذات، و إنما اعتبره مجرد معيار ضمني لمراقبة دستورية القوانين.
و بالرجوع للدستور المغربي نجد الفصل 110 من الدستور نص على أنه “لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون” .
فإن تطبيق مبدأ دولة الحق و القانون يفرض على المجتمعات أن تضمن الاستقرار و عدم التراجع عن القواعد التي تم الاعتراف بها داخلها، وهو أمر ينطبق على جميع مؤسساتها بما فيها القضاء. فاعتماد تفسير موحد للقانون من طرف القضاة هو عنصر من عناصر استتباب الأمن داخل الدولة، فبفضله يمكن للمتقاضين توقع نتيجة أفعالهم، بمنأى عن كل تعسف.
حيث يستشف أن ظاهرة التحولات الطارئة على الاجتهاد القضائي تعتبر جزءا لا يتجزأ من حياة القضاء، وعلامة على تلاؤمه مع الواقع وعدم تخلفه عن ركب التطور، إلا أنها تشكل خطرا حقيقيا على الأمن القضائي. وانطلاقا مما أشرنا إليه سنحاول إبراز مدى تأثير السلبي لتحولات الاجتهاد القضائي على الأمن القضائي (الفقرة الأولى) ثم السبيل لمعالجة هذا التأثير(الفقرة الثانية ) .

الفقرة الأولى : مدى تأثير السلبي لظاهرة تحولات الاجتهاد القضائي على ضمان الأمنالقضائي

من المؤكد أن تحولات الاجتهاد القضائي بصرف النظر عن مسبباتها و شرعيتها من شأنها أن تخلق جوا من الاضطراب و عدم الاستقرار، و عدم الشفافية في تطبيق القاعدة القانونية، كما أنها تجهز على الثقة المشروعة للمواطن، و التي تولدت لديه في سياق استتباب الأوضاع القانونية التي أجرى تصرفاته في ظلها، و الأخطر من ذلك أنها قد تسطو في غفلة منه ودون توقعه على حقوقه المكتسبة في ظل الاجتهاد السابق
.
فالاجتهاد القضائي الجديد يطبق بقوة القانون و بأثر رجعي على جميع ما كان بإمكان الأشخاص القيام به أو الامتناع عنه استنادا لنص و روح الاجتهاد القضائي القديم
.
و حتى مع اعتبار أن القرار القضائي موضوع الاجتهاد الجديد دعوى لا يهم سوى أطرافه وفق مبدأ نسبية الأحكام، فإن رجعية الاجتهاد القضائي تشمل الجميع، أطراف الدعوى أو غيرهم، ذلك أن مفعول الاجتهاد القضائي الجديد يسري عليهم بشكل غير مباشر و يخالف توقعاتهم ومبادراتهم، بل إنهم قد يتعرضون للجزاء دون تنبيه أو إخطار من أجل فعل أو امتناع لم يكن غير شرعي وقت اقترافه.

حيث أن قواعد الاجتهاد القضائي الثابتة و المستقرة تمنح الفاعلين مع مرور الوقت رؤية واضحة و إطار لتصرفاتهم، بينما تحولات الاجتهاد القضائي ورجعيته تؤثر سلبا على هذا النظام .
وقد عبر الفقه بقوله أن” تحول الاجتهاد يترتب عنه عدم الأمن القانوني، فالحل الجديد الناتج عن التحول يطبق بقوة القانون على القضايا التي ارتبطت على ضوء الثقة في الحل القديم ” .
و يمكن القول أن المشرع عندما وضع مبدأ عدم رجعية القوانين لم يضع مبدأ لعدم رجعية الاجتهاد القضائي، ربما يمكن تبرير ذلك أنه لم يكن واعيا حينها للاجتهاد القضائي من قيمة قانونية و ما لتحوله من أثر على الأوضاع القانونية
.
ولإبراز أهمية تحولات الاجتهاد على المراكز القانونية للخصوم في الدعوى و إطارها القانوني سنورد بعض النماذج من العمل القضائي
:
قرار المجلس الأعلى ،”أتاح لمن تجاوز أرضه إلى أرض غيره ولو كانت عقارا محفظا وبنى فيها بحسن نية أن يمتلك هذا البناء استنادا لحكم المحكمة التي يحق لها في إطار تطبيقها للقاعدة الفقهية بإزالة الضرر أن توازن بين الضررين اللذين التقيا، وهما الضرر الذي سيحصل للباني من جراء هدم ما بناه في ملك الغير ، و الضرر الذي سيحصل للمالك بسبب تخليه دون إرادته عن جزء من ملكه مقابل حصوله على تعويض بالقيمة، و أن تقرر تغليب أخفهما، وهو ما يفيذ ضمنيا إجبار مالك العقار على التخلي عن ملكه بمقتضى حكم نهائي، في حين أن الاجتهاد القضائي المستقر أن البناء في ملك الغير لا يخول للباني ولو كان حسن النية حق تملك البناء أو العقار الذي بني فيه ”
.
نلمس من القرار أن الأوضاع و المراكز القانونية القائمة قبل الاجتهاد القضائي يطرأ عليها بفعله و بصورة فجائية تغيير جذري و حاسم، بل الأكثر من ذلك أن تحول الاجتهاد القضائي في مجال القضاء الجنائي يمس في الصميم مبدأ شرعية الجرائم، والذي بمقتضاه يوكل للسلطة التشريعية و حدها تحديد صور السلوك المعاقب عليه

الفقرة الثانية : سبل معالجة التأثير السلبي لتحولات الاجتهاد على ضمان الأمن القضائي

استنادا لما أقرت محكمة النقض الفرنسية ، بقولها ” إن متطلبات الأمن القانوني و حماية الثقة المشروعة المثارين من طرف الطاعن في وسيلة النقض للمنازعة في تطبيق المحكمة المطعون في قرارها لاجتهاد قضائي جديد يحد من حقه في التقاضي، ليس من شأنها تكريس حق مكسب لاجتهاد قضائي جامد وغير متحرك، والذي يبقى تطويره من صميم و ظيفة القاضي في تطبيقه للقانون”.
و رأينا أنه يمكن تبرير ذلك إلى حد ما، بما جاء في تعبير سابق، لكن يجب أن نسجل أن الاجتهاد القضائي و تحوله يطبقان بأثر رجعي، وهذه الرجعية من شأنها المساس بالأمن القانوني و القضائي و الإضرار بالحقوق المكتسبة ، و الإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون و القضاء .
ونؤكد في هذا السياق على أن الاجتهاد القضائي لا يعتبر محايدا بالمرة، و اعتبار الاجتهاد القضائي لا يخلق القاعدة القانونية، و إنما هو مجرد تفسير بريء لها ، و أن تحولاته ماهي إلا فهم جديد لمعنى قائم في النص القانوني وقت إنشائه ، لن يحقق لنا العدالة القانونية .
وينبغي الانطلاق مما جاء به الدستور الجديد بتكريسه الحق الدستوري في الأمن القضائي، بتحقيق ضمان الأمن القضائي بالحفاظ على الأوضاع القانونية القائمة و تجنب الحكم عليها بأثر رجعي، وعند الاقتضاء وضع مقتضيات انتقالية للقاعدة الاجتهادية حتى يتمكن الشخص من ملائمة تصرفاته وفقها.

كذلك نجد أن القضاء المقارن اعتمد تقنيات متنوعة لتخفيف من حدة تحول الاجتهاد القضائي و فجائيته، ففي انجلترا توجد تقنية overrulingوتقنية obiter dictum، أما في فرنسا أبدت محكمة النقض انشغالا بالتحولات العديدة لاجتهادها و أحدثت فريق عمل للتفكير في إمكانية سن قانون انتقالي لتحولات الاجتهاد القضائي في خلق القاعدة القانونية، إلا أنه لم يوص بسنه، مالم يتم الاعتراف رسميا بدور الاجتهاد القضائي في خلق القاعدة القانونية، لكن بالمقابل أوصى بأن تعمد التشكيلات القضائية الموسعة بمحكمة النقض إلى إقرار مبادئ بهذا الشأن، وهذا ما أكدته محكمة النقض الفرنسية بتفعيلها بمقتضى قرارها الذي جاء فيه” يمكن تقييد الأثر الرجعي للقاعدة الاجتهادية إذا كان من شأنه حرمان الشخص من الحق في محاكمة عادلة طبقا لمدلول الفصل 6 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية “، ويمكن القول هنا أن تقييد الأثر الرجعي للاجتهاد القضائي الجديد لم يأت بمناسبة تطبيق قانون وطني، وإنما أتى احتكاما لقانون دولي مما يبين محدوديته
.
وعلى المستوى الوطني أحدث المجلس الأعلى سنة 2010 هيئة لليقظة القانونية تحت تسمية ” مرصد الاجتهاد القضائي ” انكبت في بداية عملها على معالجة ظاهرة تضارب الاجتهاد القضائي عن طريق التنسيق والتواصل بين الهيئات القضائية المتعددة داخله و التي بلغ عددها 27، ويعول عليه مستقبلا لرصد و دراسة باقي أوضاع الاجتهاد القضائي و تأثيره على المستويين القانوني و الاجتماعي
.
ونأمل بمثل هذا النوع من التوجهات الجديدة، و الضوابط المسطرية و غيرها من الضوابط الموضوعية التي يمكن لها التخفيف من الآثار السلبية لتحولات الاجتهاد القضائي مما يضمن حقوق الأشخاص و تحقيق الأمن القضائي

المبحث الثاني: دور الأمن القضائي في تحقيق التنمية

يعتبر الأمن القضائي مجالا خصبا في تحقيق التنمية الإقتصادية و الإجتماعية، بحيث هناك مجموعة من العوامل التي كان لها دور كبير في الاستثمار و واستقطابه بدءا بالاستقرار السياسي مرورا بالانفتاح الاقتصادي، و الحقيقة أن الدول اليوم تراهن على الاستثمار من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية، و ذلك من خلال توفير مناخ ملائم يتجلى في الأمن القضائي، هذا الأخير عمل المشرع المغربي على إدخال جملة من التعديلات عليه، همت بالأساس مبدأ استقلال السلطة القضائية، مما يدفعنا إلى التساؤل عن الدور الذي قد يلعبه الأمن القضائي في مجال الإستثمار و استقطابه ( المطلب الأول) ثم دور الأمن القضائي في تحقيق التنمية الإجتماعية ( المطلب الثاني).

المطلب الأول: دورالأمن القضائي في تحقيق الإستثمار و استقطابه

اعتبارا إلى الدور الذي يلعبه المغرب في مجال حقوق الإنسان و ذلك بانخراطه في مجموعة الاتفاقيات و المعاهدات الدولية بمختلف أشكالها، مما ساهم في العمل على إحداث محاكم مختصة تماشيا مع القوانين الدولية ( الفقرة الأولى) وكذلك مسألة الأزمة التي يعرفها الأمن القضائي في ميدان الأعمال(الفقرة الثانية

الفقرة الأولى: دور المحاكم المتخصصة في جلب الإستثمار

لقد كان للمحاكم المختصة دور كبير في جلب الاستثمار، بحيث ثم إحداث محاكم إدارية و محاكم استئناف إدارية و محاكم تجارية و محاكم استئناف تجارية، و غني عن البيان أن الدور الذي أصبحت تلعبه المحاكم المختصة عموما و المحاكم التجارية على وجه الخصوص في الدفع بعجلة التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و ذلك من خلال الضمانات التي تمنحها هذه المحاكم على مستوى فض المنازعات المعروضة عليها والتي تتسم بالسرعة و الفعالية و الاحترافية، لأن مجال المال و الأعمال من الأمور التي تعرف نوع من الحركية و السرعة في التداول.

علما أن عدد المحاكم الابتدائية التجارية في المغرب هو 7 محاكم ، موزعين بين الرباط و الدار البيضاء، فاس، مراكش، طنجة، مكناس، أكادير، أما محاكم الاستئناف التجارية لم يتجاوز عددها ثلاث محاكم متواجدة في كل من الدار البيضاء، فاس، مراكش، على أن النقض في الأحكام التي تصدر من طرف هذه المحاكم يتم على مستوى الغرفة التجارية لمحكمة النقض.
و عليه، يرى جانب من الفقه أن المشرع المغربي لم يكن موفقا في التقسيم الذي خص به المحاكم التجارية، بحيث لم يكن منسجما مع عدد الجهات الاقتصادية بالمملكة، كما تم تهميش المركز على حساب الجهة على مستوى المحاكم التجارية بالدار البيضاء، و هو ما أدى إلى تمركز الاستثمار في مناطق دون أخرى كالقطب الإقتصادي ( الدار البيضاء – طنجة – أكادير) ما انعكس على التنمية الاجتماعية في المناطق المهمشة كان من نتائجها ارتفاع نسبة البطالة و ارتفاع نسبة الجريمة.

و تجدر الإشارة إلى أن المحاكم التجارية على مختلف درجاتها لا تساهم فقط في جلب الاستثمار و استقطابه، و إنما تلعب دورا مهما في تثبيته من خلال اختصاصها الأصيل في مادة صعوبة المقاولة، و إن لم تشر إليه صراحة المادة 5 من القانون المحدث للمحاكم التجارية و الخاصة بالاختصاص النوعي، علما أن العديد من المقاولات اتجهت نحو التصفية القضائية لا سيما في قطاع النسيج، سواء المقاولات الوطنية التي لم تقوى على التنافسية أو المقاولات الأجنبية التي ذهبت تبحث عن فضاءات اقتصادية واعدة و أكثر تحفيزا كما في تركيا و دول أوربا الشرقية سابقا، بعد أن حققت أرباحا استطاعت في ظل اقتصاد السوق تحويلها إلى بلدانها بكل يسر، و النتيجة هي آلاف العاطلين الجدد ينظمون إلى جيوش العاطلين من الشباب القادر عن العمل، مما أدى إلى فقد الثقة في سياسة الحكومة التي تراهن على القطاع الخاص في الرفع من مؤشر التنمية ببلادنا عن طريق الإستثمار
.
ورغم الدور الذي أصبحت تلعبه المحاكم التجارية على مستوى فض المنازعات التجارية، فإن منازعات الاستثمار لا زالت يتم فضها خارج مؤسسات القضاء بالاعتماد على التحكيم و التوفيق و المصالحة التي تشكل بدائل حقيقية لحل المنازعات خارج مؤسسات القضاء، فهل هذا يعني أن الأمن القضائي في ميدان الأعمال لا زال يعيش أزمة تكون عائقا في التنمية بالرغم من وجود محاكم تجارية مختصة؟

الفقرة الثانية : أزمة الأمن القضائي في ميدان الأعمال و كيفية تدبيرها

لقد عمل المشرع المغربي في نزاعات عقود التجارة و الاستثمار، على وضع ترسانة قانونية لفضها سواء على مستوى القضاء المغربي أو اعتماد الوسائل البديلة ، فإن نزاعات عقود التجارة الدولية و الاستثمار الأجنيي في المغرب لا زالت تعرف مجموعة من المعيقات، سواء على مستوى القانون الواجب التطبيق أو على مستوى الاختصاص القضائي.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن المستثمر الأجنبي يعلل نفوره من تطبيق القانون المغربي ومن الاختصاص القضائي الوطني بضعف الأمناء القانونيين، وعدم الاطمئنان لهما بسبب تفشي ظاهرة الرشوة والبيروقراطية، وانعدام الاحترافية، هذا فضلا عن اختلاف العائلات القانونية ، وهو لذلك وبالنظر لمركزه القوي كمستثمر يفرض شروطه التي غالبا ما ترتكز على اعتبار قانون بلده سواء المسطري أو الموضوعي و الذي يكون هو الواجب التطبيق لأنه يجد في عدالة بلده من الحماية مالا يجدها في غيره.
وفي ظل الأزمة التي خلقتها الروابط العقدية الدولية على مستوى تنازع القوانين و الاختصاص القضائي ، اهتدى الفكر البشري إلى حل النزاع خارج مؤسسة القضاء بالاعتماد مثلا على التحكيم أو الوساطة أو التوفيق.

كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل كما سبق بيانه على أن الروابط العقدية الدولية سواء تعلق الأمر بعقود التجارة الدولية أو عقود الاستثمار أو عقود الأحوال الشخصية التي يكون أحد أطرافها عنصر أجنبي من الصعب الحسم فيها ولو في ظل وجود قواعد قانونية من قبيل قواعد قانون الدولي الخاص، أو وجود اتفاقيات ثنائية دولية خاصة بالتعاون القضائي كما هو الحال مع فرنسا و بلجيكا، وهو ما خلق أزمة تعرف بأزمة القانون الدولي الخااص الناتجة بالأساس عن اختلاف الأنظمة القانونية عبر العالم، و هو ما أصبحت تهتم بالحد منه بعض المعاهدات الدولية ، حيث أصبحت ترتكز على التقريب بين العائلات القانونية الرومانية الجرمانية و الأنكلوسكسونية، بهدف عولمة الفكر القانوني كإحدى الآثار المباشرة لعولمة الاقتصاد الذي تتزعمه الولايات المتحدة الامريكية باعتبارها رائدة الاقتصاد الليبرالي الحديث.

أما على مستوى التشريع الوطني و الذي هو بدوره يعاني من غياب مقتضيات تهم التحكيم التجاري الدولي الأمر الذي كان يشكل إحدى المعيقات التي تحول دون استثمار الأجنبي ببلادنا، مما يعيق التنمية في هذا البلد، إلا أنه تم تدارك هذا الفراغ التشريعي من خلال الإضافة التي تمت على مستوى قانون المسطرة المدنية حيث أصبح تشريعنا الوطني يتضمن مقتضيات تخص التحكيم التجاري الداخلي و أخرى تعنى بالتحكيم التجاري الدولي، و يتعلق الأمر بقانون 08.05 و الذي تأثر فيه المشرع المغربي فضلا عن جده الفرنسي باتفاقية نيويورك لسنة 1958، وكذلك القانون النموذجي لتحكيم الصادر عن اليونسترال ، وكذلك بعض بنود اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار لسنة 1965 ، مما عزز الأمن القضائي ببلادنا ليكون حافزا للمستثمر الوطني و الأجنبي من أجل الاستثمار الذي يبقى المعول عليه بالدرجة الأولى في تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية المستدامة.

المطلب الثاني : دور الأمن القضائي في التنمية الاجتماعية

لا طالما كانت ، ولا زالت المجتمعات تقاس تنميتها الاجتماعية اعتمادا على منظومتها القضائية بحيث كلما كانت المؤسسة القضائية مستقلة و نزيهة، كانت التنمية الاجتماعية فعالة و مستدامة، تكفي حاجيات ساكنتها، و كلما كانت المؤسسة القضائية لا تراعي و لا تحترم حقوق الأفراد، وذلك من خلال الأحكام و القرارت التي تصدرها و التي تكون مشوبة بعيب من العيوب مما ينعكس سلبا على التنمية على اعتبار أن الفرد هو أساس المجتمع، ولا يمكن تطور مجتمع بدون أفراد كما لا يمكن استمرارهم إذا لم تكن هناك تنمية، انطلاقا من الأسرة (الفقرة الأولى ) ثم مدى أثر الأمن القضائي في علاقات الشغل (الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى : دور الأمن القضائي في مجال الأسرة

ولئن كانت الأسرة هي الخلية الرئيسية التي تنشأ لنا أجيال الغد، فإن المشرع المغربي حاول قدر المستطاع أن يركز اهتمامه مؤخرا على توفير مناخ ملائم للأسرة، وذلك من خلال إحداث أقسام للأسرة تابعة للمحاكم الابتدائية بعد أن كانت تدخل ضمن الولاية العامة للمحاكم الابتدائية، حيث تزامن ذلك مع التعديل الذي عرفته مدونة الأحوال الشخصية و التي حلت محلها مدونة الأسرة، حيث تم إنشاء قضاء أسري متطور و متخصص، القصد منه حماية الأسرة المغربية، بجميع مكوناتها بما في ذلك الزوج و الزوجة و الأطفال، علما أن الأسرة تعد في صلب التنمية الاجتماعية، وعليه فإنها المستهدف الرئيسي في مجال الروابط الأسرية، بحيث لم تكن لترى النور لولا الإرادة الملكية السامية و التي كان القصد منها إعادة التوازن لأسرة المغربية، و جعلها تنخرط بكل مكوناتها في التنمية بعدما أبانت الدراسات المنجزة في الموضوع أن جزءا مهما من هذه الأسرة (المرأة) كان مهمشا وغائبا في مجال التنمية وهو ما اشتغلت عليه كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية و الأسرة و الطفولة من خلال ما عرف وقتها بالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية .

الفقرة الثانية: الامن القضائي وعلاقته بالشغل

لقد ظل الشغل ولأمد طويل يعرف نقاشا فقهيا وقضائيا نظرا لما يمتاز به من اهمية بالغة بعتباره احد اسباب خلق الثروة وسد الحاجيات بالنسبة للأجير والمشغل باعتبارهما من مكونات المجتمع، وبالنظر الى كون علاقتهما ذات طبيعة خاصة تمتاز برجحان كفة المشغل في اغلب الحالات على كفة الاجير، كان لابد من تاطير علاقتهما بنصوص قانونية تراعي خصوصيات هذه العلاقة، خاصة بعد ان تبين ان المشغلين كانو يفرضون ما شاؤوا من الشروط على الطبقة العاملة، مما دفعهم الى التكتل في تجمعات مهنية للدفاع عن حقوقهم، وكان من نتائجها تدخل الدولة منذ اواسط القرن التاسع عشر لتنظيم هذه العلاقة بموجب قواعد قانونية والمتمثلة في قانون الشغل ، من اجل توفير ارضية للعمل خالية من النزاعات والصراعات من اجل تشجيع الاستثمار والتنمية والتشغيل.
كما ان القضاء ظل وفيا في توفير الامن القضائي لاطراف العلاقة الشغلية سيما في جانبها الفردي، علما ان حل خلافات الشغل الجماعية لها طرق تسويو اخرى تتم خارج مؤسسة القضاء بالاعتماد على المصالحة والتحكيم.

وعليه فان القضاء لعب ولا يزال ياعب دور مهما في استقرار علاقات الشغل الفردية من خلال الرقابة التي يمارسها على سلطة المشغل الائتمارية – الاشراف والتوجيه – والتدبيرية والتاديبية، حيث تتجلى مظاهر الامن القضائي بوضوح في هذا المجال عندما يكون الاجير محقا في الاستماع اليه داخل الاجل القانوني بحضور الممثل النقابي ومندوب الاجراء ان وجدو قبل تسليمه مقرر الفصل ولو تعلق الامر بخطا جسيم، وان عدم احترام المشغل لهذه الشكلية الجوهرية والمقررة في الفصول 62 و 63 من مدونة الشغل المغربية يجعل الفصل تعسفيا يستلزم اما الحكم بالرجوع الى العمل او الحكم بالتعويض حسب ما تراه المحكمة مناسبا .

ومن مظاهر الامن القضائي كذلك في علاقات الشغل الفردية اعادة تكييف المحكمة لطبيعة العقد الذي يجمع الاجير والمشغل، ذلك ان الاجير عادة ما يدعي كون العقد هو عقد شغل محدد المدة ليس الا، وان كان القضاء اليوم في اطار التمييز بين عقد الشغل المحدد المدة وغير المحدد المدة لا يعتمد على الوصف الذي اضفاه المتعاقدان على العلاقة العقدية وانما على طبيعة العمل المنجز، علما ان العمل القضائي لا يتجسد عمليا الا بتنفيذ الاحكام القضائية بعد ان تصبح حائزة لقوة الشئ المقضي بها.

ومهما يكن من امر فان عدم الثقة في القضاء والتشكيك في عدم قدرته على توفير الامن القضائي اللازم يقاس كذلك من خلال تعثر عملية تنفيذ الاحكام والقرارات القضائية، تلك العملية التي رصدت لها وزارة العدل والحريات امكانيات هامة لتخفبف من حدتها وهي تدخل ضمن الاولويات في السياسة الاصلاحية العامة للقضاء

خـاتـــــمة

سيظل أمر الامن القضائي يشغل بال الرأي العام ببلادنا لكونه احدى الركائز الاساسية في المغرب، وباعتبار المغرب دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات وذلك عبر وتطوره كسلطة مؤسساتية دستورية، تنبني عليها أسس العدالة، التي توفر الأمن والاستقرار، وتعطي الضمانة القوية لحقوق المواطنين وواجباتهم، وتقوي المؤسسات العامة والخاصة، وتوفر المناخ الملائم للازدهار الاقتصادي والاجتماعي من اجل تحقيق التنمية المنشودة التي يراهن عليها المغرب، وذلك من خلال التشجيع على الاستثمار، وجلب المشاريع، التي تفتح الآفاق الواسعة لسوق الشغل للعاملين، وتوظيف الأطر والكفاءات لحاملي الشهادات.

والقضاء وحده من يرعى حماية هذه المجالات حينما يختل توازنها الطبيعي، فيتدخل ليكون عادلا في حكمه، قويا في قراره، صائبا في نصوصه القانونية، سريعا في تنفيذ مقرراته.
إن قضاء اليوم المنفتح على كل الواجهات لم بيق هو قضاء الأمس المنغلق على نفسه. قضاء اليوم قضاء واسع، أصبحت له مسؤوليات متعددة بتعدد اختصاصاته، سواء في الميدان الجنائي، الذي كثرت شعبه أمام كثرة الجرائم المرتبطة به، والحاصلة من الأفراد، أو المؤسسات تتضخم بشكل خطير يوما بعد يوم، بتضخم الجريمة المعاصرة التي أصبحت لها مدارس متخصصة، تتطلب نوعا من المعالجة النفسية، والإنسانية لردعها أكثر من المعالجة العقابية التي أبانت كل الدراسات الجنائية العالمية عن عدم جدواها وحدها، أو في الميدان المدني، الذي هو الآخر توسعت دائرة نزاعاته، في كل المعاملات، خصوصا حينما انخرط في الالتزامات الدولية، التي صارت تتخذ أشكالا وأنماطا من الارتباطات، والتعهدات بين جنسيات مختلفة بحكم تأسيس الشركات المدنية، وتنشيط سوق العقارات، وشراء الأراضي، وما إلى ذلك من الأنشطة المواكبة لها، والتي تجري على أكثر من صعيد.

كما يواجه القضاء في الميدان التجاري قضايا شائكة محلية، ودولية بحكم النزاعات المطروحة، وبفعل المعاملات المالية، والتجارية التي أصبحت قطب الرحى في كل ميدان، حيث أضحت المحاكم التجارية، فاعلة قضائيا، محكوم عليها بالفصل السريع فيما يعرض عليها من القضايا ذات الصبغة التجارية بتعدداتها، وكثرة تشعباتها، سواء بين الأفراد، أو بين المؤسسات الوطنية ،أو ذات الجنسيات المتعددة، أو المختلطة.

ورغم أن المغرب بذل قصارى الجهد لتحديث القوانين، وتفعيل النصوص حتى يكون هناك امن قضائي بالشكل المطلوب، وذلك من خلال إحداث المحاكم المتخصصة، وقطع أشواطا بعيدة للاندماج مع القوانين الدولية، وتطبيق الإتفاقيات التي وقع عليها، فإنه رغم الترسانة القانونية في المنظومة القضائية التي يشتغل عليها، فإن آليات تطبيقها وتنفيذها غير متوفرة، لغياب من جهة الوسائل التكنولوجية، والإلكترونية التي تساعد على تحديث العمل القضائي ببلادنا، بما يضمن له السرعة، والفعالية، وهي معوقات تعطي بعد آخر لتخلف القضاء عندنا، وعدم مسايرته بعد للجيل الجديد من الإصلاحات، التي يتطلبها، وفي مقدمتها التكوين، والتكوين الصالح للقضاة، لتأهيلهم لخطة القضاء على أرضية صلبة من التخصصات، التي تقوم اليوم على عمليات مدققة لها علاقة بقوانين فنية، وتقنية تتطلب وفرة المعلومات العلمية في مجال الأعمال والاستثمار، ودنيا القروض، وعالم التجارة من بابه الواسع.

وبدون ان يكون هناك امن قضائي لا يمكن لمناخ التنمية أن ينمو، باعتباره المحرك الديناميكي الذي يضمن الحقوق، ويوفر الأمن، والأمان والاستقرار، وهذا ما يراهن عليه المغرب حالا، في إصلاح القضاء لتحقيق سرعة التنمية، ولمواجهة العولمة التي أصبحت قاب قوسين، أو أدنى ،لتحتل العالم بنظرياتها، وتطبيقاتها، التي تراعي فيها مصالحها الذاتية، وليست مصالح الشعوب المستضعفة، أو النامية، والمغرب لا يريد أن يكون بلدا تابعا لهذه العولمة، بل متبوعا، ومقتدى به، إنه إذن رهاننا جميعا من أجل الحاضر والمستقبل.