مقال عن القانون العراقي بين العمومية والتجريد
بدأت بعد سقوط النظام الدكتاتوري, حقبة تاريخية جديدة غير مألوفة لدى الرأي العام العراقي، شعارها بناء دولة القانون والمؤسسات، وهذا يطرح قضية مهمة تتمحور حول العمومية والتجريد في وضع القواعد القانونية، فمن نافلة القول أن القانون هو أهم شيء ينظم المجتمع ويجعله يسير في طريق واضح المعالم، خال من الانحراف والاعوجاج ويقوده الى شاطئ الأمن والأمان، إذ لا يمكن لأي مجتمع أن يبقى بلا قانون،لأن القانون كما عرّفته معاجم اللغة: (هو مقياس كل شيء وطريقه. وبعبارة أخرى هو أمر كلّي ينطبق على جميع جزئياته التي تتعرّف أحكامها منه). حتى أن الشرائع السماوية لم تأت الا على شكل مجموعة من القوانين والتشريعات التي تضم بين دفتيها مايضمن السعادة البشرية وترقى بها الى ماتروم اليه تلك الشرائع من الاهداف النبيلة السامية حيث يقول اللّه عزّ وجلّ: (ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. والعقل البشري يدرك كنه أهمية التشريع وأنه لا محيص للمجتمعات عنه ولا يوجد سبيل لهم غيره، ولكن كيف يستطيع القانون أن يضطلع بهذه المهمة الجمّة التي ألقيت على كاهله ألا وهي قيادة المجتمع والسير به نحو أهدافه وقيمه؟.
إنّ المسألة المهمة في هذا الأمر-التي تعد من خصائص كل قاعدة قانونية-وتضفي على القانون هذا الكم الهائل من الاحترام والقدسية بين أفراد المجتمع هي أن كل قاعدة قانونية لكي تعدّ قاعدة قانونية بكل معنى الكلمة يجب أن تتحلّى (بالعموميّة) و(التجريد). ولهذا يلاحظ أنّ في كل كتب القانون عندما يعرّف القانون وتبيّن خصائصه وميّزاته تذكر له هاتان الصفتان، ويقصد (بالتجريد) أنه عند سنّ أي قانونٍ لأية قضية صغيرة كانت أم كبيرة، يحرص المشرع على سنّه وفق أسس موضوعية بعيدا عن الدوافع الشخصيّة والأهواء والميول الآنية. أما(العمومية): فتعني أنّ القانون يعم الكل ولا يستثني أحداً، فالقانون للجميع وعلى الجميع أن يحترموه ويوقّروه ويخضعوا لسلطاته. وهاتين الصفتين قد اضفتا ثوب الاحترام والتقديس على القانون، بحيث ينظر الجميع إليه بهيبة وتبجيل.
إنّ القانون لتجريده من الميول والأهواء الشخصيّة وعموميته يرتفع عن كل شيء ويصبح حقّاً منهاجاً ودواءً ناجعاً لكل داء يفتك بالمجتمع. فهل يمكن لأحد أن يختارمن الدواء مايحلو له ويترك منه مالايستسيغه؟. ان الدواء ليس له صلة قرابة مع أحد ولا يلاحظ مصلحة شخص دون مصلحة شخص آخر، وعلى كل من يروم التخلّص من الداء أن يتناوله وإن كان ذلك تجرّعاً للأمرّين ،وذلك شأن القانون في المجتمع تماما. فالتشريع هو معيار تقاس به الأهواء والميول لا العكس. فنرى أنّ في مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) لا يقاس الحق والباطل -وهما يرمزان في التشريع الإسلامي إلى القانون حيث أن التشريع في الإسلام لا يكون نابعاً إلاّ من الحق واللاّقانون والفوضى ينجمان عن الباطل- بالناس وأهوائهم، بل العكس تماماً حيث أنّ الكل يقاس بهما. إذ يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذلك:
(إنّ الحق والباطل لا يعرفان بالناس ولكن إعرف الحق بإتباع من إتّبعه والباطل بإجتناب من اجتنبه).
ولو كان القانون تابعاً للمصالح الفرديّة،لسقط من مرتبته السامية إلى الحضيض وفقد كل ما له من هيبة وإحترام واصبح كالزرع الهش الليّن تعصف به الرياح الحزبيّة وتميل به يميناً وشمالاً حتى تقلعه من جذوره وترمى به بعيدا عن مقاصده، وهذا هو واقع الحال اليوم، إذ عندما نبتعد عن عالم النظريّات والكتب ونمعنّ النظر في وقائع الأمور يتّضح جليّاً كم هو البون شاسع بين النظرية وبين ما هو موجود على أرض الواقع. فالدساتير في النظرية تتمتّع بالسمو على كل المجموعات القانونية الأخرى وهذا الأمر جعل كثيراً من الدول تضع آليات معقّدة لتغييرها، لكن بعض هذا الدساتير تتغيّراليوم في بعض الدول بمجرّد رغبة حزب أو حتى فرد واحد، كما لو كان ينص على عدم جواز تسنّم الشخص لرئاسة الجمهوريّة لأكثر من دورتين رئاسيتين، وهذا قد لا يروق لبعض السادة الرؤساء مما حدى بهم الى أن يعمدوا إلى تغيير الدستور بما يتماشى ورغباتهم الشخصيّة. وكذلك هو حال المجموعات القانونية الأخرى التي تعدّ أقلّ رتبة من الدستور، فعلى سبيل المثال أنّ بعض الجهات تحاول عند عجزها عن الوصول الى السلطة الى التشبّث بذريعة أو أخرى لمنع خصمها من تحقيق ذلك مستغلة القانون ليتماشى مع رغباتها، وهنا قد يتساءل شخص ما عن عواقب هذه المحاولات؟، فنقول إن عواقبه هي هتك حرمة القانون وإسقاطه من أعين الناس حيث لن يكون مقياساً موضوعيّاً لكلّ شيء. بل هو حينئذٍ سيكون أداة لأهواء فئات قليلة تربّعت على الكراسي وأخذت تلعب بمقدّرات المجتمع حسب ما يحلو لها وليس القانون في رأيها (كما ينقل عن بعض الحكام المستبدّين) إلاّ (جرّة قلم) يكتبونها ويشطبونها متى ما شاءوا وأرادوا. اذن علينا في العراق اليوم ونحن نرفع شعار بناء دولة القانون ان نحفظ للقانون هيبته وقدسيته ولانجعله مجرد اداة لتحقيق الطموحات والاهواء فنخسر الحاضر والمستقبل، كما خسرنا ماضينا الذي لازلنا نأن من وطئة ويلاته ومآسيه وهذا لن يكون الا بتجرد القانون وعموميته وابعاده عن تلاعب الاهواء الشخصية والحزبية والفئوية… الضيقة به.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً