عرض قانوني لنظام العقوبات في الإسلام
أهم مزايا نظام العقوبات في الإسلام / د. علي بن عبد الرحمن الحسون
أستاذ فقه العقوبات المشارك بقسم الثقافة الإسلامية
كلية التربية . جامعة الملك سعود
المبحث الأول
نظام العقوبات الإسلام ييتميز بكونه رباني المصدر
إن الشريعة الإسلامية قد جاءت من عند الله تبارك وتعالى لتصنع الأمة المسلمة وتؤسسها ، فالنظام الإسلامي هو الذي صنع الجماعة وأسسها ، وقد نزل كاملاً من عند الله تبارك وتعالى فلم يبدأ النظام ضئيلاً ثم تطور ، بل هو في طور الكمال منذ التنزُّل الأول على محمدe ، وهذا عكس ما عليه النظم البشرية حيث أن الجماعة هي التي تصنع القانون وتؤسسه ، فينشأ القانون في الجماعة ضئيلاً ثم يتطور نتيجة الظروف والملابسات والحوادث ، فتزداد قواعده وتنمو وتتطور بنمو الجماعة وتطورها . وهذا عكس ما ينبغي أن يكون الأمر في صناعة الأمم حيث يجب أن يكون النظام تاماً قبل أن يصنعها , كما هي الحال في النظم الإسلامية .
ثم إذا نظرنا إلى ما نحن فيه وهو نظام العقوبات في الإسلام وجدناه كغيره من نظم الإسلام حيث يمتاز بأنه جاء من عند الله الذي خلق الكون كله ، والذي له الإحاطة التامة والعلم المطلق الذي يعلم حقيقة الكائن الإنساني والحاجات الإنسانية ، وصفاته المتعددة ، ومصالحه ومضاره الحقيقية ، ويعلم ما يُصلِح أموره في حد ذاته ، وفي علاقاته مع الآخرين ، ويعلم حقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان ، والنواميس التي تحكمه ، وتحكم الكائن الإنساني ، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
وعلى هذا فأسس العقوبات الشرعية ومبادئها وكثير من أحكامها الجزئية تستند مباشرة إلى الوحي بنوعيه القرآن والسنة ، حيث نص القرآن والسنة على ذلك جملة وتفصيلاً .
كما أن هناك جزءًا آخر من العقوبات الشرعية يستند إلى طرق الاجتهاد والاستنباط ، وهي مع ذلك شرعية لأنها تستمد شرعيتها من كون أصولها في الكتاب والسنة , حيث نص القرآن الكريم و السنة المطهرة على الأصول والمبادئ العامة لها وعلى كثير من جزئياتها الثابتة، ثم تركا باقي التفصيلات القابلة للتغيير ليراعي فيها المجتهدون ظروف وملابسات الحياة المتجددة .
وعلى ذلك فإن النظم العقابية الإسلامية كغيرها من النظم الإسلامية صادقة المصدر لا تحتمل الكذب أو الشك فيها لأنها من عند الله تبارك وتعالى .
هذا وإن لهذه الميزة أعني ( ربانية المصدر ) عدة ثمار من أهمها :
الثمرة الأولى :العلو والرفعة والسمو :
لم تكن الشريعة الإسلامية قواعد قليلة ثم كثرت ولا مبادئ متفرقة ثم جمعت ، ولم تولد الشريعة طفلة مع الجماعة ثم كبرت وتطورت ، وإنما وجدت الشريعة شابة فتية مكتملة سامية عالية جامعة مانعة لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، فهي سامية منذ نشأتها،وذلك لأن الشريعة هي التي صنعت وأوجدت الجماعة ــ كما أسلفنا ــ فهي سابقة على الجماعة ومتقدمة عليها ، وإذا كانت الشريعة هي الصانعة والسابقة وهي سامية فلا بد أن تصنع أمة سامية كذلك ، وذلك هو شأن الأمة الإسلامية . وهذا بخلاف النظم القانونية التي وجدت بعد الجماعة وتطورت معها ، لأن الجماعة هي التي أوجدتها ، وبالتالي فستكون النظم صورة للمجتمع من صلاح أو فساد ونقص ، وسنة الله في الكون أن النقص من سمات الإنسان ، وعلى هذا فلن تكون النظم القانونية صالحة ونافعة لأنها من صنع البشر الذين سمتهم النقص والضعف ، وبالتالي فستبقى أمم القوانين ناقصة وغير صالحة حتى تأخذ بشرع الله السامي الكامل .
هذا وقد بلغت الشريعة من السمو والرفعة والعلو بحيث أن مبادئها دائماً أعلى وأسمى من مستوى الجماعة مهما تقدمت الجماعة وتطور المجتمع ، لأن فيها من المبادئ والقيم والأصول والنظريات ما يجعلها تحافظ على هذا المستوى من السمو مهما ارتفع مستوى الجماعة ، ولا غرو في ذلك فهي مِن صُنع مَن صَنع وأوجد الجماعة .
والنظم العقابية في الشريعة الإسلامية هي جزء من تلك النظم الكاملة السامية الرفيعة .
الثمرة الثانية : العصمة من التناقض :
قال تبارك وتعالى :{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِن عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}
فالعقوبات الشرعية نزلت من عند الله تبارك وتعالى ثم طُبقت على الواقع فلم يحصل فيها تناقض مع الواقع ولا تصادم , ذلك أن واضعها هو الله تبارك وتعال ى , فحين وضعها فإنه يعلم الماضي والحاضر والمستقبل علماً واحداً لا اختلاف فيه ، ولهذا فهو يعلم ما سوف يحصل ويكون إذا طبقت هذه العقوبات على أرض الواقع ، بحيث لا يمكن أن يحصل تناقض أو تصادم عند التطبيق ، فقد وضعها الله سبحانه وتعالى بشكل لا يحصل معه أي تناقض لعلمه المسبق لذلك .
أما البشر الذين يضعون العقوبات فإنهم يعلمون الماضي عن طريق الرواية لحوادث ماضية ، ويعلمون الحاضر عن طريق الرؤية المحدودة الضيقة ، ولكنهم يتوقعون ما سوف يكون في المستقبل توقعاً،وذلك عن طريق الحدس والتخمين .
ولذلك فإنهم يضعون العقوبات بناءً على الماضي الذي لم يشهدوه لتطبَّق هذه العقوبات في المستقبل المجهول ، فيحصل بذلك تناقض وتصادم مع الواقع بخلاف العقوبات الشرعية . وسيأتي مزيد تفصيل لذلك في المبحث الثالث إن شاء الله تعالى .
الثمرة الثالثة : العدل المطلق والبراءة من التحيز :
إن الذي يتحيز ويميل إلى فئة معينة هو الذي يستفيد , ولكن واضع العقوبات هو الله سبحانه وتعالى الذي لا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي ، ولهذا فليس لله سبحانه وتعالى مصلحة في تطبيق العقوبات من عدمه، وليس له سبحانه وتعالى مصلحة في تغليب طبقة على طبقة ، لأن هؤلاء وأولئك جميعاً خلقه وعبيده ، ولهذا فإنها تطبق على أولئك البشر الذين هم خلقه وعبيده ، وهم خارجون عنه تبارك وتعالى ، فتطبق عليهم بطريقة واحدة فلا فرق بينهم في هذا التطبيق . وبذلك اتصف التشريع العقابي الإسلامي بالعدل المطلق فلا نقص فيه ولا عيب يشوبه ، وإذا وجدت عيوب في المجتمع الإسلامي فإنما هي من جراء التطبيق لا من أصل التشريع .
وعلى هذا فالنظام الإسلامي يطبَّق على جميع المجتمع لمصلحة الجميع ، ولا يجامل أحداً على حساب أحد ، فالجميع أمام النظام الإسلامي سواء . قال الله تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، وقال الله تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَة } .
أما العقوبات التي يضعها البشر فإن واضعها الإنسان ،ذلك الكائن المخلوق من الضعف ، وإذا كان بهذه الصفة فلا يمكن أن ينجو من التحيز والميل ، ذلك أن له مصلحة في هذا التحيز ، حيث أنه فرد من الأفراد الذين يمكن أن يطبق عليهم هذا النظام في يوم من الأيام ، لذلك فإنه يضع نفسه في الحسبان وإن لم يقصد ذلك ، فقد لا يفعله من سوء قصد ، ولكنه يفعله لا شعورياً ومن حيث لا يدري ، وبهذا لا يسلم من التحيز والميل لفئة معينة أو طبقة خاصة أو فرد من الأفراد . فالقانون دائماً عرضة لتقلبات الحال بين الغالبين والمغلوبين ، وفي الغالب فإن القوانين تضعها الطبقة الأقوى لحماية مصالحها .
المبحث الثاني
نظام العقوبات الإسلامي يتميزبتقسيمه للجرائم والعقوبات تقسيماً فريداً
لقد انفردت الشريعة الإسلامية الغرَّاء في باب الجرائم وعقوباتها ــ كما هي كذلك في كل شئونها ــ بمنهج لم تسبق إليه حيث جعلت العقوبة على الجرائم متدرجة في الشدة والسهولة بقدر ما يحصل من اعتداء على مصالح العباد الخاصة والعامة .
فإذا كانت الجريمة من النوع الذي يؤثر تأثيراً خطيراً على أمن الجماعة وقد يؤثر على الأفراد فإن عقوبتها مقدَّرة ولازمة فلا يجوز التساهل بها بل يجب تنفيذها .
وهذه هي ما تسمى بجرائم الحدود وعقوباتها .
وإذا كانت الجريمة من النوع الذي يؤثِّر تأثيراً خطيراً ومباشراً على الفرد أولاً ثم على الجماعة ثانياً فإن عقوبتها كذلك مقدرة ولكن لما كان ضررها حاصلاً على الفرد أكثر منه على الجماعة فإنها ليست لازمة التنفيذ بل يجوز العفو فيها من قِبَل المجني عليه أو وليه.
وهذه هي ما تسمى بالجناية الموجبة للقصاص .
وإذا كانت الجريمة خطرها أقل سواء كانت منافية لمصلحة الجماعة أو لمصلحة الفرد فإنها تختلف عن النوعين السابقين من ناحية تحديد عقوبتها ومن ناحية تنفيذ تلك العقوبة ، فليس لها عقوبة مقدرة ، بل هي متروكة لاجتهاد ولي الأمر حسب ما تقتضيه مصلحة الجماعة وما يلائم ظروف الجريمة والجاني .
وهذه هي ما يطلق عليها جرائم التعزير وعقوباتها .
إذاً فالجرائم والعقوبات في الشريعة الإسلامية تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي :
1- الجرائم المعاقب عليها بالحد .
2- الجرائم المعاقب عليها بالقصاص .
3- الجرائم المعاقب عليها بالتعزير
وهذا بخلاف ما عليه النظم القانونية التي تقسِّم الجرائم إلى جنايات وجُنح ومخالفات ، ويكون الأساس في ذلك التقسيم راجع إلى مدى جسامة العقوبة ذاتها ، دون النظر إلى تأثيرها على الصالح العام أو الخاص ، وهذا يعد خللاً في تقسيم الجرائم والعقوبات لأن بناء التقسيم على مدى الجسامة دون النظر إلى نوع المصلحة المراد تحقيقها يفضي إلى الخلط بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة ، وهذا لا ينبغي ولا يجوز لاختلافهما في أمور كثيرة مثل المراعاة في التخفيف من عدمه باختلاف الزمان والمكان والأشخاص ومثل السقوط بالعفو أو السقوط بالتوبة وغير ذلك .
المبحث الثالث
نظام العقوبات الإسلامي يتميز باتصاف نظمه بمصداقية الجوهر
إن النظم بصفة عامة توضع اليوم لتطبق غداً ، فلا تطبق بأثر رجعي ولا ساعة صياغة النظام وإنما تطبق بعده أي أن تطبقها يكون في المستقبل ، وهذا بالنسبة للتشريعات الإسلامية أمر ظاهر ولا يؤدي إلى أي تناقض ، لأن واضعها هو الله تبارك وتعالى ، والله تبارك وتعالى محيط علمه بكل شيء فيعلم ما كان وما يكون وما سوف يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، فهو جل شأنه يعلم الماضي والحاضر والمستقبل برؤية واحدة ظاهرة لا خفاء فيها لأنه الخالق لهذا كله ، ولذلك تتصف النظم التي يفرضها سبحانه وتعالى بالمصداقية الحقة ،لأن واضعها يعلم كيف سيكون تطبيقها في المستقبل إلى قيام الساعة ، وهذا هو ما جعل النصوص الشرعية لا تتبدل ولا تتغير مع مرور الزمن ، بل هي تطبق في كل وقت وتبقى على ما كانت عليه منذ نزول الوحي على سيدنا محمدe إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة . قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}.
وهذا عكس ما عليه النظم البشرية ، حيث أننا نجد أن النظم التي يضعها البشر قاصرة وغير صادقة الذات دائماً ،لأن البشر لا يحيطون بعلم الماضي والحاضر والمستقبل على السواء ، بل إنهم يعلمون الماضي عن طريق الرواية ، وغالباً ما تكون رواية تاريخية غير موثقة ، كما أنهم يعلمون الحاضر عن طريق المشاهدة المحدودة القاصرة ،أما معرفتهم بالمستقبل فإنما تكون عن طريق الحدس والتوقع والتخمين .
وعلى هذا فإنهم إذا سنوا نظماً وقوانين فإنما يسنونها لتطبق في الجانب الخفي عليهم وهو المستقبل ، ولهذا لا تتصف بالمصداقية الحقة ، لأنها في الغالب تتصادم مع الواقع عند التطبيق ، مما جعل النظم تحتاج إلى التغيير والتبديل من وقت لآخر ،حيث يُسَنُّ القانون اليوم ثم يبدأ تطبيقه بعد سريانه من حين إعلانه على الملأ ، ثم بعد ذلك تبدأ المشادَّة بين نصوص القانون وبين الواقع ، حيث تحدُث للناس أقضية يعجز القانون عن ملاحقتها، فيضطر شُّرَّاح القانون ومفسروه إلى التفسيرات والتأويلات المختلفة ، ثم في الأخير يضطرون إلى تغيير القانون جذرياً ، وهكذا لا تدوم النصوص القانونية طويلاً بل تتبدل وتتغير من حين لآخر.
المبحث الرابع
نظام العقوبات الإسلامي يتميز باتصافه بالثبات والصلاحية لكل زمان ومكان
إن محمداًe خاتم الأنبياء والمرسلين، وكذلك فإن الإسلام خاتم الأديان ، فهو دين خالد لا يؤثر فيه تعاقب الأزمان ولا تبدُّل الأجيال والأمم ، ودين هذه صفته وطبيعته فإنه عندما يصدر تشريعاته لابد أن يضع في حسبانه التغير والتطور اللذينِ جعلهما الله تبارك وتعالى من سمات هذه الحياة الدنيا ، حيث وضع للبشر تشريعاً لا يعيبه تغير الزمان وتبدل المكان وتطور الأشخاص، ولذلك فإن الإسلام لم ينتهج ما نهجته الشرائع السابقة بسرد الأحكام جملة وتفصيلاً ، بل جاءت الأحكام الإسلامية مفصلة فيما لا يتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص كالأمور العقدية والتعبدية المحضة وكالفرائض وأمور الأسرة وكجرائم الحدود والقصاص والدية وغيرها ، ثم إن هناك أحكاماً أخرى جاء الشرع فيها بالأحكام والقواعد العامة لها وببعض جزئياتها وترك كثيراً من التفصيلات فيها لأولي الأمر المجتهدين الذين يَدْرُسون هذه الأحكام من واقع المجتمع والزمان والمكان التي يعيشون فيها مراعاة لتبدل الحياة وتجددها بحيث يستطيعون أن يصدروا أحكاماً جديدة للحوادث المتجددة ، فلا يمكن أن يفلت المجرمون مهما تفننوا في وسائل الإجرام
ولذلك فإننا نقول : إن العقوبات الإسلامية تتسم بالثبات والاستقرار والاستمرار ، فهي لكل وقت وزمن ولكل عصر ومصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فعقوبات الحدود والقصاص والدية غير قابلة للتغيير والتبديل والزيادة والنقصان ، لأن الله تبارك وتعالى وضعها على سبيل الدوام والاستقرار والاستمرار ، فما على القاضي إلا أن ينفذها متى ما ثبتت الجريمة ، وأما عقوبات التعزير فهي بصفة عامة قابلة للتغيير والتبديل ، ومع ذلك فإن هذا التغيير خاضع لقواعد شرعية ثابتة ومصالح عامة معتبرة ، تكفل له الاستمرار والاستقرار ، فالنظام العقابي الإسلامي بصفة عامة ثابت ومستقر ، فهو لكل زمان ومكان ولكل عصر ومصر ، حيث إنه غير قابل للتبديل بتغير الزمان والمكان ، لأنه من عند الله اللطيف الخبير الذي يعلم الغيب والشهادة ولـه الإحاطة الكاملة بكل شيء، فالعقوبات الشرعية قد شرعت لحماية المصالح الحقيقية الثابتة والفضائل والقيم والآداب السامية ،ولمقاومة الرذائل والمفاسد ، وقد أجمعت كل الشرائع على مر العصور على ضرورة المحافظة على تلك المصالح والفضائل ، ثم إن المصالح والفضائل في وقت مَّا هي المصالح والفضائل دائماً ، فالحق حقّ دائماً والخبيث خبيث دائماً في كل زمان ومكان.
وفي وضْع الشارع الحكيم للعقوبات وأحكامها على الثبات والدوام رحمةٌ بالبشرية وحمايةٌ لميزان العدالة ، فلو لم تتصف بالاستقرار والدوام لأدى ذلك إلى زعزعة العقول واضطراب أفكار الناس ومناهج حياتهم واهتزاز ميزان العدالة ، ونحن اليوم نلمسه ونرى آثاره في القوانين الوضعية التي أخذ بها أغلب البشر اليوم معرضين عن الشريعة الإسلامية .
المبحث الخامس
نظام العقوبات الإسلامي يتميز بشعور الفرد فيه بالرقابة الإلهية
دين الإسلام مبني أساساً على الإيمان والعقيدة ، فلا يصير الإنسان مسلماً حقاً إلا إذا آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، أما إذا أسلم الإنسان ظاهراً ولم يؤمن باطناً فإنه لا يسمى مسلماً حقاً بل هو كافر منافق .
فإذا آمن الإنسان وأذعن لربه فإن من مستلزمات هذا الإيمان أن يذعن لجميع أوامر الشرع الشريف بما في ذلك ترك المحرمات ، لأنه يعلم يقيناً أن الله يراقبه وأنه إن نجا من رقابة البشر فإنه لا يغيب عن رقابة رب البشر .
وبناءاً على ذلك فإن إسناد العقوبات الشرعية إلى رقابة الله تبارك وتعالى الذي يعلم الغيب والشهادة ويطلع على الظواهر والسرائر ، وارتباط الابتعاد عن الجرائم بالإيمان حيث قال تعالى في النهي عن ارتكاب جريمة القذف :{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} وارتباطها بالعقوبة الأخروية حيث يقول الله تبارك وتعالى في جريمة القتل :{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}ــ كل هذا يضفي على النظام العقابي الإسلامي صبغة دينية ويكسبه احتراماً وقدسية في نفس المسلم ،ويجعله جزءاً من شريعته وعقيدته ووجدانه الديني ، ويجعل المسلم يشعر بالرقابة الإلهية في السر والعلن ، فيندفع إلى الالتزام بأمر الله والوقوف عند حدوده ، ليس مخافة من سلطة الدولة وأجهزة الرقابة للقوة الحاكمة فحسب ، بل لأجل الرقابة الإلهية التي لا يغيب عنها شيء .
فالإنسان السوي في الإسلام لا يقترف الجريمة وإن كان بعيداً عن أنظار الناس ورقابة الدولة ، فالشعور بالمراقبة الإلهية التي حددت الجرائم وفرضت العقوبات عليها دافع قوي إلى الوقوف عند حدود الله ، ولـه أثر بالغ في منع وقوع الجرائم . وهذا الأمر تخلو منه القوانين الوضعية ، فأجهزة الرقابة لأي سلطة ودولة مهما تطورت وبلغت من الدقة واليقظة لا تستطيع الإحاطة بكل ما يقع من الجرائم ، فهي وحدها لا تكفي في منع وقوع الجرائم .
وإذا ارتكب المسلم جريمة بحكم غلبة النفس الأمارة بالسوء وطروء حالات الضعف عليه ، ووقع في قبضة السلطة وأجهزة الرقابة فإنه يستجيب لدواعي العقاب ، ولا يحاول أن يفلت من سلطة الدولة وقبضتها بالتحايل والإنكار ، بل يستجيب للعقوبة المقررة في الغالب عن قناعة ورضى ، لأنه يؤمن بارتباطه بالوحي وبإيمانه وبعقيدته ووجدانه الديني .
وحتى إذا لم يقع في أيدي سلطة الدولة وأجهزة الرقابة بها فإنه بحكم شعوره بالرقابة الإلهية فإنه يشعر بالذنب ، حيث توقظه النفس اللوامة ، فيخاف عقاب الله تبارك وتعالى وبطشه في أي لحظة ، وهو وإن نجا من عقاب الله له في الدنيا فإنه يعلم يقيناً أنه لن ينجو من عقابه في الآخرة ، ولذلك فإننا نجد مقترفي الجرائم في كثير من الأحيان يقدِّمون أنفسهم أمام القضاء الشرعي معترفين بذنوبهم ومصرين على توقيع العقوبة عليهم رغبة منهم في التكفير عن ذنوبهم والتطهير من جرائمهم في الدنيا حتى يلقوا ربه وهم في كامل الطهر والنقاء من أدران الذنوب .
ونجد في تاريخنا الإسلامي أمثلة رائعة من أولئك الذين ارتكبوا بعض الجرائم ثم جاؤوا إلى النبيeمعترفين بذنوبهم وأصُّروا على توقيع العقوبة الشرعية عليهم ، علماً بأنها من أقسى العقوبات وأشدها .
من ذلك قصة ماعز الأسلمي رضي الله تعالى عنه الذي جاء إلى النبيe واعترف باقترافه جريمة الزنا ثم أصر على توقيع العقوبة عليه فرجمه النبي.
وكذلك قصة الغامدية رضي الله تعالى عنها التي اعترفت بالزنا ثم ردَّها النبيe حتى أصرت على اعترافها فرُجمت(
وهذه الأمثلة الرائعة معجزة للنظام العقابي الإسلامي لا تستطيع أية أنظمة وضعية أن تدانيها مهما ارتفعت وبلغت من السمو والدقة في التشريع ، وأين هذه الصور القيمة من مجرمي العصر العتاة الذين يرتكبون أنواعاً من الجرائم البشعة ثم يتفننون في أساليب التهرب والتحايل على القانون ، حتى أنهم لا يترددون في اتهام الأبرياء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً دون حياء أو حساب من ضمير .
ختاماً أقول :
إن هذه الأمثلة الرائعة التي ذكرتها لا تعني أن المسلمين كلهم على مستوى واحد من الإيمان والتقوى والرقابة الذاتية ، بل إنهم مختلفون في ذلك ، ولكن ما ذكرناه هو الأصل والغالب إذا كان شرع الله هو السائد والمطبق ، ولهذا شرعت العقوبات الإسلامية لمن فسد طبعه فلم يكترث بالنصوص الشرعية من الأوامر والنواهي التي أنزلها الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين .
اترك تعليقاً