بحث شامل عن طبيعة التعاقد لنظام التحكيم الداخلي في التشريع المغربي
مقدمة
يعتبر التحكيم كأسلوب هام لفض النزاعات حيث أن المتتبع لمسار اعتماده يجد أنه اتخذ منحى تصاعديا خاصة من اتساع دائرة المعاملات التي يمكن الاعتماد على التحكيم في حل النزاعات القائمة بشأنها.
وفي هذا نجد أن كل الدول المغاربية قد اعتمدته في التشريعات والقوانين المنظمة لسبل حل النزاعات ، على أنه يتجاذب قضية الطبيعة القانونية للتحكيم عدة مذاهب أهمها النظرية العقدية لما لإرادة أطراف النزاع من دور في اختيار أسلوب التحكيم وتحديد مساره من أجل الوصول للفصل في النزاع.
فما هي حدود الاعتداد بهذه الإرادة في التشريعات المغاربية؟ وهل تعاملت هذه القوانين مع الطبيعة العقدية للتحكيم بنفس النسق؟
تلك هي الإشكالية التي سيتم الإجابة عنها من خلال عرض الموضوع ضمن المحورين الآتيين:
المحور الأول: أساس النظرية العقدية للتحكيم
المحور الثاني: الطبيعة العقدية لإنشاء التحكيم في التشريعات المغاربية
المحور الأول: أساس النظرية العقدية للتحكيم
أولا: مبررات النظرية العقدية للتحكيم
لاعتبار نظام التحكيم ذو طبيعة تعاقدية يستند أصحاب هذا الرأي إلى عدة اعتبارات منها ما هو نظري فلسفي ، ومنها ما هو مستمد من الناحية العملية أثناء ممارسة وتطبيق آلية التحكيم في حل المنازعات على النحو التالي:
إعمال مبدأ سلطان الإرادة
” يمكن القول بأن كل من الفقه و القضاء قد استقر على أن الاتفاق على التحكيم هو عقد شأنه بقية العقود المدنية الأخرى التي تتم بالإيجاب والقبول، وهذا الاتجاه يجد مرتكزه في مبدأ سلطان الإرادة”[1]
و بالعودة لهذا المبدأ نجد أنه يتصل بفلسفة القانون و مقتضاه أن إرادة الإنسان تشرع بذاتها لذاتها، وتنشئ بذاتها لذاتها التزامها ، فإذا ما التزم شخص بتصرف قانوني وبخاصة العقد ، فإنما يلتزم لأنه أراد ، وبالقدر الذي أراد وإن كان العقد هو قاعدة الحياة الحقوقية فإن الإرادة الفردية هي قاعدة العقد.
كما أن مبدأ سلطان الإرادة لم يطرح في التشريعات على نحو مطلق في أية مرحلة من مراحل تطوره وهو حتى عام 1804 حين طرح في القانون المدني لفرنسي أحيطت به قيود حدت من إطلاقه ، ولقد ازدادت هذه القيود ازديادا كبيرا على أنها على الرغم من وفرتها لم تجرد المبدأ من قيمته[2].
غير أنه وفيما يتعلق بنطاق تطبيقه فقد ” استقر الحال على اعتراف جميع القوانين بمبدأ سلطان الإرادة، وإن اختلفت في تحديد نطاقه ومداه تبعا لاختلاف لأنظمة السياسية المتبعة – حيث – وأمام الانتقادات الموجهة لهذا لمبدأ من طرف الذين ينادون بنبذه مرة واحدة، وتمسك الذين يؤيدون إطلاقه إلى أوسع الحدود وجد فريق معتدل وضع الأمور في نصابها وأعاد لهذا المبدأ اعتباره وبأسس جديدة وعلى هذا الأساس الإنصاف والاعتدال “[3]، وهو ما سيتم الكشف عنه في مجال وموضوع التحكيم من خلال استقراء التشريعات المنظمة له في الدول المغاربية.
المبررات العملية
و تستمد من خلال الممارسة العملية للتحكيم، وهي بدورها تكون إما مستندة لمعيار شخصي، أو موضوعي.
الضابط الشخصي: وتتمثل في تقييم مدى الاعتداد بإرادة أطراف النزاع وكذا طبيعة عمل المحكم وتعيينه حيث:
إن أساس اللجوء إلى التحكيم بوصفه وسيلة لحل النزاع ليس في الحقيقة إلا اتفاق أطراف النزاع على ذلك سواء كان هذا الاتفاق شرطا[4] أم مشارطة[5] حيث تعد إجراءات التحكيم والحكم المنهي للنزاع والصادر بناء على هذه الإجراءات جزا لا يتجزأ عن هذه الإجراءات.[6]
إن أسلوب التحكيم ما هو في حقيقته إلا تكريس لرغبة أطراف النزاع في حله وديا عن طريق اللجوء إلى التحكيم بحكم يكون محلا لقبولهم[7].
إن الاتفاق على التحكيم هو عقدا يتم باتفاق الطرفين المحتكمين ، ويعتبر مظهرا لسلطان إرادتيهما، واستعمالا منهما لحقهما في الالتجاء إلى التحكيم ، وذلك من أجل حل نزاعهما عن غير طريق القضاء العام في الدولة[8].
يظل التحكيم متمسكا بالطبيعة العقدية حتى في الحالة التي يعين فيها المحكم من قبل السلطة القضائية ، لأن هذه السلطة عند تعيينها له تحل محل الأفراد في استعمال حقهم في اختيار هذا المحكم[9].
إن كل ما يتعلق بالمحكم كشخص محوري في عملية التحكيم برمتها يستمد حجيته من إرادة أطراف العقد الأصلي كقاعدة عامة سواء تعلق الأمر بأسلوب التعيين أو الرد وما تدخل القانون في هذا الشأن إلا لإعطاء هذا طابعا رسميا وتنظيميا، غير أن أصله يبقى ذو طابع تعاقدي[10].
كما أن المحكم عند لفصل في النزاع يمتلك سلطات أوسع من سلطات القاضي لأنه لا يتقيد بأحكام القانون باستثناء القواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام والآداب بينما القاضي يفصل في النزاع مقيدا بقواعد القانون [11]، وبذلك يكون عمل المحكم أقرب إلى الوكيل المشترك عن طرفي العقد الأصلي منه إلى القاضي[12].
الضابط الموضوعي: ويتعلق الأمر هنا بالنظر للقواعد المعتد بها في كل من القانون الواجب التطبيق وعمل المحكم برمته بما في ذلك الحكم الصادر في موضوع النزاع محل التحكيم حيث:
إن الحكم الصادر عن المحكم يعد في إحدى صوره عقدا مبرما بين أطراف النزاع ويتم تنفيذه بأمر من المحكمة المختصة، كما هو الحال بالنسبة للحكم الذي يتطلب تنفيذه إجراءات تنفيذية خاصة، ذلك أن أساس تمتع حكم التحكيم بحجية الشيء المقضي به يرجع إلى وجود اتفاق ضمني بين أطراف اتفاق التحكيم على الالتزام بالحكم الصادر عن ذلك المحكم ، والالتزام بعدم إعادة عرض النزاع على القضاء”[13].
إن اشتراط التشريعات لإنشاء أسلوب التحكيم لحل النزاع بطريق الكتابة ” سواء كان في صورة مشارطة تحكيم لنزاع قائم أو في صورة شرط تحكيم لنزاع مستقبلي يجعلنا نعتقد بأن وثيقة التحكيم هذه لا يصح أن تتم بواسطة الإحالة إليها في العقد المبرم بين أطراف النزاع ، بل لا بد من وجودها والنص عليها مستقلة عن العقد القائم”[14]، فيكون بذلك موضوع التحكيم مستمدا للطابع العقدي من ذاته لا من غيره.
إن دعوى بطلان حكم التحكيم تستند إلى أسباب ترتبط باتفاق التحكيم مما يشكك في الصفة القضائية لهذا الحكم لأن مثل هذه الدعوى ليس محلها الأحكام القضائية التي تخضع لطرق الطعن المقررة قانونا”[15].
إن موضوع اتفاق التحكيم تسري عليه القواعد العامة للعقود والمنصوص عليها في القانون المدني شأنه في ذلك شأن سائر العقود الأخرى وأهمها تلك القواعد التي تحكم إبرامه ، وتجديد أركانه، وشروط صحته، والجزاء المترتب على تخلفها، وهو البطلان،أو القابلية للإبطال، كما يخضع لما يرد بشأنه من أحكام خاصة في النصوص المنظمة للتحكيم، وقواعد الاتفاق عليه”[16].
إن استخدام ذات المصطلحات القانونية في مجال التحكيم والقضاء مثل مصطلح حكم أو نزاع أو خصوم وغيرها من المصطلحات هو تشابه ظاهري لا يحدد الطبيعة القانونية للتحكيم ولا يؤثر في طابعه العقدي[17].
ثانيا: تقدير النظرية العقدية للتحكيم
رغم المبررات التي يستند إليها أصحاب النظرية العقدية لنظام التحكيم فقد انتقدت من خلال أنها بالغت في إبراز دور سلطان الإرادة في مجال التحكيم ويظهر ذلك من حيث:
بالعودة إلى المبررات السابقة وخاصة التي تركز منها على المحكمين والأحكام التي يصدرونها نجد أن أنصارها ” ينكرون على أحكام التحكيم صفة الأحكام القضائية ويؤكدون على أن المحكمين ليسوا قضاة وإنما مجرد وكلاء عن الأطراف في التحكيم .
وفي الواقع فإن وجهة النظر هذه لا تخلو من الشطط ، إذ لا يمكن وفقا للقواعد العامة في الوكالة اعتبار المحكم وكيلا عن طرفي النزاع ، فالمحكم يقوم بعمل قضائي ، وهو الحكم في النزاع، وهو ما لم يكن بوسع الأطراف أنفسهم أن يقوموا به بذواتهم ، فالمحكم إذن هو قاضيهم الذي يفرض حكمه على الجميع.
وصحيح أن لمحكم يستمد سلطته من الإرادة المشتركة للأطراف إلا أنه يزاولها استقلالا عن إرادتهم، ولا يلزم استمرار هذه الإرادة حتى ينتج الحكم آثاره، لأن هذه الآثار لا تتوقف على رضا الأطراف المشترك بها”[18].
رغم أن الاتجاه الفقهي القائل بعقدية التحكيم لا يخلو من الوجاهة، وهي أن التحكيم يقوم بداهة على إرادة الأطراف إلا أنه أخلط بين استناد التحكيم في البداية إلى إرادة الأطراف وبين كون لمجكم ذاته لا يرتكن إلى هذه الإرادة، إذ يعمل بأحكام القانون الواجب التطبيق على النزاع المعروض عليه ، غير أن هذا الاتجاه لا يخلو من الانتقاد وهو أن الأطراف في التحكيم لا يطلبون من المحكم الكف عن إرادتهم كما هو الحال بالنسبة إلى الشخص الثالث الذي يحدد ثمن البيع – هذا بالأخص في التحكيم التجاري الدولي – وإنما الكشف عن إرادة القانون في حالة معينة”[19].
إن الطعن في حكم التحكيم عن طريق رفع دعوى البطلان أمام المحكمة المختصة لا يؤكد الطبيعة العقدية لنظام التحكيم ولا ينفي طبيعته القضائية لأن بعض الأحكام القضائية يرفع ضدها دعوى لإبطالها ، وفي حال تم رفع هذه الدعوى ضد حكم التحكيم يظل هذا الحكم متمتعا بحجية الأمر المقضي به إلى حين الحكم بالبطلان، وهي من خصائص الحكم القضائي.
كما أن عدم تنفيذ حكم التحكيم تنفيذا جبريا إلا بعد صدور أمر بذلك من المحكمة المختصة، لا يكفي للقول بالطبيعة العقدية لنظام التحكيم وإنكار صفته القضائية شأنه في ذلك شأن أحكام القضاء الأجنبي التي تظل أحكاما قضائية رغم عدم إمكانية تنفيذها إلا بعد صدور أمر بذك من الجهة القضائية[20].
ثالثا: آثار الطبيعة العقدية للتحكيم
يترتب على إعطاء الصفة العقدية لنظام التحكيم عدة نتائج أهمها:
أن تنفيذ أحكام التحكيم أشبه ما تكون بعقود الصلح التي تخضع لتصديق القضاء و بالتالي يتم طواعية دون قضاء مع الأخذ بعين الاعتبار في ذلك أوجه الاختلاف بين أسلوبي التحكيم والصلح[21].
بإعطاء صفة العقد لنظام التحكيم ينتج عنه “التزام طرفي العقد بالخضوع للتحكيم ، وعدم اختصاص القضاء العادي بالنزاع ولو كان العقد الأصلي باطلا، وذلك لاستقلال شرط التحكيم عن العقد المتضمن له ، باعتباره عقدا داخل عقد، وأن العقد الأصلي يخضع للقانون الموضوعي، بينما يخضع اتفاق التحكيم للقانون الإجرائي”[22].
بإعطاء صفة العقد لنظام التحكيم يترتب عليه إطلاق مبدأ سلطان الإرادة وبالتالي يخرج من نطاق هذا المفهوم النوع الإجباري من التحكيم [23].
المحور الثاني: الطبيعة العقدية لإنشاء التحكيم في التشريعات المغاربية
والمقصود بإنشاء التحكيم هنا تلك القواعد التشريعية التي تأتي في بداية النصوص المنظمة له والتي يعبر عنها عادة في القوانين بالأحكام العامة أو الأحكام المشتركة بدء بالتعريفات إن وجدت والشروط المطلوبة سواء شكلية أو موضوعية وكذا السلطات الممنوحة للأطراف وتعيين الهيئات التي تتولى القيام بالتحكيم وغيرها .
وباستقراء النصوص التشريعية المنظمة للتحكيم في الدول المغاربية نجد أنها اعتمدت قواعد مكرسة للطبيعة العقدية للتحكيم وأخرى تحد من هذه الطبيعة في المواد والفصول التي تتناول الأحكام والقواعد العامة.
أولا: الأحكام المكرسة للطبيعة العقدية للتحكيم
ونجد ذلك في المجالات التالية:
من حيث التعريف
حيث وفيما يتعلق بهذه الجزئية نجد أن بعض التشريعات المغاربية عرفت التحكيم فيما أهمل ذلك البعض منها بحجة أن هذا الجانب –التعريفات – من مجالات اهتمام الفقه حيث” يمكن القول أن التعريف بنظام التحكيم قانونا فيه شيء من الصعوبة ، ذلك لأن هذا النظام أي التحكيم يصعب وصفه بتعريف قانوني شامل ومانع لكنه يسهل تمييزه عن بقية الأنظمة القانونية الأخرى المشابهة له مثل النظام القانوني للصلح أو الوكالة[24]”
وبالعودة للقوانين المغاربية في قضية تعريف التحكيم نجد أن ثلاثة منها تبنت ذلك فيما أهمله اثنان ، حث نجد أن القانون المغربي عرف التحكيم في الفصل 306 بقوله” يراد بالتحكيم حل نزاع من لدن هيئة تحكيمية تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق تحكيم”ّّ[25]، كما جاء في الفصل 307 أن” اتفاق التحكيم هو التزام الأطراف باللجوء إلى التحكيم قصد حل نزاع نشأ أو قد ينشأ عن علاقة قانونية معينة تعاقدية أو غير تعاقدية”[26].
كما عرف القانون التونسي التحكيم في الفصل 01 من مجلة التحكيم بقوله” التحكيم هو طريقة خاصة لفصل بعض أصناف النزاعات من قبل هيئة تحكيم يسند إليها الأطراف مهمة البت فيها بموجب اتفاقية تحكيم”[27]، وقد فصل بعد ذلك في الفصلين الثاني والثالث المقصود باتفاقية التحكيم من خلال إفراد كلا من صيغتي التحكيم – الشرط والمشارطة – بتعريف مستقل.
ونفس النسق – تبني أسلوب التعريف – سار عليه المشرع الموريتاني ، حيث جاء في المادة 03 من مدونة التحكيم أنه” اتفاق التحكيم هوالتزام أطراف على أن يفضوا بواسطة التحكيم كل أو بعض النزاعات القائمة أو التي قد تقوم بينهم بشأن علاقة قانونية معينة تعاقدية كانت أو غير تعاقدية ، ويكتس الاتفاق صيغة شرط التحكيم أو صيغة عقد التحكيم”[28]، كما جاء في الفصلين الرابع والخامس تعريف منفصل لكلا من شرط التحكيم وعقد التحكيم كما فعل المشرع المغربي.
وعلى خلاف ما سبق نجد أن المشرع الجزائري قد سلك في ذلك نهجا مغايرا بأن تغاضى عن أسلوب التعريف ودخل مباشرة في المادة 1006 بالحديث عن نطاق ومجال التحكيم بقوله” يمكن لكل شخص اللجوء إلى التحكيم في الحقوق التي له مطلق التصرف فيها “[29]، ثم انتقل بعد ذلك لتعريف صيغتي التحكيم – شرط التحكيم واتفاق التحكيم – في المادتين 1007 و 1011 على التوالي.
ونفس الأسلوب نهجه المشرع الليبي أين نص في المادة 739 والتي خصها للحديث عن الاتفاق على التحكيم بقوله” يجوز للمتعاقدين أن يشترطوا بصفة عامة عرض ما قد ينشأ بينهم من النزاع في تنفيذ عقد معين على محكمين ويجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين بمشارطة تحكيم خاصة”[30].
و باستقراء النصوص التشريعية السابقة خاصة الدول التي عرفت قوانينها نظام التحكيم نخلص إلى أنه من غير الممكن التوصل بصورة واضحة لمدى إضفاء الطبيعة العقدية صراحة إلا من قبيل الاستنتاج وبشكل ينقصه التشابه والتطابق .
من حيث الصياغة
لم تستعمل القوانين المغاربية عبارة وصيغة العقد للتعبير عن التحكيم في المواد والفصول الأولى لتشريعاتها، حتى تلك التي تناولت تعريفه كحالة المغرب وموريتانيا ، غيرأنه وكل ما في الأمر بالنسبة لهذين التشريعين – المغرب وموريتانيا – أنهما وظفا عبارة العقد وهما بصدد الحديث عن الأشكال التي يتخذها إنشاء التحكيم عن طريق إما الشرط أو المشارطة بالتعبير عن النوع الثاني بعقد التحكيم ، وفي هذا جاء في المادة 03 من القانون الموريتاني “…ويكتسي الاتفاق صيغة شرط التحكيم أو صيغة عقد التحكيم”[31]، وفي الفصل 307 من القانون المغربي قوله” يكتسي اتفاق التحكيم شكل عقد تحكيم أو شرط تحكيم”[32].
غير أنه وإن توافق التشريعين السابقين على استعمال عبارة العقد للتعبير عن إحدى صور التحكيم إلا أن هما اختلفا حول تفصيل ذلك، حيث نجد أن التشريع الموريتاني قد عرف عقد التحكيم في المادة 05 بقوله ” عقد التحكيم هو التزام يتولى بمقتضاه أطراف نزاع قائم عرض هذا النزاع على هيئة تحكيم “[33] وهو الأمر الذي سكت عنه القانون المغربي أين عبر عن التحكيم بطريق المشارطة بلفظ عقد تحكيم دون إعطاء تعريف لذلك في الفصل الذي يليه بل أخره إلى الفصل 314 .
من حيث الاعتداد بإرادة الأطراف: حيث وباستقراء القوانين في الدول المغاربية نجد تكريس ذلك في المجالات التالية:
اختيار أسلوب التحكيم: حيث اتفقت كل التشريعات على منح الأشخاص أطراف العلاقة حرية الاتفاق فيما بينهم حول النمط الذي سيسلكونه لفض النزاع عن طريق التحكيم إما أثناء إبرام التصرف الأصلي أو فيما بعد ذلك ، غير أن هذه التشريعات لم تتعامل مع اختيار الأطراف لنمط التحكيم بنفس المصطلح، حيث عبر عن ذلك كل من التشريع المغربي و الموريتاني بعقد التحكيم وشرط التحكيم، بينما استعمل كل من التشريع الجزائري والتونسي عبارة شرط التحكيم و الاتفاق التحكيمي، بينما استعمل التشريع الليبي عبارة مشارطة التحكيم بصفة صريحة شرط التحكيم بتعبير ضمني كونه تناول هذا في مادة واحدة بصيغة مجملة عكس التشريعات الأربعة السابقة التي تحدثت عن أنماط التحكيم في فصول ومواد مستقلة.
اختيار القائم بالتحكيم: وفي هذا الشأن نجد أن المشرع المغربي أفرد هذه القضية في فصل مستقل، حيث جاء في الفصل 312 أنه ” يراد في هذا الباب بما يلي: – – الهيئة التحكيمية – المحكم المنفرد أو مجموعة محكمين، – نظام التحكيم – كل نص يحدد مسطرة معينة يجب اتباعها في مادة التحكيم، – رئيس المحكمة – رئيس المحكمة التجارية ما لم يرد خلاف ذلك”[34]، ونفس النهج سار عليه المشرع التونسي حيث جاء في الفصل 05 أنه ” يقصد: بنظام التحكيم النص الجامع المحدد لطريقة معينة لإجراءات التحكيم، بهيئة التحكيم المحكم الفرد أو فريق من المحكمين، بالمحكمة الهيئة أو الجهاز من النظام القضائي”[35].
وفيما سكت كل من التشريع الموريتاني[36] والليبي عن هذا التفصيل فقد تحدث المشرع الجزائري عن المحكم و محكمة التحكيم بطريقة عارضة في مواد منفصلة ضمن القسم الثالث من الفصل الأول لباب التحكيم الذي عنونه بالأحكام المشتركة، غير أنه ومهما كان شكل ونمط الطرف الذي تسند له مهمة القيام بإجراء التحكيم فإن حرية الاختيار تبقى للأطراف المعنية به.
ج- حق رد المحكمين: تناولت التشريعات المغاربية هذه الجزئية بصياغتين مختلفتين، حيث عبر كل من التشريع الليبي والموريتاني والجزائري عنها بلفظ الرد، في حين استعمل كل من التشريع المغربي والتونسي عبارة التجريح، غير أنه وإن اختلفت الصياغة فإنه قد اتفقت كل التشريعات في منح هذا الحق للأطراف شرط أن يكون بسبب تم اكتشافه بعد التعيين إذا كان هذا الطرف هو المعين أو المشارك في التعيين ،وعن أسباب التجريح أو الرد فقد تحدث كل من التشريع التونسي والليبي والموريتاني عن ربطها بمثل ما يرد به القاضي وذلك في فقرة مستقلة عكس التريع المغربي والجزائري.
د- تحديد الأجل: اتفقت التشريعات المغاربية على منح الأطراف الحق في تحديد آجال معينة للفصل في النزاع من طرف المحكمين ،غير أن هذا الحق لم يخصص له مواد وفصول مستقلة وإنما جاء بطريق غير مباشر.
ثانيا: الأحكام التي تحد من الطبيعة العقدية للتحكيم
تدخل المحكمة في تعيين المحكمين: وفي هذا الشأن نص الفصل 05-327 على أنه ” إذا لم يتم تعيين الهيئة التحكيمية مسبقا وكيفية وتاريخ اختيار المحكمين أو لم يتفق الأطراف على ذلك تتبع الإجراءات التالية : – إذا كانت هيئة االتحكيم تتكون من محكم واحد يتولى رئيس المحكمة المختصة تعيين المحكم بناء على طلب أحد الطرفين….”[37]، غير أن حقيقة هذا الإجراء لا يمثل حدا من إرادة الأطراف من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنه جاء لتغطية فراغ إجرائي متمثل في عدم تحديد كيفية وتاريخ اختيار المحكمين.
الوجه الثاني: أنه يأتي لحسم خلاف قائم في حالة عدم اتفاق الأطراف على تعيين الهيئة.
الوجه الثالث: تقييد هذا الإجراء بأن يكون بناء على طلب أحد الطرفين .
وفي هذا الصدد نجد أن المشرع الجزائري قد نص في المادة 1012 أنه” إذا رفض المحكم المعين القيام بالمهمة المسندة إليه يستبدل بغيره بأمر من طرف رئيس المحكمة المختصة”[38]، وهو الأمر الذي سكتت عنه بقية التشريعات.
محل التحكيم: نصت التشريعات المغاربية على إخراج واستبعاد بعض المسائل من إمكانية كونها كمحل للتحكيم إما باعتبار أطرافها أو موضوعاتها .
المعيار الشخصي: وهو الذي يستند على أطراف العلاقة محل النزاع حيث تستبعد من موضوع التحكيم تلك النزاعات المتعلقة بالأشخاص المعنوية العامة سواء كانت مركزية أو محلية و جهوية إلا في حدود ما تبرمه من تصرفات مالية وتجارية أين تعامل معاملة الأفراد.
ب-المعيار الموضوعي: وهنا تخرج من دائرة التحكيم تلك الموضوعات التي نمتها التشريعات بقواعد قانونية آمرة منها المسائل المتعلقة بالنظام العام ومسائل الجنسية وحالة الأفراد وأهليتهم – الأحوال الشخصية غير المالية -وما لا يجوز الصلح حوله وهذا باتفاق التشريعات المغاربية ، كون هذه المجالات من الأمور التي لا يمكن إخضاعها لإرادة الأطراف حفاظا على الاستقرار في المجتمع .
خاتمة
من خلال العرض السابق للطبيعة العقدية للتحكيم وتحليل النصوص التشريعية المغاربية التي نظمت هذه القضية يمكن التوصل للنتائج التالية:
-أولت التشريعات المغاربية عناية هامة لتنظيم التحكيم كأسلوب لحل النزاعات كما هو الشأن في باقي الدول كون موضوع التحكيم يتعدى القوانين الدولية ويفرض نفسه حتى غلى مستوى المعاهدات الدولية.
-تعتبر الطبيعة التعاقدية للتحكيم كطريقة لحل النزاعات هي الوصف والتكييف السابق تاريخيا مقارنة بالطبيعة القضائية كونها هي الملائمة للظروف المحيطة بنشأته – التحكيم-.
– تتفق التشريعات المغاربية حول التوسع في إظفاء الطبيعة التعاقدية للتحكيم من خلال الاعتداد بإرادة الأطراف في جل ما يتعلق بإنشاء التحكيم مقارنة بتلك القواعد التي تحد من صبغته العقدية كون هذه الأخيرة مما لا يجوز إخضاعها لإرادة الأفراد باتفاق مختلف الأنظمة القانونية.
-تظهر القواعد التي تمنح الطبيعة العقدية للتحكيم في التشريعات المغاربية في عمومها في الأحكام العامة والتمهيدية مما يستلزم احترامها في باقي القواعد التي تلي ذلك.
-نقترح أن تبادر الدول المغاربية بالتنسيق التشريعي في هذا المجال لتسهيل الاندماج الاقتصادي ، كما نقترح إصدار مدونات قوانين مستقلة وخاصة بنظام التحكيم .
قائمة المراجع
1-أسعد فاضل منديل، أحكام عقد التحكيم وإجراءاته، دراسة مقارنة، منشورات زين الحقوقية،الطبعة الأولى 20111.
2-محمد وحيد الدين سوار ، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول،منشورات جامعة دمشق ،2006.
3-عبد الرؤوف دبابش و حملاوي دغيش، مبدأ سلطان الإرادة في العقود بين الشريعة والقانون، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر، بسكرة ، الجزائر، العدد 44، جوان 2016.
4-سامية راشد،التحكيم في العلاقات الدولية الخاصة، دار النهضة العربية،القاهرة،1984.
5-أشجان فيصل شكري داود، الطبيعة القانونية لحكم التحكيم وطرق الطعن به ، دراسة مقارنة، رسلة ماجستير، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين،2008.
6-محمود السيد عمر التحيوى، التحكيم في المواد المدنية والتجارية، دار المطبوعات الجامعية، الاسكندرية.
7-عبد الباسط محمد عبد الواسع، النظام القانوني لاتفاق التحكيم ، دراسة تحليلية مقارنة، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية،2013.
8-مصلح أحمد الطراونة، الرقابة القضائية على الأحكام التحكيمية في القانون الأردني، دراسة مقارنة، دار وائل، عمان ، الأردن، الطبعة الأولى 2010.
9-محمود عبد الرحيم الديب، الطبيعة القانونية للاتفاق التحكيمي، دراسة مقارنة.
10-شعران فاطمة، اتفاق التحكيم التجاري الدولي في التشريع الجزائري، دراسة مقارنة، المجلة الجزائرية للحقوق والعلوم السياسية،معهد العلوم القانونية والإدارية، المركز الجامعي تيسمسيلت، الجزائر، العدد الثاني، ديسمبر 2016.
11-فيصل عبد الحافظ الشوابكه و محمد خلف بني سلامة، الطبيعة القانونية للتحكيم، دراسة في قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم (36) لسنة 2010، مجلة دفاتر السياسة والقانون، جامعة قاصدي مرباح ورقلة، الجزائر ،المجلد ،العدد12.
12-قانون 05/08 يقضي بنسخ وتعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من قانون المسطرة المدنية المغربي، الجريدة الرسمية، عدد 5584، تاريخ 25 ذو القعدة ، 06 ديسمبر 2007، ص 3895.
13-قانون عدد 42 لسنة 1993 مؤرخ في 26 أفريل 1993 يتعلق بإصدار مجلة التحكيم التونسي، الرائد الرسمي عدد 33 بتاريخ 04 ماي 1993.
14-قانون رقم 2000-06 يتضمن مدونة التحكيم الموريتاني.
15-قانون رقم 08/09 المؤرخ في 25 أفريل 008، المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، الجريدة الرسمية عدد 21 الصادرة بتالريخ 22 أفريل 2008.
16-قانون المرافعات المدنية والتجارية الليبي.
[1] – أسعد فاضل منديل، أحكام عقد التحكيم وإجراءاته، دراسة مقارنة، منشورات زين الحقوقية،الطبعة الأولى 20111،ص52.
[2] – أنظر: محمد وحيد الدين سوار ، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول،منشورات جامعة دمشق ،2006، ص 49-50.
3- عبد الرؤوف دبابش و حملاوي دغيش، مبدأ سلطان الإرادة في العقود بين الشريعة والقانون، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر، بسكرة ، الجزائر، العدد 44، جوان 2016، ص267.
[4] – يقصد بشرط التحكيم أن يرد الاتفاق بين الأطراف على اتباع أسلوب التحكيم لحل أي نزاع محتمل بينهما مستقبلا وتضمين ذلك في العقد الأصلي، كما يعتبر من قبيل شرط التحكيم أيضا الاتفاق اللاحق على إبرام العقد بإحالة النزاعات التي ستنجم عن ذلك العقد إلى التحكيم ، ولكن قبل وقوع أي من تلك النزاعات. انظر في هذا:- سامية راشد،التحكيم في العلاقات الدولية الخاصة، دار النهضة العربية،القاهرة،1984، ص 75.
[5] – يقصد بمشارطة التحكيم ذلك القئم على اتفاق خاص بين الطرفين والمنفصل عن العقد الأصلي بينهما والذي بمقتضاه يتم اللجوء إلى أسلوب التحكيم لحل نزاع قائم بينهما .انظر في هذا :- أسعد فاضل منديل، المرجع السابق، ص20.
[6] – أشجان فيصل شكري داود، الطبيعة القانونية لحكم التحكيم وطرق الطعن به ، دراسة مقارنة، رسلة ماجستير، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين،2008، ص17.
[7] – نفس المرجع و الصفحة.
[8] -محمود السيد عمر التحيوى، التحكيم في المواد المدنية والتجارية، دار المطبوعات الجامعية، الاسكندرية، ص37.
[9] – أشجان فيصل شكري داود،المرجع السابق، ص17.
[10] – انظر :- عبد الباسط محمد عبد الواسع، النظام القانوني لاتفاق التحكيم ، دراسة تحليلية مقارنة، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية،2013، ص20.
[11] – أشجان فيصل شكري داود، المرجع السابق، ص 20.
[12] – مصلح أحمد الطراونة، الرقابة القضائية على الأحكام التحكيمية في القانون الأردني، دراسة مقارنة، دار وائل، عمان ، الأردن، الطبعة الأولى 2010،ص 49.
[13] – أشجان فيصل شكري داود، المرجع السابق، ص 17-18.
[14] – محمود عبد الرحيم الديب، الطبيعة القانونية للاتفاق التحكيمي، دراسة مقارنة، ،ص 260.
[15] – أشجان فيصل شكري داود، المرجع السابق، ص 20.
[16] -محمود السيد عمر التحيوي، المرجع السابق، ص38.
[17] – أشجان فيصل شكري داود، المرجع السابق، ص 20.
[18] – مصلح أحمد الطراونة، ص50-51.
[19] – شعران فاطمة، اتفاق التحكيم التجاري الدولي في التشريع الجزائري، دراسة مقارنة، المجلة الجزائرية للحقوق والعلوم السياسية،معهد العلوم القانونية والإدارية، المركز الجامعي تيسمسيلت، الجزائر، العدد الثاني، ديسمبر 2016، ص13.
[20] – أشجان فيصل شكري داود، المرجع السابق ، ص 24.
[21]– فيصل عبد الحافظ الشوابكه و محمد خلف بني سلامة، الطبيعة القانونية للتحكيم، دراسة في قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم (36) لسنة 2010، مجلة دفاتر السياسة والقانون، جامعة قاصدي مرباح ورقلة، الجزائر ،المجلد ،العدد12، ص11.
[22] – محمود عبد الرحيم الديب، المرجع السابق، ص 253.
[23] – فيصل عبد الحافظ الشوابكه و محمد خلف بني سلامة، المرجع السابق، ص11.
[24] – أسعد فاضل مندييل، المرجع السابق ،ص16.
[25] – قانون 05/08 يقضي بنسخ وتعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من قانون المسطرة المدنية المغربي، الجريدة الرسمية، عدد 5584، تاريخ 25 ذو القعدة ، 06 ديسمبر 2007، ص 3895.
[26] -نفس المرجع والصفحة.
[27] – قانون عدد 42 لسنة 1993 مؤرخ في 26 أفريل 1993 يتعلق بإصدار مجلة التحكيم التونسي، الرائد الرسمي عدد 33 بتاريخ 04 ماي 1993.
[28] -قانون رقم 2000-06 يتضمن مدونة التحكيم الموريتاني.
[29] – قانون رقم 08/09 المؤرخ في 25 أفريل 008، المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري، الجريدة الرسمية عدد 21 الصادرة بتالريخ 22 أفريل 2008.
[30] -قانون المرافعات المدنية والتجارية الليبي.
[31] – قانون رقم 2000-06 يتضمن مدونة التحكيم الموريتاني.
[32] – قانون 05/08 يقضي بنسخ وتعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من قانون المسطرة المدنية المغربي
[33] – قانون رقم 2000-06 يتضمن مدونة التحكيم الموريتاني.
[34] – قانون 05/08 يقضي بنسخ وتعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من قانون المسطرة المدنية المغربي.
[35] – قانون عدد 42 لسنة 1993 مؤرخ في 26 أفريل 1993 يتعلق بإصدار مجلة التحكيم التونسي.
[36] – أشار فقط في المادة 13 أنه يمكن أن يكون التحكيم خاصا أو مؤسسيا.
[37] – قانون 05/08 يقضي بنسخ وتعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من قانون المسطرة المدنية المغربي.
[38] – قانون رقم 08/09 المؤرخ في 25 أفريل 008، المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً