مقال عن القتل العمد كجريمة ضد الإنسانية بالعراق
اعتبر نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية القتل العمد أحد الأفعال المشكلة للجرائم ضد الإنسانية ، وذلك في البند (أ) من الفقرة (1) من المادة السابعة منه .
ويعتبر الحق في الحياة من أهم الحقوق التي يحميها المشرع الوطني والدولي ، ولما كان القتل يسلب هذا الحق فمن الضروري تدخل المشرع لمنعه حمايةً لذلك الحق .
وقد عُرِّفَ القتل بأنه (محوٌ للحياةِ أو اعتداءٌ على الحياة يؤدي الى وفاة المجني عليه) .
كما عرّف الكاتب الفرنسي (كارو) القتل بأنه (ازهاق ارادي بصفةٍ غير مشروعةٍ لحياةِ انسان بفعل انسان) .
وتقتضي الضرورة العلمية تقسيم هذا البحث الى ثلاثة فروع : نتناول في الأول الركن المادي للجريمة ، وفي الثاني الركن المعنوي لها ، بينما نخصص الثالث للركن الدولي .
” الفرع الأول “
” الركن المادي “
يتشابه الركن المادي في جريمة القتل العمد (التي تعتبر احدى صور الجرائم ضد الإنسانية) في عناصره العامة مع جريمة القتل العمد التي تعتبر جريمة خاضعة للتشريعات الوطنية وجريمة القتل العمد التي تشكل صورة من صور جريمة الإبادة الجماعية .
والعناصر العامة في أي جريمة قتل هي (السلوك الجرمي الذي يؤدي الى وفاة انسان ، والنتيجة التي يعاقب عليها القانون وهي ازهاق روح انسان ، والعلاقة السببية بينهما) ونوجز الكلام عنها كما يلي :
1-السلوك الإجرامي : وهو كل سلوك من شأنه ازهاق روح المجنى عليه ، فلا يوجد فعل محدد بنظر التشريعات الوطنية ولا الدولية .
فلا يهم أن يقتل الجاني المجني عليه بطعنه أو وضع السم في طعامه أو اطلاق النار عليه ، والسلوك الإجرامي على نوعين :
أ-سلوك ايجابي : يعني قيام الجاني بفعل يؤدي الى موت المجنى عليه ، كطعنه أو ضربه بآلة حادة (سواءاً أكانت مخصصة للقتل كالسيف أو غير مخصصة له كالمطرقة) ، أو اطلاق النار عليه ، أو أعطائه السم في طعامه أو شرابه أو جعله يتنفس هواءاً ملوثاً بالغازات السامة أو البكتيريا الضارة .
ب-سلوك سلبي : يتمثل بامتناع الجاني عن القيام بعمل كان من الواجب عليه القيام به منعاً لموت المجني عليه ، كامتناع الطبيب عن علاج مريض يعاني اصابة مميتة ، أو حرمان شخص من الطعام والماء حتى الموت .
ولم يقبل أغلب الفقه الجنائي الدولي اعتبار القتل بالوسائل المعنوية كجريمة ضد الإنسانية ، كوسائل الإيلام النفسي أو اخبار المجنى عليه بخبر محزن يؤدي الى وفاته ، والسبب في الرفض على ما يبدو الصعوبة البالغة في تحديد العلاقة السببية بين الأخبار السيئة أو وسائل الإيلام النفسي وبين وفاة المجنى عليه ، لكننا نؤيد الجانب القليل من الفقه الدولي الذي يتقبلها طالما لا يوجد ما يمنع ذلك بشرط أخذ ظروف كل حالة على حدة وعدم التعميم .
2-النتيجة : هي الأثر المترتب على سلوك الجاني ، ويتمثل بوفاة المجنى عليه ، ولا يوجد في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ما يمنع تراخي حدوث النتيجة الى وقت معين ، طالما توافرت العلاقة السببية بينهما واستطاعت المحكمة اثبات ذلك .
3-العلاقة السببية : وهي العلاقة التي تربط بين السلوك الإجرامي وبين النتيجة الإجرامية ، بمعنى أن النتيجة الجرمية (الوفاة في القتل العمد) يجب أن تكون عبارة عن الأثر المترتب على السلوك الذي أتى به الجاني سواءاً أكان هذا السلوك إيجابياً أم سلبياً ، فالمهم وجود رابط بين السلوك الجرمي والنتيجة الجرمية .
أخيراً يجدر بنا ملاحظة التشابه بين جريمة القتل العمد وجريمة الإبادة التي تشكل هي الأخرى صورة من صور الجرائم ضد الإنسانية ، وأن التمييز بينهما يدق في الركن المادي ، الّا أن رأياً يعتبر جريمة القتل لا تطال عدد كبير من السكان إنما يكون ضحاياها أعضاء بارزين في الجماعة كقيادييها أو المعارضين السياسيين للدولة بقصد ترهيبها ، ونتفق مع صاحب هذا الرأي فلو كان القتل يشمل عدداً كبيراً من الجماعة لما أفرد المشرع الدولي صورة أخرى أطلق عليها (جريمة الإبادة) واكتفى بالقتل العمد فقط .
” الفرع الثاني “
” الركن المعنوي “
يتكون الركن المعنوي في هذه الجريمة من عنصرَي القصد العام (العلم والإرادة) اضافةً الى القصد الخاص (نية احداث النتيجة وهي الوفاة) .
1-القصد العام : فينبغي علم الجاني أنه يرتكب فعلاً يؤدي الى وفاة شخص أو أكثر ، وأنه جزءٌ من هجوم واسع ممنهج موجه ضد مجموعة من السكان ، مع هذا تنصرف ارادته الى القيام بهذا الفعل . وهذا ما أكده البند (أ) من الفقرة (2) من المادة (30) من نظام المحكمة الجنائية الدولية حيث قالت :(( أ ) يقصد هذا الشخص , فيما يتعلق بسلوكه , ارتكاب هذا السلوك)) .
2-القصد الخاص : ويعني انصراف ارادة الجاني الى احداث النتيجة الجرمية وهي الوفاة في جريمة القتل العمد رغم علمه بها وبجسامة أثرها ، وهو ما نجده في البند (ب) من الفقرة الثانية من المادة (30) من النظام المذكور حيث تنص :(( ب) يقصد هذا الشخص , فيما يتعلق بالنتيجة , التسبب في تلك النتيجة أو يدرك أنها ستحدث في إطار المسار العادي للأحداث)).
، ويشترط ان تكون ارادته سليمة من العوارض أو الضغوط فلا يكون مصاب بمرض نفسي أو عقلي ولا مجبراً تحت ظروف معينة كالضرورة والإكراه . كما تشير اليه المادة (31) بفقرتها الأولى .
3-القصد الاحتمالي : الى جانب القصد العام والقصد الخاص تثور مشكلة مهمة في تحديد عناصر الركن المعنوي هي (القصد الاحتمالي والخطأ الواعي والخطأ غير الواعي) ، ويثور التساؤل عما اذا أخذ به نظام روما أم لم يأخذ ؟، وباستقراء نص الفقرة الثانية من المادة (30) من نظام روما نجد أن البند (أ) منها يقرر قاعدة عامة في المسؤولية الجنائية ، وهي المسؤولية عن الجرائم الداخلة في اختصاصها ، بينما يقرر البند (ب) المسؤولية عن القصد الاحتمالي ، بناءاً عليه فإن العلم ينصب على كافة عناصر الواقعة المادية أي أن الجاني يعلم بأن سلوكه جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد مجموعة من السكان المدنيين ، هذا ما نصت عليه المادة (7) من نظام روما بفقرتها الثانية ، بمعنى أن عنصر العلم مرتبط بالسلوك الجرمي أكثر من النتيجة الجرمية ولا يهم تحققت أم لم تتحقق .
ولم يتضح موقف المحكمة الجنائية الدولية الى الآن من القصد الاحتمالي أو حتى الخطأ الواعي أو غير الواعي رغم أهمية الأخذ بتلك المفاهيم لخطورتها وأثرها الكبير في تحديد المسؤولية الجنائية .
” الفرع الثالث “
” الركن الدولي “
يعد الحق في الحياة أول الحقوق التي اهتمت بها الاتفاقيات الدولية وسعت لحمايتها ، فنص الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948 في مادتيه الثانية والثالثة على حماية حق كل انسان بالحياة والحرية والأمان دون تمييز قائم على أساس الدين أو الجنس أو اللغة أو ما الى ذلك ، كما أكدت عليه الفقرة (1) من المادة (6) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 حيث اعتبرته حقاً متأصلاً وملازماً للإنسان ، ولم يحظَ أي حق آخر بمثل ما حظيَ به هذا الحق في نصوص الاتفاقية ، كما أوجب العهد حماية هذا الحق وأكد على عدم جواز الانتقاص منه حتى في أشد حلات الطوارئ خطورةً ، وقد نصت على ضرورة حمايته عدة مواثيق اقليمية كالاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان ، والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان ، والميثاق العربي لحقوق الانسان ، وغيرها .
وهذه الاتفاقيات لا تحول ما يعتري الحق في الحياة من انتهاكات الى جرائم معاقب عليها قانوناً ، لكنها ذات أهمية في حماية نفس المصلحة التي يحميها تجريم أفعال القتل العمد والإبادة في الجرائم ضد الإنسانية ، كما أنها تولي اهتماماً بعمليات القتل وإهدار الأرواح التعسفي التي تتم على أيدي الحكومات أو بعلم أو توجيه منها ، وهي بذلك تقترب من المواثيق الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية ، فقتل أو اعدام المعارضين السياسيين يعتبر انتهاكاً لحقوق الانسان ويعتبر جريمة ضد الانسانية اذا كان جزءاً من هجوم واسع أو منهجي موجه ضدهم .
وعلى صعيد القانون الدولي الانساني ، فقد جاء اعلان سان بترسبورغ ليمنع استخدام الاسلحة التي تحدث آلاماً لا مبرر لها والتي تقضي حتماً على عدد كبير من المقاتلين كذلك منع استخدام القذائف شديدة الانفجار أو التي يقل وزنها عن 400 غرام ، غير أنه لم يضع تعريفاً للقتل ككسواه من الاتفاقيات الدولية بما فيها اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والبروتوكولين الملحقين بها لعام 1977 ، كذلك أولت اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها اهتماماً بالقتل وجعلته على رأس الجرائم لكنها لم تعطي تعريفاً له ، وأصبح القتل جريمة في مواثيق المحاكم الجنائية الدولية رغم خلو تلك المواثيق من نص يعرفه وتقول لجنة القانون الدولي في معرض مناقشتها للقتل بصفته أحد الأفعال اللاإنسانية لدى محاولتها وضع تعريف للجرائم ضد الإنسانية في المادة 81 من مسودة الجرائم المخلة بسلم البشرية وأمنها لعام 1996 (القتل جريمة معرفة بشكل جيد في القانون الوطني لكل دولة ، وهذا الفعل المحظور لا يحتاج الى مزيد من الشرح) ، وهذا الرأي غير صائب فقد أدى خلو النظام الأساسي لكل من محكمتي يوغوسلافيا السابقة وراوندا من نص يحدد أركان جريمة القتل الى صعوبات بالغة في تحديدها استناداً الى قانون كل دولة تتمثل بالاختلاف في تحديد مفهوم هذه الجريمة ، ولم تعارض أي دولة ادراج القتل العمد على رأس الجرائم ضد الإنسانية في نص المادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية .
وينبغي لاعتبار القتل العمد جريمة ضد الإنسانية أن يكون ضمن هجوم واسع أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين ، والتساؤل يثور هنا ماذا تعني عبارة (هجوم واسع أو منهجي) ؟ الجواب على هذا السؤال نجده في نص البند (أ) من الفقرة (2) من المادة (7) من نظام روما ، كذلك في مذكرة أركان الجرائم الملحقة به ، وفي كلا النصين نجدها تعني ارتكاب متكرر للأفعال المنصوص عليها في الفقرة (1) من المادة (7) من نظام روما (وهو فعل القتل في الجريمة محل البحث) ضد مجموعة من المدنيين عملاً بسياسة دولة أو منظمة أو تحت اشراف أو توجيه منها ، أو تعزيزاً لتلك السياسة . عليه يمكن اعتبار قيام الميليشيات المسلحة في صربية بقتل البوسنيين ، جريمة قتل عمد تنضوي تحت تصنيف الجرائم ضد الإنسانية لكونها ارتكبت بشكل واسع متكرر وموجه ضد السكان المدنيين بعلم من الحكومة الصربية وتوجيه منها .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً