قرارات قاضي التحقيق بشأن المتهم الهارب بالقانون العراقي.
التحقيق لغة ً: هو التمحيص والبحث عن الأدلة للوصول إلى الحقيقة وهو المعنى الاصطلاحي للدلالة على عمل الهيئات القضائية والإدارية، وأي هيئة أخرى حين تتخذ قراراً بالتحقيق فهي تعني الوصول إلى الحقيقة عبر النتائج التي تتمخض عن مجريات البحث والكشف عن أسباب ونتائج الواقعة التي تم التحقيق عن كيفيتها وكنهها وماهيتها، والكشف عن الحقيقة يستدعي الرؤية الحقة لصورة العدالة المرتسمة في خطى الإجراءات المتخذة طبقا ً لقانون أصول المحاكمات الجزائية، ولعل اقتران مفردة الهروب بالمتهم تعني أشياء كثيرة يتخيل للبعض إنها تهد أركان مهمة من ضمانات المتهم في مرحلة التحقيق، والحقيقة و بالمقارنة مع الضمانات التي للمتهم في مرحلة المحاكمة نجد إن هناك نكوص واضح في التعامل مع المتهم الهارب، فالإجراءات القانونية التحقيقية بحاجة إلى وجود الانتداب أو التوكيل لوكلاء المتهم الهارب والسبب واضح وهو إن المتهم هو حلقة مهمة في الوصول إلى الحقيقة وليس بديلا عنها وهو نقطة مهمة وخارطة ترسم للقائم بالتحقيق طريق الوصول إلى الحقيقة، لكننا ومع الأسف نجد إن الاتهام يصير قاعدة ودونه الاستثناء، المقال ليس دعوة للهروب من مواجهة التهمه، بقدر ما هو ارتقاء بالعمل ألتحقيقي وأدواته التي هي منظومة كبيرة من الخبرة والحنكة والدراية وهي أي العملية التحقيقية فن يشير إلى العملية القضائية التي تؤدى بروح الفن ولذلك قيل (القضاء فن)، و جاءت كل المؤلفات العالمية بعنوان الفن مثاله عنوان كتاب( فن القضاء) للقاضي الفرنسي (رانسون) ويقول القاضي البريطاني (سليسر) في تعريفه لفن القضاء:_ هو الصبر على استماع ما يقوله كل طرف من أطراف الدعوى، وليس أجمل من كلمات القاضي (إياس بن معاوية) المعروف بفطنته وذكاءه وفراسته بحيث ذهب مثلا فقيل (أقضى من إياس) للدلالة على فطنته وكياسته القضائية، فهو يقول حين طُلب منه أن يعلمهم القضاء قال (إن القضاء لا يعلم، إنما القضاء فن، ولكن قولوا علمنا العلم) . إن مهمة القائم بالتحقيق هي الوصول إلى الحقيقة بغية تحقيق العدالة التي تظل مهما حاولنا تحقيقها نسبية فالمطلق لاشك يكون مع المطلق وهو الذات المقدسه تجلت في علوها وتساميها، يفهم خطئاً إن المتهم الهارب لا ُيسمع منه أي طلب ولا يُعير القائم بالتحقيق لطلباته أهمية كبيرة بل هو محط شك واتهام، والخطوة الأولى تأتي من اتهامه ومن خلاله و به تستجلى حقيقة الواقعة الجرمية .
ولا نختلف إذا قلنا بان طلبات المتهم هي محل شكوك لدى القضاء، ولكن ليس هناك مانع قانوني من إجابتها أو رفضها وحسب السلطة التقديرية للقاضي رغم أن العرف القضائي دأب على عدم الاستماع أو اعارت الطلبات أي قيمة قانونية في مرحلة التحقيق، وعلى ضوء ذلك نرى بان ضمانات المتهم الهارب في مرحلة التحقيق مخالفة لذات الإجراءات والضمانات في المحاكمة، وما المحاكمة إلا نتاج عملية تحقيقية أجراها القائم بالتحقيق واقتنع طبقا ً للمادة (130) الأصولية إن الأدلة المتحصلة بالدعوى أو القضية المعروضة تكفي لإحالته إلى محكمة الموضوع المختصة، ولعل سائل يسأل هل يستطيع المتهم الهارب الطعن بقرار(أمر القبض) الصادر بحقه من قبل قاضي التحقيق عبر وكيله أو بأي كيفية كانت دون أن يكون حاضراً….؟ الحقيقة، إنه قبل الإجابة على هذا السؤال، لنتمعن في نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23لسنة 1971 وتعديلاته وبخاصة المواد التي تتعلق بهذا الشأن، حيث جاءت المادة (249) لتحدد في فقرتها (أ) الأشخاص الذين يحق لهم الطعن تمييزاً في الأحكام والقرارات وهم (الادعاء العام، والمتهم، والمشتكي، والمدعي المدني والمسؤول مدنيا…) وفي فقرته (ج) تنص لا يقبل الطعن تمييزا ًعلى انفراد في القرارات الصادرة في مسائل الاختصاص والقرارات الإعدادية والإرادية او أي قرار آخر غير فاصل في الدعوى، إلا إذا ترتب عليها منع السير في الدعوى ويستثني من ذلك قرارات القبض والتوقيف وإطلاق السراح بكفالة أو بدونها . والمادة (264) التي أجازت لمحكمة التمييز طلب أي دعوى جزائية لتدقيق ما صدر فيها من إحكام وقرارات وتدابير و أوامر من تلقاء نفسها أو بناء على طلب الادعاء العام أو أي ذي علاقة ويكون لها في هذه الحالة السلطات التميزية المنصوص عليها …..) وأكدت المادة (265) ما نصت عليه المادة (249) مع بعض التوسع في شمول قرارات قاضي التحقيق و تحديد السقف الزمني لمدد الطعن في فقرتها (أ) اما فقراتها (ب وج ود) فقد منحت محكمة الجنايات ذات الاختصاص التمييزي الذي نصت عليه المادة(264). وعلى ضوء القرارات وأحكامها ليس هناك ما يمنع المتهم الهارب من الطعن بقرار القبض الصادر بحقه وعن طريق وكيله ، ناهيك على أن الادعاء العام له ذات الصلاحية بالطعن بقرار القبض الصادر ضد المتهم الهارب اذا رأى ان القرار الصادر بالقبض لايستند إلى موجباته القانونية، إذاً المبدأ إن المتهم يجوز له الطعن بقرار القبض حيث جاءت المادة الخاصة بالطعن والأشخاص مطلقة غير مقيدة، وان المواد التي جاءت لتحكم وضع المتهم الهارب تحدثت عن محاكمته وإجراءات المحاكمة وان كانت هناك قرارات تحقيقيه تعاملت مع وضع المتهم الهارب بمرحلة التحقيق الا ان هذه المواد وهي المادة(121) من قانون أصول المحاكمات الجزائية جاءت ليست لضمانات المتهم الهارب في مرحلة التحقيق وإنما لحجز أمواله بغية الضغط عليه لتسليم نفسه قبل إحالته إلى المحاكمة ولم نلاحظ سوى المادة (135) من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تشير إلى إحالة المتهم الهارب على المحكمة المختصة عندما لم يتسنى القبض على المتهم واستنفذت كل طرق الإجبار وأضافة عبارة مهمة في النص وهي (وكانت الأدلة تكفي لأحالته على المحاكمة) بمعنى ان شخصية المتهم الحاضر او الهارب ليست معيارا في تقدير الدليل رغم ان المتهم الحاضر قطعا سيعطي صورة واضحة في رؤية التحقيق ومساره بشكل افضل من المتهم الهارب، ولنعود إلى فحوى النصوص التي نرى بان هناك استحالة في تقديم المتهم لهذا الطلب فتقديم الطلب يعني وجوده في ساحة المحكمة وحين ذاك سيكون أمام الإجراءات المتخذة بحقه، لذلك يبرز دور الوكيل وهو المحامي حيث يقوم بتقديم طلبات المتهم الهارب وطبقا لوكالة عامة حيث أن الوكالة الجزائية الخاصة بالدعوى تقتضي حضور المتهم أمام قاضي التحقيق أو الإشارة إلى صحة توقيفه حين يكون موقوفا، إن تعامل المحكمة مع هذه الطلبات هو محور المقال وهناك آراء متعددة بعضها لايسمع طلبا لأي متهم أو وكيله طالما كان المتهم هاربا، وعلى المتهم الحضور للدفاع عن نفسه أمام المحكمة، والرأي الأخر يرى بان طبيعة الطلب هي من تحدد الإجابات التي تتخذها المحكمة فقد تكون الطلبات مساعد مهم بكشف حقيقة الواقعة التي يتم الإخبار عنها ففي إحدى القرارات الهامة لمحكمة جنايات ذي قاربصفتها التمييزية بالعدد 585- ت – 2009 وتاريخ 25-8-2009 على اثر الطعن بقرار قاضي التحقيق الذي رفض طلبا لوكيل المتهم الهارب وفق المادة(421) من قانون العقوبات العراقي والذي عرض فيه وكيل المتهم عقد زواج للمتهم والمخطوفة وطلب تدوين إفادة المخطوفة أمام قاضي تحقيق المحكمة التي أبرمت العقد الا ان قاضي التحقيق رفض ذلك كون المحامي وكيل متهم هارب ووكيل المتهم الهارب لاينظر بطلبات موكله حتى يسلم نفسه ويواجه التهمة المسندة إليه، وقد جاء المبدأ المهم للقرار التمييزي والذي تضمن فحواه في ان يكون قاضي التحقيق متسعا ورؤاه واسعة في الوصول إلى الحقيقة واستندت المحكمة إلى نص المادة (165) من قانون اصول المحاكمات الجزائية التي تنص (للمحكمة أن تنتقل لأجراء الكشف او التحقيق اذا تراءى لها ان ذلك يساعد في كشف الحقيقة…) حيث جاء في نص القرار(حيث ان اقوال المجنى عليها المذكورة ذات اهمية للوقوف على حقيقة الفعل المرتكب عليه قررت المحكمة التدخل تمييزا في القرار المذكور ونقضه) الأمر الذي حقق معالم تحقيقية واسعه في استجلاء الحقيقة وتحقيق العدالة، إن النظر إلى صفة المتهم الهارب دون موضوع الطلب هي نظرة تحقيقية قاصرة يسير العرف القضائي عليها، وعليه التعامل معها مضمونا ومحتوى رغم ان بعض الطلبات قد تكون غايتها تحقيق مركز افضل للمتهم حتى لو كان ذلك بتحريف مسار العملية التحقيقية، ومثل هكذا طلبات ليست بعيدة عن ذهنية وخبرة القاضي الحصيف والجيد ووجود هذه الطلبات قد تكون مفتاحا لرؤية في مجال التحقيق تحصل عليها المحكمة رغم عدم حضور المتهم، ان التحقيق هو المشهد الأولي والمقدمات الهامة في رؤية القضية وخنقه في خانات الأعراف والخطوط التي تسير عليها الإجراءات بالصورة الشكلية دون استفزاز خاص لروح النص الجزائي الذي يستعصى على التأويل لكنه يقر البناء على الاستنتاج والقرينة إذا كانت في نفس مجريات القضية موضوع التحقيق وبذلك يكون التحقيق القضائي الصورة الحية العاكسه للجهد عند عرضها أمام أنظار المحكمة المختصة وليست صورة الروتين والقصور والمقال دعوة للخروج من دوامة المألوف إلى استجلاء واكتشاف قراءة القانون ككل والنص والمادة كجزء وتحقيق إضافات عملية مهما كانت بساطتها أو حتى موضوعها لان العدالة تأتي أحيانا من أشياء صغيرة جدا وهو ما يؤكد عليه علم التحقيق.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً