القانون والعدالة قيمة مطلقة لا مجرد نصوص
القاضي صباح الداوودي/ عضو الإدعاء العام في اقليم كُردستان العراق – السليمانية
هناك فرق شاسع بين القانون كروبوت مبرمج وبين روح القانون وهي الحكمة النهائية من سنه وتشريعه, فالروبوت لا روح فيه والروح هي الحياة.
روح القانون تمثل غاية لا يمكن بلوغها من اي احد كان بل يبلغها المتمرسون بالعلم والحكمة والمتمترسون بالدراسة الدقيقة لعلوم القانون والمتخبرون لمجالات الحياة وهذه الشروط وإن وجدتها نظريا سهلة المنال إلا أنها صعبة الى حد عدم القدرة على الحصول على واحد من الألف من بين البشر يستطيعون بلوغها او نيلها.
كثيرا ما يحدث أن يقع حادث إطلاق نار او شجار دموي بين عائلتين او شخصين او فئتين يحدث أن تقع ضحايا قتلى نتيجة ذلك وفي الوقت الذي تحتم النصوص القانونية العقابية إنزال عقوبة الموت بالجاني او من تثبت عليه تهمة جريمة القتل مع سبق الإصرار والترصد إلا إننا رأينا في الكثير من الحالات إن العائلتين عائلة الجاني وعائلة المجنى عليه يتصالحون وتدفع إحداهما لأخراهما دية تقررها العشائر والقبائل والوجهاء الذين يتدخلون لرأب الصدع وقد يحدث أن تُفرض على قبيلة الجاني تزويج إحدى بناتها من شقيق للمجنى عليه او قريب له !!,, كل هذا رأباً للصدع, وكل هذا والتحقيق في الجريمة مستمرة !!,,تنتهي إجراءات التحقيق ويحال المتهم الى محكمة الجنايات وبينما يتوقع رجل القانون المجرد من مفاهيم روح القوانين والمتمسك بشدة بروبوتية القانون بأن الجاني سوف ينال عقوبة الموت نرى أن المحكمة قد تحكم على الجان بعقوبة أخف من عقوبة الإعدام بأن تكون السجن المؤبد او السجن لمدة تتجاوز الخمسة عشرة سنة, أو ربما قد تلجأ المحكمة المختصة الى تطبيق نصوص قانون صادر بالعفو العام وتشمل بعض نصوصه المتهم او الجان بالإعفاء أو التخفيف عنه كما يحدث عادة في بعض بلدان الشرق ومنها العراق أيضا.
من يعتقد بأن القانون هو عبارة عن نصوص مدونة مقننة ويجب تطبيقها حرفا دون اي ميل للأخذ بنظر الإعتبار جانب الحكمة النهائية من وجود القانون في المجتمع وسيادته وسمو القضاء به وهو الجانب الملامس لمفهوم روح القانون وروح العدالة أيضا كتلامس الرأي الأول لنصوص العدل فإن ذلك الاعتقاد إنما هو نتاج التقيد المتزمت بالنصوص الجافة دون الإسباغ عليها من بصمات روح القانون ورغم أن التطبيق الحرفي للنص لا يؤاخذ عليه أحد إلا أن الإسباغ والاقتباس من روح القانون عند تطبيق النص العقابي وتفعيل آليات الاستناد الى نصوص المواد الراسمة لمديات وحدود الاعذار المخففة بدل التمسك بالظروف المشددة دون إيلاء أعباء الحياة في المجتمع والتي تعمل عملها في الناس عموما وفي بعض شخوص الجرائم خصوصا كل هذا إنما هو من قبيل الاستنباط السليم من منهل روح القانون ومن قيم العدالة واللتان تلتقيان في النهاية من حكمة وجود القانون كما ذكرنا.
إن كنت مؤمنا بروبوتية القانون فالقرار المنطوي على السخاء في الرأفة بالمدانين هو قرار خاطئ وإن كنت مؤمنا بأن المقصود بالقانون هو روح القانون وليس شكله ونصوصه العصية فالقرار صحيح وعادل وموافق للقانون.
لا يمكن محاججة القاضي الذي قرر التوسع في منح الأعذار المخففة حجما اكبر من حجمها الحقيقي المتحقق عند كل واقعة جرمية بتفاصيلها وبالتالي الرأفة بالمتهم الجان والقول بأن اجتهاده خاطئ وفق حجج النصوص الجافة لأن القاضي والمحكمة المختصة إنما كانا قد توخيا روح القانون وأراد القاضي تطبيق القانون روحاً ايضا, لا فقط لأجل ذاته وإنما لأجل غاياته ايضا , فالغاية من وجود القانون ليست هي العقوبة فقط وإنما الاستمرار في استتابة الأمن والاستقرار في المجتمع .
العدل, العدالة, القانون العادل, القضاء العادل, تعبير عن عناوين تمثل العدل باعتباره القيمة المطلقة لا مجرد قيمة معنوية مضافة الى بقية القيم ,,العدالة والعدل هي دين أيضا كبقية الأديان فمن تحرى العدل ومن سن القانون العادل ومن طبقه بعدل متوخيا العدالة فهو على دين, حتى لو لم يكن على اي دين آخر وهو فرض مطروح كمثال .
لو أمعنا النظر في الآية الكريمة (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) !! ,,فإننا سوف نرى بأن يوسف (ع) لم يكن باستطاعته وهو قد كان بمثابة رئيس وزراء في تلك المملكة ان يأخذ أخاه في دين الملك, ما هو دين الملك ؟! قانونه ,, نعم قانونه ,, قانون ذلك الملك ومملكته كان يمنع تقييد حرية انسان من دون سبب او مسوغ قانوني وبغير قرار من القضاء وهنا نرى أنه سبحانه وتعالى قد وصف قانون ذلك الملك بالـ(دين) رغم أن غالبية التفاسير تذهب الى كون ذلك الملك غير موحد !!, أي إن الملك لم يكن متديناً في أفضل حالاته ولكنه كان محباً للعدالة ومؤمنا بالعدل ولهذا جاءت قوانينه لتمنع تقييد حرية إنسان ما من دون سبب قانوني ومن دون قرار قضائي.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً