استقلال القضاء
القاضي محمود جاموس
محكمة استئناف القدس
لقد عانت المنطقة العربية ومنها فلسطين وما زالت من اضمحلال استقلال القضاء في مواجهة تجبر بعض رجال السلطة التنفيذية من سياسيين وإداريين وعسكريين بل وحتى رجال المال والنفوذ لأن مشكلة استقلال القضاء هي إحدى أهم المشكلات المعاصرة في عالمنا العربي.
وللحديث عن استقلال القضاء لابد بداية من التطرق إلى مبدأ الفصل بين السلطات والذي يعني التقسيم العضوي لسلطة الدولة بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وذلك بتقسيم الأعباء العامة عليها كل حسب تخصصها ووظيفتها بما يضمن الأداء الأمثل لأجهزة الدولة ويحول دون تركيز السلطات في يد شخص واحد أو جهة واحده بما يهدد الحقوق والحريات ويشيع الاستبدادية في الحكم.
هذا المبدأ الذي كان نتاجاً لسنوات طويلة من الاستبداد وظلم الحكام للمحكومين في أوروبا منهياً بذلك عصر السلطة المطلقة للحاكم ومقسماً للصلاحيات والسلطة بين أكثر من سلطة وجهاز لإيجاد جو من الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة والحد من الفساد والتسلط.
إن أول من نادى بهذا المبدأ هو الفقيه الفرنسي “مونتسكيو” في كتابه روح الشرائع الذي جاء متأثراً بروح الثورة الفرنسية ليحدث فيما بعد ثورة قانونية وسياسية غيرت مفهوم الأجيال اللاحقة لسلطة الحاكم، ومعنى الدول حيث انطلقت فكرة “مونسكيو” من قاعدة تمادي أصحاب السلطة في استخدام صلاحياتهم تمادياً لا يحكمه قانون أو أخلاق، فاستخلص أن لا سبيل لرد هذا التمادي والتعدي على الحقوق إلا بتقسيم سلطة الدولة بين ثلاث سلطات مستقله تمارس كل منها دور الكابح للسلطتين الأخريين وتتخصص في مجالات محددة بنصوص الدستور فالحديث عن مبدأ الفصل بين السلطات يقتضي الحديث عن استقلال تلك السلطات في تشكيلها ونشاطها وتوازي نفوذها وتكامل أدائها.
إن استقلال السلطة القضائية كسلطة قائمة بذاتها هو عنصر أساسي في مبدأ الفصل بين السلطات والمبدأ الذي تجمع عليه كافة النظم الديمقراطية وأنظمة الحكم الرشيد كأساس لتقدم الدولة وإرساء قواعد المجتمع العادلة وسيادة القانون ليكون استقلال السلطة القضائية بذلك أساساً لتقدم الدولة وإرساء العدالة في مجتمعها وحامياً للقانون.
لقد أقرت الأمم المتحدة الوثيقة الخاصة بالمبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، وهي الوثيقة التي تنطلق من فكرة قانونية وواقعية تتمثل بعدم إمكان إقامة العدل وتوفير شروطه بمعزل عن وجود استقلال حقيقي وفاعل للسلطة القضائية، وبذلك جعلت الأمم المتحدة من استقلال القضاء تشريعا دولياً محترماً واجب التطبيق من الدول الأعضاء وحيث أن السلطة الوطنية الفلسطينية ككيان سياسي جزء من المنظومة السياسية العالمية، وهي باعتبارها السلطة السياسية في دولة فلسطين القادمة وباعتبار ما لمرجعيتها -منظمة التحرير الفلسطينية- من موقع في الأمم المتحدة فقد التزمت السلطة الوطنية بما أقرته منظمة الامم المتحدة بخصوص استقلال السلطة القضائية والأخذ بهذا المبدأ ليصبح واقعاً على الاراضي الفلسطينية، إن السلطة الوطنية الفلسطينية تسلمت جهازاً قضائياً شبه منهار من قبل سلطات الاحتلال التي لم تعر هذا الجهاز أي اهتمام من أجل تطويره والقيام بواجباته المنصوص عليها بالقانون، واستمر هذا الحال لسنوات بعد ذلك بوتيرة إصلاح بطيئة جدا. إلا أن عملية الإصلاح القضائي بدأت منذ نهاية عهد الرئيس الراحل المرحوم ياسر عرفات، وهذا ما يبدو جلياً في خطابه إلى المجلس التشريعي بتاريخ 15/5/2002، إلا أن هذه العملية لم تنجح بفعل إعادة احتلال الجيش الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية. لكن عملية إصلاح القضاء أخذت منحاً جديداً بانتخاب الرئيس محمود عباس بداية عام 2005 فقد عبر منذ توليه الرئاسة في خطابه الاول عن اهتمام جلي بالقضاء قائلاً (لقد بدأنا مسيرة الإصلاح وهي مسيرة مستمرة وستستمر بإذنه تعالى.
إن اصلاح وتطوير القضاء هو من الأولويات لتمكين السلطة الوطنية من أداء دورها في خدمة مصالح شعبنا الفلسطيني) كما أكد على الفصل بين السلطات وسيادة القانون في أكثر من موضع في خطابه كما أن قانوننا الأساسي ينطق في كل ركن منه باستقلال السلطة القضائية جاعلا منها ركيزة لنظام السلطة الوطنية الفلسطينية والدولة الفلسطينية المرتقبة الأمر الملاحظ في المواد الأتية:
ماده رقم 2 – تبنى المشرع الدستوري الفلسطيني رسمياً وفي مواده الاولى مبدأ الفصل بين السلطات.
كما أفرد المشرع الباب السادس من القانون الأساسي كاملاً لتنظيم السلطة القضائية استقلالاً حيث يبدأ الباب السادس بأول مواده بعبارة (السلطة القضائية مستقلة) أنه ليس بالأمر الهين إيجاد تعريف محدد لاستقلال السلطة القضائية فهو مزيج من مبدأ قانوني وواقع على الأرض لا يعرف بذاته، وإنما يعرف بأوصافه ويعرف استقلال السلطة القضائية أولا بأن السلطة القضائية ليست وظيفة عامة تديرها سلطة الحكم في الدولة، وإنما سلطة عامة قائمة بذاتها مستقلة عن غيرها من السلطات مراقبة لها وتمارس مهمة التقويم والمحاسبة لردها لجادة الصواب عند جنوحها فهي سلطه مساوية في القيمة والتأثير مختلفة في الوظيفة عن شقيقتيها السلطتين التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية إضافة لدورها الموازي لدور السلطتين الاخريين فإنها راعي العدالة في الدولة وحامي الحقوق والحريات العامة والخاصة للأفراد كما أن استقلال السلطة القضائية يعني بالضرورة استقلال أفرادها حماة العدالة كفرد هو نواة السلطة القضائية وصانع التأثير والقرار فيها.
لذلك على القاضي أن يعمل على صيانة استقلال سلطته بالدفاع عنها باعتباره جزءاً أساسيا من سلطة مستقلة لا موظفا عاما يتبع الحكومة وينصاع لرغباتها غير المحقة، فاستقلال السلطة القضائية لا يتحقق إلا باستقلال القاضي الفرد في سلوكه وقراراته ودفاعه عن سلطته والتزامه الحياد والموضوعية وإهمال الميول والأهواء الشخصية، والتجرد من كل المصالح التي قد تهدد استقلاله سياسية كانت أم عائلية ام فئوية أم منافع شخصية، واستقلال السلطة القضائية يعني حرية الرأي والاجتهاد واتخاذ القرار سواء على مستوى السلطة أو على مستوى القاضي الفرد، فالقضاء وجد ليكون الفاصل في نزاعات السلطات والأفراد ومرجعه في ذلك ضميره الحي وقواعد القانون ومبادئ العدالة فأي اعتداء على حق القضاء أو القاضي في الاجتهاد أو الاختيار أو اتخاذ القرار، هو اعتداء على استقلال السلطة القضائية له تبعاته المريرة على استقرار المجتمع ومنسوب العدالة فيه.
ان التأمل في وظيفة القضاء واستنتاج ذلك بتحليل هذه الوظيفة قانونا يدفعنا الى القول بعدم استقامة اداء القضاء الا باستقلاله لقد وجد القضاء ممثلاً للعدالة فالقاضي هو الملجأ الاخير لا حقاق الحق وتفنيد الباطل ولا يتوجه اليه الا اطراف تعذر الصلح بينهم ان مهمة القضاء مرتبطة وجوداً وعدماً باستقلاله فحراسة الدستور المنوطة به والفصل في المنازعات بين أجهزة الدولة وحماية حقوق الافراد من ظلمهم لبعضهم البعض وجبروت الدولة بل وحتى استقرار النظام السياسي ” نظام الحكم” في أي دوله مرتبط بقوة القضاء واستقلاله ونحن الفلسطينيون احوج الشعوب الى سلطه قضائية مستقله وان الكتابة في هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات هو محاولة بعض رجال السلطة التنفيذية في هذه الايام بالتدخل في الشأن القضائي من خلال محاولة سحب صلاحيات مجلس القضاء الاعلى لصالحهم الامر الذي لا سمح الله ان حصل لهو أمر جلل والذي سيجعل الكثير من الدول والمنظمات الحقوقية بالعالم تضعنا موضع انتقاد خاصه واننا قطعنا شوطا كبير نحو استقلال قضائنا الفلسطيني وان الأمور تسير الى الامام وليس الى الخلف.
ان استقلال السلطة القضائية يجب على كل رجل قانون في فلسطين مهما كان موقعه ان يدافع عنها سواء كان قاضيا او محاميا او عضوا في النيابة او موظفا في السلطة القضائية او اكاديميا بل هو حتى واجب على طلاب القانون في كليات الحقوق في الجامعات الفلسطينية فرسالة هؤلاء واستقرار عملهم مرتبط باستقلال واستقرار القضاء الفلسطيني هذا جانب ومن جانب اخر وحيث ان الحديث يكثر في هذه المرحلة على اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعدة وعود سياسيه فلسطينيه ودوليه مما يقتضي منا كرجال قانون ان نوقف هؤلاء الذين يحاولون ارجاعنا للخلف عند حدهم ان نحافظ على قدسية محراب العدالة ووفاره ومهابته واستقلاله وان نسعى لترسيخ اقدام العدالة لتنمو مع نمو الدولة ويستقل قضائنا الفلسطيني مع استقلال دولتنا لا نه بغير ذلك لن تكون دوله.
اترك تعليقاً