قضــاة ومحامــون
بقلم : القاضي مازن سيسالم
عضو المحكمة العليا – غزة
وثيقة هي الصلات التي تجمع بين القضاء والمحاماة ذلك لان لكل من القاضي والمحامي رسالة سامية يكمل بعضها بعضا.
رسالة القضاء هي إقامة العدل بين الناس. وهي مهمة قدسية تستمد وجودها من النيابة عن المجتمع الإنساني في إعطاء كل ذي حق حقه والانتصاف للضعيف والمظلوم.بل هي المهمة الأولى للدولة:
( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق).
والآية الحكيمة التي تزين ساحات المحاكم:( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). تبين لنا مدى قدسية الرسالة التي يؤديها القاضي. وأي مهمة أعظم وأسمى من القضاء العادل الذي يطمئن الناس في ظله على أرواحهم وحقوقهم وحرياتهم وأموالهم.
ومنذ إن وجد القضاء في المجتمعات المتحضرة وجدت المحاماة، أي وجد الدفاع عن أصحاب الحقوق أمام القضاء.فليس ممكنا للقاضي أن يتبين وجه الحق فيما يثار أمامه من خصومات ذات شان إلا إذا وجد المعاونة من المحامي الذي يبحث ويجهز عناصر الدعوى من ناحية الوقائع ومن ناحية القانون، ويحضر مستنداتها ومسوغاتها، ويشرح حقائقها وأسرارها. وكذلك يفعل محامي الخصم في كل دعوى ترفع عليه.فإذا ماعرضت أمام المحكمة وجهة نظر الخصمين بوساطة المحامي عن كل منهما أمكن للقاضي أن يتعرف حقائق الدعوى وملابساتها فيقضي بالحق لصاحب الحق.
فالمحاماة هي عون القضاء في الوصول إلى الحكم بالعدل.كلاهما يسهم بقدر معلوم في إقامة العدالة في المجتمع، ذلك الصرح الشامخ الذي هو الركن الركين للحضارة الإنسانية. وقديما قالوا: العدل أساس الملك.
من اجل ذلك قام التعاون بين القضاء والمحاماة. ووجدت تلك الصلة الروحية التي تجمع بينهما.
بل إن هذا التعاون والترابط ليبدو جليا في أن كلا من المحاماة والقضاء يغذي يعضهما بعضا ويتبدل أفرادهما بين الحين والآخر.فالمحامي قد يكون قاضيا، والقاضي قد يكون محاميا، ولا يشعر أيهما انه غريب على الوسط الذي ينتقل إليه لأنهما أفراد أسرة واحدة تعمل لغرض واحد هو خدمة الحق والعدل والقانون.
ويتجلى هذا الترابط أيضا في انك ترى في كل امة تشابها وتقاربا بين مستوى القضاء ومستوى المحاماة.فكل تقدم في المحاماة يظهر مثله في عالم القضاء. وكل تقدم في القضاء يبدو صداه في دنيا المحاماة. ولا غرابة في ذلك فكلاهما من بيئة واحدة بيئة العدالة و القانون. ولا يمكنك أن تجد في أي بلد من البلدان فارقا جوهريا بين مستوى القضاء ومستوى المحاماة.
إذا أردت أن تتبين مدى الصلة والتلازم بين القضاء و المحاماة فتصور قضاء بلا محاماة، أو محاماة بلا قضاء. انك لا شك موقن بعد إطالة النظر و التأمل بان القضاء لا يستطيع أن يؤدي رسالته بغير المحاماة. وان المحاماة تصبح عديمة الجدوى إذا لم تؤدي رسالتها أمام القضاء ولم تجد من يحسم الخصومات بالحق لصاحبه.
من اجل ذلك أوجبت الشرائع وكالة المحامي عن صاحب الحق في الدعاوى ذات القيمة وأوجبت ألا يحاكم متهم في قضية جنائية إلا إذا دافع عنه محام، وإذا لم يكن له محام موكل من قبله ندبت له المحكمة محاميا يدافع عنه وتبطل المحاكمة إذا لم يحضر عنه محامي.
فالقضاء والدفاع لا غنى لأحدهما عن الآخر. وهما شركاء في إقامة ميزان العدالة، شركاء في الثقافة، شركاء في الحياة القانونية، شركاء في الهدف، شركاء في العمل مع توزيع في نواحي العمل بينهما.
وهما شركاء في التضحية. فللقضاء ضحاياه من القضاة، وللمحاماة ضحاياها من المحامين، فكم من قضاة يضحون بصحتهم وحياتهم في أداء مهمتهم السامية ويرهقهم العمل إلى درجة الإعياء ثم الاستشهاد. وكم من محامين يضنيهم الجهد وإدبار الحظ وتنكر الناس لهم ممن خدموهم وبذلوا لهم عصارة حياتهم فيسقطون ضحايا المهنة دون أن يعلم بتضحياتهم إلا القليلون. وبعضهم يسقطون شهداء في ربيع الحياة أو في ساحات القضاء. فهؤلاء وأولئك هم ضحايا المحاماة المجهولون شانهم في ذلك شان الضحايا من جنود الوطن المجهولين.
للقضاء دستوره وتقاليده، وللمحاماة دستورها وتقاليدها، وإذا أدى كل منهما واجبه استقام ميزان العدل واطمأن الناس على حقوقهم.وأول واجبات القاضي أن يتحرى الحق في كل قضية تعرض عليه و يبذل الجهد في البحث و الدرس توصلا إلى الحقيقة، وان يساوى بين الناس في مجلسه، فلا ييأس الضعيف من عدله، ولا يطمع القوى في ميله. وان أعظم فضيلة للقاضي أن يأخذ للضعيف حقه من القوى وينتصف للمظلوم ممن ظلمه، وان يضع الأمور في نصابها ويقر الحقوق لذويها وإلا يتأثر بذي جاه أو سلطان، ولا يخشى في قضائه إلا الله احكم الحاكمين.
قال عليه الصلاة والسلام:(سوّ بين الخصمين في لحظك ولفظك.فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقض حتى تسمع كلام الآخر كما سمعت كلام الأول فانه أحرى أن يتبين لك وجه القضاء).
ومن خطبه لأبي بكر الصديق تناول فيها دستور الحكم والقضاء:(القوىّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه.والضعيف فيكم قوىّ عندي حتى آخذ الحق له).
بهذه القواعد الذهبية يؤدى القضاء رسالته ويحقق المهمة السامية التي عهدت إليه.
ومن مزايا القاضي أن يتذرع بالهدوء وضبط النفس وسعة الصدر في الاستماع إلى الخصوم.فان ذلك ادعى أن يستبين وجه الحقيقة وسط التيارات المتعارضة التي تزخر بها المنازعات. وإذا كانت الحماسة من طباع المحاماة وفضائلها فالهدوء والاعتدال من خصائص القضاء وفضائله.
وعلى القاضي والمحامي أن يتبادلا الاحترام والتقدير وبذلك يؤدي كل منهما واجبه في يسر وكفاية وتعاون. وعلى المحامي أن يبدأ القاضي بالاحترام. فان احترامه إياه ليس مقصودا منه شخص القاضي في ذاته، بل هو موجه إلى فكرة العدالة في سموها وروعتها، واحترام العدالة يعزز مكانتها وييسر لها أداء رسالتها.
ومن أول واجبات المحامي أن يتمسك بالأخلاق القويمة، فالمحاماة علم وخلق، ونجدة وشجاعة، وثقافة وتفكير، ودرس وتمحيص، وبلاغة وتذكير، ومثابرة وجلد، وثقة في النفس واستقلال في الحياة، وأمانة واستقامة، وإخلاص في الدفاع.
وعلى المحامي أن يغرس في نفسه حبه للمحاماة وتقديره لها. فان هذا ادعى إلى التعلق بالمثل العليا في ممارستها والتمسك بتقاليدها الصالحة التي ترفع من شانها وشان من يزاولها. وان حب المحامي لمهنته واحترامه إياها واعتزازه بها كل ذلك كفيل بان يجعل منه محامياً نابهاً، ثم محامياً كبيراً، ثم علماً من أعلامها.
وللمحامين بعضهم على بعض واجبات الزمالة والاحترام المتبادل يستوي في ذلك المحامي الكبير والمحامي الناشئ، وهم جميعاً سواسية في وجوب التواد والتعاطف وان تربطهم على الدوام صلات الصفاء والود والإخاء.
هذه صورة بليغة رائعة تشير إلى مدى العلاقة التي تربط القضاء بالمحاماة سطرها بقلمه الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي نقيب محامي مصر الأسبق، في معرض تقديمه لكتاب يحمل ذات العنوان يعتبر بحق خير ما كتب في هذا الموضوع، نشر في ايطاليا سنة 1936 ترجمه إلى العربية سنة 1957 المحامي حسن جلال العروسي، وهو عبارة عن لوحة قلمية من أدب القضاء رسمها مؤلفه الفقيه الايطالي الكبير بيرو كالمندري الذي اجتمعت له مؤهلات ومواهب قلّ أن امتزجت وتناسقت في شخص بعينه، فهو أستاذ، محامي، مدير جامعة، موسيقي، أديب ورسام يحدثنا فيه عن أن أول واجبات المحامي هو الإيمان بالقضاء، وعن آداب السلوك في المحكمة، وعن أوجه الشبه و التباين بين القاضي والمحامي، وعن الخطابة القضائية و ما ينبغي أن تكون عليه، وعن متاعب القضاة والمحامين النفسية وتضحياتهم، وقد عالج في الفصل الأخير المصير المشترك لكل من القاضي والمحامي فهو يتصورهما في خياله يلتقيان فيتناجيان ويتشاكيان و يتعاتبان، وقد أدركتهما الشيخوخة وبلغت رسالتهما في الخدمة غايتها، فاعتزلا والتقيا كزميلين وصنوين يستعرضان مصيرهما المشترك ورصيد عمريهما، وما أخذاه من الدنيا، وما بذلاه، فلم يلبثا أن وجدا نفسيهما لأول مرة جنبا إلى جنب، لأوجها إلى وجه، يربطهما هدف واحد، ومصير واحد، وفلسفة حياة واحدة.
ويلخص المحامي حاله فيقول:
“…. هذه حياتنا يا أخي القاضي إذا قصرت استنفدتنا بانطلاق لا يعرف التريث.وجهد موصول لا يعرف الراحة،و إذا استطالت أسلمتنا للنسيان، والضياع والجحود… هذا مصيرنا، مصير عجيب، و أعجب ما فيه أنني ما كنت لأغيره لقاء كنوز الأرض لو قدر لحياتي أن تبدأ من جديد”.
ويلخص القاضي بدوره فلسفة حياته فيقول:
“…فما احسب أن بين وظائف الدنيا وظيفة تخدم قيام السلام بين الناس أكثر مما تخدمه وظيفة القاضي، فلكل جرح من جروح البشرية عنده دواء ناجع اسمه العدالة…. وهذا وحده حسبى لتُفعم حياتي بهجة وسعادة وسكينة… أما يكفيني أن اطمئن نفسا إلى أنني قضيت الشطر الأعظم من حياتي البشرية القصيرة في توفير سعادة العدالة للنفوس الظمأى إليها، وأسهمت في إرساء قواعد السلام والإيمان بالحق والخير في نفوس الناس.
فإذا كانت هذه هي العلاقة بين القضاة والمحامين وكانوا على هذا النحو أفراد أسرة واحدة فمن الخير لنا جميعا قضاة ومحامين أن نعمل جاهدين على توطيد هذا التعاون من اجل إحقاق الحق وإقامة منار العدل وتأكيد تلك العلاقة التي تجمع بيننا لما يعود به ذلك من نفع على ترسيخ مبدأ سيادة القانون في فلسطيننا العزيزة والنهوض بمرفق العدالة. سيما وان مشرعنا الفلسطيني قد أكد هذه الصلة في قانون
اترك تعليقاً