الاحكام الغيابية و امكانية الطعن فيها من قبل المحكومين الغائبين
إيمانا منه بأنّ الحكم الغيابي لا يمكن بحال أن يرقى إلى درجة الحكم الحضوري( ) خوّل المشرّع للغائب الذي لم يحضر جلسة المحاكمة الاعتراض على الحكم الغيابي (فقرة أولى) ولكنّه وفي الآن نفسه حرم المتهم الذي لم يحضر بالجلسة وكان قد بلغه الاستدعاء شخصيّا من اللّجوء إلى هذه الوسيلة والطعن في الحكم الذي صدر في غيابه ولم يمنحه سوى إمكانية الطعن فيه بالاستئناف أو التعقيب إن كان الحكم المعتبر حضوريا صدر نهائي الدرجة (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى : حق المتهم في الاعتراض على الحكم الغيابي :
يعتبر الاعتراض وسيلة من وسائل الدّفاع التي وفرّها المشرّع للمتهم الذي لم يتمكّن من تبليغ صوته للمحكمة وذلك لأنّ الاستدعاء لم يبلغه شخصيّا بل بلغه بواسطة( ).
ويعدّ الاعتراض وسيلة طعن عادية و”طريقة إعادة” « voie de rétraction » تهدف إلى إعادة النظر في الدعوى أمام نفس المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي( ) وفي هذا يختلف الاعتراض عن الاستئناف الذي يعتبر طريق تغيير وإصلاح « voie de réformation » والذي قد يكون المتهم حاضرا بالجلسة في الطور الابتدائي ودافع عن نفسه لكنه يرى بأن المحكمة لم تجانب الصواب في حكمها فيطعن فيه لأسباب واقعية أو قانونية( ). وبالرغم من أنّ الاعتراض هو من حق كل من حكم عليه غيابيا فإنّ ممارسته تخضع إلى إجراءات دقيقة وجب اتباعها (أ) وإلا فقد المتهّم حقّه في الاعتراض على الحكم الغيابي. أما إذا مارس هذا الحق في الآجال وبالشروط المحدّدة قانونا فإنه يترتّب عن الاعتراض نتائج قانونية هامّة (ب).
أ- إجراءات الاعتراض :
يمكن تقسيم إجراءات الاعتراض إلى إجراءات قبل الجلسة الاعتراضية (1) وأخرى بالجلسة (2).
1- الاجراءات قبل الجلسة الاعتراضية :
* آجال تقديم الاعتراض :
من خلال قراءة أحكام م اج التي تنظّم إجراءات الاعتراض على الحكم الغيابي نتبين أن المشرّع يميز بين عدة آجال للإعتراض، إذ يوجد أجلين قصيرين (٭) مقارنة بالأجل الطويل (٭) الذي منح للمتهم إلى حين سقوط العقاب بمرور الزمن.
٭ الأجلان القصيران :
ينص الفصل 175 م اج فقرة ثالثة أن “الاعتراض على الحكم الغيابي يقدّمه لكتابة المحكمة التي أصدرته المعترض نفسه أو نائبه في العشرة أيام الموالية لتاريخ الاعلام…” وتنص الفقرة الرابعة منه “إذا كان المعترض قاطنا خارج تراب الجمهورية فإن الأجل يكون ثلاثين يوما”.
إذن يمنح المشرّع للمتهم المحكوم عليه غيابيّا القاطن بالتراب التونسي أجل عشرة أيام لتقديم اعتراضه، ويصبح هذا الأجل شهرا واحدا إذا كان المحكوم عليه يقطن بالخارج.
ويبتدئ سريان هذا الأجل من تاريخ الاعلام الموجّه للمحكوم عليه. ولكن المشرّع لم يحدّد بصفة دقيقة إلى من يبلّغ هذا الاعلام. يفهم من أحكام الفصل 176 م ا ج أن الأجل المذكور لا يبتدئ سريانه إلاّ إذا بلّغ الاستدعاء إلى شخص المتهم أو “إذا تبيّن من أعمال تنفيذ الحكم أن المظنون فيه حصل له العلم به”( ). ولكن ماذا يقصد المشرّع بعبارة “أعمال تنفيذ الحكم”؟
لقد اعتبرت محكمة التعقيب “أن بلوغ الاعلام بالحكم إلى مقرّ المحكوم عليه لا يعتبر عملا من أعمال التنفيذ وأنّ عدم استخلاص مبلغ الخطيّة المحكوم به قرينة على أنّ المتهم لم يحصل له العلم بالحكم”( ).
وبذلك يمكن القول أنّ المقصود من عبارات “أعمال تنفيذ الحكم” هي الأعمال التي يمكن أن نستخلص منها حصول العلم اليقيني للمتهم بمضمون الحكم، ويعتبر من أعمال التنفيذ خلاص الخطيّة من طرف المحكوم عليه( ) .
ويعتبر كذلك من أعمال التنفيذ قيام القائم بالحق الشخصي بأعمال تنفيذ الناحية المدنية من الحكم الصادر لفائدته بالغرامة بداية من الاعلام بالحكم وصولا إلى إجراء العقلة على مكاسب المحكوم عليه ويعدّ كذلك من أعمال التنفيذ إلقاء القبض على المحكوم عليه وإعلامه بالحكم وذلك تنفيذا لمنشور تفتيش اصدرته النيابة العمومية ضدّه أو تنفيذا لبطاقة جلب دولية في إطار مطلب تسليم.
وخارج هاتين الصورتين (بلوغ الاعلام الشخصي للمتهم أو حصول العلم له بالحكم الصادر ضدّه) منح المشرّع للمتهم أجلا أطول لتقديم اعتراضه.
الأجــل الطويـــــل
جاء بالفصل 176 م اج “إذا لم يبلّغ الاعلام بالحكم للشخص نفسه أو لم يتبيّن من أعمال تنفيذ الحكم أن المظنون فيه حصل له العلم به يمكن قبول الاعتراض إلى انقضاء آجال سقوط العقاب”.
ويستخلص من هذا الفصل أنه إذا لم يقع إعلام المتّهم بالحكم الغيابي أو إذا لم يتبين من أعمال التنفيذ أنّه حصل له العلم به فإنه يبقى له عشرون سنة في صورة ما إذا كان الحكم الصادر ضدّه من أجل جناية وخمسة أعوام بالنسبة للجنحة وعامين كاملين في صورة المخالفة لتقديم اعتراضه( ). أما الفصل 109 من قانون المرافعات الجنائي التونسي القديم ينص على أن “الاعتراض على الحكم الغيابي يقع لدى الحاكم الذي أصدر الحكم في العشرة أيام الموالية لتاريخ الاعلام بالحكم لشخص المحكوم عليه أو لمحل سكناه”.
وأما المشرّع الفرنسي فقد اقتضى بالفصل 492 أن الاعتراض يبقى مقبولا بعد أجلي العشرة أيام والشهر مادام لم يسقط العقاب المحكوم به وطالما أن الاعلام بالحكم لم يقع للشخص نفسه ولم يحصل له العلم بالحكم الصادر ضدّه. وقد حدّد المشرّع التونسي بداية سقوط العقاب بمرور الزمن من يوم صيرورة العقاب المحكوم به باتّا وذلك بالنسبة للأحكام الحضورية. أمّا بالنسبة للأحكام الغيابية فإن هذا الأجل يسري من يوم الاعلام بالحكم لغير المحكوم عليه نفسه ما لم يتبيّن من أعمال تنفيذ الحكم أن المحكوم عليه حصل له العلم به. وهذا التأويل يمكن استنتاجه من خلال قراءة الفصلين 176 و349 م اج إذ يجب التفرقة بين صورة العقاب الذي أصبح باتا والحكم الغيابي المعلم به لغير المحكوم عليه نفسه. ففي الصورة الأولى يسقط العقاب من تاريخ صيرورة العقاب باتا بحيث يكون الحكم قد استوفى كل شكل من أشكال الطعن فيه وهي الأحكام التي اتصل بها القضاء بحيث يكون عقابها باتّا أي قابلا للتنفيذ.
أما الأحكام الغيابية فإن أجل سقوط العقاب فيها والذي يتّحد معه أجل الاعتراض فهي تبتدئ من تاريخ الاعلام بالحكم لغير المحكوم عليه أي، أنّ عنصر الاعلام قد حصل ولكن لغير المحكوم عليه غيابيّا وهي أحكام قد بتت في الأصل ولكن عقابها لا يعتبر باتّا لذلك أخضعها المشرّع لنظام خاص في بداية آجال سقوط العقاب فيها.
وعلى هذا الأساس اعتبرت محكمة التعقيب( ) أن “الحكم الغيابي الذي لم يقع الاعلام به لشخص المحكوم عليه لا يعتبر من الأحكام الباتّة وتأسيسا على ذلك لا يمكن أن يجري أجل سقوطه وإنما الذي يجري هو سقوط حق القيام بالدعوى العمومية، ولعدم قابليّته للتنفيذ بل هو إجراء من إجراءات التحقيق حسب ما درج عليه فقهاء القانون الجنائي، وحيث تأسيسا على ذلك فلا يمكن إذن أن يجري أجل سقوطه وإنما الذي يجري هو سقوط القيام بالدعوى العمومية”.
ومردّ هذا الاختلاف هو وكما سبق الإلماع إليه هو أن الحكم الغيابي هو حكم قد بتّ في الأصل وله حجية الأمر المقضي التي نص عليها الفصل 481 م اع l’autorité de chose jugée والتي تعني : أن الأحكام تصدر دائما صحيحة من حيث الشكل وعلى حق من ناحية الموضوع حتى يوضع حدّ للخصومة، وتلازم تلك الحجيّة الحكم إلى أن يقع الطعن فيه، فإن كان حكما غيابيا حتى يزول بإلغائه في المعارضة. وبالتالي فإنّ الحكم الغيابي وإن لم يقع الاعلام به يعدّ حكما قضائيا له حجية الأمر المقضي من يوم صدوره إلى أن يقع الطعن فيه بوسيلة طعن عادية. وهذا الطعن لا يكون مقبولا إلا إذا تم الاعلام بالحكم الغيابي، لأنّ الاعلام هو الذي يعطيه وجوده القانوني من حيث قابليّته للطعن والتنفيذ لذلك نصّ الفصل 349 م ا ج بأن بداية جريان أجل سقوط العقاب بالنسبة للحكم الغيابي هو من تاريخ الاعلام به.(أما العقوبات المحكوم بها في المخالفات فهي تسقط بعد مضيّ عامين كاملين ويجري أجل السقوط من تاريخ صيرورة العقاب المحكوم به باتّا ويجري من يوم الاعلام بالحكم الغيابي إذا لم يقع ذلك الاعلام للمحكوم عليه نفسه ما لم يتبيّن من أعمال تنفيذ الحكم أن المحكوم عليه حصل له العلم به).
ويستنتج من ذلك أنه قبل تاريخ الاعلام بالحكم الغيابي لا يمكن أن نتحدث عن العقوبة وعن الحكم. وقد أقرت محكمة التعقيب الفرنسية بأنّه لو توفي المحكوم عليه غيابيا قبل الاعلام بالحكم، فإن الحكم ليس له صبغة الحكم الذي بت في الأصل وبالتالي فإلى جانب انقراض الدعوى العامة، فعلى المحكمة الجزائية أن تتخلى عن الدعوى المدنية. وإن كان ما اعتبرته محكمة التعقيب من أن الحكم الغيابي ليس له صبغة الحكم الذي بتّ في الأصل يتعارض مع ما سبق الإشارة إليه من أن جميع الأحكام تعتبر قد بتت في الأصل.
ورغم أن المشرّع التونسي قد أتاح للمحكوم عليه غيابيا الاعتراض على الحكم الغيابي سواء في الأجلين القصيرين أو في الأجل الطويل فإنه لم يحدد أجل الاعلام بذلك الحكم بل اقتصر على التنصيص بالفصل 175 م ا ج على أن “الاعلام بالحكم الغيابي يتولاه كاتب المحكمة التي أصدرت الحكم”. وبالتالي يبقى سريان آجال الاعتراض رهين مدى حرص الكاتب على توجيه الاعلام بالحكم إلى الأعوان المكلفين بالتنفيذ ومن جهة أخرى رهين نشاط وحزم هؤلاء الأعوان في تبليغ الاعلامات وهو ما من شأنه أن يجعل الحكم الغيابي معلّقا إلى ما لا نهاية فيبقى المحكوم عليه مهددا بالقبض عليه طيلة تلك المدة الغير معلومة وهو ما يمسّ من حسن سير القضاء ومن حق الدفاع( ) الممنوح لكل شخص تقع محاكمته.
2- الأشخاص الذين لهم حق القيام بالاعتراض :
هل يحق للنيابة العمومية الاعتراض على الحكم الغيابي ؟ إن جميع الأحكام التي تصدر في المادة الجزائية تعذّ قد صدرت حضورية في حق النيابة العمومية وذلك عملا بالفصل 143 من م ا ج فقرة ثانية ( ) لذلك فإنه لا يمكنها الاعتراض على الأحكام الغيابية. أما بالنسبة للمتهم فإن لهذا الأخيرة الحق في الطعن بالاعتراض على الحكم الغيابي الصادر ضده سواء كان فاعلا أصليّا أم شريكا( ) وللمتهم الحق في إنابة محام لتقديم مطلب الاعتراض عنه ويشترط أن يكون للمتهم المصلحة في الاعتراض إذ لا يتصور أن يقدم اعتراضا على حكم جزائي قاضي بعدم سماع الدعوى. وتجدر الإشارة إلى أن المشرّع خوّل للمتهم الطعن بالاعتراض في الحكم الصادر ضده برمته أو أن يحضر اعتراضه في الجانب الجزائي أو الجانب المدني إن كان المتضرر قائما بالحق الشخصي( ) وهذا الخيار قد منعه المشرّع صلب الفصل 178 م اج على المسؤول المدني الذي ليس له إلا حق الاعتراض على الحكم الغيابي في فرعه المدني باعتباره محكوما عليه في هذا الفرع.
أما بالنسبة للقائم بالحق الشخصي فقد مكنه الفصل 179 من م اج حق الاعتراض على غرم الضرر والخطية المالية المنصوص عليها صلب الفصل 46 م اج( ). وقد ذهبت بعض التشريعات المقارنة في نفس هذا الاتجاه حيث خوّل الفصل 493 من المجلة الجنائية الفرنسية المسؤول المدني والقائم بالحق الشخصي الاعتراض على كل حكم غيابي صادر ضدّه( ). كما منع المشرّع المغربي بالفقرة الثانية من الفصل 374 من قانون المسطّرة الجنائية المتضرر والقائم بالحق الشخصي والمسؤول المدني حق الاعتراض على الحكم الغيابي في جانبه المدني( ) وهذا الاتجاه لم يذهب إليه المشرّع المصري الذي لم يجز الاعتراض ضد الأحكام الغيابية الصادرة في الجنايات عن محكمة الجنايات والتي أخضعها إلى نظام خاص يقتضي أن الحكم الغيابي يعتبر ملغى بمجرد حضور المحكوم عليه في غيبته أو القبض عليه( )، كما أن المادة 399 من قانون الإجراءات الجنائية المصري تنص على عدم قبول المعارضة من المدعي بالحقوق المدنية( ) وحسب رأي بعض الفقهاء فإن الغاية من هذا الاتجاه هي أن لا تصبح الدعوى المدنية حاجزا أمام النظر في الدعوى العامة إذ أن قبول النظر فيها أمام القضاء الجزائي ليس إلا استثناء للقواعد العامة المتعلقة باختصاص المحاكم الجزائية.
4- تسجيل مطلب الاعتراض
يقدم الاعتراض إلى المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي سواء كانت محكمة الناحية أو المحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف، وقد استقر فقه قضاء محكمة التعقيب( ) على عدم اشتراط أن تنظر في الاعتراض نفس الهيأة التي أصدرت الحكم الغيابي المعترض عليه. ويقدم مطلب الاعتراض إما بمجرد تصريح شفاهي يسجل كتابة في الإبان أو بمطلب كتابي لدى المحكمة التي أصدرت الحكم المعترض عليه. وفي كلتا الصورتين يجب على المعترض أو نائبه أن يمضي على مطلب الاعتراض وعند امتناعه عن ذلك أو كان غير قادر عليه فعلى الكاتب أن يتلقى مطلب الاعتراض مع التنصيص على ذلك الامتناع( )، أما إذا كان المتهم موقوفا بالسجن فإنّ الاعتراض يتلقاه كبير حراس السجن ويحيله بدون تأخير على كتابة المحكمة التي أصدرت الحكم المعترض عليه( ).
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى القانون الفرنسي (الفصل 490 م اج ف) الذي ترك للمحكوم عليه غيابيا الحرية في اختيار الطريقة المناسبة له لتقديم اعتراضه إذ يمكن له :
أن يقدم المعارضة لدى المحكمة التي أصدرت الحكم.
أن يقررها أمام العون الذي يتولّى إعلامه بالحكم.
أن يرسل خطابا مضمون الوصول أو عاديا للنيابة العمومية يعلمها فيه بمعارضته على الحكم الغيابي المعلم به.
والهدف من هذه الإمكانيات المخوّلة للمحكوم عليه غيابيا هو تسهيل الإجراءات. لذلك يوجد من اقترح اعتماد هذه الطرق في تقديم الاعتراض وخصوصا تقديمه للمحكمة التي بدائرتها تم الاعلام بالحكم الغيابي، لأنّ المعترض عند تقديم اعتراضه لن يتحصل إلا على تاريخ الجلسة وهذا أمر لا يصعب معرفته في موطن اعلامه إذ يكفي كتابة المحكمة التي تلقت المعارضة أن تتصل بكتابة المحكمة المعنية بالأمر لتتخابر مع كتابتها حول تاريخ تعيين القضية الاعتراضية ثم تتولّى تلك الكتابة تسليم استدعاء للمعترض يمضي عليه( ) خاصة وأنه لا يجني من وراء هذا الإجراء سواء معرفة تاريخ الجلسة الاعتراضية. ويكون لهذه الطريقة أهمية بالغة بالنسبة للمفتّش عنهم إذ تجنّب أعوان الأمن عبئ نقل المتهم من المكان الذي تمّ فيه القبض عليه إلى المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي، وبذلك يتم نقله إلى أقرب محكمة من المكان الذي تم فيه القبض عليه ليقدم اعتراضه ويخلى سبيله لأنّ الاعتراض يوقف التنفيذ( )، لذلك فإنه من الأسلم أن يتّبع المشرّع هذا الإجراء وذلك بإدخال تنقيح على الفصل 175 م اج وذلك في إطار الفلسفة العامة للمشرّع وهي تقريب القضاء من المتقاضي. استدعاء الخصوم للحضور بالجلسة :
عند تقديم المتّهم المحكوم عليه غيابيا لاعتراضه فإن كاتب المحكمة يتولّى تعيين تاريخ الجلسة وإعلام المعترض بتاريخها، وقد حدّد المشرّع أجلا أقصاه شهرا من تاريخ الاعتراض لانعقاد الجلسة، وفي غضون هذا الأجل فإن المشرّع يحمل المعترض أو نائبه إعلام الخصوم الذين يهمّهم الأمر باعتراضه على الحكم الغيابي الصادر ضدّه وذلك بواسطة عدل منفّذ في أجل ثلاثة أيّام على الأقل قبل تاريخ الجلسة ومن الأشخاص الواجب استدعاؤهم.
القائم بالحق الشخصي وذلك إذا كان القصد عرض الدعوى المدنية من جديد أمام المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي بفرعيه الجزائي والمدني( ) وقد استثنى المشرّع من هذا الإعلام ممثّل النيابة العمومية، وقد وسّع فقه القضاء من هذا الاستثناء ليشمل الإدارات العامة التي خوّل لها المشرّع ممارسة الدعوى العمومية، حيث اعتبرت محكمة التعقيب بأحد قرارتها أن “الفصل 175 بالفقرة قبل الأخيرة نصّ أنه على المعترض اعلام الخصوم باعتراضه عدا النيابة العمومية ومن ضمنها القمارق فلا لزوم لإعلامها” مستندة في قرارها هذا على الفصل 210 م ا ج الذي ينص على أن “الإدارات العامة والفروع المالية معتبرة ممثّلة للنيابة العمومية وحينئذ فإنّ استدعاءها للجلسة الاعتراضية غير واجب لأنها معتبرة ممثّلة في قلم الادّعاء العمومي”( ).
هذا بالنسبة للإجراءات التي يجب على المعترض احترامها قبل انعقاد الجلسة الاعتراضية، ونتعرّض الآن إلى تلك المتّبعة يوم الجلسة.
2) الإجراءات يوم الجلسة الاعتراضية :
يوجل المشرّع التونسي على المعترض الحضور شخصيا بالجلسة الاعتراضية حتى يقبل اعتراضه، إذ جاء بالفصل 182 م اج أنه “إذا حضر المعترض وكان اعتراضه مقبولا شكلا فإنّ الحكم يلغى بالنسبة لجميع الأوجه المعترض في شأنها” وفي صورة عدم حضوره فإنه يحكم برفض اعتراضه بدون التأمل في الأصل( ) وفي هذا دليل على تبنّي المشرّع التونسي النظرية الذاتية في مرحلة الحكم في المعارضة، والنظرية الموضوعية للدفاع في مرحلة ما قبل الحكم لمّا مكن نائب المعترض القيام بإجراءات الاعتراض( ).
وقد تمّ اعتبار( ) أنّ عبارات الفصل 183 م ا ج قد “اتّسمت بالصرّامة حيث لم يترك المشرّع أي مجال للتأويل فكأنه أراد أن يقول مهما كانت أسباب غياب المعترض فإنّ المحكمة تحكم برفض اعتراضه”. ونحن نجيبه بأن الفصل 183 لا يمكن تطبيقه قبل أن يكون المتّهم قد أعلم شخصيّا بتاريخ الجلسة الاعتراضية (*) وأنّ غيابه لم يكن نتيجة لعذر مقبول (*) إذ اعتبرت محكمة التعقيب أنه “ولئن جاء الفصل 183 م اج برفض اعتراض المعترض الذي لم يحضر غير أن ذلك ليس على عمومه فقد اعتبر المشرّع القوة القاهرة من المبررات التي تخرق القاعدة”( ) وبذلك ليّن فقه القضاء من حدّة هذه القاعدة، عند وجود أسباب قاهرة تحول دون حضور المعترض بالجلسة الاعتراضية.
(*) واجب كتابة المحكمة اعلام المتّهم شخصيا بتاريخ الجلسة الاعتراضية :
إن اعلام نائب المعترض بتاريخ الجلسة الاعتراضية وذلك عند تقديم مطلب الاعتراض لا يعتبر اعلاما شخصيا للمتّهم وفي هذا المعنى أكدّت محكمة التعقيب أنه في صورة ما إذا تبيّن “بمراجعة أوراق القضية أن الاستدعاء لجلسة الحكم المطعون فيه قد سلّم لنائب الطاعن فلا يمكن اعتبار أن الطاعن قد حصل له العلم شخصيّا بالجلسة وأن القضاء برفض اعتراضه شكلا يشكّل خرقا لأحكام الفصل 183 م اج ممّا يتعيّن معه النقض مع الإحالة”( ) ولتكريس هذا الاتجاه ألزمت مجلة الإجراءات الجزائية السابقة لسنة 1922 المتّهم شخصيا بالقيام بتسجيل اعتراضه، وهذا الإجراء تبنّاه المشرّع الفرنسي صلب الفصــــل 489 م إ ج ف حيث جاء بالقرار التعقيبي الفرنسي الصادر في 1 جوان 1990 أنه “يستخلص من الفصل 489 م ا ج أن المحامي ولو كانت له سلطات خاصة لا يمكنه تمثيل المتهم في تقديم مطلب اعتراض على حكم غيابي”( ) ورغم أنّ هذا الاتّجاه يتماشى مع غاية المشرّع من سنّه لطريقة الطعن بالاعتراض بغية تحقيق مبدأ الحضورية قصد تمكين المتّهم من تبليغ صوته للعدالة احتراما لحقوق الدّفاع، فإن الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب لم تتبناه مكرّسة قاعدة “نائبه كهو” ومعتبرة “أن تمكين المحكوم عليه من الاعتراض بواسطة نائبه يقتضي تمكين النائب من إتمام الإجراءات الضرورية لرفع الطعن وهي تقديم مطلب الاعتراض لكتابة المحكمة وتلقي الإعلام بتاريخ الجلسة وإبلاغ الخصوم بمودعها أما إعلامه لموكله المحكوم عليه فذلك هو الهدف الأساسي من وكالته التي لا غاية لها غير تمكين موكّله من الحضور في الجلسة لإعادة النظر في قضيته وبدون هذا الإعلام تصبح الوكالة على الاعتراض لا مبرّر لها.
وإن التمسّك بكون النائب الذي يقدم الاعتراض تقتصر مهمته على تقديم مطلب الاعتراض وأن كاتب المحكمة ملزم بعد ذلك بإعلام المعترض شخصيا بموعد الجلسة هو تأويل فاقد الأساس القانوني ومخالف لمقتضيات الفصل 175 م اج والقواعد المعمول بها في مادة الاعلام بالجلسات والأحكام ومتعذّر التنفيذ ماديّا مما يؤدّي إلى تعطيل صدور الأحكام أو تعطيل تنفيذها”( ).
ويتّضح من هذا القرار أن محكمة التعقيب تحاول إيجاد حلول للصعوبات العملية وعلى وجه الخصوص الاعلام الشخصي وذلك بإقرار مبدأ الاعلام القانوني. أما الواجب الثاني المحمول على المحكمة قبل التصريح برفض الاعتراض شكلا عند غياب المتهم فهو التثبت من العذر المتمسّك به من طرف محاميه إن كان عذرا شرعيا، كما يجب عليها أن تتثبت إن كان المتهم الموقوف قد تم نقله من السجن وإحضاره للمحكمة وذلك لأنه عاجز عن التنقل بمفرده.
(*) واجب المحكمة في التثبت من شرعية العذر المحتجّ به لتبرير الغياب عن الجلسة الاعتراضية :
من الأسباب التي يمكن أن تحول دون حضور المتّهم بجلسة المعارضة المرض الذي يجبر الشخص على لزوم الفراش ولا يمكن لنائب المتهم المعترض الاحتجاج به أمام المحكمة إلا إذا قدمّ كشفا طبيا يبين الحالة التي عليها منوّبه والتي أقعدته ومنعته من الحضور بالجلسة وفي هذا المعنى اعتبرت محكمة التعقيب أن “تقدير العذر القهري موكول لاجتهاد محكمة الموضوع متى علّلت حكمها بتعليل قانوني ينسجم مع المنطق ويؤدي إلى ما انتهت إليه بحكمها” مضيفة بأن “الوثيقة الطبية التي أدلى بها نائب المعترض ليس فيها ما يبرّر تخلّفه عن الحضور بجلسة اليوم إذا لم يقع التنصيص بها على عجزه عن التنقل والحضور بالجلسة( ).
كما يمكن أن يكون عدم الحضور بالجلسة الاعتراضية خارجا عن إرادة المتهم إذا كان هذا الأخير موقوفا بالسجن ولم يتمّ نقله من السجن المقيم به إلى المحكمة. وفي هذه الصورة يعتبر السجين بمثابة العاجز عن التنقل بمفرده للحضور بالجلسة لذلك فإنه من واجب المحكمة وقبل رفض اعتراضه شكلا أن تتثبت إن كان المتهم المعترض موقوفا أم لا وإن كان قد أحضر للجلسة أم لا. وفي صورة عدم إحضاره فإنّها تأذن بتأخير القضية لجلسة لاحقة على أن يتمّ إحضاره في الموعد المحدّد لها. أما إذا لم تتثبّت المحكمة من حالة المتّهم وتقضي برفض الاعتراض شكلا فإن حكمها يكون مخالفا لحقوق المتّهم الشرعية( ).
بعد التعرض لشروط الاعتراض نتعرّض الآن إلى آثاره.
ب- آثار الاعتراض :
يجب التفريق في هذا الإطار بين الآثار في صورة رفض الاعتراض (1) وتلك التي تنشأ عند قبوله (2).
1- آثار الاعتراض عند رفضه شكلا :
لقد سبق وأن تعرّضنا للفصل 183 م اج الذي يعتبر أن المعترض الغائب عن الجلسة الاعتراضية يرفض اعتراضه شكلا ودون تأمّل في الأصل، كما لا يتسنّى للشخص الذي رفض اعتراضه شكلا الطعن في الحكم إلا بطريق الاستئناف إذ أنّ “المعارضة على المعارضة لا تجوز” « opposition sur opposition ne vaut » أي أنّ المعترض لا يمكنه أن يصرّح من جديد باعتراض على حكم صدر ضدّه برفض اعتراضه وفي هذا المبدأ حسن سير العدالة، إذ به يقطع على المتّهم إمكانية الطعن بالاعتراض إلى ما لا نهاية.
ولكن قد تثار إشكالية عند تأويل عبارات “إلا بطريق الاستئناف” المنصوص عليها بالفصل 183 م ا ج، إذ أن التأويل الضيق لتلك العبارات يفهم منها أنّ الحكم الصادر برفض الاعتراض شكلا وقع التصريح به من محكمة ابتدائية الدرجة بالتّالي فهل يمكن القول أن الفصل 183 لا يتعرّض لصورة رفض الاعتراض من طرف محكمة نهائية الدرجة ؟
إذا كان الحكم الرافض للاعتراض شكلا صادرا عن محكمة نهائية الدرجة فلا شيء يمنع من الطعن فيه بالتعقيب لذلك اقترح أن تصبح صيغة هذا الفصل “إذا لم يحضر المعترض يحكم برفض اعتراضه بدون تأمل في الأصل ولا يتسنّى له الطعن فيه إلا بطريقة أخرى” أي لا يمكنه الطعن فيه إلا بطريق الاستئناف أو التعقيب لأن الاعتراض على الاعتراض غير جائز قانونا( )، هذا في صورة رفض الاعتراض شكلا، فما هي الآثار المترتّبة عن قبوله من طرف المحكمة.
2- الآثار المترتّبة عن قبول الاعتراض :
إن قبول الاعتراض شكلا لا يمكن أن يحصل إلا بالحضور الشخصي للمتهم، وفي هذه الصورة فإن المحاكمة ستكون حضورية فلا مجال للحديث عن محاكمة الغائب. وعلى كل فإن الآثار المترتبة عن قبول الاعتراض هي : الأثر التوقيفي (*) والأثر الإلغائي (*) الذي تتولّد عنه اشكالية التالية : هل يجوز للمحكمة تعكير حالة المتّهم المعترض ؟ (*)
* الأثر التوقيفي :
لقد نصّ الفصل 180 م اج أن “الاعتراض يوقف التنفيذ” ومبدئيّا لا ينسحب هذا الأثر إلا على الجنح إذ جاء في الفقرة الثانية من الفصل المذكور ” وفي صورة الحكم لأجل جناية ينفّذ العقاب الجزائي حالا بقطع النظر عن الاعتراض، لكن إذا كان العقاب المحكوم به هو الاعدام فإن المعترض يسجن ولا ينفّد العقاب إلا بعد البتّ في الاعتراض”( ). وتوجد استثناءات أخرى للأثر التوقيفي نصّت عليها م اج وهي دفع الغرامة الوقتية المحكوم بها لفائدة القائم بالحق الشخصي وتنفيذ العقاب الجزائي والقاضي بالتنفيذ الوقتي( ).
* الأثــر الإلغائــي :
جاء بالفصل 182 م اج “إذا حضر المعترض وكان اعتراضه مقبولا شكلا فإن الحكم يلغى بالنسبة لجميع الأوجه المعترض في شأنها سواء كانت صبغتها مدنية أو جزائية، ويعاد الحكم في القضية ولا لزوم لاستدعاء الشهود الذي سبق سماعهم بالجلسة الصادر فيها الحكم الغيابي”. وعملا بهذا الفصل فإنّ الحكم المعترض عليه في صورة قبول الاعتراض شكلا يلغى ويبطل العمل به( ) وقد يثير هذا الأثر الإلغائي صعوبة في صورة الاعتراض على الحكم الغيابي الصادر بالنّفاذ العاجل، إذ يجلب المتّهم موقوفا بعد أن سجّل اعتراضه، فتقبله المحكمة شكلا، ويتراءى لها تأخير القضية لسبب من الأسباب، وعندما يرجع المتهم للسجن لاتمام اجراءات الإفراج عنه يرفض عون السجن سراحه، لأنه ليس لديه ما يفيد أو ما يعوّض مضمون الحكم بالنّفاذ العاجل إذ لم يصدر بعد حكما في القضية.
ويثير الأثر الإلغائي للاعتراض إشكالية أخرى هامة وهي التالية : هل يجوز للمحكمة أن تشدّد في العقوبة المحكوم بها غيابيّا ؟
اترك تعليقاً