الاثار القانونية المترتبة على تعدد الجرائم
الشريعة الإسلامية والقوانين الجنائية الوضعية، أو قوانين العقوبات عرفت تعدد الجرائم وعناصرها، فضلا عن الأثر المترتب على تعددها في العقاب، في حين أن بعض القوانين تركت مسألة تحديد حالة التعدد للجرائم وبيان عناصرها للفقه واكتفت فقط بالنص على أثر هذا التعدد في العقاب، بل هناك في بعض الدول من أورد تعدد الجرائم في قانون الإجراءات على خلاف ما يقتضيه الواقع والمنطق القانوني السليم لأنها من المسائل الموضوعية ولا علاقة لها بالشكل حتى ينص عليها في قانون الإجراءات.
والتعريف لتعدد الجرائم عند أغلب كتاب القانون الجنائي أنه ”حالة ارتكاب الشخص نفسه جريمتين أو أكثر قبل الحكم عليه نهائيا من أجل واحدة منه”، وكما ذكر أنه يكاد يكون هذا التعريف قد أجمعت عليه التشريعات الجنائية الحديثة .
والحديث عن تعدد الجرائم وأثره في العقاب لا يمكن أن يكون بالشمولية والاستقصاء التام في مقال قصير بل يكون في مؤلف مطول كالكتاب المشار إليه في الهامش (رسالة دكتوراة). لكن في هذا المقال سأورد نبذة عن تعدد الجرائم في ضوء ما تمكنت من الاطلاع عليه عند الكتابة ودون التطرق إلى للتفاصيل واختلاف الآراء في الطرح، ولذا تركز أغلبية الآراء على أن تعدد الجرائم لا بد أن يتوافر فيها عنصران أو ركنان أحدهما ارتكاب الجاني نفسه جرائم متعددة، وثانيهما أن يكون ذلك قبل الحكم عليه نهائيا من أجل واحدة من الجرائم، ويكتفون بهذا القول لأنه لا يوجد تعريف عام جامع مانع يبين أركان الجريمة ويوضح عناصرها، وبالتالي لا يمكن التورط في تعريف قد تظهر الظروف والوقائع مستقبلا عدم دقته وقصوره، ولذا يفضل كثير من الكتاب الاعتماد على ما تأخذ به التشريعات الحديثة بشأن الأخذ بمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات أي (لا جريمة ولا عقوبة من غير نص) ، وقد نص النظام الأساسي للحكم على هذه القاعدة بالمادة (38) ومن ثم ترك الأمر للفقه الذي أورد عددا من التعاريف التي نخلص منها إلى ضرورة توافر عنصرين أو ركنين – كما سبق الإيضاح – أحدهما أساسه عمل مادي وهو (الركن المادي) أو ما يسميه بعض الكتاب بالعنصر الموضوعي الذي هو العمل أو النشاط الخارجي الذي يصدر من الجاني والثاني هو الركن المعنوي أو الأدبي (القصد الجنائي) وهو الذي يمثل إرادة الجاني ومقصده وهي إرادة آثمة مجرمة.
وتعدد الجرائم يقتضي تعدد الأعمال والأنشطة الخارجية. وهناك فرق بين تعدد الجرائم. وجرائم الاعتياد وكذلك الجرائم المركبة والجرائم المستمرة أو المتلاحقة التي يسميها بعض الباحثين الجرائم الوقتية المتتابعة .
ولتعدد الجرائم صور هي: التعدد الصوري للجرائم أن يكون في حالة ارتكاب فعل واحد ويؤدي إلى عدة جرائم فهي إلى حد شبيهة بظاهرة التعدد الحقيقي للجرائم وهو الصورة أو النوع الثاني الذي يتوافر فيه العنصران سالفا الذكر بأن يرتكب الجاني عدة جرائم، وأن يقع ذلك قبل الحكم عليه نهائيا في إحداه.
وبعد هذا الإيجاز عن تعدد الجرائم لا بد من إيضاح أثر التعدد في توقيع العقاب، وذلك من حيث تداخل العقوبات ونظرية الجب، وفي ذلك تفصيل طويل، لكن ما يمكن ذكره في هذا المقال هو الإيجاز غير المخل الذي يستفيد منه القارئ العزيز.
فنظرية تداخل العقوبات تطبق في حالة كون الجرائم المتعددة من أنواع مختلفة فتتداخل العقوبات بحيث تطبق عقوبة واحدة وبشرط أن تكون العقوبات المتداخلة قد وضعت لحماية مصلحة واحدة، وبالتالي فإن العبرة في التداخل بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها. أما لو كان العكس بأن الجرائم المتعددة من أنواع مختلفة ولكن لا يجمع بين عقوباتها غرض واحد لحماية مصلحة واحدة فإن العقوبات لا تتداخل وإنما تتعدد بتعدد الجرائم المختلفة .
والشريعة الإسلامية أكثر دقة من القوانين الوضعية في تطبيق نظرية التداخل حيث لم تطبقها الشريعة الإسلامية على إطلاقها بل تطبقها في حالة الجريمة الواحدة إذا تكرر وقوعها في جرائم مختلفة يجمع بين عقوباتها غرض واحد ولا تطبقها فيما عدا ذلك ، وعكس ذلك القانون الوضعي الذي يخالف الشريعة في هذه المسألة ويجعل عدم العقاب في جريمة ما عذراً للجاني لارتكاب جريمة أخرى سواء كانت من نوع واحد أو نوعين مختلفين، وعلى كل فإن نظرية التداخل في الشريعة الإسلامية أوسع مدى منها في القانون الوضعي لأن القانون لا يعرف التداخل في العقوبة إلا في حالة واحدة فقط هي ارتكاب الجاني عددا من الجرائم بغرض واحد وبشرط أن تكون هذه الجرائم مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة، وبعض الشراح يصفون هذه الحالة بأنها حالة (جب) على أساس أن العقوبة الأشد هي التي توقع ولكن هذا الوصف غير صحيح لأن الحالة هي تداخل على التفصيل المذكور في بعض المؤلفات .
وحتى لا نطيل ننتقل للحديث عن نظرية الجب التي تأخذ بها الشريعة الإسلامية في حالة الاكتفاء بالعقوبة التي يمتنع معها تنفيذ عقوبة أخرى. وهذا يطبق في عقوبة القتل لأن تنفيذها يمنع من تنفيذ عقوبة غيرها، ولذا فعقوبة القتل تجب ما عداها، أما في القوانين الوضعية فتطبق نظرية الجب في الحالة المذكورة وكذلك في حالة اجتماع عقوبة الأشغال الشاقة مع عقوبات أخرى مقيدة للحرية .
اترك تعليقاً