الشروط القانونية للمقاصة و مفهومها
أولاُ: التعريف بالمقاصة ووظيفتها وتمييزها عن غيرها
المقاصة:
هي طريق من طرق انقضاء الالتزام حين يصبح المدين دائناً لدائنه فينقضي الدينين في نفس الوقت بمقدار الأقل منهما ويظل المدين ملزماً بالوفاء بالجزء المتبقي من الدين بالطريق العادي. ( م 362 مدني )
وتقوم المقاصة على ذلك بوظيفتين:
فهي أداة وفاء وهي في الوقت ذاته أداة ضمان. فهي أداة وفاء مزدوج لأنها تقضي على الدين الأقل كلية وتؤدي إلى الانقضاء الجزئي للدين الأكبر. كما أنها أداة ضمان لأنها تعظي للدائن الحق في أن يستأثر بالدين الذي في ذمته للطرف الأخر متميزا بذلك عن غيره من دائني المدين.
ويمكن تمييز المقاصة عن الحق في الحبس كما يمكن تمييزها عن الدفع بعدم التنفيذ:
فالمقاصة وسيلة حاسمة لانقضاء الالتزام باعتبارها أداة وفاء. أما الحق في الحبس والدفع بعدم التنفيذ ما هما إلا وسيلتين للامتناع المؤقت عن تنفيذ الالتزام ولا ينقضي الالتزام بأيهما.
كما تتميز المقاصة عن هذه الوسائل من حيث الأثر المترتب على الحكم بها وكذلك من حيث النطاق والشروط.
ويمكن أن يحكم بوقوع المقاصة إذا توفرت شروطها القانونية وطلبها من له مصلحة في التمسك بها حين تسمى بالمقاصة القانونية. كما يمكن الاتفاق على التغاضي عن بعض الشروط التي تطلبها المشرع في المقاصة لتصبح المقاصة اتفاقية. كما يمكن أن يحكم القاضي بالمقاصة حينما يتوجه صاحب المصلحة فيها إليه ويذلل له المصاعب التي تحول بينه وبين التمسك بها وتسمى بالمقاصة القضائية. وسوف نتناول بالدراسة هذه الأنواع الثلاثة بشيء من التفصيل …
ثانياً: أنواع المقاصة
المقاصة القانونية
أولاً: شروط المقاصة القانونية ( م 362 مدني )
الشرط الأول: التقابل بين الدينين
ومعناه أن يكون كلا الطرفين دائناً ومديناً للآخر في ذات الوقت وبذات الصفة. ولا يهم بعد ذلك أن تكون هناك صلة بين الدينين. والمقاصة في ذلك تتميز عن الدفع بعدم التنفيذ الذي يقتضي نشوء الالتزامين عن مصدر واحد. وعن الحق في الحبس الذي يفترض وجود ارتباط بين الالتزامين المتقابلين.
الشرط الثاني: التماثل بين الدينين في المحل
يجب أن يتماثل الدينان جنساً ووصفاً واستحقاقاً. ومعنى ذلك أن المقاصة لا تقع إلا إذا كان محلها نقوداً أو مثليات متحدة في النوع والجودة. والحكمة من هذا الشرط هي عدم إجبار الدائن على استيفاء شيء غير الشيء المستحق أصلاً. كما أن القول بعدم تماثل الدينين يهدر كل قيمة للعقود الملزمة للجانين التي يعد كل طرف فيها دائناً ومديناً في ذات الوقت للطرف الآخر لأنه في حالة عدم اشتراط التماثل يمكن لكل طرف من أطراف العقود الملزمة للجانبين التمسك بالمقاصة بمجرد إبرام العقد مما يهدر من قيمة التعاقد كلية.
الشرط الثالث: خلو الدينين من النزاع
مادام أن المقاصة هي أحد صور الوفاء الجبري فإنه من اللازم أن يكون كلا الدينين خالياً من النزاع محققاً في وجوده ومحدداً في مقداره. وعلى ذلك فإن المقاصة لا تقع بين دين منجز ودين معلق على شرط واقف لأن هذا الدين الأخير ليس محققاً في وجوده.
الشرط الرابع: أن يكون كلاً من الدينين مستحق الأداء
لا يجوز إجبار الدائن على قبول الوفاء قبل حلول الأجل كقاعدة عامة. لذلك فإنه لا يجوز إعمال المقاصة بين دين مستحق الأداء ودين آخر مضاف إلى أجل. كذلك فإنه لا يجوز المقاصة بين دين منجز ودين معلق على شرط واقف. ذلك أن هذا الدين الأخير غير محقق الوجود وغير مستحق الأداء.
الشرط الخامس: صلاحية كل من الدينين للمطالبة القضائية والحجز
ومعنى الصلاحية للمطالبة القضائية أن المقاصة لا تقع بين التزام واجب الأداء قضاءً والتزام طبيعي. ذلك أن الوفاء بالالتزام الطبيعي غير واجب على عاتق المدين. والمقاصة تعد نوع من أنواع الوفاء الجبري للالتزام. فإذا قلنا بجواز المقاصة في هذه الحالة فإن ذلك يعني أننا نجبر المدين في الالتزام الطبيعي بالوفاء به بطريق غير مباشر.
كذلك فإن الديون التي لا يمكن الحجز عليها لا يصح أن تكون محلاً للمقاصة. ومثال تلك الديون دين النفقة للزوجة والأولاد. فعدم قبول المقاصة في هذه الديون هو أمر منطقي لتلافي إهدار الاستثناء الذي يقضي بعدم خضوع هذه الديون للحجز نظراً لضرورتها لمتطلبات حياة الزوجة والأولاد.
الشرط السادس: عدم إلحاق إضرار بالغير
لا يجوز أن تقع المقاصة إضراراً بحقوق كسبها الغير ( م 367 مدني )
فإذا أوقع الغير حجزاً تحت يد المدين ثم أصبح المدين دائناً لدائنه فلا يجوز له أن يتمسك بالمقاصة إضراراً بالحاجز. ونمثل لذلك بالمثال الآتي:
إذا كان أحمد دائناً لمحمد بخمسة آلاف جنيه وكان مديناً في ذات الوقت لإسماعيل بخمسة آلاف جنيه. ثم أوقع إسماعيل حجزاً على مال لأحمد لدى محمد ( حجز المدين لدى الغير ) وأصبح محمد دائناً لأحمد بعد الحجز. فإن حق محمد يجب ألا يتقاص مع حق أحمد حماية لحق إسماعيل وهو من الغير.
ثانياً: آثار المقاصة القانونية
إذا تمسك بالمقاصة القانونية صاحب المصلحة فيها وتوافرت شروطها القانونية ترتب على ذلك انقضاء الدينين بمقدار الأقل منهما. وبناءً عليه يظل صاحب الدين الأكبر دائناً بالجزء الباقي من الدين بعد إجراء المقاصة.
ولما كانت المقاصة الجبرية من المسائل التي لا تتعلق بالنظام العام لذلك فإن القاضي لا يستطيع أن يقضي بها من تلقاء نفسه. لهذا يجب أن يتمسك بالمقاصة صاحب المصلحة فيها.
وصاحب المصلحة في التمسك بالمقاصة ليس المدين الذي أصبح دائناً لدائنه وحده. بل ممكن أن تمسك بها الكفيل الشخصي أو العيني للمدين حتى ينقضي التزامه بالكفالة.
ولمن له الحق في التمسك بالمقاصة أن يتنازل عنها سواء كان هذا التنازل صريحاً أو ضمنياً. غير أنه لا يجوز لصاحب الحق في التمسك بالمقاصة أن يتنازل عنها قبل ثبوت الحق فيها وتوفر شروطها القانونية. والحكمة من هذا الشرط أن جواز التنازل عن المقاصة قبل ثبوت الحق فيها يمكن أن يصبح أمراً مألوفاً في كل العقود التي يفرضها الطرف الأقوى على الطرف الأضعف فيحرمه مقدماً من حق المقاصة الذي قرره القانون.
كذلك فإن القاعدة تقضي بأنه لا يجوز التنازل عن المقاصة إضراراً بالغير ( م 369 مدني ). ويقصد بالغير هنا كل من كانت له مصلحة في التمسك بالمقاصة مثل كفيل المدين سواءً كانت الكفالة شخصية أم عينية. ويعتبر كذلك من الغير حائز العقار المرهون لضمان حق المدين. والدائن المرتهن المتأخر في المرتبة عن مرتبة الرهن الذي كان يكفل هذا الحق.
كما تجدر الإشارة إلى أن آثار المقاصة تعود إلى وقت تلاقي الدينين صالحين للمقاصة بينهما لا إلى الوقت الذي يتمسك فيه صاحب المصلحة فيها بالمقاصة.
كذلك فإن التمسك بالمقاصة يظل ممكناً إذا ما اكتملت شروط المقاصة القانونية الجبرية قبل اكتمال مدة تقادم الحق ( الذي هو أحد الدينين ) ولا يؤثر تأخر التمسك الفعلي بالمقاصة على تحقيق آثارها.
ثالثاً: نطاق المقاصة القانونية
القاعدة العامة أن المقاصة تجوز في كل الديون أياً كان مصدرها. ومع ذلك فقد استثنى المشرع بعض الحالات التي لا يجوز التمسك بالمقاصة فيها بالرغم من اكتمال شروطها. هذه الحالات نص عليها المشرع بنص المادة 364 مدني ويمكننا حصرها في:
(1) إذا كان محل أحد الدينين شيئاً نزع دون حق من يد مالكه
ويرى هذا الاستثناء سنده في مبدأ عدم جواز الاقتصاص للنفس. فلا يجوز للدائن أن يغتصب شيء مماثل من مدينه ثم يتمسك بالمقاصة حينما يطالبه المدين برد الشيء المغتصب.
(2) إذا كان أحد الدينين مودعاً أو معاراً عارية استعمال
إذا كان أحد الدينين محله شيئاً مودعاً فإن المقاصة لا تجوز ويظل المودع لديه ملتزماً برد الوديعة للمدين.
(3) إذا كان أحد الدينين حقاً غير قابل للحجز
ذلك أن إجازة المقاصة في هذا النوع من الحقوق يؤدي إلى إهدار مبدأ عدم القابلية للحجز.
المقاصة الاتفاقية
إذا لم تتوافر شروط المقاصة القانونية فإن للطرفين الاتفاق على إيقاع المقاصة بين ما لكل منهما من حق في مواجهة الآخر (م 362 مدني).
وعلى ذلك إذا تخلف مثلاً شرط تماثل الدينين أو شرط استحقاق الدينين للأداء فإنه يجوز للطرفين أن يتفقا بالرغم من ذلك على إيقاع المقاصة في هذه الحالة.
وتختلف المقاصة القانونية عن المقاصة الاتفاقية من حيث الوقت الذي ترتب فيه المقاصة آثارها القانونية. ففي المقاصة الاتفاقية لا تترتب آثار المقاصة إلا من تاريخ الاتفاق على إيقاعها ولا تنسحب آثارها إلى تاريخ تقابل الدينين صالحين للمقاصة بينهما. كذلك فإن المقاصة الاتفاقية يجب ألا تؤدي إلى الإضرار بالحقوق التي اكتسبها الغير في الفترة السابقة على الاتفاق.
المقاصة القضائية
وهي تلك المقاصة التي يجريها القاضي حين يتخلف شرط من شروط إيقاع المقاصة القانونية مادام أن القاضي يستطيع استكمال هذا الشرط. وهو لا يستطيع ذلك في الواقع إلا عندما يتخلف شرط خلو الدينين من النزاع فقط. فحينما يكون أحد الدينين متنازع فيه يمكن للقاضي بناءً على طلب أحد الأطراف أن يفصل في النزاع ويزيل العقبة التي تقف أمام المقاصة.
وعلى ذلك فإن المقاصة القضائية لا تقع إلا إذا طلب المدين ذلك سواءً بدعوة مبتدأه أو كان الطلب عارضاً أثناء نظر الدعوى بين الطرفين. فإذا حكم القاضي بأحقية المطالب فيما يدعيه من حيث تأكيد وجود الحق أو تحديد مقداره. كان ذلك استكمالاً لشروط المقاصة.
وباستكمال شروط المقاصة على هذا النحو فإن المقاصة تقع بقوة القانون من وقت صدور الحكم نظراً لزوال العقبة التي كانت تحول دون وقوعها في هذا التاريخ. وعلى ذلك فإن المقاصة القضائية هي في حقيقتها مقاصة قانونية. وما الحكم القضائي الصادر بإيقاعها إلا حكم مقرر لها وليس حكم منشئاً لها.
اترك تعليقاً