دراسة قانونية متميزة حول المسؤولية عن الأخطاء الطبية
أركان المسؤولية عن الأخطاء الطبية /
سنقسم هذا المطلب إلى عدد من الفروع نتعرض في كل واحد منها لركن من أركان المسؤولية موضوع الدراسة.
*الفرع الأول: الخطأ الطبي
*أولاً: ماهية الخطأ الطبي:
لم يعرف المشرع الإماراتي الخطأ في المادة (38) فقرة (2) عقوبات اتحادي، بل اكتفى بذكر صوره فقط. والراجح فقهاً أن الخطأ هو “إخلال الجاني عند تصرفه الإرادي بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها المشرع على كافة الأفراد فيما يباشرونه من أفعال، حرصاً على الحقوق والمصالح التي يحميها القانون، وعدم حيلولته تبعاً لذلك دون إفضاء سلوكه لإحداث النتيجة المعاقب عليها”.
وعليه فإن الخطأ عموماً يتوافر إذا تصرف الشخص دون التقيد بواجبات الحيطة والحذر التي يتقيد بها الأفراد فيما يباشرونه من أفعال، حرصاً على الحقوق التي يحميها القانون، وعدم حيلولته تبعاً لذلك دون تحقق النتيجة المعاقب عليها قانوناً كأثر لفعله، إما لاعتقاده أنها لن تحدث، أو عدم توقعه هذه النتيجة بينما كان من واجبه وفي استطاعته توقعها.
وهذا المدلول ينطبق على الخطأ الطبي أيضاً، والذي يتوافر إذا قام الطبيب بمباشرة مهنته على نحو لا يتفق مع الواجبات التي تقتضيها ممارسة المهنة، وكذلك القواعد العامة للحيطة والحذر التي يتقيد بها عامة الناس، فتترتب على مسلكه نتائج ضارة كان يمكن لطبيب معتاد تفاديها. ومن أمثلة ذلك تصرف الطبيب على نحو يخالف الأصول العلمية والفنية المقررة والثابتة في مهنة الطب.
ومن الثابت فقهاً وقضاء أن القواعد والأصول الطبية هي تلك المبادئ والقواعد الأساسية الثابتة والمستقرة نظرياً وعملياً بين أهل مهنة الطب، بحيث لم تعد محلاً للجدل والمناقشة بينهم. غير أن هذا لا يعني أن الطبيب يلتزم بتطبيق الأصول العلمية والفنية كما يطبقها غيره من الأطباء، بل من حق الطبيب أن يُترك له قدر من الحرية والاستقلال من حيث اختيار الطريقة التي يرى أنها أصلح من غيرها في علاج مريضه، مادام أنه قد التزم في اختياره بالثابت علمياً وفنياً في مهنة الطب.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يجوز للطبيب في ظل الظروف الاستثنائية الخروج عن القواعد والأصول العلمية والفنية الطبية، تطبيقاً للقواعد العامة في امتناع المسؤولية الجنائية إذا توافرت حالة الضرورة، وفقاً لما تحدده المادة (64) فقرة (1) عقوبات اتحادي، كما لو كان هناك خطر جسيم يهدد حياة المريض أو صحته، فلم يكن أمام الطبيب من سبيل لدفعه غير الفعل الذي أتاه، والذي خرج فيه عن أصول مهنته، فتمتنع مسؤوليته عندئذ.
وعلى ذلك فإن القاضي الجنائي لا يسأل الطبيب إلا عن تلك المخالفات الخطيرة للنصوص التي يطبقها، فالخطأ الطبي الجنائي هو الخطأ الفني أو المادي الذي كان بإمكان الطبيب المعتاد الحذر اليقظ تفاديه.
وإن مساءلة الطبيب عن أخطائه الطبية قد ثبت في عدد من الأحكام القضائية الصادرة عن المحكمة الاتحادية العليا، نسوق منها في هذا الخصوص قولها: “…. الأعراض المرضية والعاهات والإعاقة التي حدثت للطفل…. يرجع سببها إلى استمرار ارتفاع نسبة الصفراء بالدم ولا يوجد لها مبرر آخر، وتقع مسؤولية التأخير والإهمال في علاج الطفل المذكور على الطبيبات المناوبات بقسم الولادة واللاتي كن يناظرن الطفل من تاريخ بدء ظهور الصفراء…. وهكذا يتضح جلياً أن الطبيبات أي المطعون ضدهن قد خالفن واجباتهن الإنسانية والمهنية بما أدى إلى تفاقم حالة الطفل المرضية…. وإن احتماءهن بعملهن تحت إشراف الاستشاري الذي وقعت إدانته في الأصل لا يقيهن من تحمل مسؤولياتهن نتيجة أخطائهن الشخصية الصادرة عنهن والتي يجب عليهن أن يحاسبن عليها بشكل ذاتي وفقاً لمقتضيات المنطق والقانون….”.
ثانياً: طبيعة الخطأ الطبي
إن التسلل إلى أغوار الأعمال الطبية والجراحية لتحديد طبيعة الخطأ الطبي يقودنا إلى التمييز بين نوعين من الخطأ هما:
1- الخطأ الفني (المهني)Faute Téchnique –
ويتصل هذا الخطأ بالقواعد العلمية والأصول الفنية التي تحكم مهنة الطب، ويتقيد بها الأطباء عند ممارستهم لأعمالهم المهنية. ويرجع الخطأ الفني إما إلى الجهل بأصول وقواعد المهنة، أو إلى تطبيقها بشكل غير صحيح، فينجم عن ذلك ضرر يلحق بالمريض. ومن أمثلة هذا الخطأ عدم قياس تركيز الصفراء معملياً بمجرد مشاهدتها، وعدم إجراء تبديل الدم بمجرد ثبوت نسبتها العالية. ولقد عرفت المحكمة الاتحادية العليا الخطأ المهني بأنه:
“…. الإخلال بالقواعد والواجبات التي تحكم أصحاب المهنة الواحدة وتتحدد عناصره بالرجوع إلى القواعد العلمية والفنية التي تحدد أصول مباشرة هذه المهنة….”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن محكمة النقض الفرنسية اتجهت في أحكامها إلى الأخذ بالمعطيات الآنيةDonnées actuelles المتعلقة بالأصول والقواعد الفنية لمهنة الطب مواكبة منها للتطور السريع في المعارف النظرية وتطبيقاتها العملية في المجال الطبي، ويتجلى ذلك من خلال حكمها ببراءة الطبيب الذي لم يلجأ إلى العملية الجراحية التي كانت في حينها موصوفة في الأدب الطبي، ولكنها لم تكن جارية في التطبيق العملي. وكذلك حكمها بإدانة طبيب امتنع عن إجراء الفحوصات التي تتطلبها معطيات العلوم الطبية الآنية المعاصرة للواقعة.
وأما في شأن المسائل الفنية التي تختلف فيها الآراء، ولم يستقر عليها إجماع من الهيئات الطبية، فإن الأخذ بها من عدمه لا يعد خطأ مطلقاً، مادام للطبيب في ذلك سنده العلمي القوي. وهذا يعني أن أخذ الطبيب برأي علمي مختلف على صحته وإقدامه على إجراء جراحة مبتكرة، أو نصحه بتناول دواء جديد لا يعد خطأ، لأن الطبيب لم يخرج على أصل ثابت ولا خالف قاعدة مستقرة، كل ما في الأمر أنه اختار بين رأيين لكل منهما حججه وأسانيده، فلا جناح عليه إن خاب سعيه فلم ينج مريضه مادام قد بذل في علاجه قصارى جهده.
وعلى العموم فإن الثابت في الفقه أن الطبيب يسأل عن الخطأ الفني الذي يرتكبه، سواء كان هذا الخطأ يسيراً أو جسيماً، غاية الأمر أن المادتين (342) فقرة (2) و(343) من قانون العقوبات الاتحادي تجعل من الإخلال بما تفرضه أصول المهنة ظرفاً لتشديد عقوبة القتل الخطأ والإيذاء غير العمدي. ولما كان النصان المذكوران قد وردا دون تقييد الخطأ المهني بدرجة معينة، فإنه قد يفهم من هذا الإطلاق في الصياغة، أنه يستوي لغرض تشديد العقاب أن يكون الخطأ يسيراً أو جسيماً.
وهذا التفسير في الواقع لا يقبله منطق القانون السليم، ولا مقتضيات العدالة، كما أنه يخالف بعض الاتجاهات التشريعية المقارنة، من ذلك نص المادتين ( 238 ) و ( 244 ) عقوبات مصري اللتين قرنتا قيام الظرف المشدد في القتل والإيذاء غير العمدي بالإخلال الجسيم بأصول المهنة أو الحرفة، وبمفهوم المخالفة يعني ذلك أن الخطأ المهني اليسير يقيم المسؤولية الجنائية عن الجريمتين المذكورتين مجردة من الظرف المشدد. ويا حبذا لو سلك المشرع الاتحادي هذا المنهج حتى يتفادى التناقض الذي وقع فيه.
2- الخطأ المادي:
هو ذلك الخطأ الذي يرتكبه الطبيب عند مزاولته لمهنته دون أن يكون لهذا الخطأ علاقة بالأصول والقواعد العلمية الثابتة في مهنة الطب، أي أنه يقع بمخالفة الطبيب لقواعد الحيطة والحذر التي يلتزم بها كافة الناس. ومن أمثلته أن يقوم الطبيب بإجراء عملية جراحية دون تعقيم الأدوات الجراحية، وإجراء العملية بيد مرتعشة، وكذلك ترك قطعة شاش أو أداة من أدوات الجراحة في جوف المريض.
والراجح في الفقه كما في القضاء أن الطبيب يسأل عن خطئه المادي في كافة صوره وأشكاله سواء كان يسيراً أو جسيماً ما دام قد أفضى إلى نتيجة يعاقب القانون عليها.
ثالثاً:صور الخطأ الطبي
إن الجرائم المنصوص عليها في المادتين (342) و (343) عقوبات اتحادي هي جرائم غير عمدية، أي أن الخطأ هو علة العقاب عليها. وقد عدد المشرع الاتحادي في الفقرة الأخيرة من المادة (38) عقوبات صور الخطأ بقوله: “ويتوفر الخطأ إذا وقعت النتيجة الإجرامية بسبب خطأ الفاعل سواء أكان هذا الخطأ إهمالاً أم عدم احتياط أو طيشاً أو رعونة أم عدم مراعاة القوانين أو اللوائح أو الأنظمة أو الأوامر”. ولما كانت هذه الصياغة عامة ولم تخصص خطأ بعينه، فإنها تنطبق على الخطأ الذي يقترفه أي شخص بما في ذلك الطبيب.
1- الإهمال:
يقصد به التفريط وعدم الانتباه، أي أن يقف الفاعل موقفاً سلبياً فلا يتخذ واجبات الحيطة والحذر التي من شأنها الحيلولة دون وقوع النتيجة الإجرامية. ومن أمثلة ذلك إجراء عملية جراحية دون إجراء الفحوصات الطبية الضرورية، أو ترك قطعة من الشاش أو أداة في بطن المريض دون تكرار السؤال لثلاث مرات متتالية على الممرضة المساعدة عن عّد الأدوات وقطع الشاش في أية عملية جراحية، ومن ذلك أيضاً إهمال الطبيب مراقبة المريض بعد إجراء العلاج الجراحي فيترتب على ذلك إصابة المريض بالغرغرينا. وفي هذا الشأن تقول المحكمة الاتحادية العليا في تعريفها للإهمال “ان المقصود بالإهمال كصورة من صور الخطأ التي تقوم بها المسؤولية عن الإيذاء غير العمدي هو حصول الخطأ بطريق سلبي نتيجة ترك واجب أو الامتناع عن تنفيذ أمر ما، فتشمل هذه الصورة الحالات التي يقف فيها المتهم موقفاً سلبياً فلا يتخذ الاحتياطات التي يدعو إليها الحذر وكان من شأنها أن تحول دون حدوث النتيجة”.
وقد قضت محكمة النقض الفرنسية في أحد أحكامها بإدانة طبيب تسبب بوفاة مريضة بسبب اكتفائه بزيارتها في اليوم التالي للعملية، دون أن يلزم طبيب التخدير وأفراد طاقم العلاج بإعلامه عن تطور حالتها الصحية، فأسندت إليه الخطأ في صورة إهمال.
2- عدم الاحتياط:
إن عدم الاحتياط هو خطأ ينطوي عليه نشاط إيجابي يقوم به الفاعل، ويدل على طيش أو عدم تبصر أو عدم تدبر العواقب، وقد يدرك الشخص في هذه الصورة الضرر المتوقع كأثر لفعله ولكنه لا يفعل شيئاً لدرئه واتقائه. ومن أمثلة ذلك إجراء الطبيب علاجاً بالأشعة بواسطة أجهزة يعرف أنها معيبة، وكذلك عدم اتخاذ الطبيب الاحتياطات اللازمة في استعمال الأشعة على جسم طفل مما سبب له حروقاً خطيرة نشأت عن عدم مراعاة الحساسية الخاصة لجلد الطفل وهو في هذه السن المبكرة.
وفي هذا الصدد فقد أدانت المحكمة الاتحادية العليا طبيباً بسبب قيامه بعد إجراء عملية الختان للمجني عليه بفك الغيار في كل يوم ومشاهدة الجرح في غرفة غير معقمة، وذلك لعدة أيام، مما تسبب في تلوث الجرح أسفر عن تشوه في ذكر المجني عليه، فاعتبرت المحكمة ذلك خطأ يوجب مسؤولية الطبيب صورته عدم التحرز في أداء العمل.
كذلك قضت محكمة النقض الفرنسية بإدانة طبيب بسبب عدم احتياطه بعد إشرافه على ولادة متعثرة أحاطت بها مخاطر كبيرة، فلم يترك للقابلة التي كلفت بمتابعة هذه الحالة تعليمات مكتوبة وتوجيهات محددة بشأن توجيهه بحقن المريضة بدواء معين ومدة هذا الحقن، مما أدى إلى تصرف هذه القابلة منفردة بإيقافها هذا الحقن، فتسبب ذلك في نزيف داخلي للمريضة أسفر عن وفاتها، فتمت إدانة القابلة والطبيب معاً.
3- الرعونة:
وإن كانت تعني الطيش والخفة، فإن المقصود بها هنا عدم الحذق والدراية، وهي تنطبق على من يمارس أعمالاً فنية، ولكن تنقصه الخبرة اللازمة، ومن ذلك الطبيب إذا اتضح أن ما وقع منه يدل على عدم إلمامه بواجباته طبقاً للمبادئ العلمية السائدة في الطب، كمن يتسبب في قطع الشرايين في عملية جراحية دون أن يربطها، كما تقضي بذلك الأصول العلمية.
ومن أمثلة هذه الصورة من الخطأ التي عرضت على القضاء ما قضت به محكمة النقض المصرية من أن: “الآثار الحيوية الموجودة برأس الجنين الذي عثر عليه الطبيب الشرعي بالتجويف البطني تشير إلى أنه وقت إجراء عملية الإجهاض كان الجنين مازال حياً وغير متعفن كما يقرر المتهم، وأنه يفسر تشخيص المتهم لوفاة الجنين نتيجة لعدم سماعه ضربات قلب الجنين، وأنه في مثل هذه المدة من الحمل التي وصلت إليها المجني عليها ما كان ينبغي استعمال جفت البويضة لاستخراج الجنين على عدة أجزاء كما قرر المتهم، فضلاً عما ظهر من وجود تمزيق كبير بالرحم، وإن ذلك مفاده أن المتهم قد أخطأ في الطريقة التي اتبعها في إنزال الجنين الأمر الذي أدى إلى حدوث الوفاة نتيجة تمزق الرحم وما صحبه من نزيف وصدمة عصبية. وانتهى الطبيب الشرعي في تقريره إلى أن ذلك في رأيه يعتبر خطأ مهنياً جسيماً…. ثم خلص الحكم إلى ثبوت الاتهام المسند إلى الطاعن(3)”.
ومن أحكام محكمة النقض الفرنسية في هذا الشأن، إدانتها لطبيب مسندة إليه تهمة القتل الخطأ بسبب الثقب الذي أحدثه في رحم المجني عليها بجهاز الشفط، ثم أمره بإيقاف فحص التجويف البطني عن طريق القسطرة والذي أمر به طبيب التخدير، وانتهاء بعدم فتح البطن جراحياً الذي كان ضرورياً لإيقاف نزيف داخلي حاد…
4- عدم مراعاة القوانين أو اللوائح أو الأنظمة أو الأوامر:
فهذا سبب قائم بذاته تترتب عليه مسؤولية من يخالف هذه الأنظمة عن الحوادث الناجمة عن ذلك، وإن لم يثبت في حقه أي نوع آخر من أنواع الخطأ. وتشمل هذه الأنظمة القوانين واللوائح والأوامر التي توضع لحفظ الصحة العامة والأمن والسلامة. وتجدر الإشارة إلى أن مخالفة القوانين واللوائح جريمة مستقلة بذاتها، فإذا ما ترتب على هذه المخالفة إصابة، فإن المخالف يعاقب على الإصابة والمخالفة في وقت واحد، حيث يقوم في حقه التعدد المعنوي للجرائم، وبالتالي يطبق عليه نص المادة (87) عقوبات اتحادي التي تقضي بتوقيع العقوبة الأشد في هذه الحالة.
الفرع الثاني: علاقة السببية بين الخطأ الطبي والنتيجة الإجرامية:
لا يكفي لقيام المسؤولية الجنائية للطبيب ثبوت وقوع الخطأ منه، بل يجب أن يفضي هذا الخطأ إلى ضرر مرتبط به ارتباط العلة بالمعلول، بحيث لا يمكن أن يتصور حصول النتيجة الضارة لو لم يتم اقتراف الخطأ. وعليه فإنه يجب أن تكون الإصابة تالية للخطأ وناشئة عنه، أي قيام علاقة أكيدة un lien certain بين الخطأ والضرر، بحيث لو انعدمت هذه العلاقة انعدمت مسؤولية الطبيب تبعاً لذلك، وترتيباً على ذلك قضت إحدى المحاكم الفرنسية بأن موت الجنين في مرحلة الولادة بسبب حدوث تهتك في الرحم وليس بسبب آلام المخاض لا يدين الطبيب ولا القابلة لأن إهمالها لم يكن السبب في حصول هذا التهتك.
وإن اشتراط وجود علاقة سببية مؤكدة بين الخطأ الطبي والضرر لقيام مسؤولية الطبيب هو الذي دفع محكمة النقض الفرنسية إلى رفض تأسيس المسؤولية الطبية على مجرد تفويت فرصة الشفاء أو الحياة، حيث قررت بأن خطأ الطبيب الذي فوت على المريض فرصة الحياة لا يكفي لإدانته بجريمة القتل الخطأ، طالما انعدمت رابطة السببية الأكيدة بين الخطأ والضرر. أما إذا كان الخطأ الطبي هو السبب الذي حرم المريض من كل فرص الحياة، عندئذ تقوم علاقة سببية مؤكدة بين الخطأ والوفاة، وبناء عليه قضت محكمة النقض الفرنسية بأن الطبيب الذي أوجد لا إرادياً خطراً قاتلاً un risque mortel، وأهمل في تفادي آثاره، حرم المريضة من أية فرصة للحياة، وعليه فإن سلوكه يشكل خطأ يرتبط سببياً بالوفاة، فتقوم بذلك جريمة القتل الخطأ.
وإن نص المادتين (342) و (343) عقوبات اتحادي في شأن القتل والمساس بسلامة الجسم الخطأ، لا يشترط أن تكون علاقة السببية مباشرة وحالة Direct et immediate، ذلك أن التطور الحالي الهام المتعلق بالطريقة الجماعية للممارسة الطبية، أفرز مسألة تحديد المسؤولية الجنائية في نطاق الفرق الطبية، خاصة في حالة تعاون عدد من المتخصصين في الحالة الواحدة. فإذا نجم الضرر عن سلسلة من الأخطاء المختلفة، فإن القضاء يتجه إلى نسبة الجريمة إلى كل شخص كان لخطئه دور في إحداث النتيجة الإجرامية. وفي هذا الخصوص قضت المحكمة الاتحادية العليا: “…. وإن مسؤولية الاستشاري إذا كانت ذات أهمية كبرى في مثل هذه الحالات فإن مسؤولية من كن تحت إشرافه من الطبيبات لا تقل عن تلك الأهمية لأن كلاً من الاستشاري والمطعون ضدهن يحمل صفة الطبيب المؤهل للمعالجة…. وحيث يتضح جلياً أن الطبيبات قد خالفن واجباتهن الإنسانية والمهنية بما أدى إلى تفاقم حالة الطفل المرضية وإصابته بالأعراض الموصوفة على النحو السابق الإشارة إليه بالتقارير الطبية وبالخصوص تقرير الطبيب الشرعي السابق الإشارة إليه وإن احتماءهن بعملهن تحت إشراف الاستشاري الذي وقعت إدانته في الأصل لا يقيهن من تحمل مسؤولياتهن نتيجة أخطائهن الشخصية الصادرة عنهن والتي يجب أن يحاسبن عليها بشكل ذاتي…”.
وفي هذا الشأن أقرت محكمة النقض الفرنسية مسؤولية طبيب عن القتل الخطأ لمريض توفي جراء نوبة صرع، حيث أخطأ الطبيب في التشخيص وقرر تبعاً لذلك إيقاف العلاج المضاد للصرع تدريجياً، فقضت بأنه وإن تعذر تحديد السبب الحقيقي للوفاة، فإن هذا لا يحول دون قيام علاقة سببية بين الخطأ الطبي والوفاة، طالما أن المريض عانى من نوبتي صرع حديثتين بعد إيقاف العلاج، وأنه لم يكن مصاباً بأي مرض آخر ذي مخاطر.
كما قضت محكمة النقض الفرنسية بإدانة طبيب التخدير الذي لم يقم بزيارة المريض الذي أجريت له الجراحة بعد أن أخبرته الممرضة بوضع المريض الحرج، وأدانت الطبيب الجراح الذي لم يتشاور مع طبيب التخدير الذي أشرف معه على مراقبة المريض بعد العملية، وكذلك لعدم نقله المريض إلى غرفة الإنعاش الذي كان قد قدر أنه ضروري.
وفي نفس السياق أدانت محكمة النقض الفرنسية طبيب أمراض نساء بسبب خطئه في مراقبة المريضة بعد العملية القيصرية، وكذلك مساعدة التمريض، ورئيس مجلس إدارة المستشفى.
وفي هذا الخصوص فإن الالتزام العام بالإشراف والمراقبة الذي يقع على عاتق رئيس الفريق الطبي، كالجراح في نطاق العملية الجراحية، يؤدي بالقضاء إلى الحكم بمسؤوليته، وعلى ذلك قضت محكمة النقض الفرنسية بأن الطبيب يسأل شخصياً عن الأفعال المرتكبة أثناء العملية الجراحية من أفراد الطاقم الطبي الموضوعين تحت إشرافه المباشر، فيعد مرتكباً لخطأ يستوجب المساءلة إذا لم يمارس هذا الإشراف والمراقبة باليقظة اللازمة.
وفي حكم آخر ميزت هذه المحكمة بين اختصاصات الجراح وطبيب التخدير، وأقرت بأنه إذا كانت متابعة المريض ومراقبة حالته تقع على طبيب التخدير فيما يتعلق بتخصصه، فإن الجراح أيضاً عليه التزام عام باليقظة والحذر بحيث يضمن بقاء المريض تحت إشراف شخص كفء. وتعليقاً على ذلك يقول البرفيسور Penneau، إن تخدير المريض ليس غاية في ذاته، فهو يساهم في تنفيذ عمل جراحي، الرئيس فيه هو الجراح الذي يلتزم شخصياً بواجب الإشراف والمراقبة، وعلى هذا الأساس فإنه يسأل شخصياً.
وطبقاً للقواعد العامة فإنه لا يرفع المسؤولية عن الطبيب أن يكون المريض نفسه وقع منه شيء من الخطأ، ذلك أن خطأ المجني عليه يخفض من مسؤولية الجاني بمقدار ما يكون هذا الخطأ قد ساعد على وقوع الإصابة، فإذا بلغ من الجسامة مقداراً يتضائل معه خطأ الجاني، تعين مراعاة ذلك في تقدير العقوبة.
فإذا كان خطأ المجني عليه هو السبب في حدوث الضرر، فإن علاقة السببية تنقطع بين الضرر وخطأ الجاني، ومن الثابت في هذا الشأن أنه لا يعد خطأ من المريض رفضه علاجاً أو جراحة من شأنها أن تصلح ما أفسده الطبيب. وأما إذا ساهم مع خطأ الطبيب في إحداث الضرر عامل آخر لا يمكن أن ينسب إلى شخص، كتطور المرض أو مضاعفاته مما قد يؤدي إلى عدم نجاح العلاج، وكان هذا العامل مما يمكن توقعه وتفاديه، فإنه لا يقطع علاقة السببية، وبالتالي لا يؤثر في مسؤولية الطبيب. وإن تقدير القاضي توافر رابطة السببية بين الخطأ الطبي والضرر الذي لحق بالمريض ليس بالأمر السهل، إذ كثيراً ما تختلف تطورات المرض الواحد لغير سبب معروف مما يجعل أكثر الأطباء إلماماً بمهنته حائراً أمامها، دون أن يستطيع بيان العوامل التي أثرت في سير المرض أو نتيجة العلاج، وتبعاً لذلك تشدد القضاء في تقديره لتوافر رابطة السببية بين خطأ الطبيب والضرر الذي أصاب المريض، مقرراً استبعادها طالما لم يثبت له على وجه اليقين أن خطأ الطبيب قد أفضى إلى حدوث الضرر بحيث لولاه لما وقع. وبناء على ما تقدم فإنه إذا ثبت اقتراف الطبيب لخطأ معين ترتب عليه ضرر لحق بالمريض وتوافرت علاقة السببية بينهما، فإن عناصر المسؤولية الجنائية تتوافر في حق هذا الطبيب الذي يسأل بحسب ما إذا أفضى خطؤه إلى وفاة أو إلى مساس بسلامة جسم المريض، فتنطبق عليه العقوبات الواردة في نص المادتين (342) أو (343) عقوبات اتحادي بحسب الأحوال.
المبحث الثاني تطبيقات المسؤولية الجنائية عن الخطأ الطبي
بعد استعراضنا لأركان الخطأ الطبي الواجب توافرها لمساءلة الطبيب جنائياً، وكيفية إثبات هذا الخطأ أمام القضاء، فإننا سنخصص هذا المبحث لدراسة صور الأخطاء الطبية الأكثر شيوعاً والتي نظرها القضاء الجنائي وقال حكمه فيها. وعليه سنقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب نتناول في كل منها على التوالي الآتي: أخطاء التشخيص، أخطاء العلاج، أخطاء التخدير، وأخطاء الجراحة.
المطلب الأول: أخطاء التشخيص
تبدأ جهود الطبيب في علاج المريض ودرء الخطر عنه بتشخيص المرض تمهيداً لإعطاء العلاج المناسب وتتسم هذه المرحلة بالدقة، حيث يحاول الطبيب فيها معرفة ماهية المرض ودرجة خطورته، وظروف المريض التي قد تؤثر فيه مثل حالته الصحية، سوابقه المرضية وأثر الوراثة فيه.
وعلى الطبيب أن يبذل العناية اللازمة في فحص المريض، وعليه أن يستعين بآراء الأخصائيين في كل حالة يدق عليه فيها التشخيص، كما له أن يأخذ بكافة الطرق العلمية للفحص كإجراء التحاليل، والتصوير بالأشعة، وذلك بغية إحاطة عمله بالضمانات اللازمة التي تمكنه من إبداء رأيه بشكل أقرب إلى الصواب. فإذا أهمل الطبيب في ذلك وتسرع في تكوين رأيه، فإنه يسأل عن الأضرار المترتبة على خطئه في التشخيص.
وتجدر الإشارة إلى أن الطب علم تحكمه نظريات جدلية في الغالب، لذلك لا يجوز أن يسأل الطبيب لأنه أخذ في تشخيصه برأي دون غيره في مسألة خلافية. فضلاً على ذلك فإن أعراض الأمراض قد تختلط وتتشابه، ومن ثم فإن تشخيص الطبيب يعتمد على مقدرته الطبية وعلى دقة ملاحظته واستنتاجه. وإن الخطأ الذي يقع فيه الطبيب هنا قد يكون بسبب قصور في ملاحظته، وليس بسبب جهله بقواعد مهنته.
وإذا كان تشخيص المرض تشخيصاً سليماً يتطلب الاستعانة بإجراء تحاليل معينة كتحليل الدم أو البول مثلاً، أو أخذ صور أشعة لأجزاء معينة من جسد المريض، وجب على الطبيب القيام بذلك، وله أن يصف للمريض علاجاً مؤقتاً لحين ظهور نتائج التحاليل والأشعة. فإذا لم يجر الطبيب هذه الأعمال فإنه يكون قد أخطأ في أدائه لعمله مما يستوجب مساءلته فعقابه.
وبناء على ذلك فإن الطبيب يسأل عن الخطأ في التشخيص إذا أهمل في الفحص بأن أجراه بطريقة سطحية تنم عن تسرع. كما يثبت أيضاً إذا كانت علامات المرض وأعراضه واضحة بحيث لا تفوت على الطبيب المعتاد الذي يوجد في ذات ظروف الطبيب الذي أجرى الفحص.
ويسأل الطبيب كذلك كلما ارتكب في التشخيص خطأ يدل على جهل واضح بالمبادئ الأولية للطب. ومن ثم فقد ميز القضاء الجنائي بين التشخيص المعقدDiagnostic Complexe وهذا لا يشكل خطأ يثير مسؤولية الطبيب، وبين التشخيص الواضحDiagnostic évident الذي يستوجب الخطأ فيه مساءلة الطبيب. وتطبيقاً لذلك قضت المحكمة الاتحادية العليا بنقض حكم استئنافي قضى بإدانة طبيب، واستندت في قضائها إلى تعقيد حالة المريض وصعوبة التشخيص حيث أوردت في حكمها “…. أن قسم الأشعة لم يخطر الطبيب الطاعن الذي كان على رأس الجراحة بوجود قصور في تكوين الجيوب الأنفية، وانعدام خلقي للنواتئ الخطافية، ولم يتوفر للطبيب سوى صور أشعة مقطعية سمك 5 مللمتر وبمستوى رؤية ضعيف (غير واضح منها تفاصيل التركيبات العظمية الفوهية) مما أوهم الطبيب بأن حالة المريض تشخيص في التهاب مزمن، وضيق في الجيوب الأنفية….”.
كما قضت محكمة النقض الفرنسية بتبرئة طبيب أخطأ في التشخيص حيث استبعد الانسداد المعوي الذي تسبب في وفاة المريضة، واستندت المحكمة في حكمها إلى تعقيد وعدم وضوح الأعراض الذي أدى إلى صعوبة ملاحظة الانسداد.
ومقابل ذلك قضت ذات المحكمة بمسؤولية طبيب عن موت المريض بسبب افتقاره للفكر الناقد وإصراره على اتباع التشخيص الخاطئ لزميله الذي سبقه في فحص المريض، حيث تتمثل الوقائع في توجيه طبيب للأمراض العقلية مريضاً إلى زميل له بعد أن شخص المرض على أنه انهيار عصبي Dépréssion névrotique، فترك الطبيب الثاني المريض يموت جرّاء توقف جهاز القلب.
ومن ذلك أيضاً إدانة محكمة النقض الفرنسية لطبيب أخطأ في التشخيص بسبب استعماله طرقاً لم يعد معترفاً بها علمياً، وعدم استعماله للمعطيات العلمية الحديثة.
ومن الحالات التي يسأل فيها الطبيب عن الخطأ في التشخيص، عدم استشارته لزملائه الأكثر تخصصاً في المسائل الأولية اللازمة، حتى يتبين طبيعة الحالة المعروضة عليه. وكذلك إذا أصر على رأيه رغم تنبيهه من قبل زملائه إلى خطئه في التشخيص.
وعموماً فإن التشخيص الطبي مسألة فنية خالصة، لا تستطيع المحكمة إبداء الرأي فيها منفردة، ومن ثم فهي تلجأ إلى الخبرة الطبية، غير أن رأي الخبير يخضع في النهاية لسلطتها التقديرية، فتأخذ به إن اطمأنت إليه وتطرحه في غير ذلك، ويتعين عليها في أخذه وطرحه الاستناد إلى أدلة سائغة صحيحة وإلا كان حكمها باطلاً.
أخطاء العلاج
إذا ما فرغ الطبيب من تشخيص المرض كمرحلة أولى يقوم بوصف الدواء، ويحدد الطريقة الملائمة للعلاج، ولا يلتزم في ذلك بتحقيق نتيجة معينة مثل شفاء المريض وزوال المرض، ولكن يقع عليه التزام بذل العناية الواجبة في اختيار الدواء المناسب ابتغاء تحسين حالة المريض.
والأصل أن يترك للطبيب حرية التصرف وفق مهارته وتجاربه، فيختار العلاج والطريقة المناسبة، شريطة أن يكون كل ذلك مبنياً على أسس علمية معترفاً بها، وعليه فهو غير ملزم باتباع آراء الغالبية من الأطباء، ولا يسأل عن الطريقة التي يعالج بها مريضه، مادام أنه قدر أنها أكثر ملاءمة لحالة المريض.
ويجب على الطبيب وصف العلاج دون أن يعرض المريض لخطر لا تدعو إليه حالته، ولا يتناسب مع الفائدة التي قد تترتب عليه. وفي هذا المقام عليه أن يوازن بين مخاطر المرض ومخاطر العلاج، فإذا كان من شأن المرض عدم تهديد سلامة المريض، فلا يجوز تعريضه لعلاج من شأنه إيذاؤه. وفي هذا الخصوص قضت محكمة النقض الفرنسية بمسؤولية جراح عن قتل غير عمدي بسبب إهماله وعدم احتياطه، وذلك لمباشرته دون ضرورة لفحص بالمنظار لجوف المريضة، وهذا الفحص لم يكن مناسباً لحالتها، وتمّ دون استنفاد وسائل الكشف الأخرى.
وإذا راعى الطبيب في إعطاء العلاج أو في إجراء العملية أصول وقواعد مهنة الطب، فإنه لا يسأل عن الآلام التي يمكن أن تترتب على ذلك، وكذلك المضاعفات التي يمكن أن تنجم عن المرض. ومقابل ذلك يسأل الطبيب عن خطئه في العلاج إذا تجسد هذا الخطأ في إهمال أو جهل بالقواعد الأولية في علم الطب، من ذلك على سبيل المثال إعطاء العلاج بجرعة أقل أو أكبر، أو بإعطائه على مدد متقاربة، خلافاً لما تقضي به القواعد الطبية عادة. وذلك كله لأن الطبيب يقع عليه الالتزام بمراعاة الحيطة في وصف العلاج، وضبط الجرع التي تتناسب مع حالة المريض وبنيته، وسنه ودرجة احتماله للمواد التي يحتويها الدواء. وفي هذا الخصوص يجب على الطبيب أن ينبه المريض إلى المخاطر التي يمكن أن تترتب على العلاج المزمع اتباعه، وعليه بعد ذلك أن يراقب بعناية تأثيره على جسد المريض خلال فترة تعاطيه.
وعليه فإن الطبيب إذا أعطى المريض دواء من الأدوية المعروفة بسميتها، وكان المريض يعاني من حساسية لهذا الدواء، تسنى للطبيب معرفتها، فترتب على ذلك حدوث تسمم للمريض، فإنه يسأل جنائياً عن ذلك لأنه كان بإمكانه وصف دواء آخر يجنب المريض هذا الضرر الناجم عن هذه الحساسية، أو يخفف من أثرها، ولكنه لم يفعل.
ويسأل الطبيب أيضاً إذا أخطأ في اختيار العلاج المناسب، ومن ذلك ما قضت به المحكمة الاتحادية العليا بإدانة طبيب استشاري وكذلك الطبيبات المناوبات في قسم الولادة، بسبب الخطأ في إعطاء العلاج المناسب، حيث تم اتباع العلاج الضوئي لمرض الصفراء ذي التركيز المرتفع والذي ثبت وجوده لدى أحد الأطفال “…. ومن الثابت علمياً أن العلاج الضوئي يجرى فقط في الدرجات البسيطة من الاصفرار خلال اليومين أو الثلاثة الأولى فقط، أما النسب المرتفعة من الصفراء والتي تستمر بعد الثلاثة أيام الأولى، فلا يجرى فيها العلاج الضوئي، بل على العكس من ذلك فقد يضر أكثر من الصفراء، والعلاج الوحيد هو تغيير الدم….”.
كما قضت محكمة النقض الفرنسية بإدانة طبيبين، بسبب إصرارهما على أن يتم التوليد طبيعياً، على الرغم من فشل محاولتهما إخراج الوليد بجهاز الشفط، وملاحظتهما لوجود مشاكل في دقات القلب لديه.
ويجب على الطبيب وبصفة خاصة الجراح اتخاذ الاحتياطات اللازمة التي تسبق التدخل الجراحي فعدم إجراء الفحص اللازم، أو مراقبة المريض في الفترة التي تسبق العملية الجراحية، يشكل خطأ يستوجب مسؤولية الطبيب الجنائية. وفي هذا قضت محكمة النقض الفرنسية في حكم حديث لها بإدانة طبيب بجريمة القتل الخطأ، بسبب عدم قيامه بفحص اكلينيكي شامل للمريضة، وهذا الإهمال أعاق تشخيص المرض بدقة، وأخّر التدخل الجراحي، مما نجم عنه وفاة المجني عليها.
ويعد عدم إرسال الطبيب المريض إلى المستشفى لتلقي العلاج المناسب خطأ طبياً يتصل بالعلاج، وفي هذا الخصوص قضت محكمة النقض الفرنسية بإدانة طبيب بالقتل غير العمدي لطفل يبلغ من العمر أربعة عشر شهراً، توفي جرّاء متاعب في الجهاز الهضمي، فرغم إطلاع الطبيب على سجل المريض الطبي ومعرفته بالعملية الجراحية التي أجريت له، واستمرار القيء لديه، إلا أنه لم يرسله إلى المستشفى للاستفادة من العلاج الملائم.
المطلب الثالث: أخطاء التخدير
لقد أعان التخدير على منع الشعور بالألم عند الكشف على الأجزاء المؤلمة من الجسم، وعلى تسهيل إجراء العمليات التي تحتاج سكوناً تاماً من المريض، وعلى التوليد دون ألم. وإذا كان من الممكن أن تترتب عليه بعض الأضرار أحياناً، إلا أن ذلك لم يمنع من انتشاره في جميع فروع الطب.
وتتعدد أنواع التخدير، فهناك التخدير الموضعي، الذي يتم بحقن الموضع الذي يستعمل محلاً للجراحات البسيطة جداً، وعمليات العين. وهذا النوع من التخدير يمكن أن يقوم به الجراح نفسه دون الاستعانة بأخصائي في التخدير.
وهناك التخدير النخاعي، ومن الممكن أن يقوم به أي أخصائي في الجراحة دون وجود طبيب تخدير إذا كان يحسنه، ولما كان ينجم عن ذلك تشتت فكر الجراح بين متابعة حالة المريض والعملية فإن الجراحين يفضلون قيام أحد أخصائي التخدير به.
وأخيراً هناك التخدير الوريدي والتخدير الاستنشاقي، ووجود طبيب للتخدير أثناءهما أمر لازم لا مناص منه.
ويتعين على الجراح أو أخصائي التخدير فحص المريض قبل التخدير لمعرفة حالة قلبه، ومدى احتماله للمخدر، مع التأكد من خلو معدته من الطعام، واتخاذ ما يلزم من احتياطات يقتضيها الفن الطبي. ثم يقوم بتخديره بالكيفية التي يراها مناسبة، ويتولى بعد ذلك مراقبة حالة المريض أثناء العملية لتفادي كل ما يمكن أن يحدث من أثر في قلبه وتنفسه. وبعد انتهاء العملية عليه أن يراقب المريض حتى يفيق بصورة كاملة.
ويجب على طبيب التخدير عند استخدام المخدر مراعاة الدقة اللازمة، ولا يسأل إلا إذا أهمل بأن قام بإجراء خطير لا تقتضيه الضرورة وترتبت عليه الوفاة، ذلك أن القواعد العامة المقررة في التخدير وسائر وسائل العلاج تقتضي ألا يعرض الطبيب المريض لخطر لا يتناسب مع درجة الإصابة التي يشكو منها.
ويجب على طبيب التخدير أن يبذل الدرجة المقبولة من العناية والمهارة وفق مستوى خبرته، غير أن ذلك لا يعني أن يضمن عدم وفاة المريض تحت التخدير.
ولمساءلة طبيب التخدير استناداً إلى إهمال صدر منه، فإنه يجب على جهة الاتهام إثبات أن الضرر الذي لحق بالمريض نجم عن فعل طبيب التخدير، وقد يكون ذلك أمراً صعباً في حالة وفاة المريض، ذلك أنه إذا تبين من عملية التشريح خلو الجثة من أي أمر غير طبيعي، فذلك لا يعد دليلاً على أن الوفاة حصلت بسبب التخدير. وعليه فإن تحديد مسؤولية طبيب التخدير عن وفاة مريض أثناء أو بعد عملية جراحية، أمر تكتنفه مشقة وصعوبة، ولعل ما يخفف من ذلك توافر الأمانة في تدوين تقرير سير الأحداث والمسارعة إلى تشريح جثة المريض المتوفى، وفي هذا يقول أحد الأطباء المخصصين أنه لم يتسن له التحقق من السبب الحقيقي لوفاة مريض تم تخديره وتوفي أثناء أو بعد التخدير خلال الأربعين سنة الماضية.
ومن القضايا التي نظرها القضاء الفرنسي في هذا الخصوص، إدانته لطبيب تخدير لم يلاحظ نقص التنفس عند المريضة، فأعطاها مادة مخدرة لا تتناسب مع حالتها المرضية، فضلاً على ذلك غاب عن غرفة العمليات فترة من الوقت، دون أن يعهد بمراقبة التخدير لشخص مؤهل.
المطلب الرابع: أخطاء الجراحة
إن الجراحة مهنة طبية جليلة قدمت للإنسانية الكثير، وهي تتطلب من ممارسيها العناية والمهارة الكبيرتين أكثر مما تتطلبه العلاجات الطبية الأخرى.
ولا يحق للطبيب الجراح إجراء العملية الجراحية إلا بعد أن يقوم بفحص المريض بدقة، وعناية، والتأكد من أن حالة المريض لا تنذر بنتائج أخطر، فإذا كانت الجراحة خطيرة ودقيقة، يجب أن تكون لازمة لإنقاذ حياة المريض. وعليه فإن الطبيب يسأل عن أي ضرر يمكن أن يترتب على أي إهمال يتعلق بالفحص السابق على العملية الجراحية.
ويلتزم الجراح باستشارة الطبيب المعالج حتى يسترشد برأيه في مدى تحمل المريض للعملية الجراحية وبصفة خاصة إذا كانت تتسم بخطورة مؤكدة. ولما كان الطبيب الجراح مستقلاً في مزاولة مهنته، فإن مسؤوليته عن الأضرار التي قد تترتب على العملية الجراحية لا تنتفي بكون الطبيب المعالج هو الذي أشار إليه بإجراء الجراحة، لأنه ملزم بفحص المريض ودراسة حالته للتأكد من ضرورة العمل الجراحي، وما قد ينجم عنه من آثار.
ويجب على الطبيب قبل البدء في مباشرة العمل الجراحي الحصول على رضاء المريض، بعد إعلامه بحالته، وطبيعة العلاج الذي تتطلبه، وتفاصيل العملية الجراحية ومضاعفاتها المحتملة. فإذا تم إجراء الجراحة دون الحصول على هذا الرضاء يسأل الطبيب الجراح على ذلك حيث تنتفي الإباحة عن فعله. ويجوز إجراء العملية الجراحية دون رضاء المريض عند الضرورة كالحالات المستعجلة التي تقتضي إنقاذ حياة المريض، الذي لا تسمح حالته بالتعبير عن رضائه، ولا يوجد من يمثله قانوناً ويمكنه إصدار هذا الرضاء، وعلى الطبيب الجراح في هذه الحالة إطلاع المريض على حالته بعد إفاقته، والتدخل الجراحي الذي تم على جسده، وما ترتب عليه من أثر.
ولا يجوز للجراح الامتناع عن إجراء عملية جراحية للمريض بسبب خطورتها مادامت حالته تقتضيها، غير أنه لا يسأل عن رفضه إجراء جراحة معينة إذا كانت نتائجها محل شك عنده.
ولا يسأل الجراح عن طريقة إجراء العملية مادام قد تقيد بالأصول والقواعد العلمية المقررة، ولم يصدر منه أي خطأ، وذلك أيّا كانت نتيجة العملية. وفي مقابل ذلك يسأل الجراح عن الأضرار الناجمة عن العملية الجراحية إذا تجاهل أصول الفن الطبي، من ذلك إهماله في تنظيف الجرح، أو تركه بقايا من الشاش، أو مقص أو غطاء في جوف المريض وترتب على ذلك إصابة المريض بتسمم انتهى به إلى الوفاة.
وفي هذا الشأن قضت المحكمة الاتحادية العليا بتأييد الحكم المطعون فيه الذي أدان طبيباً جراحاً عن جريمة التسبب خطأ في المساس بسلامة جسم المريض على أساس تلوث الجرح بفعل الطبيب، حيث تعامل مع الجرح بكثرة فتحه دون أن يكون ذلك في غرفة معقمة.
وأما فيما يتعلق بترك الجراح بعض الأشياء في جوف المريض، فإن الفقيه الفرنسيMichel Véron يرى بأن القضايا المتعلقة بهذا الموضوع تثير مسألتين مهمتين هما:
أولا – تحديد الجاني المسؤول:
إذا كان اكتشاف شيء في جوف المريض قد سبقه خضوع المريض ليس لعملية واحدة وإنما لعدد من العمليات الجراحية. فهنا يدق على القاضي تحديد المسؤول عن ترك هذا الشيء في بطن المريض، ويساعده في ذلك إسناده هذا الأمر للخبرة الطبية.
ثانياً – إن تحديد الوقت الذي يبدأ منه احتساب مدة تقادم الجريمة يثير مشكلة إذا كان اكتشاف الشيء الذي تم تركه في بطن المريض قد تم بعد مرور عدد من السنوات على إجراء العملية الجراحية، خاصة وأن جريمتي القتل والمساس بسلامة الجسم الخطأ كلاهما جنحة في التشريع الإماراتي المادتان (342) و (343) عقوبات اتحادي، والجنحة تسقط بالتقادم بمرور مدة قصيرة هي ثلاث سنوات من تاريخ ارتكاب الجريمة ( المادة 20/2) قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي.
ولعل ما يحلّ هذه الإشكالية أن احتساب مدة تقادم الجريمة في هذه الحالة يبدأ من التاريخ الذي تكتمل فيه أركان الجريمة وبصفة خاصة تحقق النتيجة الإجرامية أي الضرر وإمكان ملاحظته وذلك مرتبط دون شك باكتشاف الشيء الذي تم نسيانه في جوف المريض.
ويسأل الطبيب جنائياً عن الأخطاء التي يرتكبها بخصوص مراقبة المريض بعد إتمام العملية الجراحية، ذلك أن مراقبة الطبيب المريض ينبغي أن تمتد حتى إفاقة هذه الأخير تماماً من التخدير. وفي هذا فقد أدانت محكمة النقض الفرنسية أحد الجراحين بجريمة المساس بسلامة الجسم الغير العمدي، حيث سمح بوضع زجاجة ماء حار في سرير المريض بعد إجراء العملية الجراحية له، وقبل تمام إفاقته مما سبب له حروقاً في بعض أجزاء جسده. وفي هذا الحكم أوردت محكمة النقض الفرنسية: “أن مراقبة الجراح للمريض تستمر بعد العملية، وأنه إذا جرت العادة على أن يعهد الأطباء إلى الممرضات متابعة العلاج التالي للعملية، إنما يفعلون ذلك متحملين مسؤولية ما ينجم عن ذلك من مخاطر…”.
وأخيراً يسأل الطبيب جنائياً إذا سمح للمريض بالخروج من المستشفى، وكانت حالته تقتضي بقاءه فيها، إلا إذا أصر المريض على الخروج على مسؤوليته الخاصة بعد أن يكون الطبيب قد نبهه إلى آثار هذا المسلك الصحية، عندئذ لا مجال لمساءلة الطبيب.
اترك تعليقاً