حصانة المحامي في التشريع و القوانين السورية
حصانة المحامين في التشريع السوري
المحامي عثمان محمود
مقدمة :
مهنة المحاماة رسالة إنسانية سامية , شريفة , ونبيلة , رسالة مبادئ وأخلاق , وعلم , ومواقف متميزة ، وامتيازها إنها ليست صفة فحسب , بل هي موظفة لتحقيق هدف سامٍ ونبيل هو أساس تقدم الأمم وركيزة نهضتها آلا انه سيادة القانون , وهي تستمد أهميتها من دورها المزدوج , فهي من جانب تحمي وتدافع عن حقوق المظلومين , وتحفظ للناس شرفهم وأعراضهم وأموالهم ضد كل معتد أو طامعٍ , ومن جانب آخر تشكل أحد العناصر الأساسية التي تقوم على كواهلها صروح العدالة , وللمحامي مهام جسام في علاقته بالموكل والمجتمع وبما يحقق ويحفظ سيادة القانون ويعمل على تسهيل سبل التقاضي وإظهار الحقيقة . لذلك فالمحاماة لها تأثيرها الواضح في الواقع الاجتماعي والوطني , وفي تنمية الفكر القانوني لدى أفراد المجتمع و تعريفهم بحقوقهم وحثهم على أداء واجباتهم . فقد قال عنها لويس الثاني عشر (لو لم أكن ملكاً لفرنسا لوددت أن أكون محامياً ) , والمحاماة طريق من طرق نشر السلام , ومن أهم المهن و أشرفها و أجلها و أصعبها كما قال فولتير : (كنت أتمنى أن أكون محاميا لان المحاماة أجل مهنة في العالم ) . ونجد في المحاماة الخلق والإبداع وهي تفرض على المحامي أن يحيا مثلها ويتحلى بقيمها , وأن يعطيها جلَّ وقته , فهي لا تدع له وقتاً للراحة والسكون , وإذا كانت المحاماة كذلك , فمن هو المحامي وكيف يكون ؟
المحامي:
هو الشخص الذي أتخذ مهنة له تمثيل المتقاضين ومؤازرتهم في الأعمال القضائية أمام سائر المحاكم والمجالس القضائية ، إضافة إلى تقديم النصيحة و المشورة القانونية ، فالمحامي يكرس موهبته وعلمه ومعارفه و قدراته لحماية (الغير) والدفاع عنه ، ولذلك فلا بد أن يكون معداً أعداداً عقلياً ومهنياً و علمياً وروحياً و أخلاقياً , ليحمل رسالته السامية على خير وجه , وليكون في ساحة العدالة صاحب الكلمة الصادقة في إحقاق الحق ، وحيث الحكمة , والشجاعة , و العدالة , و الأمانة , والاستقامة , والإخلاص , والتضحية ، فمن أوتي هذه الفضائل فقد شرع في طريق المحاماة , إنه كما قال الفقيه الفرنسي غارسون :(المحامي هو القاضي الواقف ) ، إن الطبيب و المهندس و…… وأي مهني آخر يستطيع أن يؤدي مهمته متى دان له العلم والخبرة بتخصصه , أما المحامي فلا يكفيه العلم بالقانون وفروعه , وإنما يتوجب عليه أن يكون موسوعة في الثقافة والمعرفة , لأن رسالته قائمة على (الإقناع ) , وما لم يصل المحامي إلى هذا الإقناع , فإن مهمته تخفق في الوصول إلى غايتها … لذلك فالمحامي لا يمكن أن يكون من الخاملين , وإنما هو شعلة نابهة متوقدة متيقظة , مزودة بزاد من العلوم والمعارف , مستعدة على الدوام لخوض المصاعب وتحقيق الغاية مهما بذل في سبيلها ما دامت تستهدف الحق و العدل و الإنصاف . وهو يحتضن في ضميره آلام وهموم الناس , ويخوض الغمار ويجتاز الصعاب لأداء رسالته النبيلة .. رسالة قوامها الحجة والبيان والبرهان , فالمحاماة إذاً رسالة اجتماعية ، وخدمة عامة حقيقية مستقلة . وقد عرفها أحكام القانون رقم /39/لعام 1981 الخاص بتنظيم مهنة المحاماة في سورية على الشكل التالي : (( المحاماة مهنة علمية فكرية حرة مهمتها التعاون مع القضاة على تحقيق العدالة والدفاع عن حقوق الموكلين)).
أولا – نشأة المحاماة في سورية : يعود تاريخ المحاماة في سورية إلى أيام السلطة العثمانية عندما أصدرت قانون الافوكاتية في عام 1884م ، الذي عمل به في الأستانة دون باقي الولايات الأخرى . أما في العهد الفيصلي فلم يتطور تنظيم مهنة المحاماة وبقيت على نفس الأسلوب السابق ، وفي عام 1920، عهد الانتداب ، شكلت لجنة مهمتها إعادة النظر في قانون المحاماة عام ، ثمَّ أصدر حاكم ولاية حلب قانونا للمحاماة برقم 777 في عام 1922 ، واستمر الحال كذلك حتى عام 1930م حين صدر القرار رقم 2117 الذي كان بمثابة قانون عام لتنظيم مهنة المحاماة . وفي عام 1953م صدر المرسوم رقم (51) ألغيت بمقتضاه جميع القوانين و الأنظمة السابقة المتعلقة بتنظيم مهنة المحاماة ، وقضت أحكامه بوضع نظام جديد على أساس وجود ثلاث نقابات للمحامين في سوريا مستقلة عن بعضها بعضاً ، هي نقابة دمشق , وحلب , واللاذقية . وفي عام 1972 صدر المرسوم رقم (14) دمجت بموجبه النقابات الثلاث لتصبح نقابة واحدة مركزها دمشق على أن تتخذ لها فروعاً في مركز كل محافظة حسب الحاجة , فكان هناك فرع حلب , وحمص , وحماة , واللاذقية ……وفي الوقت الحاضر تخضع مهنة المحاماة لأحكام القانون رقم 39 المؤرخ في 21/8/1981 .
يتضح من خلال هذا العرض التأريخي لتنظيم وعمل مهنة المحاماة أننا أمام أرث كبير تنامى خلال فترة طويلة ، شكل رسالة مهنية وإنسانية لنمو وتطور عمل المحاماة والمحامي ، ولكي تستمر هذه الرسالة وتطال غايتها لا بدَّ من أن تحمل في طياتها شيئاً يوفر القدرة والقوة على استمرارها ، سواءً ، أكان ذلك منصباً على طبيعتها كمهنة إنسانية رفيعة المستوى ، أو منصباً على شخص من يمارسها ، وهذا ما يسمى بالحصانة .
الحصانة : والحصانة في اللغة هي المنع ، وفي القانون هو تمتع الشخص بالامتناع عن إلقاء القبض عليه إلا بعد اتخاذ إجراءات معينة ، أي إنها حماية أشخاص معينين من التتبعات القانونية والملاحقة القضائية عن الأفعال التي يرتكبونها ، وتشكل بنظر القانون جرائم ، وذلك أثناء قيامهم بواجباتهم الوظيفية أو المهام الرسمية التي يمارسونها . والحصانة قديمة قدم التاريخ فقد عرفت عند اليونانيين والفراعنة والرومان . إنَّ حصانة المحامي هي الضمانة التي تسمح له بممارسة عمله بحرية وتحميه من التعرض لأي توقيف أو استجواب أو تفتيش ، سواءً ، لشخصه أو مكتبه إلا بحضور رئيس مجلس الفرع أو من يمثله , وحصانة المحامي كحصانة القاضي فهي شخصية تترتب له وحده دون غيره من أفراد أسرته أو أقاربه , وبالتالي فالحصانة هي أولا و أخيرا تدبير من تدابير حماية المحامي وإشعار بأن في مقدوره أن يؤدي واجبه على أكمل وجه وفقا للقوانين . والحصانة ، تفصيلاً ، نوعان:
أولا : حصانة داخل جلسة المحاكمة :
1- المرافعة: حق الدفاع من الحقوق المقدسة , ولا يخشى التعرض لأية مسؤولية بسبب هذا الدفاع أمام القضاء وفي حدود حق الدفاع القانوني ، غير أن الأمر ليس مطلقاً كما يخيل للبعض ، فهناك قيود تحد من حق الدفاع وبالتالي من حدود الحصانة كاحترام القوانين والنظام العام والمعتقدات الدينية ، هذه القاعدة نص عليها المشرع كمبدأ عام في المادة 407 من قانون العقوبات , وبمقتضى نصها ( لا تترتب أية دعوى ذم أو قدح على الخطب والكتابات التي تلفظ أو تبرز أمام المحاكم عن نية حسنة وفي حدود حق الدفاع القانوني ) ، ورغم أن المبدأ السابق يشمل المحامي أيضا لأنه يعمل بالنيابة عن موكله , ويستفيد بالتالي من أيِّ حصانة قررها المشرع لصالح الموكل , إلا أن الشارع نص مع ذلك على هذا المبدأ في المادة 57 من قانون مزاولة مهنة المحاماة , الفقرة الثانية منها , وقد جاء فيها : ( على المحامي أن يمتنع عن ذكر ما يمس كرامة الخصم ما لم تستلزم ذلك حالة الدعوى أو ضرورة الدفاع , وللمحكمة أن تقرر حذف الألفاظ النابية التي لا مبرر لها ) .
من خلال نص المادتين السابقتين نستنتج أن هناك شروطاً لا بد من توفرها ، اشترطها المشرع ، لتمتع المحامي بحصانة المرافعة وهي :
1- يجب أن يكون المحامي وكيلاً عن أحد أطراف الدعوى ، وأن يتناول القدح أو الذم الطرف الآخر في القضية .
2- يجب أن تكون هناك خصومة قائمة أمام جهة قضائية ( عادي – عسكري – إداري …)
3- يجب أن يكون الجرم قدحاً أو ذماً ، ولا تتناول الحصانة الجرائم الأخرى لان هذه الحصانة أتت خلافاً للأصل وهو مبدأ المسؤولية ، لذا فإن تفسيرها يكون بشكل ضيق لا واسع .
4- ينبغي أن يقع الجرم أثناء الجلسة لا قبلها أو بعدها .
5- يجب أن يكون الجرم متعلقاً بموضوع الدعوى ومن مستلزمات حق الدفاع .
ويترتب على تجاوز حق الدفاع انتهاء مفعول الحصانة وتنبني عليه النتائج التالية:
– قيام المسؤولية الجزائية وتطبيق نص المادة 407 من قانون العقوبات .
– قيام المسؤولية التأديبية والأمر متروك لمجلس النقابة .
– قيام المسؤولية المدنية .
– وعملا بأحكام المادة 57 من قانون المهنة والمادة 140 أصول جزائية من حق المحكمة (جوازي ) حذف العبارات التي تراها خارجة عن حق الدفاع ويجوز ذلك من تلقاء نفسها أو بناء على طلب النيابة أو الخصم .
كما يحق للمحكمة أن تقاطع المحامي أثناء مرافعته وتطلب منه التوقف دون أن يعتبر ذلك انتهاكاً لحصانة حق الدفاع عندما تكون القضية واضحة لدى المحكمة ولا تدعو الحاجة إلى الاستمرار بالدفاع ، كما نصت المادة 71 فقرة 2 أصول جزائية : (ولا يحق للمحامي الكلام أثناء التحقيق إلا بأذن المحقق.)
2- جرائم الجلسات والجرائم المرتكبة فيها :
أ- جرائم الجلسات: وهنا يمكن المقارنة بين مواد قانون مهنة المحاماة المادة 78 وهو القانون الخاص ، و مواد أصول المحاكمات المدنية خاصة المادة 139 /2 ، فنرى :
المادة 78 : في حال صدر عن المحامي ما يخل بالنظام (موجب للمسؤولية التادبية أو الجزائية) ينظم رئيس المحكمة محضرا بذلك ، ويرسل صورة عنه إلى رئيس مجلس الفرع ، ثمَّ تقوم النيابة العامة بإجراء التحقيق وتبليغ رئيس الفرع ليوفد من يمثل الفرع في التحقيق . وهنا يتوجب تبليغ رئيس الفرع بإرسال كتاب خطي ، لأن الإبلاغ يستدعي يقيناً وصول العلم بوسيلة قانونية والرد عليه أصولاً , أما الإعلام فيقتصر على حالتي جرم المشهود و الجرائم المتعلقة بأمن الدولة فقط لوجود فارق بين الإبلاغ و الإعلام .
المادة 139 : (للرئيس أن يخرج من الجلسة من يخل بنظامها فأن لم يمتثل وتمادى كان للمحكمة أن تحكم على الفور بحبسه أربعا وعشرين …). وهذه المادة لا تطبق بحق المحامي لان فيها مخالفة صريحة للمادة 78 من قانون المهنة وهو قانون خاص , والقانون الخاص في التطبيق تمتع بأولوية وأرجحيه على غيره من القوانين .
ب- الجرائم المرتكبة في الجلسات : أما إذا وقع جرم جزائي من قبل المحامي لا علاقة له بموضوع تشويش نظام الجلسة ، فإن المحامي لا يتمتع بأية حصانة ويخضع للقواعد العامة المنصوص عنها بأحكام المواد 168 و 170 أصول جزائية.
ثانياً: الحصانة خارج جلسة المحاكمة : حتى ينقل المتداعي للمحامي كل الظروف المحيطة بقضيته ينبغي أن يكون واثقاً من أن المعلومات المتعلقة به لن تفشى وستبقى سراً لديه ، وهذا جزء من أسرار المهنة :
1ـ المحافظة على سر المهنة : والسر المهني هو الورقة أو الوثيقة أو المعلومة التي تصل إلى من يحفظها ويكون لها طابع السرية ، وعليه الاهتمام بها بوجه أي كان وأي جهة كانت ، ونظراً لأهمية السر المهني في حياة الناس فقد أولاه المشرع أهمية بالغة وحدد له نصوصاً قانونياً تعاقب من أفشاه دون مبرر أو مسوغ قانوني . وسر مهنة المحاماة هو واجب مقدس ومسلكي وأخلاقي ، ضمنه القانون لليمين الواجب أن يحلفها المنتسب إلى نقابة المحامين ، وقبل مباشرته أي عمل يتعلق بها ، فقد جاء نص المادة (22) من قانون المهنة كما يلي : ( أقسم بالله العظيم أن أمارس مهنتي بأمانة وشرف وأن أحافظ على سر المحاماة و احترام القوانين ).
والمادة (65) من قانون البينات السوري أكدت أيضاً على ذلك وجاء فيها ما يلي : ( لا يجوز لمن علم من المحامين أو الوكلاء أو الأطباء أو غيرهم عن طريق مهنته وصنعته بواقعة أو بمعلومة أن يفشيها ولو بعد انتهاء خدمته أو زوال صفته ما لم يكن ذكرها له مقصوداً به ارتكاب جناية أو جنحة ).
كما نصت المادة (565) من قانون العقوبات السوري على العقوبة لمن يفشي سراً ، فقد جاء فيها ( من كان بحكم وضعه أو وظيفته أو مهنته أو فنه على علم بسر وأفشاه دون سبب مشروع أو استعمله لمنفعته الخاصة أو لمنفعة آخر عوقب بالحبس سنة على الأكثر وبغرامة لا تتجاوز المائتي ليرة إذا كان الفعل من شأنه أن يسبب ضرراً ولو معنوياً ). فالمسؤولية الناتجة عن إفشاء السر المهني هي مسؤولية قانونية وليست عقدية والإفشاء لسرما قد يكون بالكتابة أو القول أو الإشارة , وعليه فقد رتب المشرع مسؤولية المحامي الجزائية إضافة إلى المسؤولية المسلكية والمدنية في حالة إفشائه لسر علم به من خلال مهنته ، لأن المشرع فضل المصلحة الخاصة في هذا المجال وهي كتم السر على المصلحة العامة وهي إفشاؤه ، لان المشرع هنا رجح الواجب الأخلاقي على الواجب الاجتماعي. وكما أن النظام الداخلي تعرض إلى موضوع سر المهنة في مادتيه 79 و 113 لدى الحديث عن واجبات المحامي .
– مشتملات السر المهني : إن جميع المعلومات التي تصل إلى المحامي بصفته ( وكيلاً أو مستشارا) الشفهية أو الخطية أو المرسلة باستخدام الهاتف أو الفاكس أو الانترنت أو خلال الاطلاع على ملف ما عائد للموكل أو عن طريق المفاوضات الجارية مع خصوم ، أو بأية طريقة أخرى ، والتي تتصف بالطابع السري الخاص يجب المحافظة على سريتها وعدم إفشائها ، وكل إفشاء للسر يتم خلافاً للقانون يقع باطلاً ، وواجب المحافظة على السر المهني عامٌ ومطلق وغير قابل للانتقال حتى بعد الوفاة ، كما لو أراد الورثة معرفة أسرار مورثهم من محاميه فليس لهم ذلك الحق ، وهنا لا فرق بين المعلومات المتعلقة بالموكلين أو الغير لان كلها مشمولة بالمادة 65 بينات
– مدى حق المحامي بالتحلل من السر المهني : أورد المشرع السوري عدة حالات يجوز فيها للمحامي التحلل من السر المهني وهذه الحالات هي :
أ- الحالة الأولى : إذا كان المقصود بالأمر ارتكاب جناية أو جنحة : لقد اوجب المشرع على كل مواطن علم بجناية أو جنحة أن يخبر عنها السلطات المختصة ، انطلاقا من واجب أخلاقي ووطني ، وقد دلت على ذك المادة 26 من قانون أصول المحاكمات الجزائية بفقرتيها الأولى والثانية حيث جاء فيها : (( 1- من شاهد الاعتداء على الأمن العام أو على حياة أحد الناس أو على ماله يلزمه أن يعلم بذلك النائب العام المختص . 2- لكل من علم في الأحوال الأخرى بوقوع جريمة أن يخبر عنها النائب العام )). وأيضاً ما ورد في المادة 65 بينات .
وكذلك المادة 388 عقوبات التي نصت : (كل سوري علم بجناية على أمن الدول ولم ينبئ بها السلطات العامة في الحال عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالمنع من الحقوق المدنية ). ومن باب أولى أن يكون المحامي أول الملتزمين بهذا المبدأ كونه أحد الساهرين على خدمة العدالة ، فقد أوجب عليه المشرع التحلل من السر الذي علمه عن طريق موكله إذا كان المقصود به ارتكاب جناية أو جنحة ، وفي هذه رجح المشرع المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وقد تأيد هذا المبدأ باجتهاد محكمة النقض السورية رقم /1707/أساس /2366/ تاريخ 4/11/1981م حيث جاء فيه : (( إذا كانت المعلومات التي اطلع عليها المحامي والتي أسر بها إليه أصحاب العلاقة من شأنها ارتكاب جنحة التحايل على القانون فلا يمكن أن تصان ويمكن الشهادة بها أمام القضاء وخاصة وأنه لم يكن وكيلاً لأحد طرفي العقد عند تنظيمه )) مرجعية حمو رابي رقم 20746 ، وفي حال وقوع الجرم واقر المتهم لوكيله , فهنا لا يجوز إفشاء السر بل من واجب المحامي إخبار النقيب ، والنقيب يضع السلطة القضائية بصورة دون ذكر الأسماء , ولا من حل عملي سوى هذا الحل حتى يومنا هذا وفي كل الأحوال تبقى المسألة مسألة وجدان وأخلاق .
ب- الحالة الثانية : إذن صاحب السر : ولكن هذا الإفشاء يجب أن لا يصطدم بالقوانين الخاصة ، فإذا كانت هذه القوانين تمنع الإفشاء في حال الإذن امتنع إفشاء السر ، وإن قانون المحاماة يحتم على المحامي المحافظة على السر المسلكي المهني وعدم إفشائه ، تأيد ذلك بالمادة /22/. حيث أكدت امتناع المحامي عن إفشاء السر ولو أذن له صاحبه بذلك تحت طائلة المسؤولية الجزائية والمسلكية نظراً لتعلق قانون المحاماة بالنظام العام . وهنا إذا صدف أن أفشى المحامي السر واستندت المحكمة في حكمها على هذه المعلومات فأن حكمها يعتبر باطلاً ، وقابلاً للطعن فيه لهذه الناحية لأن من واجب المحكمة إهمال هذه المعلومات البند 126 لقانون البينات.
ج- الحالة الثالثة في حال نشوب خلاف بين المحامي وموكله : وهذه الحالة مستقاة من المبادئ العامة ، فإذا نشب خلاف بين المحامي وموكله سواءً أمام مجلس الفرع أو أمام القضاء ، هنا للمحامي الحق أن يفشي ما أستودعه موكله من أسرار استناد لواجب حق الدفاع عن النفس على واجب الكتمان ، ولأنه أصبح أمام شخص سيء النية .
– المرجع في تقدير مدى ارتباط المعلومات بسر المهنة: إن المرجع الأول والأخير في تقدير سرية المعلومات هو المحامي نفسه ، فقد أجمعت كافة التشريعات على أن ضمير المحامي ووجدانه هو المرجع في ما اتصل بعمله من معلومات بطلب المحافظة عليها وكتمانها أو إفشائها ، وقد تأيد هذا المبدأ بقرار محكمة النقض السورية المختلطة الصادر بتاريخ 23/2/1938 والمنشور بالجريدة الرسمية (12) القسم الفرنسي تاريخ 30 / 3/ 1939 حيث جاء فيه : (إن ضمير المحامي هو الحكم المطلق وهو الذي يميز ما يلزم أن يقول وما يلزم أن لا يقول ). ومن واجب المحامي في مطلق الأحوال إذا دعي للشهادة أن يحلف اليمن ثم يمتنع عن الشهادة متمسكاً بواجب المحافظة على أسرار المهنة ، وإذا استطاعت المحكمة إثبات أن ما وصل من معلومات لدى المحامي لم يكن بسبب ممارسته لمهنته ولم يكن من المعلومات السرية والمتعلقة بحق موكله فعليه الإدلاء بها .
وقد جاء في البند (125) من المذكرة الإيضاحية لقانون البيانات على أن المنع الوارد في المواد /63-64-65-66-76/ هو موجه إلى شخص من لديه معلومات ، فعلى المحكمة أن تدعوه للشهادة وعليه الحضور أمامها والاعتذار عن أداء الشهادة بالاستناد إلى النص القانوني وللمحكمة إعفاءه من الشهادة إذا تبين لها صحة معذرته.
2- حصانة المكتب: هي عدم جواز تفتيشه وحجز ما فيه من كتب ورسائل متبادلة بين المحامي وموكله , أو بينه وبين باقي زملائه لأمور تتعلق بالمهنة ، أما غيرها من الأوراق فجائز حجزها طالما أنها غير داخلة في مفهوم الأموال التي لا يجوز التنفيذ عليها بحسب القواعد العامة المقررة في قانون أصول المحاكمات , وهذه الحصانة مما يتصل بالسر المهني ، والغاية من حصانة المكتب ليس المكتب بحد ذاته بل صيانة الإسرار الموجودة فيه , والمشرع السوري نص على هذه الحصانة في قانون مزاولة مهنة المحاماة المادة78منه (لا يجوز تفتيش المحامي أثناء مزاولة عمله ولا تفتيش مكتبه أو حجزه إلا بعد إبلاغ النقيب ليحضر أو يوفد من ينتدبه من أعضاء المجلس ) ، إذاً كل تفتيش لمكتب المحامي باطل ما عدا حالة توجيه اتهام إلى المحامي بأنه فاعل أو شريك في الجرم أو محرض عليه ، أو إن جسم الجريمة (ورقة مزورة مثلا ) موجودة في مكتبة , لأنه لا يجوز أن يكون هذا المكتب ملجأ للجريمة أو المجرمين , وعند التفتيش يتم دعوة نقيب المحامين ليحضر شخصياً إجراءات التفتيش إذا رغب في ذلك أو يوفد من ينتدبه لهذا الغرض من أعضاء مجلس النقابة ( ولا يعتد بإسقاط المحامي حقه بهذه الإجراءات ) ، وخلاف ذلك يكون إجراء التفتيش باطل , وتصبح الإجراءات صحيحة عند توجيه الدعوة بصورة أصولية ولم يحضر أحد ، المادة (78) الفقرة أ من قانون 39 لعام 1981 . ويتم التفتيش من قبل قضاء النيابة العامة أو قضاء التحقيق المادة 101 الفقرة الأولى أصول جزائية , التي سمحت لقاضي التحقيق أن ينيب أحد موظفي الضابطة العدلية لإجراء أية معامل تحقيقيه عدا استجواب المدعى عليه ، وتشمل الحصانة شخص المحامي فلا يجوز تفتيشه وضبط أوراق معه لها علاقة بالقضية ولا تفتيش حقيبة أوراقه أثناء ممارسته العمل .
3-عدم خرق حرمة الرسائل والمكالمات الهاتفية :
* عدم خرق حرمة الرسائل : إن المحافظة على سر المهنة يبرر عدم خرق حرمة الرسائل المتبادلة بين المحامي وموكله أو بين المحامين أنفسهم , أو بين المحامين والموظفين الرسمين لأمور تتعلق بالمهنة لان جميعها تتعلق بالسرية ، لذلك لا يجوز ضبط رسالة موجهة إلى أحد المحامين , وإذا ضبطت قبل أن تصل إليه فينبغي أن تسلم إلى صاحبها وإذا تعذر ذلك لسبب من الأسباب , فتسلم إلى النقيب دون فضها , وعلى هذا الأخير أن يسلمها بدوره إلى المحامي . والحصانة تشمل المراسلات في جميع الدعاوي ( المدنية والجزائية ) . مثلا لا يجوز لقاضي التحقيق أن يمنع المتهم من الكتابة إلى محاميه أو حجز الرسالة بعد كتابتها , أو الحيلولة بينها وبين الوصول إلى المحامي , حتى ولو لم يكن هذا قد وكل بعد في القضية ما دام قد أصبح محامياً عن المتهم بعد ذلك ، وإذا كان لقاضي التحقيق أن يضبط لدى مكاتب البريد جميع الخطابات و الرسائل , ولدى مكاتب البرق جميع الرسائل البرقية , أو مراقبة محادثات هاتفية متى كان لذلك فائدة في ظهور الحقيقة ( م96أصول جزائية ) , غير أن هذا الحق لا يجوز استعماله في الرسائل و الاتصالات الجارية بين المحامي وموكله ، وهناك تساؤل يثور في هذا الصدد وهو : ما هو الموقف الذي ينبغي اتخاذه إذا كانت حالة الطوارئ معلنة في البلاد , لان القانون المتعلق بهذه الحالة يجيز مراقبة الرسائل والمخابرات الهاتفية أيا كان نوعها , فالمادة الرابعة بند (ب) من المرسوم التشريعي رقم 51 تاريخ 22/12/1962 المسمى بقانون حالة الطوارئ تجيز للحاكم العرفي أو نائبه أن يصدر أوامره بمراقبة الرسائل والمخابرات أيا كان نوعها , فهل يجوز هنا خرق حرمة الرسائل والمكالمات الهاتفية المتعلقة بسر المهنة ؟ إن النص مطلق لأنه يتناول جميع أنواع الرسائل بدون أي استثناء , غير أننا نرى أن الرقابة ينبغي أن تتناول ناحية الأمن العام فقط دون تصل إلى الجرائم الفردية .
*عدم خرق حرمة المكالمات الهاتفية :ولا يجوز أيضا خرق حرمة المكالمات الهاتفية لمساسها بسر المهنة وحق الدفاع ولتعارضها مع واجب المحافظة على أسرار المهنة .
4-حرية الاتصال بالموقوف بمعزل عن أي رقيب :للمحامي حق الاتصال بموكله وفي أي وقت وبمعزل عن أي رقيب (م72/2) ، شريطة التقيد بأوقات الدوام المقررة لزيارة السجن , ولا تطبق عليه القواعد المطبقة على سائر الأشخاص ,إذ أن من المقرر قانونا أن لقاضي التحقيق أن يقرر منع الاتصال بالمدعى عليه الموقوف مدة لا تتجاوز عشرة أيام قابلة للتجديد مرة واحدة (م72/1اصول جزائية )، إلا أن هذا الحق لا يجوز استعماله في مواجهة المحامي .
ثالثا :الاعتداء على المحامي وجزاءاته : للمحامي حصانة من الاعتداء عليه ، فكل من يعتدي على محام خلال ممارسته مهنته أو بسببها يعاقب بالعقوبة التي يعاقب عليها فيما لو كان الاعتداء واقعا على قاض , المادة 78 الفقرة ز :((كل من يعتدي على محام خلال ممارسته مهنته وبسبب ممارسته لها يعاقب بالعقوبة التي يعاقب عليها فيما لو كان الاعتداء واقعا على قاض .)) والمقصود بالاعتداء كل فعل من شأنه أن ينال من شرف المحامي وكرامته دون اشتراط نوع معين من الاعتداء ، فهو ليس محصوراً بالضرب والإيذاء وإنما يشمل الذم والتحقير , ولهذا جعل المشرع منزلة المحامي بمنزلة القاضي حين الاعتداء عليه ، وذلك حفظاً لكرامته وحريته من اعتداء بعض الخصوم الذين تسول لهم أنفسهم إجراء أي فعل من شأنه أن يحط من منزلة المحامي ، ويقلل من قدره أثناء ممارسته لمهنته للوصول إلى إظهار الحقيقة ونشر الحق والعدل وهذا ما أكدته المادة /371-373/ من قانون العقوبات ، وحيث ورد في الاجتهاد : (إن القضاء العادي هو الجهة المختصة بالنظر في جرم الاعتداء على المحامي أثناء ممارسته المهنة أو بسببها , وليس القضاء العسكري بمقتضى قانون الطوارئ , على اعتبار أن المحامي لا يعتبر بمثابة الموظف المقصود في المادة (340) عقوبات . وأن المادة (78) من قانون مزاولة مهنة المحاماة قد ساوت بين الاعتداء على كل من المحامي والقاضي فيما يتعلق بمقدار العقوبة ولكنها لم تعتبر الاعتداء على المحامي اعتداء على السلطة العامة التي يختص القضاء العسكري بمحاكمة مرتكبة في حالة الطوارئ .)
قرار رقم 1 لعام 1976مرجعية حمو رابي 58411
الخاتمة :
لقد اهتم القانون الوضعي بالمحامي وعمله اهتماماً حسناً في بعض النواحي النظرية دون الاهتمام بالنواحي العملية , فعمل على إحاطة المحامي بعدد من الحصانات (المادة 78 من قانون المهنة ) لكي يستطيع أن يباشر عمله بكل حرية لأن رسالته هي لنجدة الضعيف والمظلوم وصاحب الحق المهضوم . ( ذلك أنه إذا كان المحامي غير آمن في أداء رسالته ، فلن يستطيع أداء واجبه على الوجه الأكمل دون تردد أو وجل ، فيجب تحصين كل تصرفات المحامي خلال فترة دفاعه منذ بدء التحقيق وحتى انتهائه من دفاعه ) ، كون القضاء يمثل ضمير الأمة والمحاماة هي مرآة المجتمع ، وإذا كانت حصانة القاضي تعني ضمان توزيع العدالة فحصانة المحامي هي حماية حق الدفاع المقدس , وإذا وازنت بين عمل القاضي وعمل المحامي لوجدت أن عمل المحامي أدق وأخطر لان مهمة القاضي هي الوزن والترجيح , أما مهمة المحامي فهي الخلق والإبداع والتكوين , وأخيراً هذا ما نراه في النصوص المتقدمة مع احترامي لكل العاملين في رحاب القانون واعتذاري عن النواقص والعيوب وفوق كل ذي علم عليم والله من وراء القصد.
الرقة 2009 المحامي عثمان محمود
نقابة المحامين – فرع الرقة
عن الموقع السوري للاستشارات والدراسات القانونية
http://www.barasy.com/index.php?name=News&op=article&sid=4947
اترك تعليقاً