بحث قانوني رائد حول مدى شرعية نيابة أمن الدولة العليا
أتشرف بطرح هذا البحث الهام للأستاذ الدكتور / عوض محمد عوض ؛ عن مدى شرعية نيابة أمن الدولة ؛ وكان من الدفوع التى تناولها أحد الأساتذة فى قضية القرصنة الإلكترونية والإستيلاء على البنوك الأمريكية يدور فى مدار هذا البحث الهام .
مدى شرعية نيابة أمن الدولة العليا
(بحث للدكتور/ عوض محمد عوض)
(1) السند الرسمى لوجود نيابة أمن الدولة:
تستمد نيابة أمن الدولة شرعية وجودها واختصاصها من قرار صادر من وزير العدل بإنشائها. وقد صدر هذا القرار فى 8 مارس 1953، ونشر فى الوقائع المصرية فى 12 مارس 1953 بالعدد رقم 22، ونص فى ديباجته على مبررات صدوره، وجاء بالديباجة ما يلى:
“بعد الاطلاع على كتاب النائب العام رقم 36/5/9 المؤرخ فى 8 مارس 1953 ونظرا إلى أهمية الجنايات العسكرية والجرائم المتعلقة بأمن الدولة وتلك التى تقع بواسطة الصحف وغيرها من طرق النشر، وما تتطلبه هذه الجرائم من مران وتخصص لدى من يقومون بتحقيقها ومباشرة الدعوى الجنائية فيها قرر ما يأتى: مادة 1- ينشأ بمكتب النائب العام نيابة تسمى نيابة أمن الدولة، وتشكل من رئيس نيابة وعدد كاف من الأعضاء” وحددت المادة الثانية طائفة من الجرائم خصت نيابة أمن الدولة دون غيرها بالتصرف فيما تقع منها بجميع أنحاء البلاد المصرية. أما المادة الثالثة والأخيرة فنصت على أن “تتولى تلك النيابة تحقيق ما يقع من هذه الجرائم بدائرة محافظة القاهرة وبندر الجيزة، ويجوز لها تحقيق ما يقع منها فى الجهات الأخرى وعلى أعضاء النيابة فى الجهات الأخرى تحقيق هذه الجرائم فى دوائر اختصاصهم مع إخطار نيابة أمن الدولة فور تبليغهم بها”.
ويتضح من نصوص هذا القرار أنه يفرق بين التحقيق فى جرائم أمن الدولة والتصرف فيها. أما التحقيق فلا تحتكره نيابة أمن الدولة ما لم تكن الجريمة واقعة فى محافظة القاهرة أو فى بندر الجيزة، فإن كان وقوعها فيما وراء ذلك كانت هذه النيابة بالخيار: إما أن تتولى التحقيق فيها بنفسها أو تتركه النيابة التى تختص به طبقا للقواعد العامة. أما التصرف فى التحقيق فلا مجال فيه للمشاركة، إذا تستأثر به نيابة أمن الدولة وحدها، أيا كان مكان وقوع الجريمة ،وأيا كانت النيابة التى باشرت التحقيق فيها.
وتحديد الاختصاصات نيابة أمن الدولة على هذا النحو ينطوى على خروج على قواعد الاختصاص المكانى فقد عنى قانون الإجراءات الجنائية فى المادة 217 منه بتحديد ضوابط هذا الاختصاص، فنص فيها على أن “يتعين الاختصاص بالمكان الذى وقعت فيه الجريمة أو الذى يقيم به المتهم أو الذى يقبض عليه فيه” والمتفق عليه فقها أن هذه الضوابط تلزم قضاء الحكم، كما تلزم سلطة التحقيق والاتهام فلا يجوز قانونا أن يكون القائم بالتحقيق أو من يتصرف فيه غير مختص مكانيا وفقا لواحد من الضوابط السابقة.
فإذا تبين أن الدعوى حققت ثم رفعت من قبل نيابة لا تختص مكانيا كان التحقيق باطلا وكانت الدعوى غير مقبولة أصلا.
(2) ولا يعترض أن النائب العام هو الأمين على الدعوى الجنائية، وإنه المختص أصلا بمباشرتها وأن أعضاء النيابة العامة – على مستوى الجمهورية- وكلاء عنه وتابعون له، وأن الاختصاص المكانى إن كان يلزم القضاء فانه لا يلزمه، لان من حقه أن يباشر بنفسه أو بواسطة تابعية وأعوانه التحقيق فى أى دعوى والتصرف فيها بغض النظر عن اعتبارات الاختصاص المكاني، فهذا الاعتراض غير صحيح فى إطلاقه، لان أعضاء النيابة العامة شأنهم شأن القضاة وعامة الموظفين – يتقيدون بقواعد الاختصاص المكاني. وقد نصت المادة 121 من قانون السلطة القضائية على أن ” يكون تعيين محل إقامة أعضاء النيابة العامة ونقلهم خارج النيابة الكلية التابعين لها بقرار من وزير العدل بناء على اقتراح النائب العام وبعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، وللنائب العام حق نقل أعضاء النيابة بدائرة المحكمة المعينين بها، وله حق ندبهم خارج هذه الدائرة لمدة لا تزيد على ستة أشهر ….. وللمحامى العام ندب عضو فى دائرته للقيام بعمل عضو آخر بتلك الدائرة عند الضرورة ” وهذا يؤكد أن عضو النيابة مقيد باختصاصه المكانى فلا يملك أن يحقق قضية لا تدخل فى نطاق اختصاصه المكانى ولا أن يتصرف فيها. أما شمول اختصاص النائب العام وانبساطه على كل إقليم، فلا يلزم منه ثبوت هذا الاختصاص الشامل لوكلائة. وإنما يلتزم كل منهم باختصاصه المكانى ألا أن يفصح النائب العام صراحة عن إرادته فى إسناد التحقيق فى الدعوى أو التصرف فيها لعضو لا يختص بها مكانيا سواء كان ذلك بقرار خاص فى دعوى بعينها، أو بناء على تنظيم قانونى يصدر فى شكل قرار أو لائحة. وهذا ما بينته المادة 8 من تعليمات النيابة العامة، فقد نصت على أن ” للنائب العام أن يباشر اختصاصاته بنفسه، وله فى غير الاختصاصات المنوطة به على سبيل الانفراد – أن يعهد إلى أى من أعضاء النيابة المعهود إليهم قانونا معاونته أو مباشرتها بالنيابة عنه. كما يجوز له أن يضفى اختصاصا شاملا للجمهورية على أعضاء النيابات المتخصصة فى بعض أنواع الجرائم”.
وقد يتبادر إلى الذهن أن نيابة أمن الدولة العليا – وهى نيابة متخصصة ملحقة بمكتب النائب العام – تستمد اختصاصها فيما تباشره من تحقيق واتهام منه شخصيا، مما ينفى شبهة عدم الاختصاص المكانى عما يباشره أعضاؤها. بيد أن هذا الظن فى غير محله، لان هذه النيابة لم تنشأ أصلا بقرار منه، بل نشأت بقرار من وزير العدل.
(3) بطلان قرار وزير العدل لمخالفته القانون:
ليس فى قانون السلطة القضائية الحالى ولا فى القوانين السابقة عليه نص يخول وزير العدل سلطة التدخل فى شئون النيابة العامة وإنشاء نيابات تختص وحدها أو بالاشتراك مع غيرها بالتحقيق فى جرائم معينه أو بالتصرف فيها. ولهذا فقد خلت ديباجة قرار وزير العدل من الإشارة إلى السند الذى حوله سلطة إنشاء نيابة أمن الدولة. وكل ما اشتملت عليه الديباجة هو بيان وجه المصلحة التى رئى معها ملاءمة إنشاء هذه النيابة. وهذا غير مألوف فى الصياغات التشريعية، وإنما المألوف أن تشتمل على بيان سند المشروعية.
(4) السند القانونى المتصور لقرار وزير العدل:
أغلب الظن أن السند الوحيد لهذا القرار هو المادة 26 من قانون السلطة القضائية التى تنص على أن رجال النيابة العامة تابعون لرؤسائهم بترتيب درجاتهم، ثم لوزير العدل، وهذا الحكم كان مقررا فى سائر التشريعات السابقة التى نظم بها المشرع شئون السلطة القضائية ومنها المرسوم بقانون رقم 188 لسنه 1952 فى شأن استقلال القضاء والذى كان معمولا به وقت صدور قرار وزير العدل بإنشاء نيابة أمن الدولة فقد كانت المادة 80 من هذا المرسوم بقانون تنص على أن أعضاء النيابة يتبعون رؤساءهم والنائب العام وهم جمعيا لا يتبعون إلا وزير العدل. ويبدو أن وزير العدل الذى أصدر القرار المذكور قد اعتقد أن تبعية رجال النيابة العامة له تخوله سلطة إصدار هذا القرار. والشواهد على ذلك من القرار عديدة:
أ- فقد سوغ وزير العدل لنفسه أن يتدخل فى أخص شئون النائب العام، وهو تنظيم مكتبة وذلكبإنشاء نيابة متخصصة تلحق به.
ب- وسوغ لنفسه كذلك أن يحظر على بعض النيابات المختصة قانونا أن تباشر التحقيق فى جرائم معينه كما حظر على نيابات أخرى التصرف فى بعض ما تحققه وألزم أعضاء النيابة الذين يحققون فى تلك الجرائم أن يخطروا نيابة أمن الدولة فور تبلغيهم بها.
جـ- وربما كان أقوى الشواهد ما قررته المادة الرابعة من القرار المذكور فقد جرى نصها بما يلى: على النائب العام تنفيذ هذا القرار، ويعمل به من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية فهذا النص يكشف بوضوح تام عن تصور وزير العدل الذى أصدر القرار بطبيعة العلاقة بينهم وبين أعضاء النيابة بوجه عام وبينهم وبين النائب العام على وجه الخصوص فهو يباشر على الخير سلطة الأمر ويلزمه بتنفيذ قراره والعمل على تشكيل نيابة أمن الدولة وإلحاقها بمكتبه اعتبارا من تاريخ نشر القرار.
(5 ) حقيقة العلاقة بين وزير العدل والنيابة العامة:
ليس فى الفقه ولا فى القضاء خلاف حول حقيقة هذه العلاقة ولذلك فهى لا تحتاج إلى اجتهاد وقد بينت محكمة النقض فى بعض أحكامها طبيعة العلاقة بين وزير العدل والنيابة العامة مؤكدة بذلك ما استقر عليه الفقه وما جرى به العمل باضطراد وعبارة النقض شديدة الوضوح ولا نرى بأسا من إيراد نصها فقد قضت بأن:
النيابة العامة بوصفها نائبة عن المجتمع وممثله له هى المختصة دون غيرها بتحريك الدعوى الجنائية، وهى التى نيط بها وحدها مباشرتها وأن النائب العام وحده هو الوكيل عن الهيئة الاجتماعية، وهو الأصيل فى مباشرة هذه الاختصاصات وولايته فى ذلك عامة تشتمل على سلطتى التحقيق والاتهام وتنبسط على إقليم الجمهورية برمته، وعلى كافه ما يقع فيه من جرائم أيا كانت، وله بهذا الوصف، وباعتباره الوكيل عن الجماعة أن يباشر اختصاصاته بنفسه أو أن يكل – فيما عدا الاختصاصات التى نيطت به على سبيل الانفراد إلى غيره من رجال النيابة المنوط بهم قانونا معاونته أمر مباشرتها بالنيابة عنه، وأن يشرف على شئون النيابة العامة بما له من رئاسة مباشرة قضائية وإدارية على أعضائها الذين يكونون معه فى الواقع جسما واحد لا انفصام بين خلاياه، وهى رئاسة مغايرة لرئاسة الوزير التى هى رئاسة إدارية محضة لا يترتب عليها أى أثر قضائي”.
نقض 15 نوفمبر 1965 مجموعه أحكام النقض س16 ص865 رقم 166. وجمهور الفقهاء على هذا الرأى الأستاذ على زكى العرابى- المبادئ الأساسية للإجراءات الجنائية 1951جـ1ص30رقم 72، والدكتور محمود محمود مصطفي- شرح قانون الإجراءات الجنائية 1976ص65 رقم44 والدكتور توفيق الشاوى – فقه الإجراءات الجنائية 1954 جـ1 ص35 رقم 22، والدكتور محمود نجيب حسني- شرح قانون الإجراءات الجنائية 1988 ص 69 رقم 61.
(6) مفهوم وحدود تبعية أعضاء النيابة العامة لوزير العدل:
تبعية النيابة العامة لوزارة العدل لا تعنى أكثر من إلحاقها بها، وليس من شأن هذه التبعية المساس باستقلال النيابة العامة فى مباشرتها لاختصاصاتها بوصفها شعبة من شعب السلطة القضائية، خول الشارع أعضاءها من بين ما خوله لهم سلطة التحقيق ومباشرة الدعوى العمومية (نقض9/1/1961 مجموعه أحكام النقض س12 ص58 رقم7).
ولا ينال من هذا الاستقلال ما نص عليه قانون السلطة القضائية من تخويل وزير العدل سلطات معينه يباشرها على أعضاء النيابة العامة فى مجال تعيين محل إقامتهم، ونقلهم وندبهم فى غير النيابة الكلية التابعين لها، وكذلك فى مجال التأديب (المواد 121 و126 و129/2). ذلك أن هذه السلطات لا تعدوأن تكون مظهراً من مظاهر الرئاسة الإدارية، وهى تقف عند هذا الحد دون أن تتجاوزه إلى ما يمس الاختصاص القضائى ذاته، بل إنها لا تتجاوزه إلى غيره من مظاهر الرئاسة الإدارية.
ومما يؤكد أن ما خوله القانون لوزير العدل من سلطات على أعضاء النيابة العامة لا تتجاوز حد الإشراف الإدارى أن النصوص التى تقرر له هذه السلطات لها نظائر بالنسبة إلى القضاة أنفسهم، ومع ذلك فلم يدر بخلد أحد أن يكون لوزير العدل – لهذا السبب- إشراف قضائى عليهم.
وإذا كانت المادة 125 من قانون السلطة القضائية تنص على أن “للوزير حق الرقابة والإشراف على النيابة العامة وأعضائها فإن المادة 93 من هذا القانون تنص على أن “لوزير العدل حق الإشراف على جميع المحاكم والقضاة”.
إذا كانت المادة 126 من القانون المذكور تنص على أن لوزير العدل –وللنائب العام- أن يوجه تنبيها لأعضاء النيابة الذين يخلون بواجباتهم إخلالا بسيطا بعد سماع أقوال عضو النيابة، فإن المادة 94/4 تنص على أن لوزير العدل حق تنبيه الرؤساء بالمحاكم الابتدائية وقضاتها بعد سماع أقوالهم.
وإذا كانت المادة 129/1 تنص على أن يقيم النائب العام الدعوى التأديبية –على أعضاء النيابة العامة- بناء على طلب وزير العدل فان المادة 99 تنص على أن تقام الدعوى التأديبية –على القضاة- من النائب العام بناء على طلب وزير العدل.
(7) رد الشبهة المستمدة من سلطة وزير العدل فى إنشاء بعض المحاكم:
تنص المادة 10 من قانون السلطة القضائية على أن “يكون إنشاء محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية وتعيين دائرة اختصاص كل منها أو تعديله بقانون”، وتنص المادة 11 من هذا القانون على أن تنشأ بدائرة اختصاص كل محكمة ابتدائية محاكم جزئية يكون إنشاؤها وتعيين مقارها وتحديد دوائر اختصاصها بقرار من وزير العدل، ويجوز أن تنعقد المحكمة الجزئية فى أى مكان آخر فى دائرة اختصاصها أو خارج هذه الدائرة عند الضرورة، وذلك بقرار من وزير العدل بناء على طلب رئيس المحكمة”، وتنص المادة 13 من القانون المذكور على أن “لوزير العدل أن ينشئ بقرار منه بعد موافقة الجمعية العامة للمحكمة الابتدائية محاكم جزئية ويخصها بنظر نوع معين من القضايا، ويبين فى القرار مقر كل محكمة ودائرة اختصاصها”.
وقد يقال: إذا كان وزير العدل يملك سلطة إنشاء بعض المحاكم المتخصصة، فكيف ننكر عليه أن تكون له سلطة إنشاء بعض النيابات المتخصصة! غير أن هذا القول مردود من عدة وجوه:
أولاً: هذه السلطة ليست عامة بالنسبة لكل المحاكم، بل تقتصر على مستوى معين منها، وهى المحاكم الجزئية، أما محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية فإن إنشاءها وتعيين دائرة اختصاص كل منها وتعديله لا يكون إلا بقانون (م10).
ثانياً: أن هذه السلطة ليست أصلاً، بل هى استثناء من أصل، ولولا أن قانون السلطة القضائية نص على تخويل وزير العدل إياها ما جاز له قانوناً إنشاء أى محكمة ولو كانت جزئية.
ثالثاً: إنه لا محل للقياس على سلطة الوزير فى إنشاء المحاكم الجزئية لأن القياس على الأصل أولى من القياس على الاستثناء، فضلاً عن أن وجود النائب العام على رأس جهاز النيابة العامة يغنى عن اللجوء إلى وزير العدل، باعتبار النائب العام هو المهيمن على شئون النيابة العامة.
رابعاً: أن إنشاء نيابة أمن الدولة وتحديد اختصاصها على النحو القائم حالياً يخرج تماماً عن مقتضى القياس؛ فليس فى قانون السلطة القضائية ما يخول وزير العدل سلطة إنشاء محكمة جزئية يشمل اختصاصها كل إقليم الدولة. ولما كان قرار وزير العدل بإنشاء نيابة أمن الدولة قد اختصها دون غيرها بالتصرف فى التحقيق بالنسبة لكل جرائم أمن الدولة أياً كان مكان وقوعها، كما خولها سلطة التحقيق فى أى من هذه الجرائم فإن القياس هنا لا يستقيم.
وحاصل ما تقدم أن وزير العدل لا يملك سلطة التدخل فى صميم عمل القضاة أو عمل رجال النيابة العامة. بل إن سلطته عليهم إدارية بحتة، ثم إنها تنحصر فى الحدود التى نص عليها القانون، ولا تجاوزها إلى غيرها. وهذا أمر منطقى لأن وزير العدل هو فى نهاية المطاف عضو فى مجلس الوزراء، أى من رجال السلطة التنفيذية، وليس له بهذه الصفة أن يتدخل فى صميم عمل السلطة القضائية.
ولا جدال فى أن القرار الصادر من وزير العدل بإنشاء نيابة مركزية متخصصة تهيمن على التصرف فى التحقيق الذى يباشره أعضاء النيابة العامة على مستوى الجمهورية فى جرائم معينة، وتتولى كذلك التحقيق فى هذه الجرائم على سبيل الاستئثار فى أحوال، وعلى وجه المشاركة فى عامة الأحوال، وإلزام النائب العام بتشكيل هذه النيابة على نحو معين وإلحاقها بمكتبه- هذا القرار يتجاوز حدود الإشراف الإدارى الذى نصت عليه القوانين المتعاقبة التى عنيت بتنظيم السلطة القضائية واستقلال القضاء.
ويبدو هذا التجاوز أشد وضوحاً متى لاحظنا أن وزير العدل قد سوغ لنفسه الحق فى منح مجموعة معينة من أعضاء النيابة العامة اختصاصاً بتحقيق بعض الدعاوى والتصرف فيها وجعل هذا الاختصاص منبسطا على إقليم الجمهورية كله، مع أن وزير العدل لا يملك ما دون ذلك، فهو لا يستطيع أن يضفى صفة مأمور الضبط القضائى على أى موظف عام إلا بالنسبة للجرائم التى تقع فى دائرة اختصاصه (م23 من قانون الإجراءات)، أما الاختصاص الشامل فلا سبيل إلى إضفائه على أى من مأمورى الضبط القضائى إلا بقانون (م23/ب المشار إليها). وليس من المقبول أن يقيد المشرع سلطة وزير العدل حين يتعلق الأمر بتحديد الاختصاص المكانى لرجال الضبط القضائى ثم يلق هذه السلطة حين يتعلق الأمر بتحديد اختصاص أعضاء النيابة العامة. وكان المنطقى – إذا لم يكن من المغايرة بين الحالين بد- أن يكون العكس أولى. وعلى أى حال فالمقرر قانوناً أو وزير العدل لا شأن له على الإطلاق بتحديد اختصاص أى نيابة من النيابات، سواء كانت متخصصة أو غير متخصصة. ذلك أن الدساتير المتعاقبة منذ دستور سنة 1923 حتى الدستور الحالى، وكذلك التشريعات المنظمة لشئون السلطة القضائية تردد كلها مبدأ لا خلاف فيه، وهو أن السلطة القضائية مستقلة، وأن النائب العام هو وحده الأصيل فى مباشرة اختصاصات النيابة العامة، وأن تبعية رجال النيابة لوزير العدل لا تخوله التدخل فى مجال اختصاصاتهم ولا يترتب عليها أثر قضائى.
ولما كان وزير العدل بقراره الصادر فى 8 مارس سنة 1953 قد اقتحم منطقة محرمة عليه، وهى منطقة الدعوى الجنائية التى ينفرد بها النائب العام، تحقيقا ورفعا ومباشرة، فإنه يكون قد تجاوز حدود اختصاصه، واغتصب سلطة مقررة للنائب العام وحده، ومن ثم يكون قراره فى هذا الخصوص باطلاً. ولا وجه للاعتراض بتقادم الزمان على صدور القرار الذى أنشأ نيابة أمن الدولة، لأن تقادم الزمان لا يحيل الباطل صحيحاً، ولا يجعل المعدوم موجوداً. ذلك أن المناط فى صحة القرار أو بطلانه هو موافقته أو مخالفته للقانون. فإذا تبين أن القرار كان وقت صدوره مشوباً بعيب يبطله، فهذا البطلان يلازمه ولا ينفك عنه مهما تطاول عليه الزمن.
(8) تعليمات النيابة العامة لا تجبر بطلان قرار وزير العدل بإنشاء نيابة أمن الدولة:
أفردت تعليمات النيابة العامة الباب السابع عشر منها للنيابات المتخصصة، واستهل الباب بأحكام عامة تضمنت ثلاث مواد نصت الأولى منها على ما يلى:
مادة 1584 – يجوز إنشاء نيابات تختص بالتحقيق والتصرف فى أنواع معينة من الجرائم، ويصدر بإنشاء هذه النيابات قرار من وزير العدل أو النائب العام
ثم تناول الفصل الأول من ذلك الباب نيابة أمن الدولة العليا، وبدأ بتعريفها، فنص فى المادة 1587 على أنها “نيابة متخصصة صدر بإنشائها وتحديد الجرائم التى تختص بتحقيقها والتصرف فيها قرار وزير العدل بتاريخ 8 من مارس سنة 1953 والقرارات اللاحقة بتعديل اختصاصها، وهى ملحقة بمكتب النائب العام”.
وعلى الرغم من صراحة تعليمات النيابة العامة فى التسليم بحق وزير العدل فى إنشاء نيابات متخصصة، والإقرار بصحة قراره الصادر فى 8 من مارس سنة 1953 بإنشاء نيابة أمن الدولة، فليس من شأن هذه التعليمات أن تجبر ما ران على قرار وزير العدل من بطلان.
ذلك أن تعليمات النيابة العامة إذ تمنح وزير العدل سلطة مماثلة لسلطة النائب العام فى إنشاء النيابات المتخصصة لا تفصح عن سندها القانونى فى ذلك. وليس من المقبول أن ينشئ النائب العام لوزير العدل اختصاصاً من عند نفسه فى مجال الدعوى الجنائية، كما أنه لا يجوز له تفويض وزير العدل فى بعض اختصاصاته التى آثره القانون بها على سبيل الانفراد وليس فى نصوص القوانين ما يخول وزير العدل سلطة التدخل فى الدعوى الجنائية، سواء فى مجال تحقيقها أو التصرف فيها، ومن ثم يكون نص المادة 1584 فيما تضمنه من تخويل وزير العدل حق إنشاء نيابات متخصصة وتسويته فى هذا الشأن بالنائب العام مخالفاً للقانون فلا يعتد به.
ويلاحظ أن تعليمات النيابة العامة لم تنص على نيابة أمن الدولة العليا باعتبارها منشأة بقرار من النائب العام، صاحب الاختصاص الأصيل فى تنظيم أعمال النيابة العامة والإشراف القضائى على شئونها، بل نصت هذه التعليمات على النيابة المذكورة إقراراً بالواقع وتسليماً بوجودها بقرار صادر من وزير العدل لا من النائب العام. بل إن هذه النيابة إنما وجدت امتثالاً لأمر وزير العدل بإنشائها وتحديد اختصاصها. وهذا التسليم أو الامتثال لا يضفى الشرعية على نيابة أمن الدولة التى يجب أن تستمد شرعية وجودها من قرار يصرح بإنشائها وينظم اختصاصها، وبشرط أن يكون هذا القرار تعبيراً عن إرادة النائب العام وحده.
ولا يود الدفاع الاسترسال فى إبراز ما ينطوى عليه نص المادة 1584 من تعليمات النيابة العامة من عيوب حين سوى بين وزير العدل والنائب العام وجعل لكل منهما سلطة إنشاء النيابات المتخصصة. ويكفى بياناً لفساد هذا الحكم ومخالفته للقانون الإشارة إلى ما يمكن أن يسفر عنه عند التطبيق من شذوذ. وإذا تصورنا احتمال قيام خلاف بين وزير العدل والنائب العام سواء فى مبدأ إنشاء نيابة متخصصة معينة أو فى تحديد اختصاصها أو إلغائها، فمن المتصور أن يصدر أحدهما قراراً فى هذا الشأن فيعدله الآخر فى اليوم التالى أو يلغيه.
وإذا كان ظاهر نص المادة 1584 من تعليمات النيابة العامة يوحى بأن سلطة النائب العام مكافئة لسلطة وزير العدل، إلا أن هذا التكافؤ لا وجود له على صعيد الواقع، فقد مارس وزير العدل على النائب العام نفسه رئاسة قضائية، وبدا فى تنظيمه لنيابة أمن الدولة العليا كما لو كان يمنحه بصفة شخصية فى مجال التحقيق والتصرف فى الدعوى الجنائية اختصاصات كانت محظورة عليه، فقد نصت المادة الثالثة من قراره الصادر فى 16 نوفمبر 1972 على أن “للنائب العام أن يستثنى مما تختص نيابة أمن الدولة العليا بالتحقيق أو التصرف فيه بعض الجنايات التى يصدر بها أو بإحالتها إلى محاكم أمن الدولة العليا أمر من رئيس الجمهورية، وذلك إذا دعت مصلحة العمل إلى استمرار اختصاص نيابات الأموال العامة أو النيابات العادية بالتحقيق والتصرف فيها، وهذا دون الإخلال باعتبارها من جرائم أمن الدولة. فهذا النص قاطع فى دلالته على تصور وزير العدل لطبيعة العلاقة بينه وبين النيابة بوجه عام والنائب العام على وجه الخصوص، وهو ما تؤكده بوضوح المادة 4 من القرار المذكور، فقد نصت على أن “يصدر النائب العام القرارات والتعليمات اللازمة لتنفيذ هذا القرار ويعمل به من تاريخ نشره بالوقائع المصرية”.ولاشك أن تكليف النائب العام بتنفيذ قرارات وزير العدل بشأن إنشاء نيابة أمن الدولة وتعديل اختصاصاتها تفصح عن نظرته إلى النيابة العامة من جهة باعتبارها إدارة تابعة له، وإلى النائب العام من جهة أخرى باعتباره مرءوساً له يتلقى أوامره بشأن تنظيم النيابة العامة وتوزيع الاختصاصات على أعضائها وتنفيذ هذه الأوامر، مع أنه لا يجوز دستورياً لأحد من رجال السلطة التنفيذية- ولو كان هو رئيس الجمهورية نفسه- أن يوجه أمراً مباشراً إلى أعضاء السلطة القضائية فى أمور تدخل فى صميم اختصاصهم.
(9) وحاصل ما تقدم أن قرار وزير العدل بإنشاء نيابة أمن الدولة قرار باطل بلاناً مطلقاً لما ينطوى عليه من غصب لسلطة النائب العام فى مجال الدعوى الجنائية، وهى سلطة ينفرد بها فى حدود أحكام القانون وفقاً لما نصت عليه المادة 21 من قانون السلطة القضائية والمادة الثانية من قانون الإجراءات الجنائية. وينبنى على بطلان قرار وزير العدل- أو على انعدامه بالأحرى- بطلان كل ما تقوم به نيابة أمن الدولة من تحقيق وتصرف فى الدعاوى التى تباشرها. ولما كان من المقرر قانوناً أنه يجب لقبول الدعوى الجنائية- وعلى الأخص إذا كانت عن جناية- أن تكون قد حققت من قبل النيابة المختصة وأن تكون قد أحيلت من قبل المحامى المختص، فإنه إذا تخلف كلا الشرطين أو أحدهما وجب على المحكمة أن تحكم بعدم قبول الدعوى.
(10) عدم دستورية قرار وزير العدل بإنشاء نيابة أمن الدولة:
لو صح جدلا أن هذا القرار لا يخالف أياً من الأحكام المقررة فى قانون السلطة القضائية، فإنه بغير شك يخالف أحكام الدستور؛ فقد نصت المادة 165 منه على أن السلطة القضائية مستقلة، ونصت المادة 166 منه على أنه لا يجوز لأى سلطة التدخل فى القضايا أو فى شئون العدالة. ولما كانت النيابة العامة بضعة من السلطة القضائية فلا نزاع فى أنها تتمتع بالاستقلال فى مواجهة السلطتين الأخريين، ولا نزاع أيضاً فى أن قرار وزير العدل- وهو عضو فى السلطة التنفيذية- بإنشاء نيابة أمن الدولة وتحديد اختصاصها بما ينطوى عليه من تقييد لسلطة النيابات الأخرى فى تحقيق الدعوى والتصرف فيها، ومن النص فيه على تكليف النائب العام بإصدار القرارات والتعليمات اللازمة لتنفيذ ذلك القرار هو تدخل صريح فى شئون العدالة، ومن ثم يكون هذا القرار مشوباً بعدم الدستورية.
اترك تعليقاً