قوة القانون : – الاساس الخفى للسلطة
إن عنوان هذه الحلقة الدراسية والمشكلة التي تتطلب منى، أن أخاطبكم، حسبما تقولون في لغتكم بشكل متعد، قد جعلتني مستغرقا في التفكير لعدة شهور. ورغم أنه قد عهد إلىّ بالشرف العظيم أي بإلقاء “الخطاب الرئيس ” فلم يكن لي شأن بإبتداع هذا العنوان أو بالصياغة الضمنية للمشكلة.” التفكيك وإمكان العدالة”: أداة العطف “و” تقرن معا كلمات، ومفاهيم، وربما أشياء لا تنتمي إلى نفس المقولة. إن أداة عطف مثل “و” تتحدى الترتيب، والتصنيف، والمنطق التصنيفي، بغض النظر عن كيف تشتغل: سواء كان ذلك بواسطة القياس، أو التمييز أو التعارض. قد يقول متحدث سيئ المزاج: إنني لا أرى العلاقة، فلا يمكن لبلاغة أن تُخضع نفسها لمثل هذا التمرين. ولسوف تسعدني محاولة التحدث عن كل من هذه الأشياء أو المقولات (“التفكيك”، و”الإمكان”، و”العدالة”) وحتى عن هذه التلازمات الحملية syncategoremes (“و” “الـ”، فيما يتعلق بـ، )، ولكن ليس بهذا الترتيب، هذا التصنيف taxis، هذه الصنافة أو هذا النسق syntagm على الإطلاق.
لن يكون مثل هذا المتحدث سيئ المزاج فحسب، وإنما سيئ النية أيضاً، وحتى غير عادل. حيث يمكن له بسهولة أن يقترح تفسيرًا يحقق العدالة للعنوان. وهو ما يعني القول في هذه الحالة بتفسير ملائم وشفاف، أو بالأحرى شاك في مقصد العنوان أو إرادة القول vouloir- dire. يوحي هذا العنوان بسؤال يتخذ هو نفسه شكل الشك، هل يُؤّمن التفكيك، ويتيح، ويجيز إمكان العدالة؟ هل يجعل العدالة ممكنة، أم يهيئ خطاباً ذا أهمية عن العدالة وشروط إمكانها؟ نعم، سوف يجيب بعض الناس، لا، سوف يجيب البعض الآخر. هل لدى من يسمون بالتفكيكيين أي شيء يقال حول العدالة، أي شيء يتعلق بها؟ لِم يتحدثون عنها قليلا جدا بصفة أساسية؟ هل هي تعنيهم في النهاية؟ ألا يرجع ذلك، كما يشك بعض الناس، إلى أن التفكيك في حد ذاته لا يتيح أي فعل عادل، أي خطاب عادل حول العدالة غير أنه يشكل تهديدا للقانون droit أو الحق، ويخرب أخص شرط لإمكان العدالة؟ نعم، سوف يجيب البعض. لا، سوف يجيب البعض الآخر. يمكن لنا أن نجد في مثل هذا التبادل التخيلي الأول تفاوتات slippages ملتبسة بين القانون (droit) والعدالة. “شقاء” التفكيك، ما يجعله يعاني وما يجعل هؤلاء الذين يعذبهم يعانون، هو ربما غياب القواعد، والنماذج، والمعايير المحددة التي يمكن أن تتيح التمييز بجلاء بين القانون droit والعدالة.
هذا هو الخيار، “إما/أو”، ” نعم أو لا ” ذلك هو ما أتبينه في هذا العنوان. وإلى هذا الحد فإن العنوان عنيف أو بالأحرى، جدالي، وتفتيشي. وقد نخشى احتوائه على إحدى أدوات التعذيب – أي طريقة في الاستفهام ليست هي الأكثر عدلا. لا حاجة للقول بأنني منذ هذه المسألة فصاعدا لا أستطيع أن أقدم أية إجابة، على الأقل إجابة مطمئنة، لأية أسئلة وضعت بهذه الطريقة (“إما/أو”، نعم أم لا” ) لأي طرف أو على توقعات أي طرف صيغت بهذه الطريقة.
يتعين على إذن، وها هو ذا واجبي أن أخاطبكم باللغة الإنجليزية. يتعين على أن أفعل ذلك je le dois… هذا يعني عدة أشياء لأول وهلة.
1. يتعين على je dois أن أتحدث بالإنجليزية (كيف يمكن لي أن أترجم “dois” هذه، وهذا الواجب devoir ؟ يتعين علىّ؟ ينبغي علىّ، يجب علىّ، يتوجب علىّ؟) لأن ذلك قد فُرض علىّ كنوع من الإلزام أو الشرط بنوع من العنف الرمزي أو القانون في وضع لا أتحكم فيه، نوع من الجدالpolemos يُعني بالفعل بالإستيلاء على اللغة، إذا ما أردت أن أجعل نفسي مفهوما على الأقل، فإنه لمن الضروري أن أتحدث لغتكم، هذا ما يتعين علىّ.
2. يتعين على أن أتحدث لغتكم لأن ما سأقوله سوف يصبح على هذا النحو أكثر عدلا juste، أو يعتبر أكثر عدلا juste، وسوف يقدر على نحو أعدل، juste هذه المرة (بمعنى “حق تماما”) بمعنى الملائمة بين ما هو كائن وما قيل وما فكر، بين ما قيل وما فهم، وبالفعل بين ما فكر وقيل أو ما سمع وفهم من جانب أغلب من هم هنا وهم بوضوح من يسنون القانون. (سن القانون) Faire la loi هو تعبير مثير للاهتمام سوف يكون لدينا الكثير مما نقول عنه فيما بعد.
3. يتعين علىّ أن أتحدث بلغة ليست لغتي لأن هذا سوف يكون أكثر عدلاً، بمعنى آخر لكلمة juste، بمعنى العدالة، وهو معنى، دون أن نقلق عليه كثيراً الآن، يمكن أن نسميه معنى سياسياً – أخلاقياً – قانونياً: إنه أكثر عدلاً أن نتحدث لغة الأغلبية، خاصة عندما تمنح الأجنبي من خلال الاستضافة حق الكلام. إنه لمن العسير القول عما إذا كان القانون الذي نشير إليه هنا هو قانون اللباقة، الكياسة، قانون الأقوى، أم قانون الديمقراطية المنصف. وما إذا كان يعتمد على العدالة أم القانون ( droit ). أيضاً، إذا كان لي أن أخضع لهذا القانون وأن أقبله، فإن عدداً معيناً من الشروط يعد ضرورياً: يتعين على، على سبيل المثال، أن أستجيب لدعوتكم وأظهر رغبتي في أن أتحدث هنا، وهو شيء لم يعوقني أحد بوضوح عن فعله، علىّ أن أكون قادراً وحتى حد معين، على فهم العقد وشروط القانون، أي الحد الأدنى على الأقل من تبني لغتكم، وامتلاكها، والتي تتوقف بدءاً من هذه النقطة، وعلى الأقل لهذا المدى، عن أن تكون أجنبية بالنسبة لي. أنتم وأنا يتعين علينا أن نفهم بنفس الطريقة إلى هذا الحد أو ذاك، ترجمة نصي، الذي كتب ابتداءًا بالفرنسية، وهذه الترجمة وأيًا ماكان قدر امتيازها (وسوف انتهز هذه اللحظة لأشكر ماري كوينتانس) تظل بالضرورة ترجمة، بمعنى أنها دائما ممكنة غير أنها لا تزال مساومة غير كاملة بين لغتين [مصطلحين] idioms.
إن مسألتي اللغة والمصطلح idiom سوف تكونان بلا شك في قلب ما أود أن اقترحه للمناقشة هذه الليلة. هناك عدد من التعابير الاصطلاحية في لغتكم طالما كانت ثمينة بالنسبة لي لأنه لا يوجد لها مُعادل دقيق في الفرنسية. سوف استشهد باثنين منهما على الأقل، حتى قبل أن أبدأ. إنهما ليسا منبتي الصلة بما أود محاولة قوله هذه الليلة.
أ- الأول هو “إنفاذ القانون” [بالقوة] enforce the law To أو “قابلية القانون أو العقد للإنفاذ ” enforceabiltily of the law or contract “. حينما نترجم عبارة “إنفاذ القانون” إلى الفرنسية بعبارة “تطبيق القانون” appliquer la loi، على سبيل المثال، فإننا نفقد تلك الإشارة الضمنية الحرفية المباشرة إلى القوة التي تأتي من الداخل لتذكرنا بأن القانون هو دائما عنف مُفوض، عنف يُبرر ذاته وهو مبرر في تطبيق ذاته، حتى ولو كان هذا التبرير قد حكم عليه من مكان آخر بأنه غير عادل أو غير قابل للتبرير. ليست القابلية للتطبيق “القابلية للإنفاذ” إمكانا خارجيا أو ثانويا قد يضاف أو لايضاف كتكملة للقانون. إن العنف متضمن جوهريا في ذات مفهوم العدالة بوصفها قانوناً (droit)، في العدالة حين تغدو قانوناً droit، في القانون بوصفه قانوناً، (لأنني أريد أن أصر فوراً على احتجاز إمكانية لعدالة، وبالفعل لقانون لا يتجاوز فقط أو يناقض ” القانون” (droit)، بل ربما أيضا، لا علاقة له بالقانون، أو يبقى مثل هذه العلاقة الغريبة به حتى أنه قد يحكم كذلك القانون “droit” الذي يستبعده). تذكرنا كلمة “إنفاذ القانون” بأنه ليس هناك من قانون (droit) لا يتضمن في ذاته، وبشكل قبلى a prioi، في البنية التحليلية لمفهومه، إمكانية “إنفاذه”، أي تطبيقه بالقوة. مما لا ريب فيه، هناك قوانين لا تنفذ، ولكن ليس هناك من قانون يفتقر لقابلية الإنفاذ، وما من قابلية لتطبيق القانون أو إنفاذه بدون عنف، سواء كان هذا العنف مباشرا أم غير مباشر، جسدياً أم رمزياً، خارجياً أم داخليا، وحشيا، أم استدلالاً حاذقا وتأويلياً، إكراهياً أم ضبطياً، وما إلى ذلك.
كيف يتأتى لنا أن نميز بين هذه القوة التي ترتبط بالقانون، “قوة القانون” هذه كما يقال في الإنجليزية وكذلك في الفرنسية – كما أعتقد -، والعنف الذي نعتبره دائما غير عادل؟ من ناحية أي فرق هناك بين القوة التي يمكن أن تكون عادلة، أو في أي حال تعد شرعية ( ليس فقط أداة في خدمة القانون وانما ممارسة وحتى تحقق جوهر القانون droit ) ومن ناحية أخرى العنف الذي نعده دائما غير عادل؟ ما هي القوة العادلة أو القوة غير العنيفة؟ حتى نبقي مع مسألة المصطلحات، دعوني أتوجه هنا إلى كلمة ألمانية سوف تشغل فوراً حيزاً كبيراً من إنتباهنا: Gewalt. إنها غالبا ما تترجم في الإنجليزية وكذلك الفرنسية بكلمة ” العنف “. نص بنيامين الذي سأتحدث لكم عنه حالا عنوانه ” نقد العنف “Zur kritik der Gewalt ” وقد ترجم إلى الفرنسية بعنوان “Critique de la violence ” وبالإنجليزية “Critique of violence “. ولكن هاتان الترجمتان رغم أنهما ليستا غير عادلتين injuste بكل ما في الكلمة من معنى (ومن ثم ليستا عنيفتان بالإجمـال) إلا أنهما تفسيران وضعيان للغاية ولا يعدلان تجاه حقيقة أن كلمة Gewalt تدل أيضا عند الألمان، على القوة الشرعية، والسلطة، والقوة العامة. وتعني كلمة Gesetz gebende Gewalt السلطة التشريعية، وتعني كلمة Geistliche Gewalt السلطة الروحية للكنيسة، وتعني كلمة staatsgewalt السلطة أو سلطة الدولة. إن كلمة Gewalt إذن هي العنف والسلطة الشرعية معا، أي السلطة المبررة. كيف يتأتى لنا أن نميز بين قوة قانون سلطة شرعية، والعنف الأصلي المفترض الذي لابد وأن أسس هذه السلطة والذي لم يكن هو ذاته قد فوض بواسطة أية شرعية سابقة، حتى أنه، لم يكن في تلك اللحظة الاستهلالية، شرعيا ولا غير شرعي – أو، قد يقول الآخرون سريعا ليس عادلا ولا غير عادل؟ لقد ألقيت محاضرة في جامعة شيكاغو منذ بضعة أيام مضت –أدعها هنا عمدا رغم أن فكرتها الرئيسية لها صلة وثيقة بموضوعنا – خصصتها لبضعة نصوص كتبها هيدجر حيث تلعب فيها الكلمتان walten وGewalt دورا حاسما، واللتان لا يمكن لنا أن نترجمهما ببساطة بكلمة قوة أو عنف، خاصة ليس في السياق الذي سوف يحاول فيه هيدجر أن يعرض دعواه بأنه من الناحية الأصلية، وبالنسبة لهيراقليطس على سبيل المثال فإن العدالةDike – القانون، المحاكمة، الجزاء أو العقوبة، الأخذ بالثأر، وما إلى ذلك – هي Eris (نزاع، خلاف streit، عدم اتفاق، سجال polemos أو كفاح Kampf) أي أنها ظلم adikia كذلك، يمكن لنا أن نعود إلى هذا، خلال المناقشة إذا ما رغبتم، وإن كنت أفضل أن أبتعد عنه الآن.
ما دامت هذه الحلقة الدراسية مخصصة للتفكيك وإمكان العدالة، فإن فكرتي الأولى، هي أنه في النصوص العديدة التي تعتبر “تفكيكية”، وبصفة خاصة في بعض من تلك التي نشرتها أنا نفسي، فإن اللجوء إلى كلمة “عنف” متواتر إلى حد بعيد، وفي المواضع الاستراتيجية سوف أقول حتى إنها قاطعة، غير أنها وردت في الوقت نفسه دائماً، أو تقريباً دائماً، مقترنة بتحفظ واضح، وحذر. لطالما دعوت إلى الاحتراس، وألزمت نفسي بتذكر مخاطر انتشار هذه الكلمة، سواء كانت مخاطر مفهوم صوفي خفي، جوهراني، مبهم، أو مخاطر إعطاء تفويض للقوة التحكمية العنيفة غير العادلة. لن أستشهد بهذه النصوص. سوف يكون هذا تساهلاً مع الذات وسوف يستغرق الكثير من الوقت، ولكني أطلب منكم أن تثقوا بي. الاحتياط الأول ضد مخاطر النزعة الجوهرانية أو اللاعقلانية التي أثرتها تستغرق الطابع الاختلافى للعنف. بالنسبة لي، فهي دوماً مسألة العنف الاختلافى، مسألة الاختلاف بوصفه اختلافاً للعنف، للعنف بوصفه اختلافاً مؤجلاً differance (الاختلاف المؤجل هو عنف مؤجل-مؤجَل differee-differante)، مسألة العلاقة بين العنف والشكل، بين العنف والدلالة، العنف الإنجازي، والعنف التحقيقي أو التأثيري، بين العنف البلاغي والتوكيدي، الإثبات بواسطة التوقيع، وكذلك أيضاً وعلى وجه الخصوص كل الحالات المفارقة التي يتبادل فيها العنف الأعظم والضعف الأعظم المواقع بما يكفي من الغرابة. وهذا هو كل التاريخ. وما يبقي هو أنني لم أكن مرتاحاً دائماً لكلمة عنف التي غالباً ما حكمت عليها بأنه لا غنى عنها، وإننى لأشكر لكم أنكم عنفتموني ]أجبرتمونى[ على محاولة قول شيء أزيد قليلاً عنها اليوم. وينطبق الشيء نفسه على العدالة. هناك لا شك أسباب كثيرة وراء أن أغلبية النصوص التي عينت بعجلة بوصفها “تفكيكية” –على سبيل المثال، نصوصي –يبدو، أنا أقول يبدو، أن فكرة العدالة لا تتصدرها (بوصفها فكرة رئيسة، تحديداً) أو فكرة الأخلاق أو السياسة. من الطبيعي أن يكون ذلك ظاهرياً فقط، إذا ما أخذنا في اعتبارنا على سبيل المثال (سوف أذكر هذه فحسب) النصوص الكثيرة التي خصصتها لليفيناس Levinas وللعلاقات بين “العنف والميتافيزيقا” أو لفلسفة الحق عند هيجل بكل آثارها في كتابي أجراس Glas، حيث تمثل فيه الفكرة الرئيسة، أو النصوص التي خصصتها لباعث السلطة ولمفارقات السلطة في تأمل – حول فرويد Speculer-sur Freud أو للقانون، في أمام القانون (حول ما كتبه كافكا في أمام القانون Vor dem Gesetz) أو في إعلان الاستقلال Declaration d independence، أو في إعجاب بنلسون مانديلا أو قوانين التأمل Admiration de Nelson Mandela ou les lois de la reflexion. وفي عديد من النصوص الأخرى. من البديهي أن خطابي حول التوكيد المزدوج، والهبة التي تتجاوز التبادل والتوزيع، غير القابل للتقرير، غير القابل للقياس، أو غير القابل للحساب، أو حول الفرادة، والاختلاف والمغايرة هي أيضاً وبكل ما في الكلمة من معنى خطابات عن العدالة، بشكل غامض على الأقل.
أضف إلى ذلك، فقد كان أمراً عادياً، متوقعاً، مرغوباً فيه أن تتوج الدراسات ذات الأسلوب التفكيكي بإشكالية القانون (droit)، بالقانون والعدالة. (لقد حاولت في مكان آخر أن أبين أن جوهر القانون ليس الحظر وإنما الإثبات) سوف يكون هذا بالأحرى هو المكان الأكثر ملاءمة له، إذا ما كان هناك شيء بهذا المعنى. إن مساءلة تفكيكية تبدأ، كما كان الحال هنا، بخلخلة أو بتعقيد التعارض بين الناموس nomos والطبيعة physis بين الفكرة tesis والطبيعة physis –أي التعارض بين القانون، والاتفاق، والمؤسسة من جانب، والطبيعة من جانب آخر، بكل التعارضات التي تشرطهما، على سبيل المثال، وهذا ليس سوى مثال، التعارض القائم بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي (الاختلاف المؤجل difference هو إزاحة هذا المنطق التعارضي)، إن مساءلة تفكيكية تبدأ، كما بدأت هذه، بخلخلة، بتعقيد، أو بإظهار مفارقات القيم مثل تلك التي تتعلق بالخاص proper وخاصيته في كل أساليبه، وبالذات، وكذلك بالذات المسئولة، بذات القانون (droit) وذات الأخلاق، بالشخص الأخلاقي moral أو القانوني، بالقصدية، إلخ وبكل ما يترتب عليها، ومثل هذا النهج التفكيكي من المساءلة يصنع إشكالية problematization للقانون والعدالة بكل ما في الكلمة من معنى، يصنع إشكالية problematization لأسس القانون، والأخلاق والسياسة. ليست مساءلة الأسس هذه تأسيسية أو ضد تأسيسية. وهي لا تفوّت الفرص لكي تضع شكل مساءلة الفكر، موضع السؤال أو حتى أن تتجاوز إمكان أو الضرورة المطلقة للسؤال، مستجوبة بلا ضمان أو تحيز ذات تاريخ السؤال وسلطته الفلسفية. لان هناك سلطة – ومن ثم عنفاً شرعياً في شكل المساءلة الذي يمكننا من أن نسائل أنفسنا عن، من أين يُستمد مثل هذا العنف العظيم في تراثنا.
إذا فرضنا، أن كان لها مكان مناسب، والحال تحديداً لا يمكن أن يكون كذلك، فإن مثل هذه المساءلة التفكيكية أو ما بعد المساءلة meta-questioning سوف تكون أكثر في موطنها بمدارس القانون، وربما أيضاً –يحدث هذا أحياناً- في أقسام اللاهوت أو الهندسة المعمارية، منها في أقسام الفلسفة وأكثر كثيراً منها في أقسام الأدب حيث غالباً ما يُظن أنها تنتمي إليها. لذلك، رغم أنني لا أعرفها جيداً من الداخل، وأنني لأشعر باستحقاقي للوم على ذلك، ودون أن أدعي أية ألفة بها، فإنني أعتقد أن التطورات في تيار “دراسات قانونية نقدية” وفي العمل الذي يقوم به أناس مثل ستانلي فيش، باربارا هيرنستين سميث، دروسيلا كورنل، وسام ويبر وآخرون، الذي يموقع نفسه في العلاقة بالتمفصل بين الأدب، والفلسفة، والقانون والمشاكل المؤسساتية السياسية، هو اليوم، من وجهة نظر تفكيك معين من بين الأشد خصوبة والأكثر ضرورة. إنهم يستجيبون، كما يبدو لي إلى أشد البرامج راديكالية لتفكيك يرغب، حتى يكون متسقاً مع نفسه، في ألا يبقى منغلقاً في خطابات أكاديمية، نظرية، تأملية محضة وإنما (مع كل الاحترام الواجب لستانلي فيش) يتطلع بالأحرى إلي شيء أكثر ترابطاً من الناحية المنطقية، أن يغير الأشياء، وأن يتدخل بطريقة فعالة ومسئولة، وإن يكن دائماً، بالطبع، بطريقة غاية في التوسط ليس فقط في المهنة وإنما فيما نسميه المدينة cite والدولة polis وبشكل أكبر عمومية في العالم. أغلب الظن، ليس تغيير الأشياء بالمعنى الساذج أو بالأحرى لتدخل محسوب عمدي ومسيطر عليه استراتيجياً، ولكن بمعنى التكثيف المتعاظم لتحول قيد التقدم، وليس باسم عرض بسيط ولا قضية بسيطة (هناك حاجة لبعض المقولات الأخرى هنا). إن الأكاديمية في مجتمع صناعي فائق التقنية، هي أقل مما كانت عليه في أي وقت مضى ذلك البرج العاجي الأحادي أو الرهباني الذي لم تكنه أبداً في أية حال. وهذا صحيح بصفة خاصة بصدد “مدارس القانون”.
إنني متعجل لأن أضيف هنا، بإيجاز النقاط الثلاث الآتية:
1- هذا الاقتران أو الوضع حتمي بلا شك، من ناحية بين تفكيك ذي أسلوب فلسفي بشكل أكثر مباشرة، أو تشكل دافعة النظرية الأدبية، ومن ناحية أخرى، تفكير أدبي قانوني و”دراسات قانونية نقدية”.
2- من المؤكد أنه ليس من المصادفة أن هذا الاقتران قد تطور بمثل هذه الطريقة المثيرة في هذا البلد، هذه مشكلة أخرى –ملحة وضاغطة- يتعين عليّ أن أدعها جانباً لضيق الوقت. مما لا ريب فيه أن هناك أسباباً معقدة وعميقة لها أبعاد عالمية، أعني جيوبوليتيكية وليست محلية داخلية فحسب، وراء حقيقة أنه تعين على هذا التطور أن يكون أولاً وبصفة رئيسة أمريكياً شمالياً.
3- فوق كل شيء، إذا كان قد بدا ملحاً أن نولي انتباهنا لهذا التطور المرتبط والمتلازم وأن نسهم فيه، فإنه من الحيوي بنفس القدر ألا ندحض على نطاق واسع الخطابات والأساليب والسياقات الاستدلالية المغايرة وغير المتكافئة. يمكن لكلمة “التفكيك في حالات معينة، أن تُغرى أو تشجع على مثل هذا التشوش. لقد أثارت الكلمة كثيراً من سوء الفهم الذي لا نريد أن نضيف إليه باختزال كل أساليب الدراسات القانونية النقدية إلى أسلوب واحد أو بجعلها نماذجاً أو امتدادات للتفكيك تصاحبها “ت” كبيرة. أياً ما كان قدر عدم ألفتي بها، فإنني أعرف أن هذه الجهود في الدراسات القانونية النقدية لها تاريخها، وسياقها، وأسلوبها الدقيق، وفي العلاقة بمثل هذه المساءلة الفلسفية التفكيكية فإنها غالباً (سوف نقول بهدف الإيجاز) متقطعة، وجلة، تقريبية أو تخطيطية، إذا ما تغاضينا عن كونها متأخرة، رغم أن اختصاصها وحدة كفاءتها الفنية تضعها، من ناحية أخرى، في وضع غاية في التقدم قياساً بالحالة التي يجد التفكيك نفسه فيها في حقل أكثر فلسفية أو أدبية. يبدو أن احترام الخصوصيات السياقية الاستدلالية، والمؤسسية الأكاديمية، الارتياب بالتناظرات والتحويلات المتسرعة، والتجانسات المشوشة، هي الواجبات الأولى التي تتجلى بها الأشياء اليوم. آمل في أي حال، إن تتركنا هذه المواجهة مع ذكرى التباينات والجدالات، أن تتركنا بنفس القدر على الأقل باتفاقات وتوافقات أو بإجماع.
لقد قلت منذ لحظة مضت: يظهر التفكيك فحسب، في تجلياته التي حظيت باعتراف بوصفها كذلك، أنه لم “يخاطب”، كما يقال في الإنجليزية، مشكلة العدالة. إنه يظهر فقط بهذا الشكل. ولكن لابد لنا أن نعلل المظاهر، “حافظوا علي المظاهر” كما قال أرسطو، وهذه هي الكيفية التي أود أن أوظف نفسي بها هنا: أن أبين لم وكيف ما يسمى بالتفكيك الآن، بينما يبدو أنه لم “يخاطب” مشكلة العدالة، لم يفعل شيئاً سوى مخاطبتها، وإن يكن ذلك بمواربة فحسب، غير قادر علي أن يفعل ذلك مباشرة، بمواربة، كما في هذه اللحظة بعينها، التي أستعد فيها لتبيان أننا لايمكن أن نتكلم مباشرة عن العدالة، أن نحولها إلى موضوع thematize أو أن نموضع العدالة، ونقول “هذا عادل” وبشكل أقل بالأحرى “أنا عادل”، دون خيانة العدالة مباشرة، إن لم يكن القانون (droit).(1)
ولكنني لم أبدأ بعد. ولقد بدأت بالقول بأنه يتعين عليّ أن أخاطبكم بلغتكم، وأعلنت على الفور بأنني دائماً ما وجدت على الأقل اثنين من تعابيركم الاصطلاحية نفيسان، وبالفعل لايمكن أن يستبدلا. كان واحد منهما هو “إنفاذ القانون” to enforce the law الذي يذكرنا دائماً بأنه إذا لم تكن العدالة هي بالضرورة قانون (droit) أو القانون، فإنها لا يمكن أن تغدو عدالة شرعاً أو قانوناً de jure سوى بالاحتفاظ بالعنف، أو بالأحرى بالاحتكام إلى العنف منذ لحظتها الأولى، منذ كلمتها الأولى”. في بدء العدالة كان هناك الكلمة logos، الكلام أو اللغة “التي ليست بالضرورة في تناقض مع بداية أخرى أي “في البدء كان سيكون هناك العنف”.
يقول باسكال ذلك في إحدى الفقرات التي قد أعود إليها فيما بعد، في واحدة من أشهر أفكاره “penseés”، وكالعادة فهي أصعب مما تبدو. وهي تبدأ هكذا: “العدالة، العنف –من العدل أن يتبع ما هو عادل، وإنه لمن الضروري أن يتبع ما هو أقوى” فقرة رقم 298، طبعة برونسفيج).
“justice, force –(ILest juste que ce qui est juste soit suivi, il est necessaire que ce qui le plus fort soit suivi”.
إن بداية هذه الفقرة غير عادية بالفعل، في إحكام بلاغتها، إنها تقول بأن ما هو عادل أحق أن يتبع (يتبع بنتيجة، يتبع بمفعول، بتطبيقه، بإنفاذه). وأنه يتعين أن يتبع ما هو أقوى أيضاً (بنتيجة، بمفعول، وما إلى ذلك). بمعنى آخر، البديهية العامة هي أن العادل والأقوى، الأكثر عدلاً أو وكذلك الأقوى، يتعين أن يتبعا. ولكن عبارة “يتعين أن يتبعا” المعممة على العادل والأقوى، هى “حق” (juste) في حالة واحدة، و”ضرورية” فى الأخرى: إنه من العدل أن يتبع ما هو عادل”. بمعنى آخر، فإن مفهوم أو فكرة ما هو عادل، بمعنى العدالة، يتضمن تحليلياً وبشكل قبلىa priori أن يتبع “suivi” ما هو عادل، وأن يجري إنفاذه، وأنه لعادل أيضاً بمعنى “صائب تماماً” أن نفكر بهذه الطريقة”. إنه لمن الضرورى إنفاذ ما هو اقوى”.
ويواصل باسكال: (“العدالة بغير قوة عاجزة”) – la justice sans la force est impuissante بمعنى آخر، ليست العدالة عدالة، إنها لا تتحقق إذا لم تكن لها القوة على “الإنفاذ”، عدالة لا قوة لها ليست عدالة، بمعنى القانون droit- (“القوة بغير عدالة طغيانية. العدالة بغير قوة متناقضة، حيث هناك الأشرار دائماً، القوة بغير عدالة تتهم بأنها خاطئة. ومن ثم فإنه لمن الضروري أن نقرن العدالة والقوة معاً، ومن ثم أن نتيقن من أن يكون ما هو عادل قوياً، وأن يكون ما هو قوي عادلا”.
“La force sans la justice est tyrannique. La justice sans force est contredite parce quil ya toujours mechants, la force sans justice est accuse. Il faut donc mettre ensemble la justice et la force, et pour cela faire ce qui est juste soit fort, ou que ce qui est fort soit juste”
إنه لمن الصعب أن نقرر ما إذا كان “أنه من الضروري” في هذا الاستنتاج (“ومن ثم فإنه لمن الضروري أن نقرن العدالة والقوة معاً”) هي “ضرورة يفرضها” ما هو عادل في العدالة أو ما هو ضروري في القوة. ولكن هذا تردد لا معنى له ما دامت العدالة تتطلب بوصفها عدالة، لجوءاً إلى القوة، فضرورة القوة متضمنة، إذن، في “العادل”، “في العدالة” “justice”.
ما يتواصل وتستخلصه هذه الفكرة penseé، (“وهكذا، مادام لم يكن من الممكن جعل العادل قوياً، فقد جُعل القوي عادلا”) تستحق تحليلاً أطول مما أستطيع أن أقدمه هنا. إن مبدأ تحليلي (أو بالأحرى تفسيري الفعال الذي يمكن أن يكون أي شيء عدا أن يكون عنيفاً) للتفسير هو في قلب ما أود أن أقترحه على نحو غير مباشر في سياق هذه المحاضرة، وسوف يكون، خاصة في حالة فكرة penseé باسكال هذه، مضاداً لما هو تقليدي ولسياقه الأشد وضوحاً. هذا السياق والتفسير الاتفاقي الذي يبدو أنه يمليه يجري، تحديداً في اتجاه اعتباطي نحو نوع من الشكية التجريبية النسبية والمتشائمة التي دفعت أرنو Arnaud لقمع هذه الأفكار penseés في طبعة بورت رويال، متذرعاً بأن باسكال كتبها تحت تأثير قراءته لمونتاني Montaigne، الذي اعتقد بأن القوانين ليست عادلة في ذاتها، وأنها كانت عادلة بالأحرى بصفتها قوانين فحسب. إنه لمن الحقيقي أن مونتاني قد استخدم تعبيراً مثيراً للاهتمام، وظفه باسكال لأغراضه الخاصة، والذي أود أيضاً أن أعيد تفسيره وتقويمه بعيداً عن قراءته المألوفة والتقليدية. التعبير هو “الأساس الخفي للسلطة” Fondement mystique de l autorite. يستشهد باسكال بمونتاني دون أن يسميه حين يكتب في الفكرة pensee رقم 293: (“يقول أحدهم إن جوهر العدالة هو سلطة المشرع، ويقول آخر إنها موافقتها للملِك، ويقول آخر إنها العادة الجارية، والأخير هو الأقرب إلى الحقيقة: العقل البسيط يقول لنا: بأنه ما من شيء عادل في ذاته، كل شيء يضمحل عبر الزمن. العادة هي الأساس الوحيد للعدالة، لسبب بسيط هو أنها نقلت إلينا، إنها الأساس الخفي لسلطتها، كل من يتتبعها إلى مصدرها يبطلها”).
“L un dit que l essence de la justice est l autorite du legislateur, l autre la commodite du souverain, l autre la coutume presente, et c est le plus sur: rien, suivant la seule raison, n est juste de soi, tout branle avec le temps. La coutme fait toute l equite par cette seule raison qu elle est recue, c est le fondement mystique de son autorite. Qui la ramene a son principe, l aneaantit”.
كان مونتاني يتكلم في الحقيقة عن “الأساس الخفي” لسلطة القوانين: “or les Loix”، وهو يقول (“وهكذا تحتفظ القوانين بمصداقيتها ليس بسبب أنها عادلة، وإنما لأنها قوانين: هذا هو الأساس الخفي لسلطتها، ليس لها أساس آخر… كل من يطيعها لأنها عادلة فإنه لا يطيعها بالطريقة الواجبة”)(2)
“Se maintiennent en credit. Non parce qu elles sont justice, mais parce qu elles sont loix: c est le fondement mystique de leur auctorite , elles n en ont point d autre… Quiconque leur obeit parce qu elles sont justice, ne leur obeit pas justement par ou il doibt”.
يميز مونتاني هنا بوضوح القوانين، أي droit، من العدالة. عدالة القانون، العدالة كقانون ليست عدالة. ليست القوانين عادلة بوصفها قوانين. وهي تطاع ليس لأنها عادلة وإنما لأن لها سلطة.
سوف أوضح تدريجياً ما أفهمه بهذا التعبير: “الأساس الخفي للسلطة”. إنه لمن الحقيقي أن مونتاني كتب أيضاً ما يلي وهو ما يجب أن نفسره، مرة أخرى، بالذهاب ماوراء سطحه المألوف والتقليدي: “(يقال، إنه حتى قانوننا, له تخيلات شرعية يؤسس عليها حقيقة عدالته)”
“(notre droit meme adit-on des fictions legitimes sur lesquelles il fonde la verite de sa justice)”
لقد استخدمت هذه الكلمات كتصدير لنص حول أمام القانون Vor dem Gestz. ما هو التخيل الشرعي؟ ماذا يعني تأسيس حقيقة العدالة؟ هذه بعض الأسئلة التي تنتظرنا. إنه لمن الحقيقي أن مونتاني قد عرض تناظراً بين هذه التكملة الاصطناعية التي يقتضيها النقص في الطبيعة، كما لو أن غياب القانون الطبيعي قد اقتضى تكملة القانون (droit) الوضعي أو التاريخي، بالتخيلي، -إذا ما استخدمنا تشبيه مونتاني- تماماً مثل (“النساء اللاتي يستعملن الأسنان العاجية حين تنقصهن الأسنان الحقيقية، وبدلاً من أن يظهرن لون بشرتهن الحقيقية يصطنعن أخرى ببعض المواد الغريبة..) (الكتاب الثاني، الفصل الثاني عشر، ص 106بلياد).
“Les femmes que emploient des dents d jvoire ou les leurs naturelles leur manquent, et, au lieu de leur vraiteint, en forgent un de quelque matiere etrangere…” (Livre II, XII, p. 106, Pleiade).
ربما كانت فكرة باسكال أن “يقرن معاً” كما يقول، العدالة والقوة ويجعل القوة محمولاً جوهرياً للعدالة (التي يعني بها القانون droit أكثر من العدالة) تتجاوز النزعة النسبية النفعية، أو الاتفاقية، ما وراء العدمية، القديمة أو الحديثة، التي قد تجعل القانون “قوة مُقنعة” تتعدى الأخلاق الساخرة في حكاية لافونتين “الذئب والخروف” التى وفقاً لها (“القوة تصنع الحق”).
“La raison du plus fort est toujours la meilleure”.
يحيلنا النقد الباسكالي، في مبدئه إلى خطيئة أصلية وإلى فساد القوانين الطبيعية بسبب عقل هو ذاته فاسد. “هناك، بلا شك، قوانين طبيعية، ولكن هذا الشيء الدقيق المسمى عقلا قد أفسد كل شيء” القسم الرابع 294.
(“IL y a sans doute des Lois naturelles, mais cette belle raison a tout corrompu).
وفي موضع آخر: “إن عدالتنا لا تمثل شيئاً أمام العدالة الإلهية” 263.
“Noter justice s aneanti devant la justice divine”.
(إنني أستشهد بهذه الأفكار penseés لأعد لقراءتنا لبنيامين)
وإذا ما نحينا جانباً الآلية الوظيفية للنقد الباسكالي، وإذا ما فصلناه عن التشاؤم المسيحي، وهو أمر ليس بالمستحيل، يمكن لنا أن نجد فيه، كما عند مونتاني، أساس فلسفة نقدية حديثة، ملائمة بالفعل لنقد الأيديولوجيا القانونية، وفك ترسبات desedimentation البنية الفوقية للقانون التي تعكس وتخفي في آن معاً المصالح السياسية والاقتصادية للقوى المهيمنة في المجتمع. وهذا سوف يكون ممكناً ومفيداً دائماً في نفس الآن.
ولكن ما وراء مبدأها وآليتها، فإن هذه الفكرة الباسكالية ربما تخص بنية أكثر جوهرية، بنية لا ينبغي لنقد الأيديولوجية القانونية أن يغفل عنها أبداً. إن ذات نشوء القانون والعدالة، اللحظة المؤسسة والمسوغة التي تمأسس القانون تتضمن قوة إنجازية، وهي دائماً قوة تفسيرية: هذه المرة ليس بمعنى القانون في خدمة القوة، أداتها الطبيعية، الذليلة ومن ثم يتبدى خارجياً بالنسبة للسلطة السائدة، وإنما بالأحرى بمعنى القانون الذي يستبقى علاقة أكثر داخلية، اشد تعقيداً مع ما نسميه القوة، السلطة أو العنف. إن العدالة –بمعنى droit (الحق أو القانون)- لن توضع ببساطة في خدمة قوة اجتماعية أو سلطة، على سبيل المثال سلطة اقتصادية، أو سياسية، أو أيديولوجية، يمكن أن توجد خارجها أو قبلها، عليها أن تتكيف أو أن تنحني لها حين يكون ذلك مفيداً. إن ذات لحظة تأسسها أو تأسيسها (التي ليست بأي حال لحظة مقدورة في نسيج التاريخ المتجانس مادام قد مُزق بقرار واحد)، أي العملية التي تبلغ تأسيس، تدشين، تبرير القانون (droit)، صنع القانون سوف تتضمن ضربة قوة coup de force، لعنف إنجازي ومن ثم تفسيري وهو في ذاته ليس عادلاً ولا غير عادل ولا يمكن لأي عدالة أو قانون سابق في لحظته التأسيسية السالفة، أن يصادق عليه أو يناقضه أو يبطله. لايمكن ولا ينبغي لخطاب تبريري أن يؤَمن دور ما بعد اللغة في العلاقة بإنجازية اللغة التأسيسية أو لتفسيرها المهيمن.
يواجه الخطاب هنا معارضة حده: في ذاته، في قوته الإنجازية ذاتها. وهو ما أقترح أن نسميه الخفي. هنا صمت محصور ضمن جدران البنى العنيفة للفعل المؤسس. محصور، محبوس لأن الصمت ليس خارجياً بالنسبة للغة. بهذا المعنى لسوف أغوي بأن أفسر، متجاوزاً التعليق البسيط، ما يسميه مونتاني وباسكال بالأساس الخفي للسلطة. يمكن لمن يرغب أن يتجاهل ما أفعل أو أقول هنا –أو يقلب- ذات الشيء الذي أقول إنه يحدث على هذا النحو في أصل كل مؤسسة. سوف أستغل من ثم كلمة “خفي” فيما سوف أجازف بتسميته بالأحرى اتجاهاً فيتجنشتينياً. هذه النصوص التي كتبها مونتاني وباسكال مع نصوص من التراث الذي تنتمي إليه والتفسير الفعال الذي اقترحه بشأنها، يمكن أن يُدرج في إطار مناقشة ستانلي فيش في “العنف” (افعل ما يأتي طبيعياً) لكتاب هارت مفهوم القانون، ومجموعة مؤلفين آخرين، تشمل ضمناً راولس، وهو نفسه قد انتقده هارت، كما يُدرج في كثير من الجدالات التي أضاءتها بعض نصوص سام ويبر عن الطابع اللاأدري، وليس ببساطة ما بين التأسيسي أو أحادي التأسيس لنزاعات معينة في كتاب المؤسسة والتفسير.(3)
ما دام أصل السلطة، الأساس أو الأس، سن القانون فلا يمكن لها بالتعريف أن ترتكز على شيء عدا ذاتها، فهي ذاتها عنف بغير أساس. وهو ما لا يعني القول إنها في ذاتها غير عادلة، بمعنى أنها “غير شرعية”. فهي ليست شرعية ولا غير شرعية في لحظتها التأسيسية. حتى إذا ما كان نجاح الإنجازيات التي أسست القانون أو الحق (للدولة بوصفها ضامناً للحق على سبيل المثال، وهو أكثر من مثال,) تفترض شروطاً أسبق واتفاقيات (على المستوى القومي أو الدولي مثلاً)، سوف يعاود نفس الحد “الخفي” الظهور عند الأصل المفترض للشروط، والقواعد أو الاتفاقيات المذكورة، وعند أصل تفسيرها السائد.
إن البنية التي أصفها هنا هي بنية يكون القانون (droit) فيها جوهرياً قابلاً للتفكيك، سواء كان مؤسساً مبنياً على طبقات نصية قابلة للتفسير والتحويل (وهذا هو تاريخ القانون droit، تحوله الممكن والضروري، وأحياناً تحسنه)، أو بسبب أن أساسه النهائي بحكم تعريفه غير مؤسس. إن حقيقة أن القانون قابل للتفكيك ليس بالبشارة السيئة. قد نرى في ذلك حتى ضربة حظ للسياسة، ولكل التقدم التاريخي. ولكن المفارقة التي أود أن أخضعها للمناقشة هي التالية: إن بنية القانون droit القابلة للتفكيك، أو إذا ما فضلتم العدالة بوصفها قانوناً droit، هي التي تؤمن أيضاً إمكانية التفكيك. إن العدالة في ذاتها، إذا ما كان يوجد شيء بهذا المعنى خارج أو ما وراء القانون، ليست قابلة للتفكيك. ليس أكثر من التفكيك ذاته، إذا ما كان يوجد شيء بهذا المعنى. التفكيك هو العدالة. ربما لأن القانون droit (الذي سوف أحاول دوماً أن أميزه عن العدالة) قابل للإنشاء، بمعنى يتجاوز التعارض بين الاتفاق والطبيعة، وربما إلى المدى الذي يتجاوز فيه هذا التعارض فهو قابل للإنشاء ومن ثم قابل للتفكيك, أضف إلى ذلك أنه يجعل التفكيك ممكناً، أو على الاقل ممارسة تفكيك، دائماً ما تتوجه، جوهرياً، نحو أسئلة القانون droit وإلى موضوع القانون. 1- إن قابلية القانون droit، والقانونية، والشرعية، أو المشروعية للتفكيك (على سبيل المثال) تجعل إمكانية التفكيك ممكنة؛ 2- إن عدم قابلية العدالة للتفكيك أيضاً تجعل التفكيك ممكناً، وبالفعل فهو غير قابل للفصل عنها؛ 3- والنتيجة: يجرى التفكيك في الفسحة التي تفصل عدم قابلية العدالة للتفكيك عن قابلية القانون droit (والسلطة، والشرعية، وما إلى ذلك) للتفكيك. إنها ممكنة بوصفها تجربة المستحيل، إن كانت، حتى لو لم تكن موجودة (أو لم توجد بعد، أو لن توجد أبداً) هناك عدالة. حيثما يمكن لنا أن نستبدل، نترجم، نحدد س x العدالة، يتعين علينا أن نقول: إن التفكيك ممكن، بوصفه مستحيلاً، إلى المدى (الذي توجد فيه) حيث توجد فيه س x (غير قابلة للتفكيك)، وهكذا إلى المدى (الذي توجد فيه) حيث توجد فيه س x (غير قابلة للتفكيك).
بمعنى آخر، تتطلب الفرضية والقضايا التي أتوجه إليها بتردد هنا عنواناً فرعياً: العدالة بوصفها إمكاناً للتفكيك، وبنية القانون droit أو القانون المعين، الأساس أو التفويض الذاتي للقانون droit بوصفه إمكاناً لممارسة التفكيك. إنني متأكد من أن هذا كله غير واضح، آمل، رغم أنني لست متأكداً من ذلك، أنه سوف يغدو أوضح قليلاً خلال لحظة.
لقد قلت، إذن، إنني لم أبدأ بعد. وربما لن أبدأ أبداً، وربما سيكون على هذه الحلقة الدراسية أن تنعقد بغير “خطاب رئيس”، إلا أنني قد بدأت بالفعل. إنني أخول نفسي –ولكن بأي حق؟- أن أكثر من البروتوكولات والانعطافات. لقد بدأت بالقول بأنني كنت عاشقاً لاثنين من مصطلحاتكم على الأقل. واحد منهما كان “القابلية للإنفاذ بالقوة” وكان الآخر الاستعمال المتعدي للفعل “يخاطب”. في الفرنسية يخاطب المرء نفسه إلى أحد آخر، المرء يخاطب حرفاً أو كلمة، وهو أيضاً استعمال متعد، دون أن يكون متأكداً من أنها سوف تصل إلى مقصدها، ولكن المرء لا يخاطب مشكلة. ولا يزال أقل أن يخاطب الواحد آخر. لقد وافقت الليلة بناء على عقد أن أخاطب مشكلة بالإنجليزية، أي أن أتوجه إليها مباشرة، ومباشرة إليكم، من زاوية الفكرة الرئيسة ودون انعطاف، عند مخاطبتي لكم بلغتكم. بين القانون والحق، هناك صحة المخاطبة، الوجهة والاستقامة، ينبغي أن نكون قادرين على إيجاد خط مباشر للاتصال وأن نجد أنفسنا في المسار الصحيح. لم تلتصق بالتفكيك سمعة، سواء كان لها ما يبررها أم لا، بأنه يعامل الأشياء بغموض، وليس مباشرة، بين “علامتي اقتباس”: “وبأنه دائماً ما يسأل ما إذا كانت الأشياء تصل إلى العنوان المشار إليه؟ هل يستحق هذه السمعة؟ وسواء استحقها أم لا، كيف يمكن لنا أن نفسرها؟
وهكذا فإن لدينا بالفعل، في حقيقة أنني أتكلم لغة آخر متخاصم مع لغتي الخاصة، وفي حقيقة أنني سلّمت نفسي إلى آخر خليطاً فريداً من القوة، من العدالة justesse والعدالة justice.
وإنني مضطر، وإنه لالتزام أن “أخاطب” بالإنجليزية، كما تقولون في لغتكم، مشاكل لانهائية، لانهائية في عددها، لانهائية في تاريخها، لانهائية في بنيتها، يغطيها العنوان: التفكيك وإمكان العدالة. ولكننا نعرف بالفعل أن هذه المشاكل ليست لانهائية لأنها ببساطة متعددة بلانهاية، ولا بسبب أنها متجذرة في لانهائية الذكريات والثقافات (الدينية، والفلسفية، والقانونية، وما إلى ذلك) التي لن نسيطر عليها أبداً. إنها لانهائية، إذا جاز لنا أن نقول كذلك، في ذاتها لأنها تتطلب ذات تجربة الإحراج aporia التي ليست منفصلة عما أسميته “الخفي”. حين أقول أنها تتطلب ذات تجربة الإحراج aporia، فإنني أعني شيئين. 1- كما يشير إلى ذلك اسمها فإن التجربة لها سمة ما هو اجتيازي، شيء يجتاز ويرحل نحو وجهة ما ليجد الممر الملائم. يمكن أن تجد التجربة طريقها، ممرها. وبهذا المعنى فإنه من المستحيل اكتساب تجربة كاملة بالإحراج aporia، أي بشيء لا يتيح المرور. إن الإحراج aporia هو اللاطريق. من وجهة النظر هذه، فإن العدالة ستكون هي التجربة التي لا نستطيع أن نجربها. سرعان ما سنواجه أكثر من إحراج لن نكون قادرين على اجتيازه. غير أني 2- أظن أنه ليس هناك من عدالة بدون هذه التجربة، تجربة الإحراج aporia هذه أياً ما كان قدر استحالتها، فالعدالة هي تجربة المستحيل. إن إرادة، رغبة، طلباً للعدالة لا تكون بنيتها تجربة الإحراج aporia لن تنال فرصة أن تكون ما هي، أي نداء للعدالة. في كل مرة ينتهي شيء إلى أن يمر، أو يثبت أنه جيد، في كل مرة نطبق فيها باتزان قاعدة جيدة على حالة خاصة, على مثال مصنف بصواب، وفقاً لحكم محدد، يمكن لنا أن نطمئن بأن القانون droit قد يجد ذاته معللاً، إنما ليس العدالة بالتأكيد. القانون droit ليس العدالة. القانون عنصر للحساب، وإنه لمن الصائب أن يكون هناك قانون، ولكن العدالة غير قابلة للحساب، إنها تتطلب منا أن نحسب بما هو غير قابل للحساب، والتجارب الإحراجية هي تجارب العدالة بعيدة الاحتمال بقدر ما هي ضرورية، أي بمعنى أنها تخص اللحظات التي لا يكون فيها القرار بين العادل وغير العادل مضموناً أبداً بقاعدة.
وهكذا يتعين عليّ أن أخاطبكم و”أخاطب” المشاكل، يجب أن أفعل هذا بإيجاز وبلغة أجنبية. أن أفعل ذلك بإيجاز، كان عليّ أن أفعل ذلك مباشرة بقدر الإمكان، متجهاً مباشرة، دون التفاف، دون عذر تاريخي، دون انحراف، نحوكم، مفترضاً أنكم أول المخاطبين بهذا الخطاب، ولكن في الوقت نفسه نحو مكان القرار الجوهري للمشاكل المذكورة. العنوان –كاتجاه، كصحة حكم- يقول شيئاً عن القانون droit (القانون أو الحق)، والذي ينبغي ألا ننساه حينما نريد العدالة، حينما نريد أن نكون عادلين، هو صحة العنوان. قد أقول في الفرنسية لاينبغي أن ننسى وضع العنوان Il ne faut pas manquer d addresse، ولكن فوق كل شيء لاينبغي على المرء أن يخطئ العنوان Il ne faut pas manquer l addresse ويبدو العنوان دائماً فريداً. العنوان، فريد دائماً، اصطلاحي، والعدالة كالقانون droitيبدو أنها تفترض دائماً عمومية القاعدة، قاعدة قانونية أو واجباً عاماً. كيف يمكن لنا أن نوفق فعل العدالة الذي يجب دائماً أن يعني بالفرادة، والأفراد، والجماعات والحيوات غير القابلة للاستبدال، الآخر أو أنا نفسي بوصفي آخر، في وضع فريد، مع قاعدة، قاعدة قانونية، قيمة أو واجب للعدالة له بالضرورة شكل عام، حتى وإن قضت هذه العمومية بتطبيق متميز، في كل حالة؟ إذا كنت راضياً بتطبيق قاعدة عادلة، بدون روح عدالة، وبدون أن أبتدع بطريقة ما قاعدة ونموذجاً لكل حالة، ربما يحميني القانون droit، لأن تصرفي يتوافق مع القانون الموضوعي ولكني لن أكون عادلاً. كنت سأتصرف، كما كان كانط سيقول في مثل هذه المناسبة بالامتثال للواجب، ولكن ليس من خلال الواجب أو بدافع الاحترام للقانون. هل يمكن لنا أبداً أن نقول: إن فعلاً ما ليس فقط قانونياً وإنما عادلاً أيضاً؟ إن شخصاً ما لا يتصرف فقط ضمن [نطاق] حقوقه وإنما أيضاً ضمن [نطاق] عدالته؟ مثل هذا الرجل أو المرأة عادل، قرار ما عادل؟ هل يمكن لنا أن نقول أبداً: إنني أعرف أنني عادل؟ اسمحوا لي بانعطافة ثانية.
أن يخاطب المرء الآخر في لغة الآخر هو، كما يبدو، شرط كل عدالة ممكنة، غير أن ذلك بوضوح، وبكل دقة، ليس مستحيلاً فحسب (مادمت لا أستطيع أن أتحدث لغة الآخر سوى إلى المدى الذي أستولي فيه عليها وأتمثلها وفقاً لقانون ثالث ضمني) بل وحتي مستبعد حين تكون العدالة قانوناً droit بقدر ما يبدو أن العدالة بوصفها حقاً تتضمن عنصراً من الشمول واحتكاماً إلى الآخر الذي يوقف أحادية جانب أو فرادة اللغات.
حين أخاطب شخصاً ما باللغة الإنجليزية، فإن ذلك دائماً ما يكون محنة بالنسبة لي، ولمن أخاطبه، ولكم كذلك، كما أتخيل. بدلاً من أن أشرح لماذا، وأضيع الوقت بعمل ذلك، فإنني أبدأ in medias res، بعدة ملاحظات تربط بالنسبة لي الجاذبية المعذبة لمشكلة اللغة هذه بمسألة العدالة، بإمكان العدالة.
الملاحظة الأولى: من ناحية، ولأسباب جوهرية، يبدو عادلاً بالنسبة لنا: “إقامة العدالة” render la justice، كما نقول في الفرنسية، في مصطلحات معينة، في لغة تكون فيها كل “الذوات” المعنية أكفاء افتراضياً، أي قادرة علي التفسير والفهم –كل “الذوات”، أي هؤلاء الذين يؤسسون القوانين، هؤلاء الذين يحكمون وهؤلاء الذين يُحكم عليهم، والشهود بكل من المعنى الضيق والواسع، كل هؤلاء الذين يُؤَّمنون ممارسة العدالة، أو بالأحرى القانون droit. إنه لمن غير العادل أن نحكم على شخص ما لا يفهم اللغة التي نُقش بها القانون أو نُطق بها الحكم إلخ. يمكن لنا أن نضرب عدة أمثلة درامية لمواقف عنيفة حُكم فيها على شخص أو على مجموعة من الأشخاص وفق مصطلحات لا يفهمونها جيداً أو لا يفهمونها على الإطلاق. وأياً ما كان الاختلاف هنا قليلاً أو دقيقاً بشأن القدرة على استيعاب المصطلحات، فإن عنف اللاعدالة قد بدأ عندما لم يعد كل أعضاء المجتمع يشتركون في نفس المصطلحات بكاملها. مادام هذا الوضع المثالي بكل دقة ليس ممكناً أبداً، فربما يمكن لنا أن نستخلص بعض الاستنتاجات حول ما يسميه مؤتمرنا “إمكان العدالة”. إن عنف هذه اللاعدالة التي تتألف من الحكم على هؤلاء الذين لا يفهمون المصطلحات التي يُدعى بها، كما يقال في الفرنسية، أنه (“لقد أقيمت العدالة، “صنعت”) justice faite”، ليس مجرد أي عنف، أي لاعدالة. تفترض هذه اللاعدالة أن الآخر، ضحية لاعدالة اللغة وبوصفه حيواناً ناطقاً، جديراً بلغة بصفة عامة، بالمعنى الذي نعطيه نحن البشر لهذه الكلمة لغة. أضف إلى ذلك، أنه كان هناك زمن، ليس عتيقاً ولم ينقض بعد، عنت فيه عبارة نحن البشر” نحن الراشدون الذكور الأوربيون البيض، آكلو اللحوم والقادرون على التضحية”.
في الفضاء الذي أموقع فيه هذه الملاحظات، أو أعيد تشكيل هذا الخطاب لن يتحدث المرء عن اللاعدالة أو العنف نحو حيوان، وحتى بشكل أقل نحو نبات أو حجر. يمكن جعل الحيوان يعاني، ولكننا لن نقول أبداً، بمعنى يعتبر دقيقاً، إنه ذات معتدى عليها، ضحية جريمة، ضحية قتل، أو اغتصاب أو سرقة، أو حنث باليمين –وهذا صحيح بعدياً a fortiori، كما نظن، بشأن ما نسميه نباتاً أو معدناً أو نوعاً وسيطاً مثل الإسفنج. لقد كان هناك، ولايزال هناك، “ذوات” كثيرة ضمن البشرية لا يُعترف بهم كذوات والذين يتلقون هذه المعاملة الحيوانية (هذا هو كل التاريخ الذي لم ينته الذي ألمعت إليه منذ لحظة مضت). مانسميه بشكل مشوش “حيواناً”، الشيء الحي بوصفه حياً ولا شيء آخر، ليس موضوعاً للقانون أو لقانون droit. التعارض بين العادل وغير العادل لا معنى له في هذه الحالة. بالنسبة لمحاكمة الحيوانات (وقد كان هناك بعضها) أو الدعاوى القضائية ضد هؤلاء الذين ينزلون بعض أنواع المعاناة بالحيوانات (يعالج التشريع في بعض البلدان الغربية ذلك ويتحدث ليس فقط عن حقوق الإنسان وإنما عن حقوق الحيوان بصفة عامة) تعتبر إما أساليب مهجورة أو ظواهر لازالت نادرة وهامشية ليست من مقومات ثقافتنا، ضحية اللحم أساسية في ثقافتنا، سائدة، منظمة بأعلى تقنية صناعية، كما هو حال التجريب البيولوجي علي الحيوانات –شديدة الحيوية لحداثتنا. كما حاولت أن أبين في مكان آخر(4)، فإن ضحية اللحم أساسية لبنية الذاتية، وهو ما يعني القول أيضاً لتأسيس الذات القصدية ولتأسيس، إن لم يكن القانون، فعلى الأقل قانون droit، والاختلاف بين القانون وقانون droit، والعدالة والقانون يبقى هنا مفتوحاً على هاوية. سوف أدع هذه المشاكل جانباً الآن، ومعها الصلة بين ضحية اللحم، التي توجد أساساً في ثقافتنا وفنوننا، وكل أنواع أكل لحوم البشر، سواء كانت رمزية أم لا، التي تبنين التداخلات الذاتية intersubjectivity في التمريض، والحب، والحداد، وفي الحقيقة, في كل الاستيلاءات اللغوية أو الرمزية.
إذا ما رغبنا في أن نتحدث عن اللاعدالة، عن العنف أو الافتقار للاحترام نحو الذى ما زلنا نسميه بتشوش شديد الحيوانات –المسألة أشد راهنية مما كانت عليه على الإطلاق وهكذا فإنني أُدخل فيها، باسم التفكيك مجموعة من المسائل اللوجوسية القضيبية اللحمية carno-phallogocenrrism – فيجب علينا أن نعيد النظر في كلية بداهة المركزية الإنسانية الميتافيزيقية التي تهيمن في الغرب على فكرة العادل وغير العادل.
يمكن لنا من هذه الخطوة الأولى بذاتها أن نلمح بالفعل أولى نتائجها، أي، أن مقاربة تفكيكية للحدود التي تؤسس الذات الإنسانية (المفضل والنموذجي هو الذكر الراشد، أكثر من المرأة، والطفل أو الحيوان) كمعيار للعادل وغير العادل، لا تؤدي بالضرورة إلى اللاعدالة، ولا إلى إمحاء التعارض بين العادل وغير العادل، وإنما قد تؤدي، باسم طلب أكثر نهماً للعدالة إلى إعادة تفسير لكل جهاز الحدود الذي أمكن لحضارة أو تاريخ أن تحصر فيه علمها المعياري criteriology. في إطار الفرضية التي سوف أمسها الآن مساً خفيفاً فقط، لن يتوافق ما يُدعى حالياً التفكيك (رغم أن بعض الناس مهتمون بنشر هذا التشوش) مع إغفال شبه عدمي للمسائل القانونية السياسية الأخلاقية للعدالة وعن التعارض بين العادل وغير العادل، وإنما يتوافق بالأحرى مع حركة مزدوجة سأبين خطاطتها فيما يلي:
1- الإحساس المفرط وغير القابل للحساب بمسؤولية لا حدود لها، أمام الذاكرة، وكذلك مهمة تذكر التاريخ، والأصل والاتجاه التالي، ومن ثم حدود، ومفاهيم العدالة، والقانون والحق والقيم، والقواعد والأعراف التي فرضت وترسبت هناك، وأصبحت باقية منذئذ قابلة للقراءة بهذه الدرجة أو تلك، أو مفترضة مسبقاً. يقع في قلب التفكيك أن يقوم بمهمة الذاكرة التفسيرية والتاريخية. إزاء التراث الذي تلقيناه تحت اسم العدالة، وفي أكثر من لغة، ليس فقط كمهمة لغوية اشتقاقية أو كمهمة مؤرخ وإنما كمسؤولية في مواجهة الميراث الذي هو في الوقت نفسه ميراث واجب أو حزمة وصايا. إن التفكيك منشغل بالفعل بهذا الطلب اللانهائي للعدالة، من أجل العدالة التي يمكن أن تتخذ مظهر هذا “الخفي” mystique الذي تحدثت عنه قبلاً. ينبغي على المرء أن يكون عادلاً مع العدالة، وأول طريقة لنكون عادلين مع العدالة هو أن نسمعها، أن نقرأها، أن نفسرها، أن نحاول أن نفهم من أين تأتي، ماذا تريد منا، عالمين بأنها تفعل ذلك من خلال مصطلحات فريدة (Dike, Jus, Justitia, Justice, Gerechtigkeit) هذا إذا ما اقتصرنا على المصطلحات الأوروبية، وقد يكون من الضروري أيضاً تعيينها في العلاقة بالمصطلحات الأخرى: (وهو أمر سوف نعود إليه لاحقاً) وعالمين أيضاً أن هذه العدالة تخاطب دوماً الفرادة، فرادة الآخر: رغم أو حتى بسبب أنها تدعي الشمول. يتعين نتيجة لذلك، ألا نتنازل في هذه المسألة، وأن نحتفظ دوماً بمساءلة الأصل، وأسس وحدود جهازنا المعياري أو النظري المفهومي الذي يحيط بالعدالة، وذلك من جانب التفكيك أي شيء سوى أن يكون تحييداً للاهتمام بالعدالة، أو لاحساسية تجاه العدالة. على النقيض، إنه يمعن في إثارة رهانات العدالة الملموسة، إنها حساسية نحو نوع من التفاوت الجوهري الذي يجب أن يدخل إفراطاً وعدم ملائمة في ذاته ويجهد لا لشجب الحدود النظرية فحسب وإنما أيضاً اللاعدالة الملموسة، وأشد التأثيرات المحسوسة، على ضمير مطمئن عقائدياً يتوقف أمام اي تحدد موروث للعدالة.
2- هذه المسئولية نحو الذاكرة هي مسئولية أمام ذات مفهوم المسئولية الذي ينظم العدالة وإزاء ملائمة (إنصاف Justesse) سلوكنا، وقراراتنا السياسية الأخلاقية، العملية والنظرية. لا يمكن فصل هذا المفهوم عن المسئولية عن شبكة كاملة من المفاهيم المرتبطة به (الملكية، القصدية، الإرادة، الحرية، الضمير، الوعي، الوعي الذاتي، النفس، الشخص، المجتمع، القرار، وما إلى ذلك) وأي تفكيك لهذه الشبكة من المفاهيم في حالتها القائمة أو السائدة قد يبدو كأنه حركة نحو اللامسئولية في ذات اللحظة التي يدعو فيها التفكيك، على النقيض من ذلك، إلى زيادة في المسئولية. ولكن في اللحظة التي يوقف فيها التفكيك مصداقية بديهية ما، في تلك اللحظة الضرورية بنيوياً، يمكن للمرء دائماً أن يعتقد أنه ليس هناك مكان للعدالة، لا للعدالة ذاتها ولا للاهتمام النظري الموجه نحو مشاكل العدالة. لحظة التعليق هذه، هذه الفترة epokhe العصية، التي لا يكون التفكيك بدونها ممكناً في الحقيقة، هي دائماً مليئة بالقلق، ولكن من سيدعي أنه عادل بالاقتصاد في القلق؟ ولحظة التعليق هذه التي استبد بها القلق – وهي أيضاً فاصل الفسحة التي تجري فيها التحولات، وبالفعل الثورات السياسية القانونية – لا يمكن أن تحفز، لا يمكن أن تجد حركتها ودافعها (دافع هو ذاته لا يمكن أن يتوقف) إلا في طلب يستهدف زيادة أو تكملة العدالة، ومن ثم في تجربة تفاوت عديم الملائمة أو غير قابل للحساب. لأنه في النهاية، اين سيجد التفكيك قوته، حركته أو دافعه إن لم يكن في هذا الإغراء appeal غير الملبى دائماً، ما وراء التحديدات القائمة لما نسميه في سياقات محددة، العدالة، إمكان العدالة؟ ولكنه لايزال من الضروري تفسير هذا التفاوت. إذا جاز لي القول فإنني لا أعرف شيئاً أكثر عدالة مما أسميه اليوم التفكيك (لا شيء أكثر عدالة، إنني لا أقول لا شيء أكثر قانونية أو شرعية)، أعرف أنني لن أخفق في إدهاش أو صدم ليس فقط الخصوم المعاندين للتفكيك المنوه عنه، أو لما يتخيلونه تحت هذا الاسم، وإنما أيضاً الناس أنفسهم الذين يعتبرون أو يعدون أنفسهم المدافعين عنه أو ممارسيه. وهكذا فإنني لن أقول ذلك، على الأقل ليس مباشرة، وليس بغير احتياط متخذاً عدة انعطافات.
كما تعلمون، إنه في عدة بلدان، في الماضي وفي الحاضر، تمثل واحد من أشكال العنف المؤسس للقانون، أو فرض قانون الدولة في فرض لغة على الأقليات الإثنية أو القومية التي أعيد تشكيلها بواسطة الدولة. هكذا كان الحال في فرنسا على الأقل في مناسبتين، أولاً حين عزز مرسوم villers-cotteret وحدة الدولة الملكية بفرض الفرنسية بوصفها اللغة الإدارية والقضائية وبحظر أن تتيح اللاتينية، لغة القانون والكنيسة، لكل سكان المملكة أن يمثلوا في لغة مشتركة، بواسطة محام-مترجم، بدون فرض لغة معينة الذي كانت عليه اللغة الفرنسية ولا زالت. إنه لمن الحقيقي أن اللاتينية كانت بالفعل فرضاً عنيفاً، ومن وجهة النظر هذه فإن العبور من اللاتينية إلى الفرنسية عنى المرور من عنف إلى آخر. كانت لحظة الفرض الكبرى الثانية هي لحظة الثورة الفرنسية، حين اتخذ التوحيد اللغوي أحياناً [شكل] أشد التحولات التربوية قمعاً، أو في أي حال أشدها سلطوية. لن انخرط في تاريخ هذين المثالين. يمكن لنا أن نجدها أيضاً في هذا البلد، اليوم، حيث لازالت هذه المشكلة اللغوية حادة وسوف تظل كذلك لوقت طويل، في هذا المكان تحديداً حيث لا يمكن الفصل بين قضايا السياسة، والتعليم والقانون (وحيث بدأت حديثاً مناظرة حول “المعايير القومية” للتعليم).
ها أنذا أتحرك على مدى الموضوع، دون أقل انعطاف، عبر الذاكرة التاريخية نحو التصريح الشكلي المجرد بعدة إحراجات aporias، بين القانون والعدالة، التي يجد فيها التفكيك موقعه المتميز – أو بالأحرى عدم استقراره المميز. يُمارس التفكيك بصورة عامة بطريقتين أو بأسلوبين، رغم أنه غالباً ما يطعم الواحد منهما بالآخر. يتبنى المرء الإغواء الإيضاحي اللاتاريخي ظاهرياً للمفارقات المنطقية الشكلية. الآخر، أكثر تاريخية أو أكثر تذكراً، يبدو أنه ينطلق عبر قراءات للنصوص، تفسيرات مدققة ونسابية. سوف أكرس انتباهي لهاتين الممارستين بدورهما.
أولاً: سوف أبين مباشرة وبشكل واضح بأنني سوف أناقش الإحراجات التالية. وفي الحقيقة هناك إحراج واحد فقط وهو معضل كامن يقسم نفسه بلا نهاية: سوف أقترح بضع أمثلة فقط سوف تفترض وتوضح أو ربما تميز بشكل غير مستقر وصعب بين العدالة والقانون، وبين العدالة (اللانهائية غير القابلة للحساب المتمردة على القاعدة والغريبة عن الاتساق والمغايرة والمجزأة) وممارسة العدالة بوصفها قانوناً أو حقاً شرعياً أو مشروعاً قابلاً للاستقرار ومتماثلة قابلة للحساب ضمن نظام من القواعد المقننة والمنظمة. ولسوف أغوي، حتى نقطة معينة، بأن أقارن مفهوم العدالة – الذي أحاول هنا أن أميزه عن القانون – بمفهوم ليفيناس Levinas، بسبب هذه اللانهائية فقط وبسبب علاقة التبعية للآخرين، وبوجوه الآخرية التي تحكمني، التي لا أستطيع أن أموضع thematize لانهائيتها والتي أبقي رهينتها. في الكلية واللانهائي Totalite and infini (الحقيقة والعدالة (ص 62 verite et justice) يكتب ليفيناس: “(العلاقة بالآخرين – هذه هي العدالة) La relation avec autrui c est a dire justice – التي يحددها، إضافة إلى ذلك، بأنها (“التشريف المنصف للوجوه”) droiture de l accueil fait au visage (ص 54). الإنصاف (La droiture) ليس قابلاً للاختزال إلى الحق أو القانون (le droit) بالطبع، ولكن القيمتين ليستا منفصلتين.
يتحدث ليفيناس عن حق لانهائي: فيما يسميه “الإنسانية اليهودية” التي ليس أساسها “مفهوم الإنسان” إنما الآخر، “إن مدى حق الآخر” هو مدى “حق لانهائي عملياً” L etendue du droit d autrui (est) un droit pratiquement infini “حق لانهائى” un droit infini وذلك في كتابه من المقدس إلى القديس، خمس محاضرات تلمودية جديدة ص ص 17-18). الإنصاف هنا ليس المساواة، أي تناسب محسوب، وتوزيع منصف أو عدالة توزيعية وإنما بالأحرى مغايرة مطلقة. وقد نسارع إلى مقارنة فكرة ليفيناس عن العدالة بالمعادل العبري الذي ربما قد نترجمه “الورع”. ولكن ما دام خطاب ليفيناس الصعب سوف يؤدي إلى إثارة أسئلة صعبة أخرى، فلن أرضى باستعارة حركات مفهومية دون أن أخاطر بإحداث تشوشات وتناظرات. وعلى ذلك لن أتوغل في هذا الاتجاه. كان كل شيء سيظل بسيطاً لو كان هذا التمييز بين العدالة والقانون droit تمييزاً حقيقياً، تعارضاً اشتغل على نحو منظم منطقياً وأتاح لنا السيطرة. ولكن يتبين لنا أن القانون droit يدعي أنه يمارس ذاته باسم العدالة ومطلوب من العدالة أن تؤسس نفسها باسم القانون الذي يجب “إنفاذه”. يجد التفكيك نفسه دائماً بين هذين القطبين. هنا، إذن بعض أمثلة الإحراجات aporias.
1- الإحراج الأول: استعصاء epokhe القاعدة
إن بديهيتنا العامة هي أنه حتى أكون عادلاً أو غير عادل، وأن أمارس العدالة، يجب أن أكون حراً ومسئولاً عن أعمالي، وسلوكي، وفكري، وقراراتي. إننا لن نقول عن كائن بغير حرية، أو على الأقل بغير حرية بشأن تصرف معين، أن قراره عادل أو غير عادل. ولكن هذه الحرية أو قرار العادل هذا، إذا كان كذلك، ينبغي أن يتبع قانوناً أو عرفاً، أو قاعدة. بهذا المعنى، ففي صميم استقلاله، في حريته فى أن يتبع أو أن يمنح نفسه قوانين، ينبغي أن يكون في مقدوره الانتماء إلى نظام قابل للبرمجة والحساب، بوصفه فعل عدالة على سبيل المثال. ولكن إذا كان الفعل يتألف ببساطة من تطبيق قاعدة، ابتداع برنامج أو إنجاز حساب، قد نقول هذا قانوني، وإنه يتفق مع القانون، وربما، مجازاً، إنه عادل، ولكننا سوف نكون مخطئين في القول بأن القرار كان عادلاً.
حتى يكون قرار القاضي عادلاً على سبيل المثال، يجب ألا يتبع فقط قاعدة قانونية، أو قانوناً عاماً، وإنما يجب أيضاً أن يجسده، أن يوافق عليه، ويصادق على قيمته، بواسطة فعل يعيد تأسيس التفسير، كما لو أنه في النهاية لم يكن قد وجد سابقاً شيئاً من القانون، كما لو كان القاضي نفسه قد ابتدع القانون عند كل قضية جديدة: ما من ممارسة للعدالة بوصفها قانوناً يمكن أن تكون عادلة ما لم يكن هناك “حكم طازج” (استعير هذا التعبير الإنجليزي من مقال ستانلي فيش “العنف، افعل ما يأتي طبيعياً”). يمكن لهذا الحكم الطازج أن يتوافق تماماً – يجب [أن يتوافق] تماماً – مع قانون موجود مسبقاً، بيد أن تأسيس التفسير القاطع المبدع مجدداً بحرية، يتطلب التفسير المسئول من القاضي، أن لا تكمن “عدالته”، فقط في التوافق، في النشاط المحافظ الذي يعيد إنتاج الحكم. بإيجاز حتى يكون قرار ما عادلاً ومسؤولاً، يتعين في لحظته الملائمة إذا ما كانت هناك لحظة ملائمة أن يكون مُنظماً وبغير تنظيم: يتعين أن يحفظ القانون وأن يدمره أو يعلقه بما يكفي لإعادة إبداعه في كل قضية، وإعادة تبريره، وإعادة إبداعه على الأقل في إعادة التأكيد والمصادقة الجديدة والحرة على مبدئه. كل قضية هي أخرى، كل قرار مختلف ويتطلب تفسيراً فريداً بشكل مطلق، فلا يمكن أو يجب على أي قاعدة مقننة قائمة أن تضمنه كلياً. على الأقل، إذا كانت القاعدة تضمنه بدون شروط غير مؤكدة، بحيث يكون القاضي آلة حاسبة، وهو ما يحدث، فلن نقول إنه عادل، وحر، ومسئول. ولكننا لن نقول ذلك أيضاً إذا لم يُحل إلى أي قانون، أو إذا ما علق قراره، لأنه لا يأخذ أي قاعدة بوصفها أمراً مسلماً به ما وراء تفسيره الخاص، ووقف قبل ما هو غير قابل للتقرير بقليل، أو إذا ما ارتجل ووضع جانباً كل القواعد، كل المبادئ. ينبع من تلك المفارقة أنه ليست هناك أبداً لحظة يمكن أن نقول فيها في الحاضر إن قراراً ما هو عادل (أي، حر ومسئول)، أو أن شخصاً ما هو إنسان عادل –وحتى بدرجة أقل- “إنني عادل”. بدلاً من “عادل” يمكن لنا أن نقول قانونياً أو شرعياً، متفقاً مع حالة للقانون، مع القواعد والاتفاقيات التي تخول الحساب ولكن التي يرجئ أصلها المؤسس فحسب مشكلة العدالة. لأنه في تأسيس القانون أو في تمأسسه، فإن مشكلة العدالة كانت ستطرح وتحل بعنف، هذا يعني أن تُدفن، وتُخفى، وتُقمع. هنا أفضل نموذج هو تأسيس الدول القومية أو العمل لتأسيس دستور يؤسس ما نسميه بالفرنسية دولة القانون L etat de droit.
2- الإحراج الثاني: شبح غير القابل للتقرير
العدالة، مثل القانون، لا تمارس أبداً بدون قرار يقطع، ويقسم. لا يكمن هذا القرار ببساطة في شكله النهائي، بأن يتخذ على سبيل المثال شكل عقوبة جزائية، منصفة أم لا في نظام للعدالة التوزيعية أو التفاوتية، إنه يبدأ، إنه يجب أن يبدأ بواسطة الحق أو مبدئياً، بمبادرة تعلم، قراءة، القاعدة وفهمها وتفسيرها، وحتى في الحساب. لأن الحساب إذ يكون حساباً، فإن قرار الحساب لا ينتمي لنظام ما هو قابل للحساب، ولا ينبغي له أن يكون.
غير القابل للتقرير موضوع theme غالباً ما ارتبط بالتفكيك، وهو ليس فحسب تذبذباً بين دلالتين أو قاعدتين شديدتي التحديد والتناقض، كل منهما واجبة بشكل متساو (على سبيل المثال احترام المساواة والحق الشامل، وكذلك دائماً المغايرة والتفرد الفريد للمثل غير القابل للتصنيف). غير القابل للتقرير ليس تذبذباً أو توتراً بين قرارين فحسب، إنها تجربة ذلك الذي رغم مغايرته، وغربته عن نظام ما هو قابل للحساب والقاعدة، لا يزال ملزماً –ينبغي علينا أن نتحدث عن هذا الالتزام- أن يسلم نفسه للقرار المستحيل، بينما يدخل في اعتباره القواعد والقانون. إن قراراً لم يمر عبر محنة ما هو غير قابل للتقرير، لن يكون قراراً حراً، سوف يكون فقط تطبيقاً برنامجياً أو تكشفاً لعملية قابلة للحساب. قد يكون قانونياً، ولكنه ما كان ليكون عادلاً. ولكن لحظة تعليق ما هو غير قابل للتقرير، ليست عادلة أيضاً، ولكي يظل الافتراض بأن القرار هو وحده العادل (فلن يتعين علينا أن نحيل القرار إلى بنية الموضوع أو إلى الشكل الافتراضي للحكم). وإذ تمضي محنة غير القابل للتقرير فيه (إذا كان ذلك ممكناً)، فإن معنى ذلك أن القرار قد اتبع مرة أخرى قاعدة أو أعطى نفسه قاعدة، ابتدعها أو أعاد ابتداعها، وتأكيدها، إنه لم يعد الآن عادلاً، عادلاً تماماً. من الواضح أنه ليست هناك لحظة يمكن أن يسمى فيها قرار ما عادلاً تماماً الآن: إما أنه قد اتبع بالفعل قاعدة –سواء كانت متلقاة، أو صودق عليها، أو حفظت أو أعيد ابتداعها- وهذا بدوره ليس مضموناً بأي شيء مطلقاً، اضف إلى ذلك، حتى إذا كان القرار مضموناً فإنه سوف يختزل إلى حساب ولا يمكن أن نسميه عادلاً. لذلك فإن محنة غير القابل للتقرير التي أشرت إلى وجوب أن يعاينها أي قرار جدير بهذا الاسم، لا يمكن أن تمضي أو تمر، إنها ليست لحظة تغلب أو تجاوز (aufgehoben). يظل غير القابل للتقرير في القرار مأسوراً، مغيباً، على الأقل كشبح –وإنما كشبح أساسي- في كل قرار، في كل حادثة قرار. يفكك شبحيته من الداخل أي تأكيد بالحضور، أي يقين أو أي معيارية مفترضة يمكن أن تؤكد لنا عدالة قرار ما، في حقيقة ذات حدث القرار. من يستطيع أبداً أن يؤكد لنا أن قراراً كهذا قد حدث؟ أو أنه لم يحدث، خلال مثل هذه الانعطافة أو تلك، متبعاً قضية، أو حساباً، أو قاعدة، بدون حتى هذا التعليق غير الواضح الذي يصف أي قرار حر، في اللحظة التي تكون فيها قاعدة ما أو لا تكون مطبقة؟
إن الافتراض الكلي لموضوع المسئولية في الضمير والقصد وبالخاصية التي تحكم الخطاب القانوني السائد والمقررات التي تحتكم إلى الخبرة الأصلية الصلبة تتسم بالضعف الشديد وبالسطحية بحيث لا يستدعي ذلك مني التركيز عليها هنا. كما أن آثار القصور هائلة وملموسة بحيث لا يستدعي ذلك مني توضيحاً بالأمثلة.
يمكن لنا أن نرى بالفعل من هذا الإحراج aporia الثاني، أو هذا الشكل الثاني لنفس الإحراج aporia أن تفكيك كل استدلال بيقين محدد في عدالة حاضرة، يشتغل هو ذاته على أساس “فكرة لانهائية عن العدالة”، لانهائية، لأنها غير قابلة للاختزال، غير قابلة للاختزال لأنها مدينة للآخر، مدينة للآخر، قبل أي عقد، لأنها قد أتت، ومجيء الآخر كفرادة التي هي دائماً آخر. يبدو أن “فكرة العدالة” هذه غير قابلة للاختزال في طابعها التوكيدي، في طلبها للهبة بغير تبادل، بغير تداول، بغير اعتراف أو امتنان، بدون تبادلية اقتصادية، بدون حساب، وبدون قواعد، بدون سبب وبغير عقلانية. وهكذا يمكن لنا حقاً أن ندرك فيها، ونتهمها بالفعل، ونتعرف فيها على جنون. وربما نوع آخر مما هو خفي mystique. والتفكيك مجنون بمثل هذا النوع من العدالة. مجنون بهذه الرغبة في العدالة. هذا النوع من العدالة، الذي ليس بقانون، هو عين اللحظة التي يشتغل فيها التفكيك في القانون وتاريخ القانون، في التاريخ السياسي والتاريخ ذاته، حتى قبل أن يقدم نفسه بوصفه الخطاب الذي تصفه الأكاديمية أو الثقافة الحديثة بـ”التفكيك”.
لسوف أتردد في أن أختزل بغاية السرعة “فكرة العدالة” هذه في فكرة مُنظمة (بالمعنى الكانطي)، في وعد خلاصي [مهدويٍ] أو في آفاق أخرى من النمط نفسه. إنني أتحدث فقط عن نمط، عن هذا النمط من الأفق الذي قد تكون له عدة طبعات متنافسة. أعني بالتناقض المماثل تماماً في المظهر وإن تظاهر دائماً بميزة مطلقة وتفرد غير قابل للاختزال. يتيح لنا تفرد المكان التاريخي –ربما مكاننا، وهو في أي حال ما أشير إليه بغموض هنا- لمحة عن النمط ذاته، بوصفه أصلاً، شرطاً، أو إمكاناً أو وعداً بكل ضروبه (خلاصيه من النمط اليهودي، المسيحي أو الإسلامي، فكرة بالمعنى الكانطي، غائية أخروية من النمط الهيجلي الجديد، أو النمط الماركسي أو ما بعد الماركسي، إلخ) وهو يتيح لنا أيضاً أن نعي ونتخيل قانون المنافسة غير القابلة للاختزال (أخروية) ولكن من حافة يهدد فيها الدوار بأن يستولي علينا في اللحظة التي لا نرى فيها شيئاً سوى نماذج وبعض منا لم يعودوا يشعرون بأنهم مرتبطون بها، وهي طريقة أخرى في القول بأنه منذ هذه اللحظة فصاعداً فإننا دائماً ما نخاطر (أتحدث عن نفسي على الأقل) بألا نكون بعد “في المضمار” dans la course كما يقولون. ولكن ألا نكون في “المضمار” في الحلبة الداخلية، لا يعني أن بمقدورنا أن نبقى على خط الانطلاق أو أن نكون ببساطة مشاهدين بعيدين عنها. وقد يكون هو الشيء عينه الذي “يبقينا نتحرك” (fait courir) بقوة وسرعة متجددة، على سبيل المثال، التفكيك.
3- الإحراج الثالث: الإلحاحية الحاجبة لأفق المعرفة
أحد الأسباب التي تجعلني أحتفظ بمسافة من كل هذه الآفاق –أي من فكرة كانط المُنظمة أو من القدوم الخلاصي، على سبيل المثال، أو على الأقل من تفسيرها الاتفاقي- هي أنها تحديداً آفاق. إن الافق كما يوحي اسمه الإغريقي، هو في آن معاً الانفتاح والحد الذي يعين تقدماً لانهائياً أو فترة انتظار.
ولكن العدالة، وكيفمما كانت استحالة عدم قابليتها للتقديم، لا تنتظر. إنها التي لاينبغي أن تنتظر. حتى نكون مباشرين بسيطين وموجزين، دعونا نقول هذا: القرار العادل دائماً ما يكون مطلوباً فوراً “في الحال”. لا يمكن له أن يتزود بمعلومات لانهائية، وبمعرفة غير محدودة بالظروف، والقواعد أو الواجبات الافتراضية التي يمكن لها أن تبرره. وحتى إذا توفر له كل هذا رهن تصرفه، حتى إذا أعطى نفسه وقتاً بالفعل، كل الوقت والوقائع الضرورية حول المسألة، تبقى دائماً لحظة القرار، بوصفها كذلك، لحظة لانهائية للإلحاح والتعجيل، حيث لاينبغي له أن يكون نتيجة أو أثراً لهذه المعرفة التاريخية أو النظرية، وانعكاساً أو قصداً، وذلك لأنه يصف التفكير المعرفي السياسي أو الأخلاقي أو القانوني الذي يسبقه، والذي يجب أن يسبقه. لحظة القرار جنون، كما يقول كيركجارد. وهذا صحيح بصفة خاصة في حالة القرار العادل الذي يجب أن يمزق الوقت ويتحدى الجدل. إنه جنون حتى إذا افترضنا أن كان الوقت والتدبر، وصبر المعرفة، والتحكم في الظروف غير محدود، فلسوف يكون القرار محدود بنيوياً، وإن تأخر مجيئه، قرار إلحاحية وتعجيل، فاعلاً في ليل اللامعرفة واللاقاعدة. ليس بغياب القواعد والمعرفة ولكن بإعادة تأسيس القواعد الذي هو بالتعريف ليس مسبوقاً بأي معرفة أو بأي ضمان كهذا. إذا جاز لنا أن نثق في تمييز شديد وقاطع بين الإخباري والإنجازي –وتلك مشكلة لا أستطيع أن أتورط فيها هنا- فلسوف يكون علينا أن نعزو هذه اللااختزالية للإلحاحية المتعجلة –في العمق هذه الاختزالية لللاتفكير واللاوعي، مهما كانت ذكية- إلى البنية الإنجازية لفعل الكلام وللأفعال بصفة عامة بوصفها أفعال عدالة أو قانون، سواء كانت إنجازيات تؤسس شيئاً أو إنجازيات مشتقة تفترض اتفاقات موجودة سابقة.
إن ما هو إخباري قد يكون (حقاً) juste بمعنى يدخل في إطار الإنصاف justesse، ولكن ليس أبداً بمعنى يفيد العدالة. غير أن ما هو إنجازي لايمكن أن يكون عادلاً، بمعنى يفيد العدالة، إلا عندما يؤسس نفسه على اتفاقات ومن ثم على إنجازيات أخرى سابقة سواء كانت خفية أم لا، وهو يحتفظ دائماً في داخله ببعض العنف الثائر، حيث لم يعد يستجيب لمطالب العقلانية النظرية. مادام كل قول إخباري يعتمد على نفسه، على الأقل ضمنياً، على بنية إنجازية (“أقول لك إن، إنني أتحدث إليك، أخاطبك لأقول لك إن هذا حقيقي، وإن هذه الأشياء هكذا، أعدك أو أجدد وعدي لك بأن أصنع جملة وأن أوقع ما أقول حين أقول ذلك، أقول لك، أو أحاول أن أقول لك الحقيقة” وما إلى ذلك) فإن بُعد الإنصاف justesse أو حقيقة القول الإخباري النظري (في كل النطاقات، وخصوصاً في نطاق نظرية القانون) يفترض دائماً بُعد عدالة الأقوال الإنجازية، أي عجلتها الجوهرية التي لا تنطلق أبداً بغير عدم اتساق معين، وبقدر من خاصية العنف. هذه هي الكيفية التي سأغوي بها في فهم مقترح ليفيناس الذي يعلن في لغة مختلفة كلياً ومتبعاً إجراء استدلالياً مختلفاً تماماً أن “الحقيقة تفترض العدالة” La verite suppose la justice (“الحقيقة والعدالة”، في الكلية واللانهائي 3، ص62). إذ نحاكي بخطورة الأسلوب الفرنسي فيمكن لنا أن ننتهي بالقول: “La justice, y a qu ca de vrai”. لا حاجة لنا للقول، بأن هذا ليس بغير نتيجة، لوضع الحقيقة(5), إذا كان بمقدورنا أن نظل نسميه كذلك.
يرجع ذلك بشكل مفارق، إلى فيض الإنجازي، بسبب هذه العجلة الملحة دائماً لتفسير يسبق ذاته، بسبب تلك الإلحاحية، والعجلة البنيوية للعدالة فإن الأخيرة ليس لها أفق توقع (خلاصياً أم منظماً). ولكن لهذا السبب بالذات، قد يكون لها مستقبل a venir “أن –تأتي”، الذي أميزه بدقة عن المستقبل الذي يمكن له دائماً أن يعيد إنتاج الحاضر. تظل العدالة، لايزال عليها، أن تأتي، a venir، إن لها أن، أن تأتي a venire عين بُعد الأحداث التي تأتي بغير اختزال. سوف تتميز بهذا دائماً، أي هذا الذي-يأتي a venire, ما تتميز به دائماً. ربما لهذا السبب فإن العدالة، إلى المدى الذي لا تكون فيه مفهوماً سياسياً أو قانونياً فحسب، تتفتح للمستقبل L avenir تتفتح لتحول، أو لتعيد صياغة أو تأسيس القانون والسياسة. “ربما” كان علينا أن نقول دائماً ربما بالنسبة للعدالة. هناك مستقبل للعدالة a-venir وليس هناك من عدالة إلا إلى الدرجة التي يكون فيها حدث ما ممكناً، يتجاوز، بوصفه حدثاً، الحساب، والقواعد، والبرامج، والتوقعات وما إلى ذلك. إن العدالة بوصفها تجربة التغيير المطلق غير قابلة للتقديم، ولكنها صدفة الحدث وشرط التاريخ. مما لاريب فيه أنه تاريخ غير معترف به بالطبع عند هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يعرفون عما يتحدثون حينما يستعملون هذه الكلمة سواء تعلق الأمر بالتاريخ الاجتماعي، أو الأيديولوجي، أم السياسي، أم القانوني أم أي تاريخ آخر.
أن تتجاوز العدالة القانون والحساب، وأن يتجاوز ما هو غير قابل للتقديم ما هو قابل للتحديد لايمكن ولا ينبغي أن يخدم كعذر للبقاء خارج المعارك السياسية القانونية، داخل مؤسسة أو دولة أو بين المؤسسات أو بين دول وأخرى. فإذا ما تركت فكرة العدالة المانحة (donatric) وغير القابلة للحساب على غاربها، فإنها دائماً ما تكون أقرب إلى الرداءة، وحتى من السوء لأنه يمكن إعادة الاستيلاء عليها دائماً من قبل أشد الحسابات ضلالاً. إن ذلك ممكن دائماً. وهكذا تتطلب منا العدالة غير القابلة للحساب أن نحسب. وأولاً، أقرب ما نربطه بالعدالة، أي، القانون، والحقل القانوني الذي لا يمكن أن نعزله داخل حدود آمنة، وكذلك أيضاً في كل الحقول التي لا يمكن لنا أن نفصلها عنه، التي تتدخل فيه وهي لم تعد ببساطة حقول: الأخلاق، السياسة، الاقتصاد، علم الاجتماع النفسي، الفلسفة، الأدب، إلخ. لا ينبغي لنا أن نحسب فحسب، أو أن نفاوض حول العلاقة بين القابل للحساب وما هو غير قابل للحساب، أو أن نفاوض دون نوع من قاعدة لن تتطلب أن يعاد اختراعها حيث نُلقى، أو هناك حيث نجد أنفسنا، وإنما يجب علينا أن نأخذها بعيداً بقدر الإمكان، ما وراء المكان الذي نجد فيه أنفسنا وما وراء المناطق القابلة للتعرف عليها بالفعل في الأخلاق أو السياسة أو القانون، ماوراء التمييز بين القومي والدولي، والعام والخاص، وهكذا دواليك. لا ينتمي هذا المتطلب حرفياً لا إلى العدالة ولا إلى القانون. إنه ينتمي إلى أي من هذين النطاقين عبر حركة كل واحد منهما في اتجاه الآخر. التسييس، على سبيل المثال، بلا حدود حتى وإن لم يستطع، ولا ينبغي له أن يكون كلياً أبداً. للابتعاد بهذا عن أن يكون حقيقة بدهية، أو تفاهة، يجب أن ندرك فيه العاقبة التالية: يضطرنا الإيغال في التسييس أن نعيد النظر، ومن ثم أن نعيد تفسير أسس القانون ذاتها كما حُسبت أو حُددت قبلاً. كان هذا صحيحاً على سبيل المثال في إعلان حقوق الإنسان، في إلغاء العبودية، في كل المعارك التحريرية التي تبقى والتي عليها أن تبقى متقدمة، في كل مكان في العالم، من أجل الرجال والنساء. لا شيء يبدو لي أقل عتاقة من المثال التحريري الكلاسيكي. لا يمكن لنا أن نحاول إعلان عدم أهليته اليوم، سواء بفظاظة أو بحذق، على الأقل ليس بغير معاملته باستخفاف شديد ومشاركين في أسوأ جريمة. ولكن ما وراء هذه المناطق المعروفة للتسييس القانوني على النطاق الجيوبوليتيكي الكبير، ما وراء كل التفسيرات التي تخدم الذات، ما وراء كل إعادات الاستيلاء النوعية المصممة للقانون الدولي، يجب أن تنفتح دوماً مجالات أخرى حتى وإن بدت أولاً كمجالات ثانوية أو هامشية. تدل هذه الهامشية أيضاً على أن عنفاً، بالفعل إرهاباً وأشكالاً أخرى من احتجاز الرهائن قيد الاشتغال (لسوف توجد الأمثلة الأقرب إلينا في مجال القانون حول التعليم وممارسة اللغات، وإضفاء الشرعية على قوانين القداسة الكنسية، والاستخدام العسكري للبحث العلمي، والإجهاض، والقتل الرحيم، مشاكل زراعة الأعضاء، والحمل خارج الرحم، والهندسة الحيوية، وإجراء التجارب الطبية، والعلاج الاجتماعي لمرض الإيدز، والسياسات الكبرى والصغرى بشأن العقاقير المخدرة، المشردين، وما إلى ذلك، دون أن ننسى بالطبع معاملة ما نسميه بحياة الحيوان، الحيوانية. حول هذه المشكلة الأخيرة، يبين نص بنيامين Benjamin الذي سأتناوله الآن أن مؤلفه لم يكن أصماً أو لا مبالياً حيالها، حتى وإن كانت مقترحاته بشأن هذا الموضوع تظل غامضة تماماً، إن لم تكن تقليدية تماماً).
-2-(6)
إن لم أكن قد استنفدت صبركم، دعونا الآن نقارب، بأسلوب آخر، القراءة الموعودة لنص بنيامين الموجز والمربك. إنني أتحدث عن كتاب نقد العنف zur kritik der gewalt (1921)، وقد ترجم تحت عنوان Critique of violence. لن أتجرأ على تسمية هذا النص نموذجياً. إننا في مجال توجد فيه، في النهاية، أمثلة متفردة. ما من شيء نموذجي بشكل مطلق. ولن أحاول أن أبرر مطلقاً اختياري لهذا النص. لكن يمكن لي أن أقول لم لا يمثل أسوأ نموذج لما قد يكون نموذجياً في سياق محدد نسبياً كسياقنا.
1- يعكس تحليل بنيامين أزمة النمط الأوروبي من الديمقراطية البرلمانية، الليبرالية، البورجوازية، ومن ثم الأزمة في مفهوم القانون droit التي لا تقبل الفصل عنها. ألمانيا عند الهزيمة هي مكان تتجلى فيه الأزمة في هذا الزمن بشكل غاية في الحدة، أزمة تتأتى أصالتها أيضاً من ملامح حديثة معينة مثل حق الإضراب، ومفهوم حق الإضراب العام (مع الإحالة أو عدم الإحالة إلى سوريل). إنها أيضاً أعقاب حرب وعشية حرب، فترة شهدت التطور الأوروبي، وإخفاق خطاب السلام، والنزعة المناهضة للعسكرية، ونقد العنف، بما فيه العنف البوليسي القانوني، الذي سرعان ما سيتكرر في الأعوام التالية. إنها أيضاً اللحظة التي كانت تدور فيها بشكل مؤلم أسئلة عن عقوبة الإعدام وعن حق العقاب بصفة عامة. يبدأ التغير فى بنى الرأي العام، بفضل ظهور قوى إعلام جديدة مثل المذياع، في أن يضع موضع السؤال هذا النمط الليبرالي من المناقشة البرلمانية أو التداول في إنتاج القانون وما إلى ذلك. حفزت مثل هذه الظروف أفكار القضاة الألمان مثل كارل شميدث، إذا ما اقتصرنا على ذكره. وهكذا فقد كنت مهتماً بعدة مؤشرات تاريخية. على سبيل المثال، هذا النص، لأول وهلة “خفي” mystical (بالمعنى المحدد تضافرياً بوصفه صوفية (mystique) يهودية خلاصية جديدة طعمت بما بعد ماركسية، ما بعد سوريلية (أو العكس). تلقى بنيامين عند نشره خطاب تهنئة من كارل شميدث، هذا الفقيه الكاثوليكي المحافظ، الذي كان لايزال دستورياً في هذا الوقت، ولكنكم ملمون فعلاً بتحوله الغريب إلى الهتلرية عام 1933، ومراسلاته مع بنيامين، وكذلك أيضاً مع هيدجر. هناك تشابهات بين نقد العنف zur kritik der gewalt وبعض نزعات الفكر الهيدجري، يستحيل أن نخطئها، خاصة تلك التي تحيط بموضوعات walten وgewalt. ينتهي نقد العنف بالعنف الإلهي… (gottliche gewalt) ففي النهاية يقول فالتر عن العنف الإلهي أننا قد ندعوه بالمطلق die waltende “قد يدعى العنف الإلهي العنف المطلق”(gottliche gewalt mag die waltende heissen) “يدعى المطلق” آخر كلمات النص. إن هذه الشبكة التاريخية من الاتفاقات الملتبسة هي التي تهمني في ضرورتها وفي أخطارها بالذات. ولايزال من الممكن استخلاص الدروس منها بعمل وعدد معين من الاحتياطات، في الديمقراطيات الغربية لعام 1989.
2- إذا ما تذكرنا الفكرة الرئيسة لحلقتنا الدراسية، فإن هذا النص قد بدا نموذجياً بالنسبة لي، لمدى معين، بقدر ما يستسلم لتمرين في القراءة التفكيكية، كما سأحاول أن أبين.
3- ولكن هذا التفكيك هو بطريقة ما اشتغال أو بالأحرى عين تجربة هذا النص، التي يبدو لي، يصنعها هذا النص نفسه أولاً، بنفسه، وعلى نفسه. ماذا يعني هذا؟ هل هذا ممكن؟ ماذا يبقى إذن من حدث هكذا؟ من تفكيكه الذاتي-المغاير؟ من نقصه العادل وغير العادل؟ ما هي أنقاض مثل هذا الحدث، أو الجرح المفتوح لتوقيع كهذا؟ وأيضاً، من أي شيء تتألف قوته، قوته بمعنى الـ Gewalt تحديداً، أي، عنفه، وسلطته، وشرعيته؟ هذا بعض من أسئلتي. إنه سؤال عن إمكان التفكيك. إذا سمحتم لي أن أستشهد بنفسي، فقد تصادف أن كتبت أن “أشد أنواع التفكيك دقة لم يدع أبداً أنه… ممكن”. وقد أقول إن التفكيك لا يفقد شيئاً بالاعتراف بأنه مستحيل، وأيضاً فإن هؤلاء الذين سيسارعون إلى الابتهاج بهذا الاعتراف لن يفقدوا شيئاً بأن ينتظروا. بالنسبة لعملية تفكيكية سوف يكون الإمكان هو الخطر، خطر أن تصبح مجموعة متاحة من الإجراءات المحكومة بقواعد، وطرائق، ومقاربات سهلة المنال. موضع اهتمام التفكيك، بهذه القوة والرغبة مهما اتصفت به، هو تجربة معينة للمستحيل”(7).
يتعلق عرض بينامين بمسألة القانون أو الحق droit, recht. إنه يعني أيضاً تدشيناً –سوف يكون بمقدورنا أن نقول ذلك بشكل أكثر دقة خلال لحظة- لـ”فلسفة قانون”. وتبدو هذه الفلسفة منظمة حول سلسلة من التمييزات تبدو جميعاً مثيرة للاهتمام، ومستفزة، وضرورية حتى نقطة معينة ولكنها كلها تبقى، كما يبدو لي، إشكالية على نحو جذري.
أولاً، هناك تمييز بين نوعين من العنف في القانون، في العلاقة بالقانون (droit): العنف المؤسس، العنف الذي يؤسس ويموقع القانون (“العنف الذي يصنع القانون” die rechtse tzende gewalt) والعنف الذي يحفظ، أي الذي يُبقي، ويُصادق، ويُؤَمن دوام وإنفاذ القانون die rechtserhaltende gewalt، “العنف الحافظ للقانون”. دعونا بغرض الملاءمة نواصل ترجمة كلمة Gewalt بالعنف، وقد سبق لي أن ذكرت الاحتياطات التي تستدعيها. أما بالنسبة لترجمة Recht بكلمة “قانون” بدلاً من “حق” كما في الطبعة المنشورة التي استخدمها هنا، فتلك مشكلة أخرى سوف أدعها جانباً الآن.
بعد ذلك هناك التمييز بين العنف المؤسس للقانون الذي يصطلح على تسميته، “أسطوري” mythic (المعنى الضمني، إغريقي، كما يبدو لي) والعنف الماحق المدمر للقانون (Rechtsvernichtend) الذي يصطلح على تسميته “الإلهي” (المعنى الضمني، يهودي، كما يبدو لي).
وأخيراً هناك التمييز بين العدالة (Gerechtigkeit) بوصفها مبدأ كل موقعة إلهية للغاية (das prinzip aller gottlichen zwechsetzung ص 198) “مبدأ صنع كل غاية إلهية” ص 295) والقوة (macht) بوصفها مبدأ الموقعة الأسطورية للقانون droit (aller mythischen rechtsetzung) (“لكل الصناعة الأسطورية للقانون”، المصدر نفسه).
في عنوان نقد العنف zur kritik der gewalt لا تعني كلمة “نقد” ببساطة تقويماً سلبياً، رفضاً شرعياً أو إدانة للعنف، وإنما حكم، تقويم، فحص، يزود نفسه بوسائل الحكم على العنف. إن مفهوم “النقد” إلى الحد الذي يتضمن فيه قراراً في شكل حكم، وسؤالاً يتعلق بالحق في الحكم، له من ثم علاقة أساسية، في ذاته، بمجال القانون أو الحق. إنه يشبه بصفة جوهرية، شيئاً مثل التقليد الكانطي بصدد مفهوم النقد. يتيح مفهوم العنف (gewalt) نقداً تقويمياً فقط في مجال القانون والعدالة (Recht, Gerechtigkeit) أو في مجال العلاقات الأخلاقية (sittliche verhaltnisse). ما من عنف طبيعي أو جسدي. يمكن لنا أن نتكلم مجازاً عن العنف في صلته بزلزال، أو حتى باعتلال جسدي. ولكننا نعرف أن هذه ليست حالات عنف gewalt يمكن أن تنهض سنداً لحكم، أمام إحدى هيئات العدالة. ينتمي مفهوم العنف إلى النظام الرمزي للقانون، والسياسة والأخلاق. ولهذا المدى فحسب يمكن أن ينهض سنداً لنقد. حتى هذا الحد كان هذا النقد مكتوباً دائماً في فضاء التمييز بين الوسائل والغايات. ولكن بنيامين يعترض، إذ نسأل أنفسنا ما إذا كان بمقدور العنف أن يكون وسيلة بالنظر نحو غايات (عادلة كانت أم غير عادلة) يعني أن نمنع أنفسنا من الحكم على العنف ذاته. سوف يعني علم المعاييز إذن بما يتعلق بتطبيق العنف فحسب، وليس العنف ذاته. لن يكون بمقدورنا أن نقول ما إذا كان الأخير، كوسيلة، هو في ذاته عادل أم لا, أخلاقي أم لا. يظل السؤال النقدي مفتوحاً، وكذلك مسألة تقويم وتبرير العنف في ذاته سواء كان أداة بسيطة وأياً ما كانت غايته. كان يمكن لتقليد القانون الطبيعي أن يعوق هذا البعد النقدي. بالنسبة للمدافعين عن القانون droit الطبيعي، فالاستعانة بالوسائل العنيفة لا تطرح أي مشاكل، مادامت الغاية الطبيعية عادلة. فالاستعانة –بها- مبررة، وعادية بنفس قدر “حق” الإنسان في أن يحرك جسده من أجل غاية معينة. ومن وجهة النظر هذه فإن العنف (gewalt) هو “نتاج طبيعي” Naturprodukt”. ويعطي بنيامين عدة أمثلة عن هذا التطبيع للعنف من قبل نزعة القانون الطبيعي:
أ- الحالة المؤسسة على القانون الطبيعي، التي يتحدث عنها سبينوزا في رسالة في اللاهوت والسياسة حيث يمارس المواطن، قبل أن يتشكل عقد بواسطة العقل، عنفاً قانونياً de jure يحسمه واقعياً de facto.
ب- الأساس الأيديولوجي للإرهاب في ظل الثورة الفرنسية.
ج- استغلال نوع معين من الداروينية (ويمكن لهذا أن ينطبق لاحقاً على النازية) إلخ.
ولكن إذا كان تقليد القانون الوضعي، بالتعارض مع نزعة القانون الطبيعي، أكثر يقظة حيال التطور التاريخي المقارن، فإنه يفتقر أيضاً للمساءلة النقدية التي يتطلبها بنيامين. لاريب يمكن له أن يعتبر كل الوسائل صالحة فقط إذا ما امتثلت لغاية طبيعية ولاتاريخية. إنه يقضي بأن نحكم على الوسائل، أي نحكم على مدى امتثالها لقانون ما droit في طور التأسيس، قياساً بقانون جديد (غير طبيعي) يقومها بلغة الوسائل، ومن ثم بنقد الوسائل. ولكن التقليدان يشاطران الافتراض الضمني العقائدي نفسه، أي، أن الغايات العادلة يمكن أن تتحقق بوسائل عادلة. “يحاول القانون الطبيعي بعدالة غاياته (durch die gerechtigkeit der zwecke) أن ” يبرر” (rechtferiegen) الوسائل، ويضمن (grantieren) القانون الوضعي عدالة هذه الغايات من خلال تبرير (gerechtigkeit) الوسائل. لسوف يدخل التقليدان دائرة الافتراضات الضمنية العقائدية المسبقة نفسها. وليس هناك من حل للتعارض حين ينشأ تناقض بين الغايات العادلة والوسائل المبررة. سوف يبقى القانون الوضعي أعمى إزاء لامشروطية الغايات، والحق الطبيعي إزاء مشروطية الوسائل. مع ذلك، رغم ما يبدو من أنه يرفض الحالتين بالقدر نفسه، فإن بنيامن يستبقي من تقليد القانون الوضعي الحس بتاريخية القانون. وعكسياً، فإنه من الحقيقي أن ما يواصل قوله حول العدالة الإلهية لا يتضارب دائماً مع الأساس اللاهوتي لكل نزعة القانون الطبيعي. على أية حال، يدعي نقد بنيامين للعنف أنه يتجاوز التقليدين وبأنه لم يعد ينشأ ببساطة من مجال القانون والتفسير الداخلي للمؤسسة القضائية. إنه ينتمي إلى ما يسميه بمعنى غريب بالأحرى “فلسفة التاريخ” وهو مقصور بشكل واضح على الخصوصيات الأوروبية.
يميل القانون الأوروبي في مستواه الأشد جوهرية، إلى حظر العنف الفردي وإدانته ليس لأنه يطرح تهديداً لهذا القانون أو ذاك وإنما لأنه يهدد النظام القانوني نفسه (Rechtsordnung النظام القانوني). وهذه هي مصلحة القانون –حيث أن من مصلحته أن يضع نفسه ويحفظ ذاته، وأن يمثل المصلحة، التي يمثلها، بحق (Justement). قد تبدو مصلحة القانون “مدهشة”، هذه هي كلمة بنيامين، ولكن في الوقت نفسه هذا بحكم طبيعته بوصفه مصلحة، وبهذا المعنى فليس هناك من شيء مدهش هنا على الإطلاق، أن يتظاهر باستبعاد أي عنف فردي يهدد نظامه حتى يحتكر من ثم العنف، بمعنى gewalt، وهو أيضاً ما يعنى أن نقول السلطة. للقانون “مصلحة في احتكار العنف (ص281) (Ineresse des Rechts an der monopolisierung der gewalt). لا يجاهد هذا الاحتكار من أجل حماية حق قائم وغايات قانونية (Rechtszwecke) وإنما القانون ذاته. يبدو هذا كأنه حشو تافه. ولكن أليس هذا الحشو هو البنية الظاهرية لنوع من العنف في القانون يضع نفسه، بتقريره أن يكون عنيفاً، هذه المرة خارج القانون ومن من الناس لا يعترف به؟ كما أن هذا الحشو الإنجازي أو التركيبة القبلية a priori، التي تبنين أي أساس للقانون هو الذي يمكن لنا على أساسه أن ننتج إنجازياً الأعراف التي تضمن صلاحية الإنجازي والتي يمكن بفضلها التقرير بين العنف الشرعي وغير الشرعي. التعابير “حشو” و”تركيبة قبلية”، وخاصة كلمة “إنجازي” ليست لبنيامين، ولكنني سوف أغامر باقتراح أنها لا تخون أغراضه.
يمكن أن يفسر إعجاب الافتتان الذي تمارسه على الناس شخصية “المجرم العظيم” (ص 281) (die Gestalt des “grossen” verbrechers)، كالتالي: إنه ليس الشخص الذي ارتكب هذه الجريمة أو تلك هو من يشعر المرء نحوه بإعجاب خفي، إنه شخص ما يكشف بتحديه القانون، عنف النظام القانوني، النظام القضائي نفسه. يمكن لنا أن نفسر بنفس الطريقة الجاذبية التي يمارسها في فرنسا محام مثل جاك فيرجيس الذي يترافع في أشد القضايا صعوبة، ما يتعذر الدفاع عنها في أعين الأغلبية، بممارسة ما يسميه “استراتيجية القطيعة”، أي الطعن الراديكالي في نظام القانون القائم، والسلطة القضائية وفي النهاية السلطة الشرعية للدولة التي تستدعي موكليه للمثول أمام القانون. السلطة القضائية التي يمثل المتهم أمامها، بإيجاز، بدون أن يحضر شخصياً ويدعي حق نقض نظام الحق أو القانون. ولكن أي نظام للقانون؟ نظام القانون بشكل عام أم نظام القانون هذا الذي أسسته وأنفذته هذه الدولة؟ أم النظام وقد اختلط على نحو معقد بالدولة بصفة عامة؟
سوف يكون المثل المعبر هنا هو حق الإضراب، يلاحظ بينامين، أنه في الصراع الطبقي، فإن حق الإضراب مكفول للعمال، الذين هم، إضافة إلى الدولة، الشخص القانوني الوحيد (Rechtssubjekt) الذي يجد أنه قد كفل له حق العنف (Recht auf Gewalt) ومن ثم يشارك في احتكار الدولة بهذا الصدد. ربما يكون بعض الناس قد فكروا أنه مادامت ممارسة الإضراب، أي هذا التوقف عن النشاط، هذا الكف Nicht-Handeln، ليس فعلاً، فلا يمكن لنا أن نتحدث هنا عن عنف. هذه هي كيفية تبرير تنازل سلطة الدولة (staatsgewalt) عن هذا الحق حين لا يتيسر لهذه السلطة أن تفعل خلاف ذلك. قد يأتي العنف من صاحب العمل وسوف يتمثل الإضراب فقط في امتناع، انسحاب غير عنيف، يصبح العامل بواسطته ببساطة، من خلال إيقاف علاقاته مع الإدارة وآلاتها، غريباً عنهما. يعين الرجل الذي سيصبح صديقاً لبرخت Brecht هذا الانسحاب (Abkehr) بوصفه (“اغترابا”) Entfremdung. وهو يضع الكلمة بين علامتي اقتباس. ولكن بنيامين لا يؤمن بوضوح في لاعنف الإضراب. يضع العمال المضربون الشروط لاستئناف العمل، وهم لن ينهوا إضرابهم ما لم تتغير، قائمة، نظاماً للأشياء. ومن ثم هناك عنف في مواجهة عنف. بحمل حق الإضراب حتى حده، فإن مفهوم أو شعار الإضراب العام يكشف عن جوهره. يمكن للدولة أن تتحمل بصعوبة هذا العبور إلى الحد. وهي تعتبره تعسفياً وتدعي أنه كان هناك سوء تفاهم، سوء تفسير للقصد الأصلي وأن “حق الإضراب لم يكن مقصوداً هكذا” (ص 282) des streikrecht “so” nicht gemeint gewesen sei. يمكن لها عندئذ أن تدين الإضراب بوصفه غير شرعي، وإذا استمر الإضراب بات لدينا وضع ثوري. ومثل هذا الوضع هو في الواقع الوضع الوحيد الذي يتيح لنا أن ندرك تماثل القانون أو الحق والعنف. للعنف كممارسة للقانون droit، والقانون droit كممارسة للعنف. ليس العنف خارجياً بالنسبة لنظام القانون droit. إنه يهدده من الداخل. لا يكمن العنف بصفة جوهرية في ممارسة سلطة أو قوة وحشية للحصول على هذه النتيجة أو تلك وإنما في تهديد أو تدمير نظام حق قائم وتحديداً، في هذه الحالة، نظام قانون الدولة الذي كان يمنح هذا الحق للعنف، أي حق الإضراب. كيف يمكن لنا أن نفسر هذا التناقض؟ هل هو فعلي de facto فقط وخارجي بالنسبة للقانون، أم هو بالأحرى مباطن في قانون القانون (au droit du droit)؟
إن ما لاتخشاه الدولة كثيراً (لكون الدولة قانون في قوته الأعظم) هو الجريمة أو اللصوصية، حتى على مستوى المافيا الكبير، أو تهريب المخدرات الكثيف، مادامت تنتهك القانون مستهدفة منافع معينة، أياً ما كان قدر أهميتها. فالدولة تخشى العنف الجوهري المؤسس، أي العنف القادر على التبرير، وإضفاء الشرعية، (الذي يؤسس begrunen ص 283) أو على تحويل علاقات القانون (“الشروط القانونية” Rechtsverhaltnisse)، وهكذا يعرض نفسه باعتبار أن له الحق في التشريع. وهكذا ينتمي هذا العنف مقدماً إلى نظام قانون droit يبقى عليه أن يحول أو يؤسس، حتى وأن يجرح إحساسنا بالعدالة (Gerechtigkeitsgeful). هذا العنف وحده يقتضي ويجعل من الممكن “نقد العنف” الذي يحدده بكونه شيئاً آخر غير الممارسة الطبيعية للقوة. حتى يكون نقد العنف ممكناً –أي تقديم تقويم تفسيري ذي معنى له- يتعين علينا أولاً أن ندرك معنى في عنف ليس صدفة تأتي من خارج القانون. إن ما يهدد القانون بالفعل ينتمي إليه، للحق في قانون (droit)، لقانون قانون (droit)، لأصل قانون (droit). هكذا يقدم الإضراب العام خيطاً مرشداً ثميناً، مادام يمارس الحق الممنوح في نقض نظام القانون القائم، ويخلق وضعاً ثورياً حيث تكون المهمة هي تأسيس قانون droit جديد، دولة جديدة، وإن لم يكن كذلك دائماً، كما سوف نرى خلال لحظة. تبرر كل الأوضاع الثورية، كل الخطابات الثورية، من اليمين أو من اليسار (وبدءاً من عام 1921 في ألمانيا، كان هناك الكثير منها تشابهت مع بعضها البعض بطريقة مزعجة، وغالباً ما وجد بنيامين نفسه بينها) اللجوء إلى العنف بذريعة تأسيس قانون جديد، قيد التطور أو سوف يأتي. لأن هذا القانون الآتي سوف يضفي شرعية بالمقابل، وبشكل استعادي، على العنف الذي قد ينتهك حس العدالة، ومستقبله المقبل يبرره سلفاً. يجري تأسيس كل الدول في وضع يمكن لنا أن نسميه هكذا ثورياً. إنها تدشن قانوناً جديداً، وهي دائماً ما تفعل ذلك بعنف، دائماً، وهو ما يعني القول إنه حتى لو لم تكن هناك تلك الإبادات الجماعية المشهدية، الطرد أو الترحيل التي غالباً ما ترافق تأسيس الدول، كبيرة أم صغيرة، قديمة أم حديثة، قريبة منا تماماً أو بعيدة عنا.
في هذه الأوضاع التي أشير أنها تؤسس القانون (droit) أو الدولة، تشبه خاصية التعبير النحوي للمستقبل بشكل عام تعديلاً للحاضر يصف العنف القائم. أنه يكمن تحديداً في اختلاق الحضور أو سن شروط بسيطة للحاضر. هؤلاء الذين يقولون “زماننا” بينما يفكرون “حاضرنا” في ضوء حاضر مستقبل تام، لا يعرفون جيداً جداً, بالتعريف، ما يقولون. يحتوي هذا الجهل تحديداً حدثية الحدث، وما نسميه بسذاجة حضوره.(8)
إذا افترضنا أننا يمكن أن نعزل، هذه اللحظات، فإنها لحظات مرعبة. بسبب المعاناة، والجرائم، والتعذيب التي نادراً ما أخفقت في أن تصاحبها، بلا شك، ولكن بنفس القدر بسبب أنها في ذاتها، وفي عين عنفها غير قابلة للتفسير، أو يتعذر فك مغاليقها. هذا هو ما أسميه “الخفي” mystique. إن هذا العنف كما يعرضه بنيامين، واضح بالتأكيد، جلي بالفعل ما دام أنه ليس غريباً على القانون، ليس أكثر من غربة كفاح polemos أو تنافر eris، عن كل أشكال ودلالات العدالة dike. ولكنه فى القانون droit ما يعلق القانون. إنه يعترض القانون القائم ليؤسس آخر. لحظة التعليق هذه، هذا الاستعصاء epokhe، تلك اللحظة الثورية أو المؤسسة للقانون، هي في القانون، شاهد على اللاقانون. ولكنها أيضاً كامل تاريخ القانون. تجري هذه اللحظة دائماً ولاتجري أبداً في حاضر. إنها اللحظة التي يبقى فيها تأسيس القانون معلقاً في فراغ أو على شفا هاوية، معلقاً بواسطة فعل إنجازي محض لا يتعين عليه أن يجيب على أو أمام أحد. لن تكون الذات المفترضة لهذا الإنجازي المحض بعد أمام القانون، أو بالأحرى سوف تكون أمام قانون لم يحدد بعد، أمام القانون كما أمام قانون لم يوجد بعد، قانون لازال عليه أن يأتي، encore devant et devant venir، والوجود “أمام القانون” الذي يتحدث عنه كافكا(9) يشبه هذا الوضع، وهو فظيع وعادي في آن معاً، وهو عن الإنسان الذي لا يتمكن من أن يرى وفوق كل شيء من أن يلمس، أن يدرك القانون: لأنه متعال بنفس معيار من يتعين عليه أن يؤسسه، ولازال عليه أن يأتي، في العنف. هنا نحن “نشعر” بدون أن نلمس تلك المفارقة الاستثنائية: تعالى القانون الذي يتعذر بلوغه يقف أمامه وقبله “الإنسان” يتبدى برسوخ متعالياً بشكل لامتناه ومن ثم لاهوتياً إلى الحد الذي يكون فيه، قريب منه هكذا، فإنه يعتمد عليه فقط، وعلى الفعل الإنجازي الذي يؤسسه به: القانون متعال، عنيف وغير عنيف، لأنه يتوقف على من هو أمامه –ومن ثم سابق عليه-، على من ينتجه، ويؤسسه، ويفوضه في إنجازي مطلق يفلت منه حضوره دائماً. القانون متعال ولاهوتي، ومن ثم عليه أن يأتي دائماً، موعود دائماً، لأنه مباطن، نهائي، وهكذا فهو ماض بالفعل. كل “ذات” أسيرة تلك البنية الإحراجية مقدماً.
إن ما هو في طريقه إلى أن يأتي (avenir) سوف يؤدي إلى وضوح أو قابلية هذا القانون للتفسير. ما وراء حرف نص بنيامين، الذي توقفت عن تتبعه في شكل تعليق منذ لحظة مضت ولكن الذي أفسره من وجهة نظر مستقبله avenir، يمكن القول بأن نظام الوضوح يعتمد بدوره على النظام القائم الذي يخدم في تفسيره. سوف تكون هذه القابلية للقراءة إذن محايدة قليلاً بقدر ما هي غير عنيفة. ثورة “ناجحة”، “التأسيس الناجح للدولة” (بنفس المعنى إلى حد ما حين نتحدث عن “فعل كلام إنجازي مناسب”) سوف ينتج بعد فوات الأوان apres coup ما كان مقدراً له مقدماً أن ينتجه، أي، نماذج تفسيرية دقيقة للقراءة بالمقابل، لإعطاء معنى، ضرورة وقبل كل شيء شرعية للعنف الذي أنتج، ضمن أشياء أخرى، النموذج التفسيري موضع السؤال، أي خطاب شرعيته الذاتية. لا نفتقر إلى أمثلة على هذه الدائرة، هذه الدائرة التأويلية الأخرى، قريبة منا أو بعيدة عنا، هنا بالضبط أو في أي مكان آخر سواء كانت مسألة ما يحدث من حي سكني إلى آخر، من شارع إلى آخر في عاصمة كبرى، أو من بلد أو معسكر إلى آخر، حول حرب عالمية أسست في سياقها دولاً وأمماً، دمرت أو أعيد بناؤها. يجب أن يؤخذ هذا في الاعتبار لكي نحدد- قانوناً دولياً بني على مفاهيم غربية عن سيادة الدولة، وعدم التدخل، وكذلك أيضا لكي نفكر في اكتماله اللامتناهي. هناك حالات ليس معروفا فيها لأجيال ما إذا كانت إنجازية التأسيس العنيف لدولة “مناسباً” أم لا. هنا نستطيع أن نستشهد بأكثر من مثال. تنتج عدم قابلية هذا العنف للقراءة من عين قابلية عنف ينتمي إلى ما قد يسميه الآخرون النظام الرمزي للقانون للقراءة، إذا ما رغبتم، وليس إلى الفيزياء المحضة. قد تصيبنا غواية أن نقلب هذا “المنطق” مثل قفاز (“منطق” بين علامتي اقتباس، لأن غير القابل للقراءة هذا هو أيضاً ولحد بعيد “غير منطقي” في نظام اللوجوس logos ولذلك أتردد أيضاً في أن أسميه “رمزياً” وإمكانية بلوغه مرتبة الكمال تبعث به داخل نظام الخطاب اللاكاني)، “منطق القراءة” عدم القابلية للقراءة. إجمالاً، إنه يدلل على عنف رمزي قانوني، عنف إنجازي في ذات قلب القراءة التفسيرية. ويمكن للمثال أو الدلالة أن تعود بالمجاز المرسل نحو العمومية المفهومية للجوهر.
قد نقول إذن إن هناك إمكاناً لإضراب عام، حق في إضراب عام في أي قراءة تفسيرية، الحق في نقض القانون القائم في سلطته الأقوى، قانون الدولة. لنا الحق في أن نوقف سلطة إضفاء الشرعية وكل قواعدها في القراءة، وأن نفعل ذلك في أكثر القراءات تحدداً وفاعلية، وصلة بالموضوع، التي سوف تشتبك بالطبع أحياناً مع ماهو غير قابل للقراءة لكي تؤسس نظاماً آخر للقراءة، دولة أخرى، وأحياناً لا، لأننا سوف نرى أن بنيامين يميز بين نوعين من الإضراب العام، أحدهما مقدر له أن يستبدل نظام دولة بآخر (الإضراب السياسي العام) والآخر القضاء على الدولة (الإضراب البروليتاري العام). باختصار غوايتيّ التفكيك.
لأن هناك شيئاً من الإضراب العام، ومن ثم الوضع الثوري في كل قراءة تؤسس شيئاً جديداً والتي تبقي غير قابلة للقراءة في العلاقة بأعراف وقواعد القراءة القائمة، أي الحالة الحاضرة للقراءة أو ما يمثل الدولة، بحرف دال كبير، حال إمكان القراءة. إذ نواجه، بإضراب عام كهذا، يمكن لنا في حالات متعددة أن نتحدث عن الفوضوية، أو الشكية، أو العدمية، أو اللاتسييس، أو بخلاف ذلك عن المغالاة المخربة في التسييس. لايحتاج الإضراب العام اليوم أن يُسرّح أو يعبئ عدداً غفيراً من الناس: يكفي قطع تيار الكهرباء في بعض الأماكن المميزة، على سبيل المثال الخدمات، الخاصة والعامة، الخدمة البريدية والاتصال، والإذاعة والتلفاز أو إدخال فيروسات قليلة فاعلة إلى شبكات كمبيوتر مختارة بعناية، أو قياساً، إدخال معادل مرض الإيدز إلى أجهزة الإرسال، إلى هرمنيوطيقا الكلام Gesprach.(10)
هل يمكن لما نفعله هنا أن يشبه إضراباً عاماً أو ثورة، بالنظر إلى النماذج، والبنى وكذلك أيضاً أنماط قابلية العمل السياسي للقراءة؟ هل هذا هو ما عليه التفكيك؟ هل هو إضراب عام أو استراتيجية قطيعة؟ نعم ولا. نعم، إلى المدى الذي يدعي فيه حق نقض البروتوكولات الأساسية، ليس فقط من الناحية النظرية، وإنما نقض عين الدستور الذي يحكم القراءة في ثقافتنا، وخاصة في الأكاديمية. لا، على الأقل ضمن المدى الذي تم تطويره أكاديمياً (ودعونا لا ننسى، إذا لم نكن نرغب في أن تغرقنا السخرية، أو عدم اللباقة أننا قد وضعنا مرتاحين هنا في الشارع الخامس fifth avenue –على مبعدة بضع مجمعات من جحيم اللاعدالة). أضف إلى ذلك، كما أنه ما من استراتيجية قطيعة نقية أبداً، مادام على المحامي أو المتهم أن “يتفاوض” بصددها بطريقة ما – أمام المحكمة أو في مسار إضراب عن الطعام في السجن، فليس هناك من تعارض نقي أبداً بين الإضراب السياسي العام الذي يتطلع إلى إعادة – تأسيس دولة أخرى والإضراب البروليتاري العام الذي يتطلع إلى تدمير الدولة.
وهكذا تبدو لي التعارضات البنيامينية داعية للتفكيك أكثر من أي وقت مضى، فهي تفكك نفسها، حتى كنماذج للتفكيك. ما أقوله هنا هو أي شيء إلا أن يكون محافظاً أو ضد ما هو ثوري. لأنه ما وراء غرض بنيامين الظاهر، سوف أقترح التفسير الذي لابد وأن يغلف فيه جوهر عنف أساس أو موقع القانون (Rechtsetzende Gewalt) عنف الحفظ (Rechtserhaltende Gewalt) ولا يمكن أن يقطع معه. إنه ينتمي إلى بنية العنف الجوهري الذي يقتضي تكرار ذاته ويؤسس ما ينبغي أن يحفظ، ما هو قابل للحفظ، ما هو موعود للتراث والتقليد، وأن يُشارك فيه. الأساس وعد. كل موقع (setzung) يتيح ويعد permet et pro-met، وهو يموقع en mettant et en promettant. وحتى إن لم يحفظ الوعد في الواقع فإن التكرارية تنقش الوعد كحارس في أشد تفجرات الأساس فورية. وهكذا فهي تنقش إمكان التكرار فى قلب الابتداء. مع هذا، ليس هناك من أساس نقى أو موقع نقى للقانون، ومن ثم عنف مؤسس نقى، أكثر مما هناك من عنف حافظ نقى، الموقع هو تكرارية بالفعل، نداء لتكرار حافظ للذات. يعيد الحفظ بدوره التأسيس، حتي يمكن له أن يحفظ ما يدعي أنه يؤسسه. ومن ثم لايمكن أن يكون هناك تعارض صارم بين التموقع والحفظ، فقط ما سوف أسميه (وبنيامين لا يسميه) تلويث اختلافي differantielle contamination بين الاثنين، مع كل المفارقات التي يمكن أن يؤدي إليها. ما من تمييز صارم بين إضراب عام وإضراب جزئي (مرة أخرى، سوف نفتقر إلى معيار فني لمثل هذا التمييز في مجتمع صناعي) ولا بين إضراب سياسي عام وإضراب بروليتاري عام، بالمعنى المقصود عند سوريل. التفكيك هو أيضاً فكرة عن –والفكرة متبناة استناداً إلى ضرورة- هذا التلويث الاختلافي (differantielle). إنني أفرد هذه الجملة من مؤلف بنيامين، عند التفكير حول هذا التلويث الاختلافي differantielle –لأن التلوث في ذات قلب القانون- التي آمل أن أعود إليها فيما بعد: إنه يقول هناك “شيء عفن في القانون” (ص 286) (etwas Morshes im Recht). هناك شيء متحلل أو عفن في القانون، الذي يدينه أو يخربه مقدماً. القانون مدان، مخرب، في خراب، خرب، إذا كان لنا أن نخاطر بحكم إعدام على موضوع القانون، خاصة حين تكون المسألة عقوبة الإعدام. وإنه لفي فقرة حول عقوبة الإعدام يتحدث بنيامين عما هو “عفن” في القانون.
إذا كان هناك شيء ما من إضراب وحق في الإضراب في كل تفسير فإن هناك أيضاً حرباً وجدالاً polemos. الحرب هي مثال آخر لهذا التناقض الداخلي في القانون (droit أو Recht). هناك قانون الحرب droit de la guerre (سوف يشكو شميدت من أن ذلك لم يعد معترفاً به بوصفه عين إمكان السياسية). يتضمن هذا القانون droit نفس التناقض مثل حق الإضراب droit de greve. إنه لمن الجلي أن ذوات هذا القانون droit يعلنون الحرب لكي يقروا العنف الذي يبدو موضوعه طبيعياً (الآخر يريد أن يسيطر على الإقليم، السلع، النساء، إنه يريد موتي، سوف أقتله). إلا أن هذا العنف الحربي الذي يماثل “اللصوصية” الخارج عن القانون (“عنف لصوصي” raubende gewalt ص 283) دائماً ما يتجلى ضمن نطاق القانون. إنه شذوذ ضمن النظام القانوني الذي يبدو أنه يقطع معه. هنا قطيعة العلاقة هي العلاقة. الانتهاك هو إزاء القانون. فيما يسمى بالمجتمعات البدائية حيث تظهر هذه المعاني على نحو أشد وضوحاً، تبين اتفاقية السلام على نحو جلي أن الحرب لم تكن ظاهرة طبيعية. لايعقد سلام دون الظاهرة الرمزية لما هو احتفالي. إنه يعيد إلى الذهن حقيقة أنه كان هناك بالفعل احتفال في الحرب. الحرب، إذن، لم تبلغ حد الصدام بين مصلحتين، أو محض قوتين ماديتين. هنا تؤكد فاصلتان، مما لا ريب فيه، أنه في الزوج حرب/ سلام، يستدعي احتفال السلام حقيقة أن الحرب كانت أيضاً ظاهرة غير طبيعية، ولكن بنيامين يريد بوضوح أن يستبعد معنى معيناً لكلمة “سلام” من هذا التضايف، وبصفة خاصة في المفهوم الكانطي عن “السلام الأبدي”. المسألة هنا هي مسألة دلالة أخرى كلياً “غير مجازية وسياسية” (unmetphorische und politische)، وسنزن أهميتها خلال لحظة. ما يتهدده الخطر هو القانون الدولي، حيث مخاطر الانحراف أو إساءة الاستعمال لصالح المنافع الفردية (بغض النظر عما إذا كانت منافع دولة أم لا) تتطلب يقظة لامتناهية، وهي أشد ما تكون كذلك لأن هذه المخاطر منقوشة في صلب تكوينه.
بعد احتفال الحرب، يدل احتفال السلام على أن الانتصار يؤسس قانوناً جديداً. والحرب التي يظن أنها عنف أصلي ونموذج بدئي (ursprungliche und urbildliche “بدئي ونموذجي” ص 283) تلاحق غايات طبيعية، هي في الواقع عنف يخدم في تأسيس القانون أو الحق (“rechtsetzende” صنع القانون”). من اللحظة التي يعترف فيها بالطابع الوضعي، التنظيمي (Setzende) والمؤسس لقانون آخر، ينكر القانون (droit ) الحديث على الذات الفردية كل حق في العنف. رعدة الإعجاب التي يبديها الناس أمام “المجرم العظيم” موجهة إلى الفرد الذي يأخذ على عاتقه، كما في الأزمنة البدائية، سمة المشرع أو النبي. ولكن سوف يكون من الصعب تتبع أثره، وأن نميز بين نوعي العنف (المؤسس والحافظ)، وهل يؤسس أم يحفظ. إننا بسبيلنا إلى أن نشهد حركة ملتبسة ومجدة من جانب بنيامين لأن يُبقي وبأي ثمن تمييزاً أو ارتباطاً سوف ينهار مشروعه بدونه لأنه إذا كان العنف في أصل القانون فإننا يجب أن نصل بنقد هذا العنف المزدوج (“عنف صنع القانون وحفظ القانون” ص 386) إلى نتيجته المنطقية.
لمناقشة العنف الحافظ للقانون، يلتزم بنيامين بالمشاكل الحديثة نسبياً، حديثة بالكيفية التي كانت بها مشكلة الإضراب العام منذ لحظة مضت. الآن مسألة الخدمة العسكرية الإجبارية، أو الشرطة الحديثة أو إلغاء عقوبة الإعدام. إذا كان قد تطور نقد ملتهب للعنف خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، فقد اتخذ هدفه هذه المرة شكل عنف القانون الحافظ. تمثل النزعة العسكرية، وهي مفهوم معاصر يفترض استغلال الخدمة العسكرية الإجبارية، الاستعمال الإكراهي للقوة، والإجبار (zwang) على استعمال القوة أو العنف (gewalt) في خدمة الدولة وغاياتها القانونية. هنا يعد العنف العسكري شرعياً ويحفظ القانون ومن ثم يصعب انتقاده أكثر مما يظن دعاة السلام والنشطاء، ولا يخفي بنيامين قلة تقديره لهؤلاء الخطباء. تنتج عدم فعالية تماسك دعاة السلام مناهضي العسكرية من إخفاقهم في إدراك الطابع الحصين والشرعي لهذا العنف الذي يحفظ القانون.
نحن نتعامل هنا مع رابطة مزدوجة أو تناقض يمكن أن نضع خطاطته كما يلي. من ناحية، يبدو من الأسهل انتقاد العنف الذي يؤسس ما دام لا يمكن له أن يُبَرر من قبل أي شرعية سابقة الوجود ومن ثم يبدو بربرياً. ولكن من ناحية أخرى, وهذا القلب/ التحويل هو كل موضوع هذا التأمل، إنه لمن الصعب، والأكثر لاشرعية نقد نفس هذا العنف مادام لا يمكن لنا استدعاءه للمثول أمام مؤسسة أي قانون موجود مسبقاً: إنه لا يعترف بالقانون القائم في اللحظة التي يؤسس فيها آخر. بين حدي هذا التناقض، هناك مسألة هذه اللحظة الثورية غير القابلة للإدراك التي لا تنتمي إلى متصل زمني تاريخي، ولكن التي يلعب فيها تأسيس قانون جديد مع ذلك، إذا جاز لنا القول، على شيء من قانون سابق، يوسعه، يجذره، يشوهه، يجعله مجازياً أو كنائياً، يتخذ هذا الشكل هنا اسم الحرب أو الإضراب العام. ولكن هذا الشكل هو أيضاً تلويث. إنه يطمس أو يعتم التمييز، النقي البسيط، بين التأسيس والحفظ. إنه ينقش التكرارية في الابتداء، في التفرد والفرادة، وهو ما سوف أدعوه التفكيك حال الاشتغال، بتفاوض تام: في “الأشياء ذاتها” وفي نص بنيامين.
يبقى النقاد العاديون سذجاً، وغير فاعلين ما داموا لا يزودون أنفسهم بالأدوات الفلسفية أو النظرية للتمعن في الاقتران الضمني co-implication بين العنف والقانون. لا يكفي بنيامين ازدراءه لخطابيات دعاة نزعة السلام وللإعلانات “الفوضوية الطفولية تماماً” التي تريد أن تحل الفرد من كل القيود. إن الإحالة إلى الواجب المطلق (“تصرف بطريقة أنك تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص الآخرين كغاية وليس كوسيلة فحسب” ص 285)، أيًّا كانت عدم قابليته للنقض، فإنه لا يسمح بنقد العنف. يدعي القانون droit في ذات عنفه أنه يعترف ويدافع عن الإنسانية المذكورة في شخص كل فرد بوصفها غاية، ومن ثم فإن النقد الأخلاقي المجرد للعنف غير مبرر تماماً فضلاً عن وهنه. لا نستطيع للسبب نفسه، أن نقدم نقداً للعنف باسم الحرية وهي ما يسميها بنيامين هنا “الحرية التي لا شكل لها” gestaltlose freiheit، أي باختصار، شكلية محضة، كشكل فارغ، متبعاً رافداً هيجلياً-ماركسياً بعيد عن أن يكون غائباً عبر كامل تفكره. تفتقر هذه الهجمات ضد العنف للفعالية ووثوق الصلة بالموضوع لأنها تظل غريبة عن الجوهر القانوني للعنف، عن نظام الحق Rechtsordnung، ونظام القانون droit. يتعين على نقد فعال أن يلقي اللوم على جسد القانون ذاته، على رأسه وعلى أعضائه، وعلى التشريعات والاستعمالات الخاصة التي يتلبسها القانون تحت حماية قوته (Macht). يمتاز هذا النظام بأنه يوجد هناك مصير واحد أو تاريخ فريد (nur einziges shicksal) “مصير واحد فقط” ص 285). هذا أحد المفاهيم الأساسية في النص، ولكنه أيضاً من أشدها غموضاً، سواء كانت مسألة المصير ذاته أم تفرده المطلق. هذا الذي يوجد، ويتمتع بالثبات (das Bestehende) وذلك الذي يهدد في الوقت نفسه ما هو موجود (das drohende) وينتمي بمنعه (unverbrüchlich) للنظام نفسه وهذا النظام منيع لأنه فريد. يمكن له أن ينتهك في ذاته. فكرة التهديد هامة هنا. غير أنها صعبة أيضاً، لأن التهديد لا يأتي من الخارج. القانون مُهدد ومهدد بذاته معاً. وهذا التهديد ليس تخويفاً ولا إثناءً، كما يعتقد دعاة السلام والفوضويون والنشطاء. ينتهي القانون إلى أن يكون مُهدداً بالطريقة نفسها التي يهدد بها المصير. للوصول إلي “المعنى الأعمق” لعدم تحدد (unbestimmgheit “لعدم يقين” ص 285) التهديد القانوني (der rechtsdrohung)، سوف يكون من الضروري فيما بعد التأمل حول جوهر المصير في أصل هذا التهديد.
في مسار التأمل حول المصير، الذي يتضمن معه تحليلاً للشرطة، وعقوبة الإعدام، والمدرسة البرلمانية، إلى التمييز بين العدالة الإلهية، والعدالة الإنسانية، بين العدالة الإلهية التي تدمر القانون، والعنف الأسطوري الذي يؤسسه.
العنف الذي يحفظ (“العنف الحافظ للقانون”)، هذا التهديد الذي ليس تهويلاً، هو تهديد القانون. إنه حالة إضافة مزدوجة: إنه يأتي من القانون ويهدده على السواء. يظهر هنا مؤشر قيم من مجال حق العقاب وعقوبة الإعدام. يبدو أن بنيامين يفكر هنا أن الجدالات ضد حق العقاب droit de punir وأخصها بالذكر عقوبة الإعدام زائفة، وليس ذلك مصادفة. لأنها لا تعترف ببديهية جوهرية في تعريف القانون. أي منها؟ حسناً، حين نعالج عقوبة الإعدام، فإننا لا ننازع حول عقوبة ضمن عقوبات أخرى وإنما ننازع القانون ذاته في أصله، في عين نظامه. إذا كان أصل القانون يتمثل في تموقع عنيف، فإن الأخير يتجلى في أنقى طراز حين يكون العنف مطلقاً، أي حين يمس الحق في الحياة والموت. لايحتاج بنيامين هنا إلى أن يستحضر البراهين الفلسفية الكبرى التي بررت قبله، بالطريقة نفسها، عقوبة الإعدام (كانط، هيجل، على سبيل المثال، ضد خصومها الأوائل مثل بيكاريا).
إذا كان النظام القانوني يكشف نفسه تماماً في إمكانية عقوبة الإعدام، فإن إلغاء العقوبة لا يعنى مقاربة دالة dispostif بين مقاربات أخرى، وإنما يعني التنصل من عين مبدأ القانون. وهذا يعني المصادقة، كما يقول بنيامين، بأن هناك شيء “عفن” في قلب القانون. إن عقوبة الإعدام تنهض شاهداً، وينبغي أن تنهض شاهداً، على حقيقة أن القانون هو عنف يناقض الطبيعة. ولكن ما ينهض شاهداً اليوم بطريقة أكثر شبحية (gespenstiche) في خلط شكلي العنف (المؤسس والحافظ) هو المؤسسة الحديثة للشرطة. إن هذا الخلط (vermischung) هو الشبحي كما لو أن عنفاً يغشى الآخر (رغم أن بنيامين لا يضع الأمر بهذه الطريقة عند التعليق على المعنى المزدوج لكلمة (gespentich). هذا الغياب للحدود بين نمطي العنف، هذا التلويث بين التأسيس والحفظ وضيع، إنه، كما يقول، عار (das schmachvolle) الشرطة. لم تعد الشرطة في هذه الأيام راضية بإنفاذ القانون، ومن ثم بأن تحفظه، إنها تخترعه، إنها تصدر الأوامر، وهي تتدخل حين لا يكون الوضع القانوني واضحاً لضمان الأمن. حين تعني هذه الأيام كل الوقت تقريباً. الشرطة وضيعة لأن في سلطتها أن “ترفع الفاصل بين العنف الذي يؤسس والعنف الذي يحفظ”(in ihr die Trennung von rechtsetzender und rechtsrhaltender Gewalt aufgehoben ist) رفع الفاصل “عند هذه السلطة بين وضع القانون وحفظ القانون” ص 286). في هذا الرفع [التجاوز] Aufhebung الذي هو ذاته، تخترع الشرطة القانون، إنها تجعل نفسها مشرعاً “صانعاً للقانون” في كل مرة لا يكون القانون فيها محدداً بما يكفي لمنحها الفرصة. تتصرف الشرطة مثل المشرعين في الأزمنة الحديثة، إن لم نقل بصفتها مشرعي الأزمنة الحديثة، حيثما تكون هناك شرطة، وهو ما يعني القول في كل مكان وحتى هنا، لا يعود بمستطاعنا أن نميز بين نمطين من العنف، الحافظ والمؤسس، وهذا هو الالتباس الوضيع، الشائن، المثير للاشمئزاز. الإمكانية، وهي ما يعني أيضاً أن نقول الضرورة التي لا يمكن اجتنابها لقوة الشرطة الحديثة تدمر، ويمكن لنا أن نقول إجمالاً تقوض، التمييز بين نوعي العنف اللذين يبنينان مع ذلك الخطاب الذي يسميه بنيامين نقد جديد للعنف. وهو سوف يرغب في أن يؤسسه أو أن يحفظه ولكن لا يمكنه أن يفعل أيًّا منهما بشكل خالص. أقصى شيء يمكن أن يفعله، هو أن يوقعه كحدث طيفي. النص والتوقيع طيفان. وبنيامن يعرف ذلك، إلى حد بعيد حتى إن حدث نص نقد العنف يتألف من هذا العرض الغريب: أمام عينيك تقوم مُظاهرة بتدمير التمييز الذي يقترحه. إنه يعرض ويؤرشف عين لحظة انفجارة الضمني تاركاً بدلاً من ذلك ما نسميه نصاً، شبح نص، الذي هو في ذاته دمار، وهو في الوقت نفسه أساس وحفظ، لا ينجز أيًّا منهما ويبقى هناك، حتى نقطة معينة، ولوقت معين، قابلاً للقراءة وغير قابل للقراءة، مثل الدمار النموذجي الذي يحذرنا بشكل فريد من مصير كل النصوص وكل التوقيعات في علاقتها بالقانون، أي، بالضرورة، في علاقتها بقوة شرطة معينة. سوف يكون هذا (ولنقل ذلك عرضاً) وضعاً بغير تشريع، تشريعاً بغير وضع لنص يعتبر وما يتبقى منه تفكيكياً. لا يفلت النص من القانون الذي يصرح به، إنه مدمر وملوث، إنه يصبح طيف نفسه. ولكن حول دمار التوقيع هذا، هناك الكثير مما سيقال.
ما يهدد صرامة هذا التمييز بين نمطي العنف هو في العمق مفارقة التكرارية. تتطلب التكرارية أن يكرر الأصل ذاته بأصالة، أن يغير ذاته حتى تكون له قيمة الأصل، أي، أن يحفظ ذاته. حالاً هناك الشرطة والشرطة تشرع، وهي ليست راضية بأن تنفذ قانوناً لم تكن لتكون له قوة إنفاذ قبل الشرطة. تنقش هذه التكرارية الحفظ في البنية الجوهرية للتأسيس. هذا القانون أو هذه الضرورة العامة ليست ظاهرة حديثة، إن لها قيمة قبلية a priori حتى لو كان بنيامين محقاً في أن يقدم أمثلة حديثة بغير اختزال في خصوصيتها. إذا ما تحدثنا بدقة تعوق التكرارية إمكانية المؤسسين العظماء المتجردين، الرواد، صانعي القانون (الشعراء “العظماء”، المفكرون أو رجالات الدولة، بالمعنى الذي سيقصده هيدجر في عام 1935، متبعاً مخططاً مناظراً يتعلق بالتضحية المصيرية لهؤلاء المؤسسين)
إنني لا أرى الدمار بوصفه شيئاً سلبياً(11)، قبل كل شيء، من الواضح أنه ليس بشيء. ومن ثم أحب أن أكتب، ربما مع أو متبعاً بنيامين، رسالة قصيرة حول حب الأنقاض فأي شيء آخر هناك يمكن أن نحب، على أي حال؟ لا يمكن للمرء أن يحب أثراً، عملاً معمارياً، مؤسسة بوصفها كذلك إلا في تجربة مشكوك فيها فى ذاتها، في هشاشتها: وهي لم تكن دائماً هناك، ولن تكون دائماً هناك، إنها نهائية. ولهذا السبب بالذات أحبها بوصفها مميتة، عبر ميلادها وعبر موتها، عبر شبحها أو الصورة الظلية لأنقاضها، لظلي وأنقاضي –التي هي ما هي عليه بالفعل أو تتصور بالفعل. كيف يمكن لنا أن نحب إلا في هذه النهاية؟ من أي موضوع آخر يمكن للحق في الحب، وبالفعل حب الحق أن يأتي؟
(D ou viendrait autrement le droit d aimer, voir l amour du droit?)
دعونا نعود إلى الشيء ذاته، إلى الشبح، لأن هذا النص هو قصة شبح. لا نستطيع أن نتجنب الشبح والدمار أكثر من استطاعتنا أن نراوغ مساءلة الوضع البلاغي لهذه الحادثة النصية. لأي شكل من الأشكال يعود لأجل عرضه، أمن أجل انفجار داخلي أو ضمني؟ كل الصور النموذجية لعنف القانون مجازات فريدة، أي صور بلا حدود، إمكانيات غير مقيدة للتحويل، وصور بغير صور. دعونا نأخذ مثل الشرطة، هذا المؤشر على العنف الشبيه بالشبح، لأنه يخلط التأسيس بالحفظ ويصبح عنيفاً أكثر بسبب ذلك. حسناً، إن الشرطة التي تفيد من العنف هكذا ليست هي الشرطة ببساطة. إنها لا تتألف ببساطة من رجال شرطة يرتدون زياً، معتمرين خوذاً بشكل عرضي، مسلحين ومنظمين في بنية مدنية وفق نموذج عسكري ينكر عليهم حق الإضراب، وما إلى ذلك. الشرطة بالتعريف، حاضرة أو ممثلة في كل مكان تكون فيه قوة القانون. إنها حاضرة، قد تكون غير مرئية أحياناً لكنها فعالة دائماً، حيثما يكون هناك حفاظ على النظام الاجتماعي. الشرطة ليست مجرد شرطة (اليوم بقدر أقل أو أكثر مما كانت أبداً) إنها هناك، الصورة التي لا وجه لها (Figure san Figure) لوجود هناك Dasein متساوق مع وجود Dasein المدينة-الدولة polis. يدركها بنيامين بطريقته، لكن بإيماءة مزدوجة لا أظن أنها مدروسة وفي أي حالة ليست مفكراً فيها. إنه لا يكف عن محاولة أن يحتويها في زوجين من المفاهيم وأن يعيد إلى التمييزات عين الشيء الذي يتجاوزها ويتخطاها باستمرار. إنه يعترف بهذه الطريقة بأن المشكلة مع الشرطة هي أنها صورة بلا وجه، عنف بغير شكل (gestaltlose)، وهي غير قابلة للإدراك بأي وسيلة (nirgends fassbare) بوصفها كذلك. فيما يسمي بالمجتمعات المتحضرة فإن طيف تجليها الشبحي هو كلي الانتشار “حضور شبحي كلي الانتشار في حياة الأمم المتحضرة” ص 287.
(allverbreitete gespenstische Erscheinung im leben der zivilisieren staaten)
حيث لا تزال هذه الصورة التي لا شكل لها غير القابلة للتحديد حتى بالنسبة للشرطة بمجازيتها وطيفيتها، وإن أنصب حضورها في كل مكان فإنها ستبقى صورة غير قابلة للتحديد حتى لو ظلت طريقة بنيامين قابلة للتحديد وملائمة للدول المتحضرة. إنه يدعي أنه يعرف ما يتكلم عنه حين يتحدث عن المعنى الدقيق للشرطة ويحاول أن يحدد هذه الظاهرة. إنه لمن الصعب معرفة ما إذا كان يتحدث عن الشرطة في الدولة الحديثة أو عن الدولة بشكل عام حين يذكر الدول المتحضرة. إنني أميل إلى الفرضية الأولى لسببين:
1. فهو يختار أمثلة حديثة للعنف، تلك التي تتعلق بالإضراب العام، أو مشكلة عقوبة الإعدام على سبيل المثال. كان يتحدث بشكل أسبق، ليس فقط عن الدول المتحضرة ولكن عن مؤسسة أخرى “مؤسسة الدولة الحديثة” الشرطة. إنها الشرطة الحديثة، في أوضاع سياسية تقنية حديثة هي التي أدت لإنتاج القانون الذي يفترض أنها وحدها هي التي تقوم بإنفاذه.
2. بينما يدرك أن الجسد الشبحي للشرطة، وكيفما كان توسعياً، يبقى دائماً مساوياً لنفسه، فإنه يعترف بأن روحها (Geist)، روح الشرطة، تسبب خسارة أقل في ملكية مطلقة مما تسبب في الديمقراطية الحديثة حيث يتحلل عنفها. دعونا نبقى مع هذه المسالة للحظة. أنا لست متأكداً من أن بنيامين استنبط التقارب الذي أحاول أن أظهره هنا بين الكلمتين “طيفي” gespenstische و”روح” Geist، روح أيضاً بمعنى المزدوج الشبحي.(12) ولكن المنطق العميق لهذا التناظر يبدو بالنسبة لي قابلاً للنقض بصعوبة، حتى لو لم يدركه بنيامين. تغدو الشرطة هذيانية وطيفية لأنها تغشى كل شيء، إنها في كل مكان، حتى حيث لا تكون، في وجودها هناك Fort-Dasein الذي يمكن أن نحتكم إليه دائماً. ليس حضورها حاضراً أكثر من حضور أي حضور، كما يذكرنا هيدجر، بيد أن حضور مزدوجها الطيفي لا يعرف حدوداً. وأنه في التمسك بمنطق نقد العنفzür kritlk der gewalt يتسنى لنا أن نلاحظ أن أي شيء له صلة بعنف القانون droit –هنا الشرطة نفسها- ليس طبيعياً بل روحياً. هناك روح، بكل من معنى الطيف وبمعنى الحياة التي ترفع نفسها من خلال الموت، تحديداً، بواسطة إمكان عقوبة الإعدام، فوق الحياة الطبيعية والبيولوجية. تنهض الشرطة شاهداً على هذا. سوف أستشهد هنا بمقتطف من نشوء التراجيديا الألمانية ursprung der deutschen Trauerspiel التي تتحدث عن الروح Geist بوصفها قدرة على ممارسة – الديكتاتورية. إنني أشكر صديقي تيم باهتي Tim Bahti لأنه لفت نظري إلى هذا المقطع (ولكن على المرء أن يقرأ كامل الفصل، الذي يناقش قبل ذلك ظهور الأطياف (Geisterscheinugen) ص 273): الروح (Geist) – هكذا سوف يحوزها العصر – تتجلى في القوة (weist sichausin macht)، الروح هي القدرة على ممارسة الديكتاتورية). (Geist ist das Vermögen, Diktatur auszuuuben). تتطلب هذه القدرة نظاماً داخلياً صارماً بقدر ما تتطلب أشد الأعمال الخارجية تجرداً من الضمير (skrupelloseste) (ص 276). إضافة إلى ذلك فإنها مرة أخرى العبقرية الشريرة (bose Geist) للمستبدين.
بدلاً من أن تكون نفسها، وأن تُحتوى داخل الديمقراطية، فإن روح الشرطة هذه، عنف الشرطة هذا بوصفه روحاً يتحلل هناك. إنه ينهض شاهداً في الديمقراطية الحديثة على أعظم تحلل يمكن تخيله للعنف (die denkbar grosste Entartung der Gewalt bezeugt ينهض شاهداً على أعظم تحلل يمكن تصورة للعنف ص 287). لماذا؟ تتحد السلطتان التشريعية والتنفيذية في الملكية المطلقة. العنف فيها من ثم عادي، حين يجاري جوهرها، فكرتها، روحها. من ناحية أخرى لم يعد العنف في الديمقراطية، يأتلف مع روح الشرطة. إنه يمارس على نحو شرعي بسبب الفصل المفترض للسلطات، خاصة حينما تضع الشرطة القانون بدلاً من إنفاذه. هنا يشير بنيامين إلى تحليل مبدأ واقع الشرطة في الديمقراطيات الصناعية ومجمعاتها الصناعية والعسكرية التي تصاحبها التكنولوجيا الرفيعة للحاسب الآلي. يبرهن عنف الشرطة في الملكية المطلقة، أيّاً كانت فظاعته، على أنه ما هو عليه وما ينبغي أن يكون في روحه، بينما عنف الشرطة في الديمقراطيات ينكر مبدأة الدقيق، يصنع القوانين خفية، على نحو سري. وللنتائج أو المترتبات طابع مزدوج:
1. الديمقراطية هي تحلل القانون droit وعنف القانون droit.
2. لم توجد بعد أي ديمقراطية جديرة بهذا الاسم. مازال على الديمقراطية أن تأتي: أن تتولد أو أن تتجدد. وهكذا فإن جدال بنيامين، الذي يتطور حينئذ إلى نقد الديمقراطية البرلمانية الليبرالية، يعد ثورياً، وحتى ماركسيانياً، ولكن بالمعنى الثنائي لكلمة “ثوري” التي تتضمن أيضاً معنى “رجعي” أي، معنى العودة إلى ماض ذي أصل نقي. هذا الالتباس نموذجي بما يكفي حتى أنه غذى خطابات ثورية عديدة أتت من اليمين ومن اليسار، خاصة بين الحربين. نقد “الانحلال” (Entartung) بوصفه نقداً لبرلمانية عاجزة عن أن تحكم عنف الشرطة التي تحل نفسها محلها، وهو لحد كبير نقد للعنف على أساس “فلسفة للتاريخ”: أدرج داخل منظور غائي –قديم بالفعل أخروي- قديم يفك شفرة تاريخ القانون بوصفه تفسخاً (verfall) منذ أصوله. لا يحتاج هذا التشابه مع مخططات شميدت او هيدجر الى توضيح .يمكن ان يرسم هذا المثلث بواسطة مراسلة , اعنى المراسلة التى تضمنت رسائل ربطت هؤلاء المفكرين الثلاثة (شميدت/ بنيامين, هيدجر/ شميدت). وهو لا يزال سؤال عن الروح والثورة.
سوف يكون السؤال الأساسي: ماذا عن الديمقراطية البرلمانية والليبرالية اليوم؟ بوصفها وسائل، كل عنف يؤسس أو يحفظ القانون droit. بخلاف ذلك سوف تفقد كل قيمة. ليست هناك إشكالية قانون droit دون عنف الوسائل هذه. النتيجة: كل عقد قانوني، كل Rechtsvertrag (عقد قانوني ص 288) مؤسس على العنف: ما من عقد لا يملك عنفاً سواء في نشأته (ursprung) أم في آثاره (Ausgang). هنا إشارة ضمنية موجزة ومختلسة من قبل بنيامين واضحة، كما هو الحال غالباً. لا يحتاج العنف الذي يؤسس أو يموقع القانون droit أن يكون حاضراً فيه مباشرة في العقد (nicht unmittelbar in ihm gegenwartig zu sein) “لا يحتاج العنف أن يكون حاضراً فيه مباشرة بوصفه عنفاً صانعاً للقانون” ص 288. ولكن بدون أن يكون حاضراً مباشرة، فإنه يستبدل (يمثل vertreten) بتكملة البديل. وإنه لفي هذا الاختلاف المؤجل difference، في الحركة التي تستبدل الحضور (الحضور المباشر للعنف القابل للتعرف عليه بوصفه كذلك في آثاره وفي روحه)، إنه لفي هذه التمثيلية الاختلافية differantielle أن أوكل العنف الأصلي للنسيان. لا تحدث خسارة فقد ذاكرة الوعي هذه بمحض المصادفة. إنها عين المسار من الحضورإلى التمثيل. يعرض مثل هذا المسار المنحني للتدهور، “التحلل” المؤسسي، (“تفسخه”) verfall. لقد تحدث بنيامين تواً عن تحلل (Entartung) العنف الأصلي، عنف الشرطة في الملكيات المطلقة على سبيل المثال، الذي هو فاسد في الديمقراطيات الحديثة. هنا يستهجن بنيامين تفسخ verfall الثورة في المشهد البرلماني: “حين يختفي الوعي بحضور العنف الكامن في مؤسسة قانونية، فإن المؤسسة تسقط في التفسخ” (ص 288)
(schwindet das Bewusststrein von der Latenten Anwesenheit der gewalt in einem Rechtsinstitut, so verfalltes)
كان المثل الأول الذي جرى اختياره هو برلمانات العصر. إذا كانت تقدم مشهداً مستهجناً، فسبب ذلك يعود إلى أن هذه المؤسسات التمثيلية قد نست العنف الثوري الذي ولدت منه. في ألمانيا، بصفة خاصة، نست الثورة المجهضة في عام 1919. لقد فقدت حس العنف المؤسس للقانون droit الممثل فيها. “Ihnen fehlt der sinn fur” die rechtsetzende Gewalt, die in innen reprasentiert ist” “إنها تفتقر إلى الإحساس بأن العنف الصانع للقانون ممثل بها نفسها” (ص 288). تحيا البرلمانات في نسيان العنف الذي تولد منه. هذا الإنكار الفاقد للذاكرة ليس ضعفاً سيكولوجياً، إنه وضعها statut وبنيتها. من هذه المرحلة فصاعداً، بدلاً من الوصول إلى قرارات متكافئة أو متناسبة مع هذا العنف وجديرة به (wurdig)، فإنها تمارس سياسات المساومة المنافقة. يعني مفهوم المساومة، إنكار العنف المكشوف، واللجوء إلى عنف مستور ينتمي إلى روح العنف، إلى “عقلية العنف” (Mentalitat der Gewalt) التي تمعن إلى حد قبول إكراه الخصم لتتفادى الأسوأ، وفي نفس الوقت قائلة لنفسها مع تنهيدة البرلماني أن هذا ليس مثالياً بالتأكيد، وأنه، لاشك، كان من الأفضل أن يكون الأمر بخلاف ذلك، غير أنه لا يمكن لنا أن نفعل غير ذلك، تحديداً. البرلمانية، إذن، هي في العنف وإنكار المثال. إنها تخفق في حل النزاعات السياسية بواسطة الكلام غير العنيف، من خلال المناقشة، والتشاور، باختصار من خلال وضع الديمقراطية الليبرالية في الممارسة. يجد بنيامين نقد البلاشفة والنقابيون معاً في مواجهة “تفسخ البرلمانات” (der verfall der parlamente) وثيق الصلة بالموضوع (treffende) كلياً وتقويضياً بشكل راديكالي (vernichtende).
يتعين علينا الآن أن ندخل تمييزاً يضم مرة أخرى بنيامين وكارل شميدت ويقدم بأي حال معنى أكثر عمقاً عما كانه الشكل التاريخي الذي كانت فيه كل أنماط الفكر المختلفة مضمرة (الثمن الفادح الذي كان على ألمانيا أن تدفعه بسبب الهزيمة، جمهورية فايمار، أزمة وعجز البرلمانية الجديدة، إخفاق النزعة السلامية، عقابيل ثورة أكتوبر، النزاع بين وسائل الإعلام والبرلمانية، تفاصيل جديدة في القانون الدولي، وما إلى ذلك). لقد رأينا تواً إجمالاً، أن القانون le droit في أصله وفي غاياته، في تأسيسه وفي حفظه، لم يكن منفصلاً عن العنف، مباشراً أم غير مباشر، حاضراً أم ممثلاً. هل يستبعد هذا إمكانية القضاء على المنازعات بعير عنف، كما يمكن أن نستنتج بهدوء؟ مطلقاً. لا يستبعد بنيامين إمكانية اللاعنف. ولكن ينبغي أن تتجاوز فكرة اللاعنف نظام القانون العام. الاتحاد بغير عنف gewaltlose Eingung “اتفاقية غير عنيفة” (ص 289) هي أمور ممكنة في كل مكان حيث ثقافة القلب (die Kultur des Herzens) تعطي البشر وسائل نقية ذات نظرة إجماعية (ubereinkunft). هل يعني هذا أننا ينبغي أن نتوقف عند هذا التعارض بين العام والخاص حتى نحمي نطاقاً للاعنف؟ الأشياء بعيدة عن أن تكون بهذه البساطة. سوف تحد delimit تقسيمات مفهومية أخرى، في مجال السياسة ذاتها، علاقة العنف باللاعنف. قد يكون هذا، على سبيل المثال، في تقليد سوريل أو ماركس، التمييز بين الإضراب السياسي العام، عنيف، مادام يريد أن يستبدل الدولة بدولة أخرى (على سبيل المثال الدولة التي انبثقت حينها في ألمانيا) والإضراب البروليتاري العام، حيث الثورة بدلاً من أن تقوى الدولة تهدف إلى قمعها، كما تهدف كما يقول سوريل إلى القضاء على “السوسيولوجيين، رجال العلم المغرمون للغاية بالإصلاحات الاجتماعية، أو المثقفون الذين تبنوا مهنة أن يفكروا نيابة عن البروليتاريا” (السوسيولوجيون، هواة إصلاحات اجتماعية أنيقون، أو مثقفون جعلوا مهنتهم أن يفكروا نيابة عن البروليتاريا” ص 292).
يبدو أن هناك تمييزاً آخر حتى أكثر راديكالية وأقرب إلى ما يعني نقد العنف كوسيلة. إنه التمييز الذي يعارض نظام الوسائل والتمثيل، تحديداً، بنظام المظاهر. إنها مرة أخرى ولحد بعيد مسألة عنف اللغة، غير أنها أيضاً مسألة بزوع اللاعنف من خلال لغة معينة. هل يكمن جوهر اللغة في العلامات، بوصفها وسيلة للاتصال، بوصفها إعادة – تمثيل re-presentation، أو في كونها تجل لم يعد ينشأ، أو ليس بعد، من الاتصال عبر العلامات، من الاتصال بصفة عامة، أي، من بنية الوسائل/ الغايات؟
يقصد بنيامين أن يبرهن على أن القضاء على المنازعات بغير عنف أمر ممكن في العالم الخاص حين يكون محكوماً بثقافة القلب، الكياسة الودية، التعاطف، حب السلام، الثقة. سوف يكون الحوار (unterredung، “المؤتمر”) بوصفه تقنية الاتفاق المدني، أكثر الأمثلة عمقاً. ولكن لأي سبب يمكن أن يعتبر العنف مستبعداً من المجال الملائم أو الخاص؟ (eigentliche sphare) قد تكون إجابة بنيامين مثيرة للدهشة بالنسبة للبعض. إن إمكانية اللاعنف هذه تشهد عليها حقيقة أن الكذبة (die luge “الكذب” ص 289)، والخداع (Betrug “الحيلة”) لا يعاقب عليهما. لم يعاقب عليهما القانون الروماني ولا القانون الألماني ولا القانون الألماني القديم. أن تعتبر كذبة جريمة هذا علامة تحلل (verfallsprozess، حيوية متدهورة). يفقد القانون الحديث إيمانه بنفسه، لأنه يدين الخداع ليس لأسباب أخلاقية، وإنما لأنه يخشى العنف الذي قد يؤدي إليه من جانب الضحايا. فقد يهددوا بدورهم نظام القانون droit. إنها نفس الآلية التي تشتغل بشأن التنازل إزاء حق الإضراب. إنها مسألة الحد من العنف الأسوأ بعنف آخر. يبدو أن ما يحلم به بنيامين هو نظام من اللاعنف يستبعد من نظام القانون droit –ومن ثم من الحق في معاقبة الكذب- ليس العلاقات الخاصة وحدها وإنما حتى علاقات عامة معينة كما هو الحال في الإضراب البروليتاري العام الذي يتحدث عنه سوريل، وهو إضراب لن يسعى لإعادة تأسيس الدولة وقانون droit جديد، أو وكذلك علاقات دبلوماسية معينة يقوم فيها سفراء معينون، وبطريقة تشابه العلاقات الخاصة، بتسوية النزاعات سلمياً ودون معاهدات. التحكيم غير عنيف في هذه الحالات لأنه متموقع ما وراء كل نظام للقانون droit ومن ثم ما وراء العنف. (“ما وراء كل الأنظمة القانونية، ومن ثم ما وراء العنف”، ص 293). سوف نرى خلال لحظة كيف أن هذا اللاعنف ليس منبت الصلة بالعنف المحض.
يقترح بنيامين هنا تناظراً ينبغي أن نتريث عنده للحظة، خاصة، لأنه يُدخل هذا المفهوم المبهم عن المصير. ماذا يحدث لو كان هناك عنف مرتبط بالمصير (ٍSchicksalmassige Gewalt “عنف يفرضه المصير” ص 293) إذ استعمل وسائل عادلة (berechtigte) دخل في نزاع لا يحل مع غايات عادلة (gerechten)؟ وبطريقة تملي علينا أن نتصور نوعاً آخر من العنف لن يكون فيما يتعلق بهذه الغايات وسيلة مبررة أو غير مبررة؟ ما من وسيلة مبررة أو غير مبررة، بشكل لا يقبل التقرير، إنها لن تعد حتى وسيلة لكنها سوف تدخل في كلية علاقة أخرى مع الزوج وسيلة/ غاية. عندئذ سوف نتعامل مع عنف آخر كلياً وهو لن يعد يسمح لنفسه أن يحدد في الفضاء الذي انفتح بواسطة التعارض: وسيلة/ غاية. يتجلى السؤال أكثر خطراً حتى أنه يتجاوز أو يزيح الإشكالية الأولية التي بناها بنيامين حتى هذه المرحلة على موضوع العنف والقانون وقد كانت محكومة تماماً بمفهوم الوسيلة. سوف يلاحظ هنا أن هناك حالات تبقى فيها مشكلة القانون droit غير قابلة للتقرير، إذا ما وضعت بمفهوم الوسائل/ الغايات. تتعلق عدم القابلية القصوى للتقرير هذه بكل مشاكل القانون droit (unent scheidbarkeit aller Rechtsprobleme) “عدم القابلية القصوى لحل كل المشاكل القانونية” (ص 293) هي استبصار تجربة فريدة ومثبطة. إلى أين نتوجه بعد إدراك عدم القابلية للتقرير التي لا يمكن اجتنابها؟
ينفتح مثل هذا السؤال أولاً، على بُعد آخر للغة، على ما وراء au dela التوسط ومن ثم ما وراء اللغة بوصفها علامة بمعنى التوسط، بوصفها وسيلة ذات غاية مرتقبة. يبدو في البداية أنه ما من مخرج، وما من أمل. ولكن في هذا المأزق، في هذا اليأس (Aussichtslosigkeit) في “عدم القابلية للحل” في “انعدام الأمل”) تستجمع قرارات الفكر التي لا تعني شيئاً أقل من أصل اللغة في علاقتها بالحقيقة، العنف المصيري (schicksallhafte gewalt “العنف الذي يفرضه المصير”) الذي يضع نفسه فوق العقل، وبعدئذ، فوق هذا العنف ذاته، الإله: آخر، آخر كلية،: “الأساس الخفي للسلطة”. مما لا ريب فيه، ذلك لا يخص مونتاني أو باسكال ولكن لا يتعين علينا أن نثق كثيراً في هذه المسافة. هذا هو ما تنفتح عليه بطريقة ما عدم قابلية القانون للحل Aussichtslosigkeit، هذا هو ما يؤدي إليه مأزق القانون droit.
سوف يكون هناك تناظر بين “عدم قابلية كل مشاكل القانون للتقرير (unentscheidbarkeit) وما يحدث في اللغة الوليدة (in werdenden Sprachen) التي يستحيل فيها أن تتخذ قراراً (Entscheidung) واضحاً، مقنعاً، مُحدداً الحقيقي والزائف، الصائب وغير الصائب (richtig/ falsch “الصواب/ الخطأ). هذا تناظر أقترحه عرضاً. ولكن يمكن تطويره على أساس نصوص بنيامين الأخرى حول اللغة، وأخصها بالذكر “مهمة المترجم” (1923) وخاصة مقالته الشهيرة في عام 1916 التي سبقت الأولى بخمس سنوات “حول اللغة واللغة الإنسانية بصفة عامة”. كلتاهما وضعتا موضع السؤال فكرة أن جوهر اللغة هو بصفة أصلية اتصالي، أي دلالي (سميولوجي)، إخباري، تمثيلي، اتفاقي، ومن ثم توسطي. إنها ليست وسيلة ذات غاية مرتقبة –شيئاً أو مدلول مضمون- عليها أن تلاءم نفسها معه بصوب. كان هذا النقد للعلامة سياسياً كذلك آنذاك: مفهوم اللغة كوسيلة وكعلامة كان سيكون “بورجوازياً”. لقد حدد نص عام 1916 الخطيئة الأصلية بوصفها سقوطاً إلى لغة الاتصال الوسيط حيث تحث الكلمات، بعد أن أصبحت وسائل، على الهذيان (Geshwatz). تنشأ مسألة الخير والشر بعد الخلق من هذا الهذيان. لم تكن شجرة المعرفة هناك لتقدم المعرفة بشأن الخير والشر وإنما بوصفها “wahrzeichen” العلامة التي تنذر بالحكم (Gericht) يحملها ذلك الذي يتساءل. ويخلص بنيامين إلى أن “هذه السخرية الاستثنائية هي العلامة التي ندرك بها الأصل الأسطوري للقانون droit”
Das kennzeichen des mythischen ursprungs des Rechts, Bd 11, 1 (ص 154).
يريد بنيامين هنا ما وراء هذا التناظر البسيط أن يتصور نهائية عدالة غايات لم تعد مرتبطة بإمكان القانون droit، لما يتصور دائماً قابلاً للتعميم في أي حال. تعميم القانون هو عين إمكانه، إنه منقوش تحليلياً في مفهوم العدالة (Gerechtigkeit). ولكن في هذه الحالة فإن ما هو غير مفهوم هو أن هذا التعميم يقع في تناقض مع الإله ذاته، أي مع من يقرر شرعية الوسائل وعدالة الغايات فوق وعلى العقل وحتى فوق العنف المصيري. هذه الإحالة المفاجئة إلى إله فوق العقل والعمومية، ماوراء نمط من تنوير Aufklarung القانون، ليست شيئاً سوى إحالة التفرد غير القابل للاختزال لكل وضع. والفكرة الجريئة، والضرورية بقدر ما هي محفوفة بالمخاطر، لما سوف أسميه هنا نمطاً من العدالة بغير قانون (ليس هذا واحداً من تعابير بنيامين) صالحاً تماماً لتفرد الفرد بقدر ما هو صالح للناس واللغة، باختصار، للتاريخ.
لتفسير “وظيفة العنف غير المتوسط” هذه (ص 294) Eine nicht mittelbare Funktion der gewalt، يأخذ بنيامين مرة أخرى مَثَلَ لغة الحياة اليومية كما لو كانت تناظراً فقط. في الواقع، يبدو لي، أن لدينا هنا الآلية الحقيقية، وعين موضع القرار. أهي صدفة لا ترتبط بمثل هذه الصورة عن الإله أنه يتحدث عندئذ عن تجربة الغضب،/ مَثلُ عن تجل مباشر لا صلة له بأي بنية للوسائل/ والغايات؟ انفجار العنف، في الغضب، ليس بالوسيلة التي تتطلع إلى غاية، ليس له من موضوع غير أن يظهر ويبنين نفسه. دعونا نترك مسئولية هذا المفهوم لبنيامين: بطريقة ما التجلي اللامبالي، غير المباشر وغير المحسوب للغضب. ما يعنيه هو تجلي العنف الذي لن يكون وسيلة تهدف إلى غاية. سوف يكون مثل هذا (العنف) عنفاً أسطورياً كتجل للآلهة.
هنا تأتي النتيجة الأخيرة، الأكثر إبهاماً، الأكثر فتنة والأكثر عمقاً في هذا النص. بسبب الافتقار إلى الوقت، وليس الوقت فقط، لا أستطيع أن أدعي أنني قادر على أن أكون عادلاً بصددها، علىَّ أن أقنع بالتأكيد من ناحية على الالتباس السياسي-الأخلاقي الفظيع للنص، ومن ناحية أخرى على عدم الاستقرار النموذجي لوضعه/ ولتوقيعه، أخيراً، ما ستسمحوا لي بأن أسميه هذا القلب أو تلك الشجاعة (Ce Coeur ou ce courage) أو تفكير يعرف أنه ليس هناك من عدالة justesse، لا مسئولية سوى تعريض الذات لكل المخاطر، ماوراء اليقين والضمير الخيّر.
في العالم الإغريقي، يؤسس تجلي العنف الإلهي في شكله الأسطوري قانوناً droit وليس إنفاذ قانون قائم يوزع المكافآت والجزاءات. إنه ليس عدالة توزيعية أو جزائية، وبنيامين يستحضر الأمثلة الأسطورية مثل نيوبي Niobe، وأبوللو وأرتميس، وبروميثيوس. وحيث أنها مسألة تأسيس قانون droit جديد، فإن العنف الذي يقع على نيوبي يأتي من المصير، وهذا المصير لا يمكن إلا أن يكون غير يقيني وملتبس (zweideutung)، ما دام يحترم، على سبيل المثال، حياة الأم في اللحظة التي يتمخض فيها عن موت مريع لأطفال نيوبي. ولكن تلك الإشارة إلى الدم المسفوح، كما سوف نرى، هي هنا علامة تمييز لتعيين الأساس العنيف والأسطوري للقانون في العالم بما يفصله عن العنف الإلهي عند اليهودية. يقدم بنيامين أمثلة متعددة عن هذا الالتباس (zweideutungkeit تتكرر الكلمة أربع مرات على الأقل) وحتى عن الالتباس الشيطاني لتموقع القانون الأسطوري هذا(13) الذي هو في مبدئه الجوهري قوة (macht)، إكراه، وموقع سلطة ومن ثم، كما يقترح سوريل نفسه، مع موافقة بنيامين الواضحة هنا، هو امتياز الملوك، والعظماء أو الأقوياء: في أصل كل قانون droit هناك امتياز in den anfangen alles Recht “vor” recht der könige oder der grössen, kurz der machtigen:
“في البدء كان كل حق امتيازاً للملوك أو النبلاء –باختصار- للجبارين” ص 296). ليست هناك بعد في هذه اللحظة الأصلية والأسطورية، عدالة توزيعية، ما من تأديب أو جزاء، وإنما تكفير فحسب (Suhne التي تترجم بشكل رديء إلى “جزاء”).
يعارض بنيامين عنف الأسطورة mythos الإغريقية هذا سمة بسمة بعنف الإله، وهو يقول، إنه نقيضه من كل النواحي، بدلاً من تأسيس القانون droit، فإنه يدمره، بدلاً من وضع حدود وتخوم، فإنه يمحوها، بدلاً من أن يؤدي للمعصية والتفكير، فإنه يسبب الكفارة، بدلاً من التهديد، فإنه يضرب، وفوق كل شيء، وهذه هي المسألة الجوهرية، بدلاً من أن يقتل بالدم، فإنه يقتل ويفني دون إراقة دماء. تصنع الدماء كل الاختلاف. تفسير فكرة الدماء هذه مزعجة عند بنيامين بقدر ما هي مزعجة عند روزنزفيج Rosenzweig، رغم بعض التنافر (خاصة إذا فكرنا في “الحل النهائي”) الدماء رمز الحياة، هكذا يقول. عند إراقة الدماء، يُمارس العنف الأسطوري للقانون لمصلحته هو (um ihrer selbst willen) ضد الحياة البسيطة النقية التي يسبب نزيفها. حتى عندما يبقى تحديداً ضمن نظام الحياة الطبيعية (das blosse leben). على النقيض من ذلك يمارس العنف الإلهي المحض (اليهودي) على كل الحياة ولكن لحساب أو صالح الحي Über alles Leben um des lebendigen willen: العنف الأسطوري هو سلطة مريعة على مجرد الحياة لصالحه، أما العنف الإلهي فهو سلطة محضة على كل الحياة لصالح الحي” (ص 297). بمعنى آخر، العنف الأسطوري للقانون droit قانع في ذاته بالتضحية بالحي، بينما يضحي العنف الإلهي بالحياة من أجل إنقاذ الحي، لحساب الحي. في كلتا الحالتين هناك تضحية، ولكن في الحالة التي يراق فيها الدم، فإن الحي ليس محترماً. من هنا استنتاج بنيامين الفريد، ومرة أخرى فإنني أترك له مسئولية هذا التفسير، خاصة هذا التفسير لليهودية: “الأول (العنف الأسطوري للقانون droit) يتطلب (fordert) التضحية، الثاني (العنف الإلهي) يقبلها، يتخذها (nimmt Sie an). في أي حال، هذا العنف الإلهي الذي سوف يصادق عليه ليس فقط بواسطة الدين وإنما أيضاً في الحياة الحاضرة أو في تجليات المقدس، قد يمحق الطيبات، الحياة، القانون droit، أساس القانون، وهكذا دواليك، ولكنه لا يبلغ أبداً أن يكون هجوماً لتدمير روح الحي (die seels des lebendigen). وهكذا، فلا يحق لنا أن نستنتج أن العنف الإلهي يترك المجال مفتوحاً لكل الجرائم الإنسانية. وتبقي وصية لا تقتل “أمراً مطلقاً” مادام مبدأ العنف الإلهي الأشد تدميراً يوصي باحترام الكائن الحي بصورة مطلقة مهما كانت القوانين والأحكام. وهو ليس مقياساً للحكم وإنما مرشداً للأعمال والأشخاص والجماعات التي تصارع لإبعاده، وفي بعض الحالات الاستثنائية لتجاهله، ذلك بالنسبة لبنيامين هو جوهر اليهودية الذي يحرم كل قتل، إلا في حالات استثنائية تخص الدفاع الشرعي عن النفس، والذي يقدس الحياة إلى درجة أن بعض المفكرين يوسعون [يمدون] هذا التقديس ما وراء الإنسان، ليشمل الحيوان والنبات. ولكننا هنا ينبغي أن نصقل مسألة ماذا يعني بنيامين بقداسة الإنسان، والحياة أو بالأحرى الوجود Dasein الإنساني. إنه يقف بقوة ضد كل تقديس للحياة لذاتها، الحياة الطبيعية، الحقيقة البسيطة للحياة. يحاكم بنيامين معلقاً بشكل مطول على كلمات كورت هيللر، التي وفقاً لها “أعلي حتى من السعادة وعدالة الوجود يقف الوجود نفسه” (ص 298)، يحاكم قضية أن الوجود dasein البسيط يتعين أن يكون أرفع من مجرد الوجود (als gerechtes dasein) بأنها زائفة وحقيرة، إذا اعتبر معنى الوجود Dasein البسيط هو الحقيقة البسيطة للعيش. إن هذين المصطلحين: الوجود هناك و”الحياة” يبقيان غاية في الإبهام، فهو يحاكم القضية نفسها، حتى وإن بقيت ملتبسة، بطريقة معاكسة بوصفها مليئة بحقيقة قوية (gewaltige wahrheit) إذا كانت تعني أن لاوجود الإنسان سوف لا يزال أفضل من الإنسان الذي ليس عادلاً بعد، ومن الذي لم يحرز بعد شرط الإنسان العادل، ببساطة ونقاوة. بمعنى آخر، ما الذي يحقق جدارة الإنسان، (جدارة) وجوده وحياته، هو أنه يحتوي الإمكان، إمكانية العدالة، مستقبل (avenir) العدالة، مستقبل كونه عادلاً [مستقبل] أن عليه أن يكون عادلاً. ما هو مقدس في حياته ليس حياته بذاتها وإنما عدالة حياته. حتى إذا كانت الحيوانات والنباتات مقدسة، فلن تكون كذلك بسبب حياتها، هذا ما يقوله بنيامين. هذا الانتقاد للنزعة الحيوية أو البيولوجية، إذا كان يشبه نقداً عند هيدجر ما وإذا كان يستحضر كما لاحظت في مكان آخر، هيجل ما، فإنه ينطلق هنا كإحياء للتراث اليهودي. بسبب هذا الالتباس في مفهومي الحياة والوجود هناك dasein، فإن بنيامين في الآن نفسه منجذب ومتحفظ إزاء العقيدة التي تؤكد على الطابع المقدس للحياة، بوصفها حياة طبيعية، نقية وبسيطة. يستحق أصل هذا العقيدة بحثاً، هذا ما يلاحظه بنيامين، المستعد لأن يرى فيها الاستجابة الحديثة نسبياً التي تتوق للماضي إزاء خسارة المقدس عند الغرب.
ما هي المفارقة القصوى والأشد استفزازاً لنقد العنف هذا؟ (النقد) الذي يقدم أقصى ما يمكن أن نفكر فيه؟ إنها في أن هذا النقد يقدم نفسه بوصفه “الفلسفة” الوحيدة للتاريخ (تبقى كلمة “فلسفة” بين علامات اقتباس لا تنسى) الذي يُمكِّن من اتخاذ موقف ليس “نقدياً” فحسب، وإنما بالمعنى الأشد نقدية وصوتية لكلمة “نقد”، Krinein، موقف يتيح لنا أن نختار (Krinein)، ومن ثم أن نقرر وأن نقطع على نحو حاسم في التاريخ وحول موضوع التاريخ. يقول بنيامين إنه الوحيد الذى يسمح لنا أن نتخذ موقفاً حاسماً Scheidende und entsheiclende Eingestellung فيما يتعلق بالوقت الحاضر مقاربة مميزة وحازمة” ص ص 299-300). كل عدم القابلية للتقرير (unten scheidbarkeit) متموقعة، محاصرة، متراكمة على جانب القانون droit، [جانب] العنف الأسطوري، أي العنف الذي يؤسس ويحفظ القانون droit. ولكن من ناحية أخرى تقف قابلية التقرير في جانب العنف الإلهي الذي يدمر القانون droit، يمكن لنا حتى ان نخاطر بالقول يفككه. القول بأن كل القابلية للتقرير توجد في جانب العنف الإلهي الذي يدمر القانون le droit يعني أن نقول على الأقل شيئين:
1. إن التاريخ في جانب هذا العنف الإلهي، والتاريخ تحديداً في تعارضه مع الأسطورة. لهذا السبب فهي بالفعل مسألة “فلسفة” تاريخ وأن بنيامين يحتكم في الواقع إلى “عصر تاريخي جديد” ein neues geschichtliches Zeitalter “حقبة تاريخية جديدة “(ص 300) عليها أن تعقب نهاية العهد الأسطوري، وتعترض الدائرة السحرية للأشكال الأسطورية للقانون droit، إلغاء عنف الدولة staasgewalt، عنف أو سلطة الدولة. سوف يكون هذا العصر التاريخي الجديد عصراً سياسياً جديداً شرط ألا تُربط السياسة بسيطرة الدولة، كما هي عند شميدت على سبيل المثال.
2. إذا كانت كل القابلية للتقرير مركزة في جانب العنف الإلهي في التراث اليهودي، فإن هذا سوف ينتهي إلى أن يؤكد ويعطي للمشهد الذي قدمه تاريخ القانون الذي يفكك نفسه ويعاني من الشلل بسبب عدم القابلية للتقرير، مادام ما يسميه بنيامين “جدل الصعود والهبوط” (ein dialektixches Auf und ab “الصعود والهبوط الجدليين) في العنف المؤسس أو الحافظ للقانون يشكل تذبذباً يجب فيه على العنف الحافظ أن يسلم نفسه دائماً لقمع أنماط العنف المضادة المعادية (unterdruckung der feindlichen gegenwalten). ولكن هذا القمع –والقانون، والمؤسسة القضائية، قمعيان بصفة جوهرية من وجهة النظر هذه- لا يكف أبداً عن إضعاف العنف المؤسسي الذي يمثله. وهكذا فإنه يدمر نفسه في مجرى هذه الدورة. لأن بنيامين يدرك هنا لمدى معين قانون التكرارية الذي يؤمن أن العنف المؤسس هو دائماً مؤسس في عنف حافظ يكرر دائماً تراث أصله ولا يحتفظ بشيء في النهاية سوي [بأساس] قُدِّر له من البداية أن يتكرر، ويحفظ، ويعاد تأسيسه. يقول بنيامين إن العنف المؤسس “ممثل” (reprasentiert) في العنف الحافظ.
أن نظن عند هذه النقطة أننا ألقينا الضوء وفسرنا بشكل صائب معنى، إرادة قول vouloir-dire نص بنيامين، بمعارضتنا بطريقة تقريرية قابلية العنف الإلهي، الثوري، التاريخي، ضد الدولة، ضد القانون-للتقرير من جانب، وعدم قابلية العنف الأسطوري لقانون الدولة للتقرير من جانب آخر، سوف يكون [معناه] التقرير بغاية السرعة وعدم فهم قوة هذا النص، حيث يلوح في سطوره الأخيرة فصل جديد من الدراما، أو حادث مفاجئ coup de theatre لا أستطيع أن أقسم أنه لم يكن مسبقاً موضوع تأمل من اللحظة التي رفع فيها الستار. ماذا يقول بنيامين بالفعل؟ أولاً هو يتحدث في [الصيغة] الشرطية عن العنف الثوري (revolutionare Gewalt): “إذا” يرى القانون ما وراء القانون، وضعه مؤمناً بوصفه عنفاً مباشراً ومجرداً، فإن هذا سوف يثبت من ثم أن العنف الثوري ممكناً. بعد ذلك سوف نعلم، غير أن هذه جملة شرطية، أنه هو هذا العنف الثوري الذي يمثل اسمه أنقى تجلٍ للعنف وسط البشر. ولكن لماذا يرد هذا الخبر في [الصيغة] الشرطية؟ هل هو أمر مؤقت وعارض فحسب؟ على الإطلاق لا. لأن القرار (Entscheidung) حول هذا الموضوع، القرار المحدد، [القرار] الذي يتيح لنا أن نعرف أو ندرك مثل هذا العنف الخالص والثوري بوصفه كذلك، هو قرار لا سبيل للوصول إليه من قبل الإنسان. هنا يتعين علينا أن نتعامل مع عدم قابلية للتقرير أخرى كلية، وأنا أحبذ أن أقتبس جملة بنيامين بمضمونها الكامل in extenso: “ولكنه ليس ممكناً ولا ملحاً أن يقرر الإنسان متى نفذ العنف المحض في حالة محددة”. Nicht gleich möglich, noch gleich dringend ist aber für Menchen die entscheidung, Wann reine gewalt in einem bestimmten Falle wirklich war “الأقل إمكاناً وأيضاً الأقل إلحاحاً بالنسبة للبشرية، على أي حال، هو تقرير متى قد تحقق العنف المحض في حالة معينة” (ص 300)
ينتج هذا من حقيقة أن العنف الإلهي، وهو الأكثر عدلاً الأكثر تاريخية، الأكثر ثورية، الأكثر قابلية للتقرير أو الأكثر تقريراً لا يخضع لأي تحدد إنساني، لأي معرفة أو لأي “يقين” قابل للتقرير من جانبنا. إنه لا يعرف أبداً في ذاته “بوصفه كذلك” وإنما في “آثاره” فحسب. وآثاره “غير قابلة للمقارنة” فهي لا تتوافق مع أي تعميم مفهومي. ليس هناك من يقين (Gewissheit) أو معرفة محددة عدا في مجال العنف الأسطوري، أي، [مجال] القانون، أي [مجال] غير القابل للتقرير الذي نتكلم عنه. “لأن العنف الأسطوري وحده، وليس الإلهي، سوف يكون مدركاً بوصفه كذلك بشكل يقيني، إن لم يكن في آثار قابلة للمقارنة…” (ص 300) حتى نكون تخطيطيين، هناك [نمطان] من العنف، عنفانgewalten متنافسان: على جانب، القرار (عادل، تاريخي، سياسي، وما إلى ذلك) العدالة ما وراء القانون والدولة، ولكن دون معرفة مقررة، وعلى الجانب الآخر، معرفة مقررة ويقين في مجال يبقى بنيوياً مرتبطاً بغير القابل للتقرير، [مجال] القانون الأسطوري للدولة. من جانب هناك القرار بغير يقين مقرر، على الجانب الآخر يقين غير القابل للتقرير ولكن بغير قرار. في أي حال، في شكل أو آخر، فإن غير القابل للتقرير يوجد في كل جانب، وهو الشرط العنيف للمعرفة أو الفعل. ولكن المعرفة والفعل دائماً منفصلان.
أسئلة: ماذا نطلق في المفرد، إذا ما كانت هناك [تسمية] تسمية واحدة فقط، على التفكيك، هل هو الأول أم الأخير؟ شيء آخر كلية أم شيء آخر ثانية؟ إذا ما وثقنا في مخطط بنيامين، فهل الخطاب التفكيكي حول غير القابل للتقرير أكثر يهودية (أم يهودية-مسيحية- إسلامية) أم إغريقية؟ أكثر دينية، أكثر أسطورية أم أكثر فلسفية؟ إذا لم أجب على الأسئلة التي تتخذ هذا الشكل، فليس ذلك فقط لأنني لست متأكداً من أن شيئاً مثل “التفكيك” يوجد في المفرد أو أنه ممكن. إنما أيضاً بسبب أنني أظن أن الخطابات التفكيكية كما تقدم نفسها في تعدديتها غير القابلة للاختزال تشارك بطريقة غير نقية، ملوثة، مفاوض عليها، نغلة وعنيفة في كل تعيينات القرابة هذه – دعونا نسميها يهودية-إغريقية لتوفير الوقت – فيما يتعلق بالقرار وما هو غير قابل للتقرير، ومن ثم، اليهودي والإغريقي، اللذان قد لا يكونا تماماً هو ما فكر فيه بنيامين بالنسبة لنا. وأخيراً ما يبقى أن يأتي في التفكيك، حيث أظن أن شيئاً آخر يجري في عروقه، ربما دون بنوة، هو دم مختلف كلية أو بالأحرى شيء مختلف كلية عن الدم.(14)
وهكذا حين أقول وداعاً أو إلى اللقاء adieu or au – revoir لبنيامين، فإنني أترك له مع ذلك الكلمة الأخيرة، أدعه يوقع، على الأقل إذا كان ذلك بمقدوره. لأنه من الضروري دائماً أن يوقع الآخر ودائماً ما يكون الآخر هو الذي يوقع أخيراً، بمعنى آخر، أولاً.
يستخدم بنيامين في سطوره الأخيرة، قبل أن يوقع نهائياً، حتى كلمة “نغل”. هذا باختصار هو تعريف الأسطورة، ومن ثم [تعريف] العنف المؤسس للقانون. القانون الأسطوري، ويمكن لنا أن نقول الخيال القانوني، هو عنف عليه أن “ينغل” bastardierete “الأشكال الابدية للعنف الإلهي النقي” “لقد نغلت الأسطورة العنف الإلهي [خلطته] بالقانون (mit dem Recht). ليس الاقتران غير الملائم، الأنساب غير النقية: ليس خليطاً من الدماء وإنما نغولة كان يمكن أن تخلق في جذورها قانوناً يجعل الدماء تفيض وتتطلب دفع الدم.
وعندئذ بمجرد أن حمل مسئولية هذا التفسير بشأن الأغريقي واليهودي يوقع بنيامين. إنه يتحدث بطريقة تقويمية، توجيهية، غير إخبارية، كما نفعل في كل مرة نوقع فيها. تعلن جملتان حيويتان ما ينبغي أن تكون عليه كلمات السر، ما ينبغي علينا أن نفعله، ما ينبغي علينا أن نرفضه، شر أو ضلال ما ينبغي أن يرفض (verwerflich). “ولكن علينا أن نرفض (verwerflich aber) كل العنف الأسطوري، العنف الذي يؤسس القانون، الذي قد نسميه العنف الحاكم (schaltende). ينبغي علينا أن نرفض أيضاً (verwerflich auch) العنف الذي يحفظ القانون، العنف المحكوم (die verwaltete gewalt) في خدمة الحكم” (الترجمة الإنجليزية، كما هو الحال غالباً، غير مشوقة): “ولكن كل العنف الأسطوري الصانع للقانون الذي يمكن أن نسميه تنفيذياً، هو مهلك، مهلك أيضاً. حفظ القانون، والعنف الإداري الذي يخدمه”، ص 300).
بعدئذ هناك الكلمات الأخيرة. الجملة الأخيرة. مثل البوق (shophar) في الليل أو على حافة الصلاة فإن المرء لا يعد يسمعه أو لا يسمعه بعد. وهو لا يوقع فقط، هذا الخطاب النهائي، شديد القرب من الاسم الأول لبنيامين، فالتر walter. إنه يسمي التوقيع أيضاً، العلامة، والخاتم، إنه يسمي الاسم وما يدعو نفسه “المطلق die waltende”. ولكن من يوقع؟ إنه الإله، الآخر كلية، وكما هو الحال دائماً، فإنه العنف الإلهي الذي كان عليه أن يسبق دائماً ولكن كان يمكن أيضاً أن يعطي كل الأسماء الأولى:
(“Die gottliche Gewalt, welche Insignium und siegel, niemals Mittel heiliger vollstreckung ist, mag die waltende heissen”)
“العنف الإلهي، هو علامة وخاتم إلا أنه ليس وسيلة أبداً للإعدام المقدس، ويمكن أن ندعوه العنف المطلق die waltende heissen ).( 15) جاك دريدا
حاشية
هذا النص الغريب مؤرخ. كل توقيع مؤرخ، ربما حين يهبط خاصة وسط عدة أسماء للرب. ويوقع فقط بالتظاهر بأنه يدع الرب نفسه يوقع. إذا كان هذا النص مؤرخاً وموقعاً (فالتر، 1921)، فإن لنا حقاً محدوداً فقط في أن ندعوه لينهض شاهداً سواء على النازية بشكل عام (التي لم تكن قد تطورت بعد بوصفها كذلك) أو على الأشكال الجديدة التي اتخذتها هناك النزعة العرقية ونزعة معاداة السامية اللتان لا تنفصلان عنها، أو حتى على الأقل على الحل النهائي: ليس فقط لأن مشروع وطرح الحل النهائي أتي فيما بعد وحتى بعد موت بنيامين، وإنما لأنه ضمن تاريخ النازية نفسه فإن الحل النهائي هو شيء يمكن أن يعتبره البعض نتاجاً لا مفر منه منقوشاً في عين مقدمات النازية، إذا ما كان لهذا الشيء هوية دقيقة يمكن أن تعزز هذا النوع من الكلام، بينما قد يفكر آخرون –بغض النظر عما إذا كانوا نازيين أو ألماناً- أن مشروع الحل النهائي هو حدث، بالفعل شيء جديد تماماً داخل تاريخ النازية وأنه يستحق بوصفه كذلك تحليلاً خصوصياً بشكل مطلق. لكل هذه الأسباب، لم يكن ليكون لنا الحق، أو كان سيكون لنا حق محدود، في أن نسأل أنفسنا فيما كان يمكن لبنيامين أن يفكر فيه، في منطق هذا النص (إذا ما كان له منطق واحد، وواحد فقط) بشأن كل من النازية والحل النهائي.
ومع ذلك وبطريقة معينة سوف أفعل هذا بالضبط وسوف أفعله بالذهاب ما وراء اهتمامي بهذا النص نفسه، من أجل حدثه وبنيته، لما يتيح لنا أن نقرأه عن صورة التفكير اليهودي والألماني عشية ظهور النازية –كما يقول أحدهم- من كل الأجزاء المقتبسة وكل الحواجز التي تنظم مثل هذه الصورة، للتقاربات المدوخة، والقلب الجذري للمؤيد والمعارض على أساس المقدمات المنطقية المشتركة أحياناً، إذا افترضنا أن كل هذه المشاكل قابلة للفصل فعلاً، وهو ما أشك فيه. لن أسال نفسي في الحقيقة ماذا فكر بنيامين نفسه بشأن النازية ومعاداة السامية، خاصة إذا ما كان لدينا وسائل أخرى لعمل ذلك، نصوص أخرى له. ولن أسأل ما الذي كان يمكن أن يفكر فيه فالتر بنيامين نفسه بشأن الحل النهائي وأية أحكام، وأية تفسيرات كان يمكن أن يقترحها. سوف أسعى إلى شيء آخر، بطريقة متواضعة وأولية. كيفما كانت المصفوفة المنطقية لهذا النص مبهمة ومحددة تضافرياً، وأيّاً كانت متحركة وقابلة للتحويل، وكيفما كانت قابلة للعكس، فإن فيها اتساقاً. يسم هذا الاتساق أيضاً عدداً من النصوص الأخرى لبنيامين، النصوص الباكرة والمتأخرة معاً. سأحاول آخذا في الاعتبار بعض العناصر الملحة في هذه الاستمرارية المتسقة أن أختبر عدة فرضيات من أجل إعادة تشكيل ليس بعض الكلام الممكن الذي يمكن أن [ينسب] إلى بنيامين وإنما الجوانب الأعظم للإشكالية والفضاء التفسيري الذي قد يكون قد نفش فيه خطابه حول الحل النهائي.
من ناحية، من المحتمل أنه كان سيعتبر الحل النهائي النتيجة القصوى لمنطق النازية الذي كان سيتوافق، إن أخذنا ثانية المفاهيم من نصنا مع:
1- تجذير الشر الذي ارتبط بالسقوط في لغة الاتصال، والتمثيل، والمعلومات، ومن وجهة النظر هذه، فقد كانت النازية بالفعل الصورة الأكثر انتشاراً لعنف الإعلام، والاستغلال السياسي للتقنيات الحديثة للغة الاتصالية، للغة الصناعية وللغة الصناعة، للتموضع العلمي الذي يرتبط به منطق العلامة الاتفاقية ولإضفاء الرسمية على أسلوبها.
2- التجذير الكلياني [التوتالتياري] لمنطق دولة (ونصنا هو بالفعل إدانة للدولة، وحتى للثورة التي تستبدل دولة بدولة أخرى، التي تنطبق أيضاً على كليانيات (توتاليتاريات) أخرى –ونحن نرى بالفعل تصوراً مسبقاً لمسألة جدال المؤرخ Historikerstreit).
3- الفساد الجذري والمميت للديمقراطية البرلمانية والتمثيلية من خلال شرطة حديثة لا يمكن أن تنفصل عنها، حتى أنها تغدو السلطة التشريعية الحقيقية ويأمر شبحها كلية الفضاء السياسي. من وجهة النظر هذه، فإن الحل النهائي هو في آن معاً قرار سياسي تاريخي من قبل الدولة، وقرار من قبل الشرطة، الشرطة العسكرية والمدنية، بدون أن يقدر أحد أبداً أن يتبين الواحد من الآخر وأن يعزو المسئوليات الحقيقية لأي قرار أيّاً كان.
4- تجذيراً وتوسيعاً كلياً للأسطوري، للعنف الأسطوري، في كل من لحظته التأسيسية التضحوية، ولحظته الأشد محافظة. وهذا البعد الأسطوري، الذي هو إغريقي جمالي (النازية مثل الفاشية، هي أسطورية، مؤغرقة Grecoid وإذا كانت تتوافق مع إضفاء جمالية على السياسي، فإنها جماليات التمثيل)، يستجيب أيضاً لعنف معين في قانون الدولة، لشرطتها ولتقنياتها، للحق منفصلاً كلياً عن العدالة، مثل عمومية المفاهيم الملائمة للبنية الجماهيرية mass structure بالتعارض مع اعتبار الفرادة والتفرد. كيف يمكن لنا أن نفسر بخلاف ذلك الشكل المؤسسي وحتى البيروقراطي، الصورة الزائفة لإضفاء الشرعية، للنزعة القضائية، احترام الخبير والمراتبية، بإيجاز، الكل القانوني وتنظيم الدولة الذي يطبع الطرح الصناعي-التقني والعلمي لـ”الحل النهائي”؟ أطلقت هنا أسطورية معينة عن الحق الطبيعي وكذلك التاريخي، من عنف أسسه وكذلك من (عنف) حفظه. وقد كانت النازية ثورة محافظة من اليمين.
ولكن، من ناحية أخرى ولهذه الأسباب عينها، لأن النازية تقود منطقياً إلى الحل النهائي وكذلك إلى حدها الخاص ولأن العنف الأسطوري للحق هو نظامها الحقيقي، يمكن لنا أن نفكر فقط، أي، أيضاً أن نتذكر تفرد الحل النهائي من مكان غير فضاء العنف الأسطوري لليمين. أن نقوم هذا الحدث، وما يربطه بالمصير، علينا أن نترك نظام الحق، [نظام] الأسطورة، [نظام] التمثيل [نظام] التمثيل السياسي-القانوني بمحاكمه ذات القضاة المؤرخين، (وكذلك أيضاً التمثيل الجمالي). لأن ما حاولت النازية أن تفعله، بوصفها التحقق النهائي لمنطق العنف الأسطوري: هو أن تستبعد الشاهد الآخر، أن تدمر شاهد النظام الآخر، [شاهد] العنف الإلهي الذي لا تقبل عدالته الاختزال إلى الحق، [شاهد] عنف مغاير لكل من نظام الحق (سواء تعلق بحقوق الإنسان أم بنظام التمثيل) ولنظام الأسطورة، وبمعنى آخر، لا يمكن لنا أن نفكر في فرادة حدث مثل الحل النهائي، بوصفه نقطة قصوى للعنف التمثيلي والأسطوري داخل نظامه الخاص. يتعين علينا أن نحاول التفكير به بدءاً من آخره، وهذا يعني بدءاً مما حاول أن يستبعد ويدمر، أن يبيد جذرياً، من ذلك الذي غشيه لأول وهلة من الخارج ومن الداخل. يتعين علينا أن نفكر به بدءاً من إمكان الفرادة، فرادة التوقيع و[فرادة] الاسم، لأن ما حاول نظام التمثيل أن يبيده لم يكن الحيوات البشرية بالملايين فحسب، الحيوات الطبيعية وإنما أيضاً طلباً للعدالة، وللأسماء أيضاً: وقبل كل شيء إمكان العطاء، نقش، مناداة وإعادة تذكر الاسم. ليس فقط لأنه كان هناك تدمير أو مشروع تدمير للاسم ولعين ذاكرة الاسم، للاسم كذاكرة، وإنما أيضاً لأن نظام العنف الأسطوري (الموضوعي، التمثيلي، الاتصالي، إلى آخره) ذهب بعيداً إلى نهاية حده، بطريقة شيطانية، على جانبي الحد: في الوقت نفسه: فقد حفظ أرشيف تدميره، أنتج صورة زائفة عن حججه التبريرية، مع موضوعية دولتية وبيروقراطية مرعبة قانونياً. وأنتج نظاماً [مما يمثل] مفارقة جعل فيه منطقه، منطق الموضوعية من الممكن إبطال ومن ثم طمس الشهادة، والمسئوليات، تحييد فرادة الحل النهائي، باختصار، فقد أنتج إمكان التحريف التاريخي الذي كان بمقدوره أن ينهض سنداً لكل من منطق التحريفية (حتى أكون موجزاً، دعونا نقول من نمط فوريسون Faurisson Type) وكذلك لموضوعية وضعية، مقارنة أو نسبية (مثل تلك التي ترتبط الآن بجدال المؤرخ Historikerstreit) التي يفسر وفقاً لها وجود نموذج كلياني [توتاليتاري] مناظر و[نموذج] إبادة أسبق (الجولاج) الحل النهائي، وحتى “يجعله طبيعياً” كعمل من أعمال الحرب، استجابة كلاسيكية من الدولة في وقت الحرب ضد يهود العالم، الذين، إن تحدثنا من خلال فم وايزمان في 1939، كانوا، إجمالاً، مثل شبه دولة أعلنوا الحرب على الرايخ الثالث.
من وجهة النظر هذه لربما حكم بنيامين عبثاً بدون وثوق صلة بالموضوع –في أي حال بدون وثوق صلة بالموضوع متناسبة مع الحدث، أي محاكمة قانونية للنازية، ومسئوليتها، وأي جهاز قضائي، أي تأريخ رسمي لايزال متجانساً مع الفضاء الذي طورته النازية حتى وبما فيه الحل النهائي، أي تفسير ينهل من المفاهيم الفلسفية، أو الأخلاقية، أو الاجتماعية، أو النفسية، أو التحليلية النفسية وخاصة المفاهيم القانونية (بصفة أخص تلك التي تتعلق بفلسفة الحق، سواء كانت [مفاهيم] القانون الطبيعي، في النمط الأرسطي أو نمط التنوير Aufklarung). لربما حكم بنيامين عبثاً، ودون وثوق صلة بالموضوع، في أي حال وثوق صلة متناسبة مع الحدث، أي موضعة تاريخية أو جمالية للحل النهائي الذي سوف لا يزال ينتمي، مثل كل موضعة، إلى نظام ما هو قابل للتمثيل وحتى القابل للتحديد، للحكم المحدد والقابل للتقرير. تذكروا ماذا كنا نقول منذ لحظة مضت: في نظام عنف الحق الردئ، أي النظام الأسطوري، ينشأ الشر من عدم قابلية معينة للتقرير، من حقيقة أنه لا يمكن لنا أن نميز بين العنف المؤسس، والعنف الحافظ، لأن الفساد كان جدلياً وحتمي جدلياً هناك، حتى كحكم نظري وتمثيل كانا قابلين للتحدد أو محددين هناك. على النقيض، بمجرد أن نترك هذا النظام، يبدأ التاريخ –وعنف العدالة الإلهية- ولكن هنا نحن البشر لا نستطيع أن نُقوم الأحكام، وهو ما يعني القول تفسيرات قابلة للتقرير. هذا يعني أيضاً أن تفسير الحل النهائي، مثله في ذلك مثل كل شيء يؤلف وضع وحد النظامين (الأسطوري والإلهي) ليس في مقدور الإنسان. ما من أنثروبولوجيا، ما من نزعة إنسانية، ما من خطاب للإنسان حول الإنسان، حتى حول حقوق الإنسان، يمكن أن يكون متناسباً مع القطيعة بين الأسطوري والإلهي، أو مع حد التجربة مثل [تجربة] الحل النهائي. يحاول مثل هذا المشروع ببساطة تامة أن يبيد آخر العنف الأسطوري، آخر التمثيل: المصير: العدالة الإلهية ولما يمكن أن ينهض شاهداً عليهما، بمعنى آخر الإنسان إلى الحد الذي يكون فيه وحده من لم يتلق اسمه من الرب، فإنه قد تلقى من الإله سلطة ومهمة التسمية، أن يعطي اسماً لنوعه وأن يعطي الأشياء أسماءها. أن تسمي ليس أن تمثل، ليس أن تتصل بواسطة العلامات، أي بواسطة وسيلة تهدف إلى غاية، إلى آخره. بمعنى آخر، لقد ينتمي هذا الخط من التفسير لتلك الإدانة الساحقة الفظيعة للتنوير Aufklarung التي كان بنيامين قد صاغها بالفعل في نص لعام 1918 نشره شولم في عام 1963 على شرف أدورنو في عيد ميلاده الستين.
لا يعني هذا أنه يتعين علينا ببساطة أن نتبرأ من التنوير ومن لغة الاتصال أو التمثيل لحساب لغة التعبير. في يوميات موسكو في عام 1926-27، يعين بنيامين أن التناقض بين اللغتين وكل ما تستلزمانه لا يمكن أن يبقى ويعرض في حالة نقية، حيث أن “المساومة” ضرورية أو حتمية بينهما. مع ذلك تبقى هذه مساومة بين بُعدين غير متناسبين ومغايرين جذرياً. ربما كان هذا واحداً من الدروس التي يمكن أن نستخلصها هنا: الطبيعة المهلكة للمساومة بين نظامين مغايرين، أضف إلى ذلك، أنها مساومة، باسم العدالة التي قد تأمرنا أن نطيع في الوقت نفسه قانون التمثيل (التنوير Aufklarung العقل، التموضع، المقارنة، التفسير، أخذ التعدد في الاعتبار ومن ثم تسلسل المتفرد) والقانون الذي يتعالى على التمثيل ويستبقى المتفرد، كل تفرد بدءاً من إعادة نقشه في نظام تعميمي أو في [نظامٍ] المقارنة.
ما أجد، في الاستخلاص، الأكثر ترويعاً، بالفعل (ربما، تقريباً) ما لا يطاق في هذا النص، حتى ما وراء الصلات التي يبقيها مع الأسوأ (نقد التنوير Aufklarung، نظرية السقوط والأصالة الحقيقية، التناقض بين اللغة الأصلية واللغة الساقطة، نقد التمثيل والديمقراطية البرلمانية، إلخ)، هو إغواء قد يترك مفتوحاً، يترك مفتوحاً للناجين أو ضحايا الحل النهائي خاصة، لماضيه، لحاضره أو لضحاياه المحتملين. أي إغواء؟ إغواء التفكير في الهولوكوست كتجل غير قابل للتفسير للعنف الإلهي إلى الحد الذي قد يكون فيه هذا العنف الإلهي في الوقت نفسه مبيداً، تكفيرياً وبغير دماء، يقول بنيامين، إن عنفاً إلهياً قد يدمر القانون الحالي عبر عملية غير دموية تضرب وتؤدي إلى التكفير. هنا سوف أعيد –الاستشهاد ببنيامين: “يمكن أن نقابل أسطورة نيوبي Niobe، كمثل عن هذا العنف، مع حكم الرب على جماعة قورح Kohra (العدد 16: 1-35). إنه يضرب اللاويين أصحاب الامتياز، يضربهم بدون إنذار، بدون تهديد، ويكاد يقترب من الإبادة. ولكن في فعل إبادته تكفير أيضاً، وهناك صلة عميقة لا يمكن أن يخطئها النظر بين عدم إراقة دماء والطابع التكفيري لهذا العنف. (ص 297). حين نفكر في غرف الغاز وأفران إحراق الجثث، فإن هذه الإشارة الضمنية لإبادة قد تكون تكفيرية لأنها بغير دماء لابد وأن تروعنا. إننا لنرتعب من فكرة تفسير قد يجعل من الهولوكوست تكفيراً وتوقيعاً غير قابل لفك شفرته آت من العنف الغاضب والعادل للرب.
عند هذه النقطة يبدو لي أن هذا النص، رغم كل حركته متعددة المعاني وكل مصادرة ليكون عكسياً، يشبه في النهاية بشكل غاية الشبه، مسألة افتتان المرآة والدوار، عين الشيء الذي علينا أن نفكر ونتصرف ضده، نفعل ونتكلم، الذي ينبغي علينا أن نقطع معه (ربما، ربما). لا يزال هذا النص مثل عديد من النصوص الأخرى لبنيامين غاية في الهيدجرية، غاية في الماركسية – الإصلاحية أو الأخروية البدئية بالنسبة لي. لا أدري ما إذا كان يمكن لنا أن نستخلص من هذا الشيء الذي لا اسم له الذي يدعى الحل النهائي شيئاً ما لا يزال يستحق اسم درس. ولكن إذا ما كان هناك درس يستخلص، درس فريد ضمن الدروس المتفردة دائماً للقتل، حتى من قاتل فرد، من كل الإبادات الجماعية في التاريخ (لأن كل قاتل فرد وكل قاتل جماعي متفرد ومن ثم لا نهائي وغير قابل للقياس) الدرس الذي نستطيع أن نستخلصه اليوم – إذا استطعنا أن نفعل ذلك فما يتعين علينا –هو أننا ينبغي أن نفكر، نعرف، نمثل لأنفسنا، نشكل، نحاكم الاشتراك الممكن في الجريمة بين كل هذه الخطابات والأسوأ (هنا الحل النهائي). يعين هذا من وجهة نظري، مهمة ومسئولية الفكرة الرئيسة (نعم، الفكرة الرئيسة) التي لم أكن قادراً على قراءتها سواء في “تفكيك” بنيامين أو في “التفكيك” [التقويض] Destruktion الهيدجري. إنها فكرة الاختلاف بين هذين التفكيكين من ناحية وتأكيد تفكيكي من ناحية أخرى هي التي قادتني الليلة في هذه القراءة. إنها هذه الفكرة وهي أن ذكرى الحل النهائي كما يبدو لي هي التي تملي.
هوامش
** FORCE OF LAW: THE ” MYSTICAL FOUNDATION OF AUTHORITY” JACQUES DER, PP3-63.
DECONSTRUCTION AND THE POSSIBILITY OF JUSTICE, EDITED BY DRUCILLA CORNELL, MICHEL ROSENFELD AND DAVID GRAY CARLSON. ROUTLEDG, UK. 1992.
قامت بالترجمة ماري كوينتانس. ويود المؤلف أن يشكر سام ويبر على مساعدته في المراجعة النهائية لهذا النص. وعدا بعض الهوامش التي أضيفت بعد الحدث، يتطابق هذا النص مع الطبعة التي وزعت في الحلقة الدراسية حول “التفكيك وإمكان العدالة” ( أكتوبر 1989، مدرسة كاردوزو للقانون )، الذي قرأ منه جاك دريدا الجزء الأول فقط لإفتتاح الجلسة، وبسبب الإفتقار إلى الوقت، لم يتمكن دريدا من إكمال العمل الذي كان في طور الإنجاز، والذي يمثل هذا طبعة أولية منه فحسب. أضف إلى ذلك، فإن الجزء الثاني من المحاضرة، أي القسم الذي لم يقرأ تحديداً، وإنما نوقش فقط في نفس الحلقة الدراسية، كان قد ألقى في 26 إبريل، عام 1990 لإفتتاح حلقة دراسية، نظمها ساول فريدلاندر في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس عن النازية و”الحل النهائي”: سبر حدود التمثيل.
(1) حول المواربة انظر كتابي من القانون إلى الفلسفة (باريس: جاليله 1990)، خاصة ص ص 71 وما يليها، وكذلك “انفعالات: تقدمة مواربة” دريدا: سلسلة القارئ النقدي، تحرير دافيد وود (لندن، بلاكويل، 1992م).
(2) حول فكرة الائتمان هذه انظر كتابي الزمان المعطى: نقود زائفة، ترجمة بيجي كاموف، تحت الإصدار من مطبعة جامعة شيكاغو.
(3) مينابوليس: مطبعة جامعة مينيسوتا، 1987.
(4) حول الحيوانية، انظر كتابي عن الروح: هيدجر والسؤال، ترجمة جيوفري بنينجتون وراشيل بوولباي (شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو 1989) وقد جمعت بعض المراجع الأخرى في هذا المجلد. أما بالنسبة للأضحية، انظر الحوار مع جان لوك نانسي، ترجمة بيترت، كونور في مجلة توبوي، المجلد 7، العدد 2.
(5) أما فيما يخص ما يشكل “صنع الحقيقة”، كما كان يقول القديس أوغسطين، انظر كتابي شبه اعترافات circonfession، في جيوفري بنينجتون وجاك دريدا، جاك دريدا (باريس: لوسوي 1991).
(6) ملاحظة الناشرين: يؤلف ما يلي مدخل هذا الجزء الثاني من المقال وقد استخدم كمحاضرة ألقيت في الحلقة الدراسية التي عقدت بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس تحت عنوان: “النازية” والحل النهائي”:
لقد ظننت سواء كان ذلك صواباً أم خطأ، أنه لن يكون من غير الملائم تماماً أن أسائل نص فالتر بنيامين في افتتاح مثل هذا اللقاء حول النازية، الحل النهائي، وحدود التمثيل، وهو مقال فريد كتب عام 1921، واتخذ عنوان نقد العنف zür kritk der Gewalt، خاصة أن محاضرتي قد قدمت أيضاً (وقد شرفتني كثيراً تلك الاستضافة المزدوجة) تحت رعاية مركز الدراسات النقدية والعلوم الإنسانية. إذا كنت قد اخترت أن أقدم قراءة مغامرة إلى حد ما لنص بنيامين هذا، فقد كان ذلك لعدة أسباب يمكن أن توجز هنا:
1- أعتقد أن هذا النص الملتبس بفظاعة، المبهم، غير السهل تستحوذ عليه مقدماً، (هل يمكن لنا أن نقول هنا مقدماً؟) إن جاز القول، موضوعه التقويض الجذري، الإفناء، الإبادة الكلية، بدءاً بإبادة القانون والحق، إن لم يكن العدالة، ومن بين هذه الحقوق، حقوق الإنسان، على الأقل مثل هذه الحقوق التي تفسر ضمن تقليد القانون الطبيعي من النموذج الإغريقي أو من نمط التنوير “Aufklärung”. إنني أقول عمداً بأن هذا النص تستحوذ عليه موضوعات العنف المبيد لأنه قبل كل شيء، وكما سأحاول أن أبين قد استحوذ عليه الاستحواذ نفسه، من شبه منطق شبح، ولأنه الأعتى، فينبغي أن يستعاض عنه بمنطق أنطولوجي للحضور، غياب أو تمثيل. الآن، أسأل نفسي ما إذا كانت الجماعة التي تأتلف أو تجتمع حتى تفكر فيما ينبغي أن يُفكر فيه وخلصت إلى هذا الشيء الذي لا اسم له الذي دُعي الحل النهائي، فلا ينبغي أن تظهر استعدادها، قبل أي شيء، للترحيب بقانون الشبح، التجربة الطيفية وذاكرة الشبح، لذلك الذي ليس حياً أو ميتاً، فهو أكثر من ميت وأكثر من حي، إنه يبقى فقط، قانون الذاكرة الأشد طغياناً، حتى وإن كانت الأشد طمساً، وإن كانت الأشد قابلية للطمس، ولكن لهذا السبب بالذات فهي الأكثر تطلباً.
إن نص بنيامين هذا ليس موقعاً فقط من قبل مفكر اعتُبر واعتبر نفسه، بطريقة ما، يهودياً (وأنني لأود أن أتكلم بصفة خاصة عن لغز هذا التوقيع). إن نقد العنف مكتوب أيضاً في منظور يهودي يعارض العنف الإلهي (اليهودي) العادل الذي سوف يدمر القانون بالعنف الأسطوري (في التقليد الإغريقي) الذي سوف يسن ويحفظ القانون.
2- يؤدي المنطق العميق لهذا النص إلى تفسير اللغة –لأصل وتجربة اللغة- الذي وفقاً له يعتري الشر اللغة، أي القوة المهلكة، بواسطة التمثيل تحديداً، بمعنى آخر بواسطة هذا البعد للغة بوصفها وسيلة للاتصال أي إعادة تمثيل Re-presentation، للتوسط، ومن ثم إشارية نفعية فنية، إخبارية – كل من هذه القوى التي تقتلع اللغة وتسبب تدهورها، وسقوطها بعيداً عن أو خارج مصيرها الأصلي الذي كان التكنية، التسمية، الإعطاء أو الإغواء أو الحضور في الاسم. سوف نسأل أنفسنا كيف يتمفصل هذا التفكير عن الاسم مع الاستحواذ ومنطق الطيف. مقالة بنيامين هذه التي تعالج الشر الآتي هكذا والذي يأتي إلى اللغة من خلال التمثيل، هي أيضاً مقالة تلعب فيها المسئولية، واستحقاق اللوم، والتضحية، والقرار، والحل، والعقوبة أو التفكير –دوراً عظيماً، دوراً يرتبط غالباً بقيمة ما هو شيطاني “ملتبس بطريقة شيطانية” (dämonisch zweideutung).
3- إن كتاب نقد العنف هو نقد للتمثيل ليس فقط بوصفه انحرافاً وسقوطاً للغة، وإنما كنظام سياسي للديمقراطية البرلمانية الشكلية. من وجهة النظر هذه، فإن هذه المقالة الثورية (ثورية بأسلوب خلاصي messianic وماركسي في نفس الوقت) تنتمي إن جاز القول، في عام 1921، إلى الموجة الكبرى المعادية للتنوير” Aufklärung” التي اعتلتها النازية حتى تبددت في العشرينيات وبداية الثلاثينيات.
4- وضعت مسألة التمثيل متعددة الوجوه والمعاني هذه كذلك من وجهة نظر أخرى في هذه المقالة الغريبة. بعد أن بدأت بالتمييز بين نوعين من العنف، العنف المؤسس والعنف الحافظ، لابد وأن يسلم بنيامين في لحظة ما بأنه لا يمكن لأي منهما أن يكون مغايراً إلى هذا الحد للآخر مادام العنف الذي يسمي العنف المؤسس يمثل (repräsentieren) أحياناً بالعنف الحافظ.
لكل هذه الأسباب واستناداً على كل هذه الخيوط المتشابكة التي سوف أعود إليها، يمكن أن نسأل أنفسنا عدداً معيناً من الأسئلة سوف تكون في أفق قراءتي حتى لو لم يتوفر لي الوقت أو الوسائل لأجعلها واضحة هنا. كيف كان يمكن لبنيامين أن يفكر، أو على الأقل أي فكرة لبنيامين كان يحتمل أن تشكلها أو تمفصلها هذه المقالة –وهل كان يمكن استباقها- حول “الحل النهائي”، ومشروعه، وبدء تنفيذه mise en oeuvre وتجربة ضحاياه، الأحكام، المحاكمات، التفسيرات، السرد، تفسير التمثيلات التاريخية الأدبية التي حاولت أن تتناسب معه؟ كيف كان يمكن لبنيامين أن يتحدث، كيف كان يرغب في أن نتحدث، أن نمثل، أو أن نمنع أنفسنا من تمثيل “الحل النهائي”؟ كيف كان يمكن له أن يعين هويته، أن يحدد أماكن فيه، أصولاً له، مسئوليات له (كفيلسوف، كمؤرخ، كقاض أو قانوني، بوصفه أخلاقياً، مؤمناً، شاعراً، صانع أفلام). إن التعدد الممعن في التفرد لهذه الشفرات التي تتجمع في هذا النص، إن صرفنا النظر عن النصوص الأخرى، تطعيم لغة الثورة الماركسية بلغة الثورة الخلاصية، كلتاهما تعلنان ليس فقط حقبة تاريخية جديدة، وإنما أيضاً بداية تاريخ حقيقي استؤصلت منه الأسطورة، كل هذا يجعل من الصعب اقتراح أي فرضية عن خطاب بنيامين حول إمكان أو عدم إمكان خطاب عن “الحل النهائي”. الحل النهائي الذي سوف يكون من الاستهتار القول اعتماداً على التواريخ الموضوعية لمؤتمر فانزيه wannsee في عام 1942 وانتحار بنيامين على الحدود الإسبانية-الفرنسية في عام 1940، أن بنيامين لم يعلم شيئاً عنه. والحال يمكن لنا دائماً أن نجد طرقاً لتدعيم الفرضية القائلة بأن بنيامين لم يفكر بالفعل في عام 1921 في شيء آخر سوى في إمكانية هذا الحل النهائي الذي سوف يكون أكثر تحدياً لنظام التمثيل الذي عساه أن يكون قد نشأ، من وجهة نظره، من الشر الجذري، من السقوط بوصفه سقوط اللغة إلى التمثيل. وإذا اعتمدنا على منطق ثابت في خطابه، فإن كثيراً من العلامات signs تتيح لنا أن نفكر أنه بالنسبة لبنيامين، بعد هذا الشيء غير القابل للتمثيل الذي كان سيكونه “الحل النهائي”، ليس فقط الخطاب والأدب والشعر غير ممكنة وإنما، باتت أشد أصلية وأخروية مما كانت أبداً، ولابد أن تقدم نفسها لإملاء عودة أو مقدم لغة الأسماء التي لا زالت موعودة، لغة أو شعريات التسمية، في تعارضها مع لغة العلامات، مع التمثيل الإخباري أو الاتصالي: ما وراء التمثيل والأسطورة ولكن ليس وراء لغة الأسماء. وهو شيء حاولت أن أبينه في مكان آخر عن سيلان celan بصدد موضوع الوقائع والتواريخ. في النهاية، بعد نهاية القراءة التي سيظهر في مسارها أفق النازية والحل النهائي فقط عبر العلامات signs أو بوارق خاطفة من التوقع وسوف تعالج فقط وفق نمط واقعي موارب أو موجز، سوف أقترح بعض الفرضيات حول الوسائل التي يمكن أن يقرأ بها اليوم هذا النص الذي يعود إلى عام 1921، بعد حدث النازية وحدث الحل النهائي.
قبل أن أقترح قراءة لهذا النص الفريد، وقبل أن أمفصل بعض المسائل التي تتعلق به بشكل أكثر دقة، عليَّ أيضاً أن أقول بضع كلمات، في هذه المقدمة الطويلة للغاية، حول السياقات التي بدأت أقرأ فيها هذه المقالة. كان هذا السياق مزدوجاً وسوف أعينه بشكل خطاطي قدر الإمكان، بينما سوف أقتصر على الجوانب التي تهمنا هنا، هذه الأمسية، لأنها قد تركت بعض الآثار في قراءتي.
1- قبل كل شيء، ضمن حلقة بحث لثلاثة أعوام حول “الفلسفات القومية والقوميات” وقد كانت هناك سلسلة لعام كامل عنوانها الفرعي كانط، اليهودي، الألماني، التي فيها، حال دراسة العودة الملحاحة والمتنوعة للرجوع إلى كانط، وبالفعل إلى يهودية معينة عند كانط، في جانب كل هؤلاء الذين، سعوا إلى أن يجيبوا على سؤال “ماهو الألماني؟” was ist Deutsch?، من فاجنر ونيتشه حتى أدورنو، أصبحت شديد الاهتمام بما اسميته حينئذ النفسية اليهودية الألمانية، أي منطق ظواهر معينة لنوع مزعج من التأمل (كلمة physché تعني أيضاً في الفرنسية نوعاً من المرآة) الذي انعكس هو نفسه عند بعض كبار المفكرين من اليهود الألمان في هذا القرن: كوهن، ببر، روزن زفايج، شولمر، أدورنو، آرندت- وتحديداً بنيامين. أعتقد أن تأملاً جاداً حول النازية –و”الحل النهائي”- لا يمكن أن يتفادى تحليلاً متعدد الجوانب، لا متناهياً، وشجاعاً لتاريخ وبنية هذه “النفسية” اليهودية الألمانية. لقد درسنا من ضمن أشياء أخرى لا أستطيع الخوض فيها هنا، بعض التناظرات التي كانت في بعض الأحيان من أشد الأنواع إقلاقاً والتباساً، حيث يظهر خطاب بعض المفكرين الألمان الكبار “وبعض المفكرين اليهود الألمان الكبار”، نزعة وطنية ألمانية معينة، غالباً قومية ألمانية، وأحياناً حتى نزعة عسكرية ألمانية (خلال وبعد الحرب العالمية الأولى)، وهي أبعد من أن تكون بالمثل الوحيد، على سبيل المثال عند كوهن أو روزن زفايج، أو إلى حد معين، عند هوسرل. توجد في هذا السياق صلات معينة غير أنها قابلة للتحديد بين نص بنيامين وبعض نصوص كارل شميدت، وحتى نصوص هيدجر، بدأت تأسر اهتمامي. ليس بسبب عداوتها للديمقرطية البرلمانية فقط، وحتي للديمقراطية بوصفها كذلك، أو للتنوير Aufklärung، ليس فقط بسبب تفسير معين للجدال polemos، للحرب، العنف واللغة، وإنما أيضاً بسبب أطروحة “التفكيك” التي كانت شديدة الانتشار في ذلك الوقت. رغم أن التقويض Destruction الهيدجري لا يمكن أن يلتبس بمفهوم التفكيك الذي كان أيضاً بؤرة تفكير بنيامين، إلا أننا قد نسأل أنفسنا أيضاً علام تدل هذه الموضوعية الهاجسية ولأي شيء تعد أو تستبق بين الحربين، وأكثر على هذا النحو، حتى أن هذا التفكيك في كل حالة، قد سعى أيضاً لأن يكون شرط تقليد وذاكرة أصليين، ولمرجعية للغة أصلية.
2- سياق أخر: بمناسبة حلقة دراسية عقدت مؤخراً في مدرسة كاردوزو للقانون في يشيفا بجامعة نيويورك حول موضوع “التفكيك وإمكان العدالة”، بدأت، بعد تمعن طويل في “التفكيك والعدالة”، في فحص هذا النص الذي كتبه بنيامين من وجهة نظر أخرى. لقد تتبعت هناك تحديداً، وبكل الحذر الممكن، مساراً مرعباً، مسار ذو طابع إحراجي ومنتج في الوقت نفسه لأحداث غريبة في عين إحراجيتها، نوع من التدمير الذاتي، إن لم يكن انتحاراً للنص، الذي لا يدع تراثاً آخر يظهر سوى عنف توقيعه –غير أنه توقيع إلهي. كيف يمكن قراءة هذا النص بمنحى تفكيكي، الذي ليس اليوم أكثر من اي يوم آخر هيدجرياً أو بنيامينياً؟ بإيجاز، هذا هو السؤال المهم الصعب الذى تريد هذه القراءة أن تخاطر بإنتاجه.
(7) النفسية: اختراع الآخر “ترجمة كاثرين بوتر، في قراءة دي مان (مينابوليس: مطبعة جامعة مينيسوتا، 1989) ص36.
(8) انظر “إعلان الاستقلال”، ترجمة توم كينان، وتوم بيبر، مجلة علم سياسي جدبد، العدد 15، الصيف، ص ص 7-15.
(9) انظر: “أمام القانون”، ترجمة أفيتال رونل، في كتاب كافكا أو الإنجاز النقدي المعاصر: قراءة في الذكرى المئوية، تحرير آلان يودف. (بلومينجتون، إند: مطبعة جامعة إنديانا، 1978).
(10) انظر دراستي: Rhétorique de la drogue, “in Autrement, no 106.
(11) انظر دراستي: Memoires d aveugle. L autoportrait et autres ruines (Paris, Réumion des Musee Nationaux, 1990).
(12) انظر دراستي: عن الروح، المصدر نفسه، وكذلك:
“Philopolemogy, Heidgger s Ear (Geschlecht IV)”، تحت الإصدار، مطبعة جامعة إنديانا.
(13) مما لاشك فيه أن هذا البُعد “الأسطوري” للقانون بصفة عامة يمكن أن يُمد، وفقاً لبنيامين ليشمل أي نظرية عن “حقوق الإنسان”، على الأقل إلى المدى الذي لا تنطلق فيه الأخيرة مما يسميه هذا النص “العنف الإلهي” (göttliche Gewalt).
(14) عند وضع نص بنيامين هذا تحت اختبار ضرورة تفكيكية معينة، على الأقل مثلما هو معين لي الآن فإنني أتوقع عملاً مسهباً ومتماسكاً: حول العلاقة بين هذا التفكيك، ما يسميه بنيامين “destruction” (zerstörung) التقويض “Destruktion” الهيدجري (الذي عرضت له قبلاً والذي سوف أعود إليه في مكان آخر وخاصة في:
“Philopolemogy, Heidgger s Ear (Geschlecht IV)”
(15) هذا “اللعب” بين الفعل walten والاسم فالتر Walter لا يحتمل أي برهان أو أي يقين. وهو إضافة إلى ذلك، مفارقة قوته “البيانية”: تنجم هذه القوة من الانفصال بين الإثباتي والإدراكي الذي تحدثت عنه منذ وهلة مضت (وكذلك في مكان آخر) وتحديداً بصدد التوقيع. ولكن عند مقاربة السر المطلق، فليس هذا “اللعب” ساخراً بأي حال أو بغير مبرر. لأننا نعرف أيضاً أن بنيامين كان معنياً على الأخص برواية جوته الانساب المختارة، وبالمصادفات ذات المغزى التي تجري عرضاً وتجد موقعها بدقة في أسماء الأعلام.
ولسوف أغوي بأن أعطي هذه الفرضية حتى فرصة أفضل بعد أن قرأت مقال يوخن هوريش Jochen Hörische الممتاز والمعنون:
“L ange satanique et le bonheur-Les nomes de Walter Benjamin” in Weimar: Le tournant esthétique G. Raulet. Ed. (Paris 1988).
اترك تعليقاً