استقلال القضاء و المحاماة في الوطن العربي
1- الديمقراطية و فصل السلط: تقوم السياسات الليبرالية المعاصرة التي انبنت على أفكار منظري عصر النهضة و فلاسفة عصر الأنوار، على مجموعة من المبادئ. و الديمقراطية أهم هذه المبادئ في الجانب المتعلق بممارسة السلطة. و ترتكز الديمقراطية من بين ما ترتكز عليه، على مبدأ فصل السلط السيدة داخل الدولة بعضها عن البعض الآخر، و المتمثل في وجود استقلال بين مختلف الجهات الممارسة للسيادة.
2- أهمية استقلال السلطة القضائية: فلتكون السلطة سيدة، لا يمكن البتة أن تكون خاضعة. و القضاء من بين مظاهر السيادة الثلاثة، أهم سلطة تظهر فيها ضرورة الاستقلال:
ü مقارنة مع السلطة التشريعية، فالقضاء أكثر مواجهة للمواطنين، لأن المشرع لا يقوم إلا بوضع القواعد القانونية الواجبة الاتباع، أي التي يفترض فيها تقويم السلوك داخل المجتمع. في حين أن القضاء هو من يتصدى لخارقها، أي أنه من يقوم السلوك الذي يخرق التشريع. فيكون في علاقة مباشرة مع المخاطبين بأحكام القانون.
ü و قد يقال إن السلطة التنفيذية هي الأخرى في اتصال مباشر مع الأفراد، و من ثمة تبدت ضرورة استقلالها، غير قليلة الأهمية مقارنة مع استقلال السلطة المشرفة على تطبيق القانون لاتحاد العلة. و لكن الحقيقة أن استقلال الجهات المشرفة على تطبيق القانون و احترامه، أكثر أهمية من استقلال السلطة التنفيذية، لا لشيء إلا لأن هذه الأخيرة في الحقيقة هي السلطة الأصلية التي انبثقت عنها السلطتان الأخريان. أي أنها الدولة التي لا تعدو أن تكون في واقع الأمور مخاطبا – و لكن سيدا – بأحكام القانون، يمتثل له حينا و يخالفه أحيانا، لتنتج عن هذه المخالفات أوضاع شاذة تستوجب تدخل السلطة الموكول إليها ضمان احترام القانون لإعادة الأمور لنصابها.
و هنا بالذات تظهر ضرورة استقلال الجهات المشرفة على تطبيق القانون عن باقي السلط في الدولة، سواء تعلق الأمر بالقضاء كسلطة تطبقه بصفة مباشرة، أم بالمحاماة كرسالة تيسر للقضاء بلوغ مبتغاه و إدراك مراده في تحقيق العدالة. فكيف ضمنت النظم العربية هذا الاستقلال، إن نظريا أم عمليا؟
أولا:استقلال القضاء و المحاماة على المستوى النظري
3- استقلال القضاء في الدساتير العربية: تتباهى أغلب الدول العربية، إن لم نقل كلها، باعتبار استقلال القضاء مبدأ دستوريا يتعين على باقي سلطاتها احترامه، و يتوجب على قانونها تكريسه. و قد تعددت العبارات المستعملة في هذا الصدد من طرف المشرعين الأساسيين في الدول العربية. فمن الدساتير من يقتصر على اعتبار القضاء مستقلا عن السلطتين التشريعية و التنفيذية، دون أن يرفعه إلى مصاف السلطة بالمعنى اللفظي للكلمة، كما هي حال الفصل 82 دستوري مغربي. و منها من لا يتحدث إلا عن استقلال القضاة كأشخاص رغم اعتباره القضاء سلطة، حيث نصت المادة 97 من الدستور الأردني الواردة في الفصل السادس منه نحن عنوان “السلطة القضائية”، على أن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون. و من الدساتير العربية من يعتبر القضاء سلطة كقرينتيه التشريعية و التنفيذية، مشيرا صراحة إلى استقلاله كما هي حال المادة 123 دستوري سوداني التي تنص في فقرتها الثانية على أن السلطة القضائية مستقلة عن الهيئة التشريعية و السلطة التنفيذية و لها الاستقلال المالي و الإداري اللازم. و منها أخيرا ما تلتقي فيه كافة المواقف المذكورة متوجة بعبارات براقة تعكس أهمية القضاء و جلال قدره في الدولة، مثل ما ورد في الباب السادس من الدستور العماني:
“الباب السادس – القضاء
مادة 59- سيادة القانون أساس الحكم في الدولة. و شرف القضاء و نزاهة القضاة ضمان للحقوق و الحريات.
مادة 60- السلطة القضائية مستقلة، و تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها و درجاتها، و تصدر أحكامها وفق القانون.
مادة 61- لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون. و هم غير قابلين للعزل إلا في الحالات التي يحددها القانون. و لا يجوز لأي جهة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة. و يعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون، و يحدد القانون الشروط الواجب توافرها فيمن يتولى القضاء. و شروط و إجراءات تعيين القضاة و نقلهم و ترقيتهم و الضمانات المقررة لهم و أحوال عدم قابليتهم للعزل و غير ذلك من الأحكام الخاصة بهم”.
4- استقلال القضاء في السياسات العربية: و غير بعيد عن الدساتير، لا تفوت الخطابات السياسية الرسمية الفرصة للإشارة لمبدأ استقلال القضاء و التأكيد على اعتباره الركيزة الأساسية لبلوغ الاستقرار و الأمن السياسيين في المجتمع، و التطور و التقدم على المستويين الاقتصادي و الاجتماعي في الدولة، معتبرة تحقيق استقلال القضاء، هدفا تنشده و مقصدا من بين أولوياتها ترتبه.
5- استقلال المحاماة في الدساتير و التشريعات العربية: و أما المحاماة، فحظها من هذه الهالة أقل. ذلك أن المشرع لم يرق بتنظيمها إلى مصاف القواعد الدستورية إلا استثناء، كما فعل الدستور العماني الذي نصت مادته 65 على أنالقانون ينظم مهنة المحاماة. و حتى في هذه الاستثناءات، فلم يعتبر التشريع الأساسي المحاماة مستقلة. غير أن ذلك لا يعني عدم وجود إشارة لاستقلال المحاماة في نظم العالم العربي القانونية، لأن من بين القوانين العربية من اعتبرها مستقلة بنص تشريعي كما فعلت المادة الأولى محاماة مغربي.
6- استقلال ظاهري: و لكن تجليات هذا الاستقلال الظاهري، سرعان ما تندثر و تنجلي بمراجعة باقي المقتضيات التشريعية الخاصة بتنظيم القضاء و المحاماة في الأقطار العربية. ذلك أن المبدأ الدستوري العام و المطلق، يفرغ من محتواه بأحكام قانونية، منها الدستوري و منها التشريعي، تخصصه و تقيده، ينعكس من خلالها التدخل السافر للسلطة التنفيذية في أمور القضاء و المحاماة.
7- تدخل السلطة التنفيذية في القضاء: و يظهر خضوع القضاء للسلطة التنفيذية في البلدان العربية أولا في نصوص الدستور ذاته. و تلك حال الدستورين المغربي و الأردني اللذين يمنح أولهما ملك المغرب حق تعيين القضاة و سلطة رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، معتبرا وزير العدل نائبا لرئيس المجلس، و يجعل ثانيهما ملك الأردن صاحب صلاحية تعيين قضاة المحاكم و عزلهم.
و إذا أفلت المبدأ الوهمي من شر نصوص الدستور، وقع حتما في مخالب أحكام التشريع من خلال المقتضيات القانونية المنظمة لسلك القضاء و النظام الأساسي لرجاله.
ü فمن القوانين العربية ما يقر تدخل السلطة التنفيذية صراحة في القضاء، كما جاء في المادة 35 من قانون تنظيم القضاء الكويتي التي تمنح وزير العدل حق الإشراف على القضاء.
ü و منها ما يغلف هذا التسلط ليبلغه بصفة غير مباشرة، عبر فرض وصاية السلطة التنفيذية على الهيئات و المؤسسات المخولة سلطة الإشراف على سير أمور القضاء و رجاله. و من أمثلة ذلك أن المجلس الأعلى للقضاء الاتحادي في الإمارات، و هو المكلف بمهام عديدة منها ترقية القضاة و تأديبهم، مؤلف من سبعة أعضاء، ثلاثة منهم ينتمون للإدارة و هم وزير العدل رئيسا، و وكيل وزارة العدل و مدير دائرة التفتيش، و رابعهم النائب العام التابع لسلطة الإدارة رغم اعتباره قاضيا، و الثلاثة الباقون قضاة معينون بحسب صفاتهم بقوة القانون. و منها أيضا أن السلطان العماني يرأس المجلس الأعلى للقضاء في السلطنة، و إلى جانبه وزير العدل في النيابة، و كل من المفتش العام للشرطة و الجمارك و المدعي العام في العضوية. و منها كذلك أن الملك من يرأس المجلس الأعلى للقضاء في البحرين، و أنه من يقرر في تعيين القضاة بناء على اقتراح المجلس.
و عليه، يظهر كيف تهدم مختلف هذه النصوص مبدأ استقلال السلطة القضائية نظرا للإشراف الموسع، إن لم نقل للوصاية المطلقة، لبعض أعضاء السلطة التنفيذية ممثلة في رؤساء الدول و وزراء العدل العرب، على تعيين القضاة و نقلهم و ترقيتهم و تأديبهم. ذلك أن السلطة الخاضعة، سلطة ناقصة. فيكون القاضي المتعلق مصيره بالسلطة التقديرية لجهات أخرى، مقيدا في عمله، غير حر في توجهاته. و هو كغيره من البشر ضعيف النفس، قليل البأس، إن لم يكن لرضاء تلك الجهات طالبا، فلن يكون في سخطها راغبا. و يزيد الطين بلة أن النظم السياسية العربية، نظم أشخاص لا مؤسسات. فإذا اتضحت الأمور، فلن يكون في التفصيل سوى قصور.
8- نقد ذاتي و تبرير: و قد يعتبر الحكم بهذه الطريقة على استقلال القضاء في الدول العربية متطرفا و جاحدا لواقع معاكس لعلتين:
ü أولاهما عامة، و هي كون المجالس القضائية في أغلب الدول العربية، إن لم تكن كلها، مؤلفة من ممثلي القضاة. حقيقة، فالأمر كذلك. و لكن تلك التمثيلية لا تعكس استقلال القضاء لأسباب ثلاثة:
§ أولها، أن تشكيلة المجالس القضائية تضم قضاة معينين فيها لصفاتهم بقوة القانون، كرؤساء المحاكم العليا، أو رؤساء إحدى الغرف أو الدوائر بها، أو رؤساء بعض المحاكم في الدولة. فتكون تمثيلية القضاة في المجالس شبه منعدمة في العديد من الأحيان، مادام القضاة لا يتدخلون في اختيار ممثليهم. و تتكرس هيمنة السلطة التنفيذية بشكل غير مباشر، مادام رئيس الدولة من يعين القضاة السامين، و هم أعضاء المجالس القضائية، في مناصبهم.
§ و ثانيها أنه حتى في الحالة التي يحق فيها للقضاة انتخاب ممثليهم، أو يكون فيها معيار تعيين العضو مستقلا تماما عن إرادة السلطة التنفيذية كما إذا تعلق الأمر بأقدم قضاة محكمة معينة، فلا يخفى أن لرئاسة المجلس من طرف رئيس الدولة، تأثيرا أدبيا على عمل باقي الأعضاء داخله، خاصة و الدول العربية دول أشخاص لا مؤسسات.
§ و ثالثها، أن القاضي عضو المجلس، منتخبا كان أم معينا، خاضع بدوره لسلطة هذا المجلس، و أن عضويته تلك لا تشفع له دائما و لا تحميه لتمنحه حصانة من التأديب، و لو أثناء أداء مهامه على الأقل.
ü و ثانيتهما خاصة تتعلق بالحالات التي يخالف فيها القانون العادي المبدأ الدستوري لاستقلال القضاء. عندها يتعين التدخل لاستبعاد أحكام الأول لخرقه مبدأ دستورية القوانين. و ذلك ما كان المنطق يقتضيه، لولا أن أغلب المشرعين الدستوريين تحسبوا له، و ضمنوا الدساتير مبدأ دستوريا آخر مفاده أن لا سلطان على القضاء و القضاة إلا للقانون. فإذا أظهرت قراءة المبدأ تكريسه لاستقلال القضاء، فإن تحليله يعكس أنه رغم ذلك، خاضع و تابع لسلطة أخرى، و هي سلطة القانون: القانون الذي تسنه السلطة التشريعية، و الذي ترسم معالمه و تسطرها السلطة التنفيذية المنبثقة عن هذه الأخيرة بحسب الأصل العام في النظم الديمقراطية. فيكون الخضوع الذي يضعه التشريع العادي و المخالف للمبدأ الدستوري لاستقلال القضاء، ذا أصل و مرجعية في الدستور، مما يمنح ذاك التشريع سندا يجنبه عيب عدم الدستورية.
9- سلطات وزراء العدل العرب في حق القضاة: غير أن التدخل السافر في أمور القضاء ينعكس من خلال بعض النصوص القانونية التي تمنح وزراء العدل العرب حق إصدار جزاءات تأديبية في حق القضاة، و حق انتداب القضاة و نقلهم، كما فعلت المادة 57 من النظام الأساسي لرجال القضاء المغربي، عندما خولت وزير العدل سلطة انتداب القضاة، و المادة 60 منه التي منحت الوزير المذكور حق إنذار القضاة و توبيخهم و تأخير ترقيتهم لمدة لا تتجاوز سنتين و حذفهم من لائحة الأهلية. و نفس التوجه سارت عليه المادة 39 من قانون السلطة القضائية العماني التي خولت وزير العدل حق نقل القضاة من محكمة إلى أخرى خلال السنة القضائية. فأي استقلال يتمتع به القاضي المواجه في كل لحظة بقرار تأديبي من ممثل السلطة التنفيذية؟ و أي سلطة تلك التي يمارسها متى كان مهددا بسلطة متقاض أو وكيله، قد يصير أحدهما مع مرور الزمان وزيرا، و على الأرجح إنسانا يتعامل بمعايير شخصية، لا مؤسسة تقيم الأمور بطريقة موضوعية؟
10- تدخل السلطة التنفيذية في المحاماة: و رغم أن المحاماة مهنة حرة يفترض فيها الاستقلال، إلا أنها ليست أحسن حالا من القضاء في هذا الصدد. و تتفاوت درجة استقلال المحاماة لدى العرب بين:
ü دول تكون فيها قريبة الاستقلال التام، بل و أكثر استقلالا من القضاء. و تلك حال المغرب حيث يمكن حصر تدخل الدولة في المهنة فيه:
§ في وجود المراقبة القضائية على أعمال مجالس هيئات المحامين: و هذه المراقبة لا تضر من حيث المبدأ لأن القضاء مكلف بمراقبة امتثال مكونات المجتمع للقانون، و لأن المحامين و هيئات مهنتهم، جزء من المجتمع.
§ و في إشراف وزارة العدل على تنظيم امتحان الحصول على شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة، و ضرورة صدور قرار من وزير العدل بإجراء الامتحان المذكور.
ü و دول يتقلص فيها استقلال المهنة نظرا لخضوعها فيما يخص ولوج المهنة و التأديب، لوصاية لجان إدارية مكونة بالأساس من القضاة. و تلك حال الكويت مثلا. و الفرق بين هذا النظام و سابقه، أن الأول يمنح أجهزة المهنة الصلاحية التامة في اتخاذ القرارات المتعلقة بها من حيث ولوجها أو تأديب المنتسبين إليها، مع تخويل القضاء، كسلطة تفترض فيها السيادة و مهمتها السهر على حسن تطبيق القانون، حق مراقبة مدى تقيد المؤسسات المهنية بالضوابط الجاري بها العمل. في حين أن الثاني يسلب المحامين الاستئثار بالحق المذكور، و يمنحه للجنة و إن كانت مشكلة من القضاة، إلا أن طبيعة عملها إدارية لا قضائية.
ü و دول أخرى يكاد يكون فيها مفهوم المحاماة شبه منعدم، لفقدانه أبسط مقومات المهنة، و هو الاستقلال. و تلك حال القانون البحريني الذي يخضع رجال البذلة السوداء لوصاية وزير العدل منذ تاريخ اتخاذهم قرار ممارسة المهنة، إلى أن تزول عنهم صفة محام: فوزير العدل و الشؤون الإسلامية من يتلقى طلبات القيد في الجدول العام للمحامين، و هو من يصدر قرار القيد أو الرفض بعد أخذ رأي لجنة يشكلها هو لهذا الغرض. و هو من يقرر المتابعة التأديبية في حق المحامين، ثم من يعين أربعة من بين خمسة أعضاء المشكلين لمجلس تأديب المحامين، و أخيرا فهو نفسه الذي يعين أعضاء مجلس التأديب الاستئنافي، محكمة الدرجة الثانية في تأديب المحامين.
فتكون الخلاصة، أن الاستقلال المفترض في القضاء و المحاماة لدى العرب،
لم يقو على مواجهة مجرد النصوص التشريعية النظرية التي عصفت به.
فإذا كان الأمر كذلك على المستوى النظري،
فكيف هو حال هذا الاستقلال على مستوى الممارسة و التطبيق؟
ثانيا: التجارب الواقعية لاستقلال القضاء و المحاماة
11- تكريس الواقع للأحكام النظرية: ليس منتظرا من الواقع إلا أن يكرس التوجه النظري الذي قننته النصوص التشريعية المشار إليها أعلاه، و يعكس بالتالي أزمة استقلال القضاء و المحاماة في الدول العربية. فعديدة هي المحطات التي عانى فيها رجال العدالة و رموزها في الأقطار العربية من تعسف السلطة التنفيذية. إلا أن قلة التجربة و محدودية الاطلاع، لن تسعفا مطلقا في استعراض مختلف تلك الأيام الحالكة، بل فقط بعضا من التجارب حديثة العهد، نزر يسير من التجارب المريرة التي أوضحت بجلاء أن أصحاب البذل السوداء، حماة العدالة و الساهرين على تحققها في الدول العربية عامة و في المغرب خاصة، أن هؤلاء أنفسهم في حاجة ماسة لمن يحميهم من بطش الدولة و تجاوزاتها.
12- قضاء لبنان و أحداث شباط 2005: و لتكن البداية خفيفة الوطأة، و بالضبط بما أعقب أحداث شباط 2005 في بيروت. أجمع العالم على اعتبار الانفجارات التي أودت بحياة زعيم لبنان الحديث و رمزها، كارثة سياسية و إنسانية. و توالت الاتهامات و تعاقبت التحريات بحثا عن المسؤولين، و لكن بدون جدوى. فكان الحل أن قررت هيئة الأمم المتحدة انتداب قاض أجنبي، لا لبناني و لا عربي، ليباشر التحقيقات اللازمة للوصول إلى الحقائق و إعداد التقرير المعتمد في المتابعات القضائية. و كأن لبنان عديم السيادة. و كأن قضاءه عديم الفعالية. و كأن قضاته منعدمو الثقة و الكفاءة و المصداقية. فأي استقلال هذا الذي تضمنه الدولة لقضائها، إذا كانت عاجزة عن ضمان استقلالها هي؟
13- محاكمة صدام: ثم ننتقل للمسلسل المهزلة. لمسرحية محاكمة صدام حسين. لأشهر المحاكمات العربية على الإطلاق في العصر الحديث. للمحاكمة التي تنبأ لها الكل بالشهرة نظرا لأهميتها. للمحاكمة التي كتبت لها الأقدار بعد ذلك أن تشتهر للعار الذي ألحقته بالقضاء العربي. للمحاكمة التي تغير رئيس المحكمة فيها للمرة الرابعة لحينه. للمحاكمة التي تقلب على تسييرها عدد من القضاة يتجاوز عدد رؤساء الحكومة العراقية منذ سقوط عهد المتهم الرئيسي فيها. للمحاكمة التي يقصى القضاة فيها لأن توجهاتهم، ربما، لا تتفق و توجهات السلطة التنفيذية. للمحاكمة التي طرد رجال الدفاع فيها. للمحاكمة التي اغتيل بعض ممن حملوا على عاتقهم أداء دورهم و رسالتهم فيها. للمحاكمة التي قيل عنها الكثير في وقت مضى، و التي صارت في الذاكرة قبل مماتها. للمحاكمة التي كان لكل رجل قانون عربي أن يتمنى لو تولاها القضاء الغربي، لو علم مسبقا بالمجرى الحالي للأمور.
14- أزمة محامي تونس: على مرارة ما ذكر، فيا ليته لم يتجاوز هذا الحد. و يا ليت الضرر توقف معنويا. فكأن الحكومات العربية لم تكتف بالإساءة لمبدأ استقلال العدالة، فقررت الانتقال للاعتداء الجسدي و الإجرام في حق المحامين. محامو تونس ينتفضون ضد قانون، تشريع يفترض فيه صون الحقوق و الحريات، فإذا به يسلب أفواه الحق استقلالها. محامو الزيتونة يرفضون الإذعان و الخضوع، يتظاهرون سلميا محتجين على قانون، تشريع يفترض فيه تنظيم الحياة داخل المجتمع. و السلطة المتحضرة تتقبل النقد بكل مسؤولية. كذلك يمكن تكييف رد فعل سلطات تونس عندما واجهت المظاهرات بهراوات رجال الأمن و عصي أبناء شعب يأتمرون و ينفذون، و لكنهم للأسف يجهلون أنهم ضد مصالحهم ينفذون. فأين استقلال محاميي تونس، من استقلال المواطنين الفرنسيين الذين خلق رفضهم لمشروع تعديل قانون الشغل الفرنسي أزمة في الحكومة الفرنسية؟
15- قانون السلطة القضائية و قضاة مصر: و الطامة الكبرى. قضاء مصر و قضاته. أول قضاء مستقل في تاريخ العالم العربي. قضاء حفظ في ذاكرته صمود رئيس مجلس الدولة المصري، فقيه القانون المصري، و عميد الفقه العربي، في مواجهة قادة ثورة 1952. رمز قوة القضاء على الصعيد العربي. أقوى ناد للقضاة العرب. ذلك النادي الذي صفع أحد أعضائه رئاسة الجمهورية المصرية بمناسبة انعقاد مؤتمر العدالة الأول في القاهرة، عندما نعتت هذه الأخيرة القضاء بالبطء، فما كان بالقاضي، المستقل و القوي، إلا أن رد قائلا: “وقضاة مصر، يا سيادة الرئيس، وان كان لهم أن يفخروا بأنهم نهضوا وينهضون بأعبائهم على خير وجه، وبأنهم قاموا ويقومون بكل ما توحي به ضمائرهم، من انقطاع لفرائض العدل، والصبر على مناسكه، متفانين في أداء رسالته، مهما أرهقهم العمل وأضناهم الجهد، غير متوانين عن مواصلة البذل ما وسعتهم الطاقة، فانهم في الوقت ذاته، لا يرضون لأنفسهم ولا للناس تحت أي ظرف من الظروف، أن يضحوا باعتبارات العدالة في سبيل وفرة ترجى في الأحكام أو سرعة مطلوبة للفصل في المنازعات”. هذا الموقف الذي ربما يؤدي قضاة مصر فاتورته بعد عشرين سنة. ذلك القضاء الذي ناضل من أجل استقلاله و مازال. ذلك القضاء الشامخ الذي يؤدي ثمن نزاهته في الإشراف على الانتخابات. ذلك القضاء الذي توبع اثنين من قضاته، و انتهكت السلامة الجسدية لأحد رجاله، لا لشيء إلا لأنهم فضحوا تزوير الانتخابات في مصر. ذلك القضاء الذي دافع جاهدا عن مشروع قانون السلطة القضائية الذي أعده نادي قضاة مصر و تبناه بالإجماع، إلا أن الحكومة المصرية رفضته لأنه يمنع وصايتها عليه. ذلك القضاء الذي وضع إشرافه على الانتخابات في كفة، و تبني مشروع القانون المذكور في كفة ثانية. ذلك القضاء الذي منع ناديه من عقد جمعيته العمومية الاستثنائية في دار القضاء العالي بالقاهرة لأن البناية ملك للدولة. ذلك القضاء الذي اضطر أعضاء ناديه إلى عقد جمعيتهم العمومية الاستثنائية في شوارع القاهرة، و هم القضاة ممثلوا إحدى السلط الثلاث في الدولة. ذلك القضاء الذي أمر مدعيه العام قضاة الإدعاء فيه بعدم ترك أماكن عملهم يوم انعقاد الجمعية المذكورة. ذلك القضاء الذي هدد بمقاطعة الانتخابات إذا لم تستجب السلطة للمطالب الكفيلة باستقلال القضاء. ذلك القضاء الذي أشرف رغم كل ذلك على الانتخابات موفيا واجبه الأخلاقي قبل التزامه القانوني، دون أن تتحقق أي من مطالبه بشأن استقلاله !!
16- المقررات القضائية و وزارة العدل المغربية: و إذا انتقلنا للمغرب، تبدى استقلال القضاء جليا بادئ ذي بدء من خلال ما توحي به نسخ المقررات القضائية، باستثناء تلك الصادرة عن المجلس الأعلى، من كون القضاء مجرد مديرية أو مصلحة إدارية ملحقة بوزارة العدل. ذلك أن المقررات القضائية المذكورة تحرر في الواقع على أوراق تعلوها في الجانب الأيمن العبارات التالية: “المملكة المغربية – وزارة العدل”، ثم تليهما الإشارة إلى المحكمة المصدرة للمقرر، و الدائرة القضائية التي تنتمي إليها عند الاقتضاء. أ فمن المقبول أن تنسب المقررات القضائية، و لو شكليا، إلى وزارة العدل التي تمثل السلطة التنفيذية؟ أم أن ذلك هو مقابل تحمل الدولة للأعباء المالية للعدالة؟
17- الاستقلال المالي للقضاء المغربي: كما يشكل إدماج ميزانية قطاع العدالة في الميزانية العامة للدولة، برهانا واضحا على تحقق استقلال القضاء عن وصاية السلطة التنفيذية. و خير دليل على ذلك أن وزارة العدل من يعلن عن تنظيم مباراة الملحقين القضائيين التي تعتبر بداية الطريق في السلك القضائي، و التي تتقيد في ذلك بعدد المناصب المالية التي تمنحها الحكومة، من خلال وزارة المالية، لقطاع العدالة. و لكن العائق يكمن أحيانا في أسباب أخرى، قد تكون الحكومة وراءها، بغض النظر عن وجود المناصب المالية من عدمه. و هذا هو الواقع المعيش منذ أربع سنوات، تاريخ تنظيم آخر مباراة للملحقين القضائيين في المغرب. أ فمن المقبول أن تتوقف المباراة لأربعة أعوام كاملة؟ ثم أ يقبل أن يظل المعهد العالي للقضاء بدون ملحقين قضائيين منذ منتصف السنة الماضية، تاريخ تخرج آخر فوج للقضاة؟
18- شل عمل الودادية الحسنية للقضاة المغربية: و يعكس استقلال قضاء المغرب من ناحية أخرى، أن الودادية الحسنية للقضاة، و هي بمثابة نادي القضاة في المغرب، قد تم تجميد نشاطها و تعطيل دواليب العمل بها ردحا من الزمان غير قليل. ما السبب وراء ذلك؟ التعليق حر علما أن الودادية أنشئت من أجل سد الثغرة التي خلقها عدم جدوى المجلس الأعلى للقضاء في الدفاع عن مصالح القضاة و حمايتهم.
19- شروح وزارة العدل المغربية و دلائلها: ثم ينتقل بنا الحديث إلى مظهر آخر للاستقلال. تدخل بصفة غير مباشرة في أمور القضاء، و في الاختصاصات الأصيلة للسلطة القضائية من حيث تطبيق القانون و تفسيره. يتعلق الأمر بمجموعة الشروح النظرية و الدلائل العملية التي دأبت وزارة العدل على إصدارها منذ مدة. شروح و دلائل اختفت قبل حين، و لكنها عادت للظهور في الآونة الأخيرة، خاصة بعد صدور مدونتي الأسرة و المسطرة الجنائية. و المشكل أن مراجعة هذه الكتب و طريقة تحريرها، يعكسان توجيها خفيا للمحاكم في طريقة تفسير التشريع و تطبيقه، يجعل القضاة شبه خاضعين لسلطة هذه الدلائل في صميم عملهم القضائي. لا أحد يناقش حق الفقه في تفسير القانون. و لكن الوزارة ليست فقها، و لا شخصا مؤهلا لتفسير القانون. و لا أحد ينكر من جهة أخرى الفائدة العلمية التي تضيفها هذه الشروح، و الأهمية العملية التي تحملها تلك الدلائل. و لكن لو أرادت الوزارة فعلا، و من خلالها الحكومة، تقديم يد العون للقضاء في تفسير القانون، و مساعدة رجاله في فهم مقاصده، فحري بها أن تعمل على إخراج الأعمال التحضيرية للتشريع المغربي إلى سوق الكتب القانونية، و أن تعمل على نشرها عوض إبقائها حبيسة الرفوف المهجورة لخزانات البرلمان، و رهينة التقارير السرية المنجزة في دواليب الوزارات. هكذا تضمن الحكومة حسن تفسير القانون بكل حياد. و لكن، قبل ذلك، أتلك الأعمال موجودة فعلا؟
20- تصريحات إعلامية لوزير عدل مغربي: و يزكي هذا المظهر تجرؤ الحكومة، بواسطة وزير العدل، على تحديد الأجل الأقصى الذي ستبت فيه المحاكم في بعض الدعاوى، كما وقع في مستهل صيف سنة 2003، عندما ظن وزير العدل، بموجب تصريح خص به إحدى القنوات المرئية الوطنية، أن المحاكم المغربية ستكون قد انتهت من محاكمة المسؤولين عن أحداث 16 ماي، قبل نهاية موسم الصيف؟؟؟ الحمد لله أن نبوءة الوزير لم تتحقق، و إلا لتأكد بما لا يدع مجالا للشك، مدى استقلال القضاء في المغرب.
21- انتداب القضاة المغاربة: و بعد ذلك ترسخ ممارسة سلطة الانتداب ثقافة استقلال القضاء المغربي. صحيح أن من بين وزراء العدل المغاربة من قدروا الطابع الاستثنائي لحكم المادة 57 من النظام الأساسي لرجال القضاء، و تمكنوا قبل ذلك من فهم مقتضياته، و عرفوا، كرجال قانون مهمتهم تفسيره، كيفية التعامل معه، و أدركوا أن إعمال حكمه يفترض توفر عدد من الشروط القانونية. و لكن من بينهم من لم يقدر و لم يفهم، فلم يعرف و لم يدرك. فأقبل على الانتداب دون وجود حاجة، و لا لملء فراغ. عفوا ! إلا أن يكون الغرض من الانتداب آخر، لا وجود حاجة و لا ملء فراغ؟ ففي هذه الحالة، فقد أدرك الوزير و كان متيقنا، و رغم ذلك قرر فانتدب. و لكن، من يجرؤ على مساءلته؟ و ليت الأمر توقف عند هذا الحد، ذلك أن حضرة الوزير لجأ للانتداب أثناء انعقاد المجلس الأعلى للقضاء.
فأي سلطة يا مجلس تمارس، و الوزير ينتدب و أنت منعقد ؟
22- اعتقال القضاة و قواعد الامتياز القضائي في المغرب: ثم تأتي الحكمة في أبهى صورها لتزكي استقلال القضاء. فحسب تصريحات المعنيين بالأمر، و دفاعهم، وما ورد في وسائل الإعلام وقتها: قضاة يستدعون لوزارة العدل. دخلوا الوزارة متسائلين عن سبب الزيارة. منهم على الأرجح من استبشر خيرا، و فيهم ربما من توجس خيفة. ثم تأتي المفاجأة. غادروا الوزارة فعلا، و لكن معتقلين. واجهوا هناك اتهامات بالارتشاء. المواطنون سواسية أمام القانون، و كل مخالف معرض للمساءلة و العقاب: أمر لا يناقش. و لكن ليس بهذه الطريقة تضع الدولة السيدة المتسلطة المهابة يدها على المجرمين. كما أن العقاب تسبقه إجراءات تعبد طريق الوصول إليه. و المجرمون من القضاة، يستفيدون رغم كونهم مذنبين، من مسطرة الامتياز القضائي التي تمنع متابعة قاض وفق الإجراءات العادية للمتابعة الزجرية. و لكن الجهات المسؤولة لم تكتف بالمتابعة المعيبة، بل تجاوزتها للاعتقال. ثم، أليس هذا النوع من الاعتقال التحكمي جريمة يعاقب عنها التشريع الزجري المغربي؟ فمن تابع المسؤولين عنه؟ أم أن
الاجتهاد في تأويل أحكام التشريع، بل و تمطيط النصوص و التوسع في تفسيرها، لا يفيد إلا إذا كان المراد منه تبرير اعتقال القضاة بدون احترام الإجراءات القانونية المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية، على أساس أن الإجراءات المذكورة لا تطبق إلا أمام المحاكم العادية، دون المتخصصة؟
23- حصانة أعضاء المجلس الأعلى للقضاء: و مسك الختام في توضيح مدى استقلال قضاء المغرب، نتيجة انتفاضة قضاته ضد طريقة اعتقال زملائهم. وقعوا عريضة شجب و تنديد ضمنوها استنكارهم لخرق القانون مستندين إلى تفسيرهم للأحكام القانونية المنظمة للامتياز القضائي. و من بين الموقعين، و قيل زعيمهم، عضو في المجلس الأعلى للقضاء. فما كان بالسلطة التنفيذية إلا أن شرعت في فتح المسطرة التأديبية ضد القاضي المعني، ممثل القضاة. بل و عملت على منعه من ممارسة مهامه التي انتخب من أجلها. فلم تشفع له لا صفته القضائية و لا صفته التمثيلية. و إنما الذي شفع له هو تضامن بعض الهيئات القضائية في الغرب حسبما ورد في الإعلام وقتها.
اترك تعليقاً