اشكالية نقض الخبراء لأحكام القضاء الدستوري
في مداخلة كتبتها بمناسبة ندوة اقيمت حول مشروع قانون المحكمة الاتحادية ذكرت بعض الاشكاليات الاجرائية التي ستواجه المحكمة عند العمل بعد تمرير مشروع وصيرورته قانوناً ، ولإكمال الصورة لدى من يسهم في صياغته اعرض لاشكالية اخرى ستظهر عند التطبيق ، لان من اسهم في كتابة النص الدستوري في المادة (2) او من زعم انه كان مساهماً فيه، قدم عدة تبريرات لدرج الخبراء في قانون المحكمة الاتحادية عند التصدي لحكم المادة (93) من الدستور ويدعون هؤلاء الكرام بان نص المادة (93) كمن الدستور مكمل لنص المادة (2) لان خبراء الفقه الاسلامي والقانون سوف يحرصون على ان لا يصدر قانون يتعارض مع فقرات النص اعلاه والذي جاء فيه (أولاً: الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدرٌ أساس للتشريع: أ ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام. ب ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.ج ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.) ومن خلال اللقاءات مع بعض من هؤلاء او من خلال ما نطلع عليه في وسائل الاعلام بأفكار تعزى إليهم اجد ان جميع المسوغات التي ساقوها للدفاع عن وجود الخبراء في تشكيلة المحكمة الاتحادية تتمحور في نقطة الحفاظ على الهوية الاسلامية للعراق وان لا يصدر أي تشريع يخالف ثوابت الاحكام الاسلامية ، وعند السؤال عن ماهية الثوابت الاسلامية اغلبهم يجيب بعمومية غير واضحة بأنها الاحكام التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والإجماع ، وللوقوف على هذه الثوابت الثلاث لابد وان نرى هل وجد لها الفقه صور محددة ام انها مازالت محل جدل الى يومنا هذا ومازالت غير محدد وتخضع للرأي والاجتهاد، وسأعرض للأمر بوصفي متابع لا بوصفي مختص بالشريعة وعلومها وسأكتفي بالنقل والتعليق الذي اراه مناسباً وعلى وفق الاتي :ـ
1. لا يوجد ادنى شك بثوابت احكام القران الكريم لأنه دستور المسلمين وكلام الله المنزل ووردت فيه كل الاحكام بمصداق الاية الكريمة (49) من سورة الكهف (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) فضلا عن كونه عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإقرار به والعمل بما فيه على وفق قول ابن حزم الظاهري بمصداق الاية (38) من سورة الانعام (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) وفي هذا التأكيد الرباني على شمول القران لكل شئ فإننا نجد اختلاف في بيان هذه الاحكام التي وردت بأحكام عامة غير تفصيلة بل ان بعضهم اعطى للقران سعة في تحمل التأويل والتفسير وفي ذلك قول الامام علي ( ان القران حمال اوجه ) وبعض من الفقهاء المسلمين فرق بين التفسير والبيان والتأويل والقى بتبعات الخطأ على البعض الاخر ومنهم قال (وتأويل القرآن ليس هو تفسيره ولا بيانه، بل بيانه وتفسيره في القرآن تفصيلاً، ولكن تأويل القرآن هو الحق الذي سيؤول إليه حتماً مقضياً) وما ثبت من أن الصحابة رضي الله عنهم فسروا القرآن و اختلفوا في تفسيره على وجوه. واطلق على بعض هذه الاختلافات في فقه الشريعة الاسلامية فن (المسائل المشكلة) وهي المسائل التي تكون في ظاهرها معقدة لما هي عليه من اختلاف الاحكام المرتبطة بموضوع معين اختلافا الى حد التناقض والتنافي مع وحدة الموضوع ظاهريا وهذه المسائل كانت ترصد لاختبار الفقهاء وقياس ذكائهم على وفق ما ذكره الشيخ المفيد في كتابه (العويص) منشورات دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت ـ لبنان،عام 1993 صفحة 5، كما ذكر الامام الشافعي بكتابه الرسالة من منشورات المكتبة العلمية ـ بيروت ـ لبنان صفحة 274
( قال بعض التابعين لقيت اناسا من اصحاب رسول الله فاجتمعوا في المعنى واختلفوا علىً في اللفظ ) وما اود الوصول اليه ان الفقهاء في قراءتهم لنصوص الايات الكريمة وسعيهم في الاجتهاد لاستنباط الاحكام كان متباين حسب فهم كل فقيه بل ان بعض ائمة المسلمين اختلفت احكامه في واقعة واحدة بين بلد وآخر ومنهم ابن حنبل وغير ذلك، بل ظهر مسمى لنوع من الاحكام الشرعية التي اطلق عليها (فقه المسكوت عنه) لان البعض يرى ان من نفائس دلالات التشريع الإسلامي أن هناك دوائر لم تتعرض لها النصوص الشرعية تصريحاً ولا تضميناً لاختلاف الظروف المحيطة بها، ومن ذلك فان استدلالنا بالنصوص القرآنية مختلف فيه وطرقنا متباينة بين مذهب وآخر مما يعني ان لا اجماع حتى في طرق الوصول الى مفاتيح الاحكام في القران الذي اعطى لنا كما ثرياً من العطاء الفكري في جانب الاجتهاد .
2. اما فيما يتعلق بالسنة النبوية الشريفة فان من المسلم به بأنها محل اجماع ولا خلاف على انها بعد القران وإنها من روحه لان الرسول الكريم (ص) لم يأتي بحكم إلا ومصدره الوحي بدليل مصداق الاية الكريمة 203 من سورة الاعراف (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وغيرها من الايات الكريمات ، إلا ان هذا لم يمنع من الاختلاف في السنة النبوية (القولية والفعلية والتقريرية) وفي بعض الدراسات ومنها دراسة نشرتها مجلة الاجتهاد والتجديد التي تصدر عن مركز الدراسات الفقهية المعاصرة في بيروت العدد الاول لسنة 2012 الموسومة (اجتهاد الرسول ـ قــراءة نقدّيــة في الأســس والمكوّنـــات) ويذكر فيها بان ابن تيمية اجاز للرسول الكريم ان يجتهد من عنده لا من عند ربه مسترشدا بقوله (يجوز لنبيّنا أن يحكم باجتهاده فيما لم يوحَ إليه فيه، ذكره القاضي أبو يعلى وابن عقيل وأبو الخطاب، وأومأ إليه أحمد) نقلا عن كتاب المسودة لابن تيمية ص (507) بينما نجد ان ابن حزم الاندلسي له رأي يختلف فيذكر في كتابه الاحكام في اصول الاحكام (انّ من ظنّ أنّ الاجتهاد يجوز للأنبياء في شرع شريعة لم يوحَ إليهم فيها فهو كفرٌ عظيم، ويكفي في إبطال ذلك أمره تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ) ونرى ان الاختلاف قائم حتى في سنة النبي الاكرم محمد (ص) مما يعدم الاجماع في كيفية الوصول الى الحكم الذي يستنبط من الاحكام التي قررها النبي الاكرم.
3. اما عن اجماع فقها المسلمين فانا نجد انهم اختلفوا في كل شئ على وفق اجتهادهم ومشاربهم العقائدية وهذا الاختلاف كان رحمة لان فيه اثراء للفكر الانساني يواكب حاجات المجتمع بإطارها القرآني وسأذكر مثالا معاصراً يتعلق بقانون الخلع المصري رقم (1) لسنة 2000 اذ عده بعض رجال الدين من اسباب هدم الشريعة الاسلامية ومنهم الشيخ حسن ابو الاشبال الازهري في كلمته اثناء عقد ندوة حول قانون الخلع والكلمة منشورة في موقع اسلام ويب على الشبكة الدولية للمعلومات (الانترنيت) اذ قال )يسعى العلمانيون إلى هدم أحكام الشريعة الإسلامية عبر قوانينهم وتشريعاتهم، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ذلك فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية في مصر وقانون الخلع وغيره،) مستشهدا بآراء عدد من الفقهاء بعدم مطابقة اقانون الخلع لأحكام الشريعة الاسلامية ورد عدد من رجال الدين وعلماء الازهر على ذلك الفريق بحجج تنسب الى فقهاء وأئمة المسلمين ذاتهم الذين كانوا سندا لرأي الشيخ حسن وفريقه المؤيد له، بينما المحكمة الدستورية العليا في مصر تصدت الى الموضوع بقراءة روح الشريعة الاسلامية والتي لم يكن من بينهم من يمثل رجال الدين او علماء الازهر وإنما كلهم من القضاة الذين احترفوا العمل القضائي وفي قرارها العدد المرقم 201 لسنة 2002 حكموا بمطابقة القانون للشريعة الاسلامية لأن مبادئها هى المصدر الرئيسى للتشريع، فإن مقتضى ذلك أنه لا يجوز لنص تشريعى يصدر فى ظله أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يمتنع الاجتهاد فيها لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية ثوابتها التى لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً، وليست كذلك الأحكام الظنية فى ثبوتها أو دلالتها أو فيهما معاً، فهذه تتسع دائرة الاجتهاد فيها تنظيماً لشئون العباد،) كذلك جاء فيه (فإن النص الطعين يكون قد نهل من أحكام الشريعة الإسلامية منهلاً كاملاً، فقد استند فى أصل قاعدته إلى حكم قطعى الثبوت، واعتنق فى تفاصيله رأى مذهب من المذاهب الفقهية، بما يكون معه فى جملته موافقاً لأحكام هذه الشريعة السمحة، ويكون النعى عليه مخالفتها ومن ثم مخالفة المادة الثانية من الدستور نعياً غير صحيح بما يوجب رفضه) بمعنى انه وجد في رأي مذهب واحد على خلاف الاخرين فاعتمده لانعدام الاجماع بين اراء الفقهاء عند مختلف المذاهب واحيانا في المذهب الواحد.
4. بما ان مناط التبرير بوجود خبراء الفقه الاسلامي هو الحفاظ على الثوابت التي تكون محل اجماع المسلمين فان كلمة اجماع بذاتها اختلف فيها علماء الشريعة فلبعضهم رأي وقول في مفهوم الاجماع الاصطلاحي يختلف عن الاخر وسأعرض بعض منها وعلى وفق الاتي :ـ
أ. الإجماع : الاتفاق ، وقد يطلق على تصميم العزم ، ومنه : أجمع فلان رأيه على كذا ، أي : عزم وأجمع السفر : عزم عليه ،وهو اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي وهو على نوعين : إجماع قولي : وهو أن يصرح كل مجتهد بالحكم . و إجماع سكوتي : وهو أن ينطق بعض المجتهدين بالحكم ويسكت الباقون دون اعتراض عليه ) الدكتور محمد قلعجي بكتابه الموسوم ( معجم لغة الفقهاء) منشورات دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – لبنان
ب. الاجماع : هو الاتفاق و في الشرع : اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من أمور الدين و عند الحنفية : هو اتفاق رأي المجتهدين من أمه محمد صلى الله عليه وسلم في عصر ما على حكم شرعي . اما عند الظاهرية : هو إجماع جمع المؤمنين و هو ما تيقن أن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوه وقالوا به ، ولم يختلف منهم أحد . اما الاجماع المركب عند الحنفية هو عبارة عن الاتفاق في الحكم مع الاختلاف في المأخذ ، لكن يصير الحكم مختلفا فيه بفساد أحد المأخذين . مثاله : انعقاد الاجماع على انتقاض الطهارة عند وجود القئ والمس معا . لكن مأخذ الانتفاض عند الحنفية القئ ، وعند الشافعية المس . فلو قدر عدم كون القئ ناقضا ، فالحنفية لا يقولون بالانتقاض ثم فلم يبق الاجماع . ولو قدر عدم كون المس ناقضا ، فالشافعية لا يقولون بالانتقاض ، فلم يبق الاجماع أيضا. الدكتور سعدي أبوجبيب (القاموس الفقهي لغة واصطلاحا) منشورات دار الفكر طبعة دمشق عام 1988
ج. الاجماع هو الكشف عن راي المعصوم فاذا كان احد المجمعين هو المعصوم يكون الحكم محل اجماع بينما يرى فقها المذاهب الاخرى خلاف ذلك بان اجماع المؤمنين او اهل العلم . الدكتور احمد فتح الله ( معجم الفاظ الفقه الجعفري) طبعة السعودية ـ الدمام عام 1995
د. اما عند اهل اللغة فان كلمة اجماع لها معانٍ عدة منها قول الفراء الإِجْماعُ الإِعْداد والعزيمةُ على الأَمر، قال: ونصبُ شُركاءكم بفعل مُضْمر كأَنك قلت: فأَجمِعوا أَمركم وادْعوا شركاءكم بينما في موضع اخر يرى الفراء ان قال: ومن قرأَ فاجْمَعوا كيدَكم، فمعناه لا تدَعوا شيئاً من كيدكم إِلاّ جئتم به. وهناك شواهد كثيرة يمكن الاستدلال بها وعلى وفق ما ذكره ابن منظور في لسان العرب طبعة قم عام 1985ـ ج7 ص 57.
ومن خلال العرض اعلاه اجد ان الخبراء عند التصدي للطعون الدستورية تجاه القوانين اثناء عملهم في المحكمة المزعوم تشكيلها سوف لا يتفقون على رأي واحد لان مرجعهم الفقهي واللغوي يحتم عليهم الاختلاف على وفق ما عرض في اعلاه وان كان هذا اختلاف محمود لأنه اثرة الفقه والشريعة والتراث الانساني بالأحكام التي تحفظ للناس دينها على وفق مقتضى تطور العصر الا انه سيكون عائقاً تجاه الاحكام التي تصون هذه الحقوق عند الاختلاف بينهم مع وجود سلاح النقض بأيديهم ، وعرض الامر هو لتذكير من يسهم في كتابة مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا بالمعوقات التي ستواجه العمل في القضاء الدستوري مستقبلا وان يتحسب له ويضع النصوص المعالجة للفرضيات التي طرحت في اعلاه.
اترك تعليقاً