بحث ودراسة مميزة حول عقود الإذعان في القانون
أ/ عبد اللطيف بيك
1- المسألة محل البحث :
اقتضت طبيعة الحياة المعاصرة، وترتب على تعاظم دور المؤسسات (العامة والخاصة) في النشاط الاقتصادي، ان صارت الشخصيات الاعتبارية (وبخاصة الشركات التجارية) طرفاً في اكثر معاقدات الناس بين فرد وآخر قليلة غير ذات بال. ولقد أدت الدافعية لتعظيم الأرباح لدى تلك المؤسسات إلى سعي لا يعرف الكلل نحو مزيد من الكفاءة في أداء الأعمال والضغط على تكاليف الإنتاج والنفقات الإدارية بما في ذلك عمليات التعاقد في البيع بالشراء والإجارة وغير ذلك. ومن أهم نتائج ذلك ما يسمى “بالتنميط”. إن منتجات تلك الشركات وعملياتها المختلفة عندما ينتج منها وحدات “نمطية” تعد بمئات الآلاف أو بالملايين، فإن تكلفة الوحدة الواحدة –سواء كانت سعلة أو خدمة- تصبح قليلة جداً.
ومن ذلك العقود التي تقدم تلك المؤسسات بناء عليها الخدمات والسلع، فقد أضحت عقوداً نمطية ليس على الطرف الآخر (الفرد) عند طلبه السلعة أو الخدمة إلا ان يؤشر على مربعات فيها أو يوقع في المكان المخصص لذلك.
مثل هذا الترتيب يختلف عما تصوره الفقهاء قديماً وحديثاً وبسطوا الكلام عنه في كتبهم من ناحية تكوين العقد وتحقق أركانه وتوافره على شرائط الصحة وبخاصة الرضا. إن تباين القوة التفاوضية بين طرفي هذه العقود والطريقة التي تنعقد بها من حيث النمطية وافتقارها إلى المجاذبة بين البائع والمشتري على شروط العقد جعلها مظنة الإكراه والشك في تعيب الرضا فيها الذي هو أساس صحة عقود المعاوضات ومعلوم أن تعيب الرضا سبب من أسباب فساد العقود. ومن هذا اكتسب الموضوع أهميته واحتاج إلى نظر وتأمل وبحث شامل.
2- معنى الإذعان :
قال في لسان العرب : الإذعان هو الإسراع مع الطاعة، والإذعان، الانقياد وأذعن الرجل انقاد وسلس. وقال في المعجم الوجيز أذعن انقاد وسلب وأذعن بالحق أقر به وقال في مختار الصحاح: أذعن خضع وذل.
3- تعريف عقود الإذعان :
عقود الإذعان هي صيغة من صيغ إبرام العقود تعتمد على استخدام أنموذج نمطي للعقد يعده أحد طرفي العلاقة التعاقدية بصورة منفردة ويعرضه على الطرف الآخر الذي ليس له إلا الموافقة عليه كما هو أو رفضه دون ان يكون له ان يغير في العبارات الواردة فيه أو الشروط والأحكام التي يتضمنها ولا أن يدخل في مجاذبة أو مساومة حقيقية على شروطه مع الطرف المعد لهذا العقد، ومن هذا وصفت هذه العقود “بالإذعان”. وقيل ان أول من سماها كذلك القانوني الفرنسي سالي في مطلع القرن العشرين(1).
وأهم عنصر في هذه العقود، وهوا لذي جعلها مظنة الإذعان، هو طريقة عرض العقد من قبل معدة على الطرف الآخر إذ لسان حالة يقول : “أقبله كما هو أو اتركه كما هو” وهو ما يـقال عنه باللغة الإنجليزية Take it-or Leave it””. ونحن نقول إن هذا النوع من العقود هو مظنة الإذعان، لأنها لا تكون من عقود الإذعان إلا إذا تضمنت شروطاً ما كان للطرف الآخر إن يقبل بها لو أعطي حرية المساومة ومن ثم يمكن القول بتعيب الرضا فيها. فإذا تُحقق من حصول الرضا فيها لم تعد من الإذعان بأي وصفٍ كانت.
4- الصيغ النمطية للعقود :
قال في لسان العرب: النمط الطريقة والضرب من الضروب، والنمط جماعة من الناس أمرهم واحد. وقال في المغرب: والنمط الطريقة والمذهب ومنه “تكلموا على نمط واحد”، وعندي قاع من هذا النمط أي من هذا النوع. وفي الحديث عن علي “خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي(2) .
والصيغ النمطية هي صيغ معدة من قبل أحد طرفي العلاقة التعاقدية، تتضمن أحكام وشروط المعاقدة يعرضها على الطرف الآخر في حال الرغبة في الدخول في العقد دون إن يكون للأخير إلا الحد الأدنى من الاختيار.
وقد انتشرت العقود النمطية في المعاملات التي تجري بين الناس وبخاصة في مجالات الاستهلاك. وقد قدر بعض الباحثين عام 1971 إن الصيغ النمطية الجاهزة للعقود تغطي نحو 99% من المعاقدات التي تجري في البلاد الغربية(3). أما العقود التي تنعقد بالطريقة التي نتصورها نظرياً أو تلك التي تعدها كتب الفقه الصيغ الأساس للمعاقدات فإنها تكاد تكون قد اختفت تماماً من حياة الناس المعاصرة. فالعقود التي تقع بين الناس سواء وقع الإيجاب والقبول به طرفيها مكتوباً أو ملفوظاً أو كانت بالمعاطاه تجري على نمط معد مسبقاً ونظام مرتب إقتضته معطيات التطور الاقتصادي والتكنولوجي. ولم يعد يقع بين الناس اليوم تلك المساومة والمجاذبة على شروط العقد التي يفترض ان تكون دليلاً على تحقق الرضا.
5- فوائد تنميط العقود :
ما كان اتجاه الناس إلى “تنميط العقود” إلا لما ظهر فيها من فوائد تعود على طرفي العلاقة التعاقدية يمكن إن نعد منها:
اختصار الوقت وتقليل الإجراءات الإدارية إذ إن وجود صيغة جاهزة جرى الموافقة المسبقة عليها من الجهة المعينة من المؤسسة يؤدي إلى زيادة كفاءة العمل. وبخاصة ان المعاقدات التي تجري بين الناس في يوم الناس هذا لم تعد كما كانت قديماً. فالمبايعات في الزمان القديم كانت تتم بيسر وسهولة لبساطة محل المعاقدة. أما اليوم فإن السلع الالكترونية والميكانيكية والخدمات الطبية وعمليات الصيانة والتشغيل والمقاولات جميعاً تتضمن تفاصيل كثيرة يصعب ان تكون محل مساومة في كل مرة. أضف الى ذلك الحجم العظيم من الأعمال الذي ترتب على التزايد الكبير للسكان في كل بلد.
خفض تكاليف المعاقدات وبخاصة في الحالات ذات الطبيعة المعقدة مثل عقود بيع المعدات والعقارات والآلات الطبية والطائرات والى آخر ذلك التي تمتد سنوات لارتباطها بترتيبات صيانة وتجديد وتدريب وما الى ذلك. وهذا يسهل العمل ويغني عن المجاذبة والمساومة، كل مرة يقع فيها بيع.
ملائمة حاجات الميكنه واستخدام برامج الحاسوب من قبل بائعي السلع والخدمات في اتمام المعاملات في كافة القطاعات الصناعية والخدمية. ولا يتصور لذلك من سبيل إلا تنميط الاجراءات وصيغ العقود حتى يسهل على الآله التعامل معها.
يؤدي التنميط الى جعل العلاقة بين المؤسسة وعملائها ذات طبيعة موحدة، وعندئذٍ يمكن معاملة جميع العملاء أو الموظفين بصورة جماعية بدلاً من نشؤ علاقة مختلفة مع كل واحد منهم. ومن ثم تفادي التفرق بين الناس بحسب قوتهم التفاوضية.
إن التنميط يقلل الوقوع في الأخطاء، لان العناية بالنمط المعتمد تكون عظيمة وان تكرر العمل به يخلصه من بعض ما يلاحظ عليه من نقص أو خلل لمعاودة انظر فيه وتكرره. كما إن العقود النمطية لما تلقاه من عناية المشخصين تكون أوضح في الصياغة وأدق في العبارة ومن ثم أيسر في الفهم.
وكل ذلك يسهل عمل المحاكم وجهات فض المنازعات في كل الاختلاف لان هذه الأحكام المتشابهة واللغة الموحدة والمعايير المعتمدة تسد الذرائع الى النزاع كما انها تسهل فضه إن وقع.
6- أنواع العقود النمطية :
ويمكن التفريق بين العقود النمطية بطريقتين :
أولاً : من حيث العلم بشروط العقد وأحكامه وتنقسم الى صنفين :
تلك التي يطلع الطرف القابل بها على نصوص العقد المزمع توقيعه مع الطرف الآخر. ويتمكن من العلم بكافة الشروط الواردة فيه مع عدم السماح له بمناقشة محتوياته أو تغيير أي شرط في ذلك العقد، وانما له ان يوافق على جميع ما جاء فيه فينعقد بينهما العقد، أو يعترض على بعض أو كل ما جاء في العقد فلا ينعقد بينهما عقد.
وقد ظهر الآن نوع جديد من العقود النمطية لا يتاح للطرف القابل بها حتى الاطلاع على نصوص العقد أو على صيغته أو شروطه بل يجب عليه إن يوافق على العقد وما جاء فيه مقدماً وقبل اطلاعه على النص. وقد جاء هذا النوع من عقود الإذعان مع انتشار برامج الكمبيوتر، كما سيأتي تفصيله فيما بعد.
ثانياً : من حيث وجود المساومة وعدمه وتنقسم الى قسمين :
ومنها ما لا يكون للطرف القابل ان يناقش شيئاً البتة كخدمات الكهرباء ونحوها بينما ان اكثرها يقتصر المجاذبة بين الطرفين على الثمن أما باقي الشروط فلا نقاش فيها.
ما لا يكون فيه مجال للمساومة او المناقشة في أي شئ كعقود خدمات الكهرباء والماء ونحوها.
7- نمطية العقود ليست دليلاً على تعيب الرضا فيها :
ليس للتنميط في العقود تأثير على صحتها إذ انها مجرد صيغة مستحدثة لتسهيل المعاملات بين الناس يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى : ” القول الثالث: انها ]أي العقود[ تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول او فعل فكل ماعد الناس بيعاً و اجارة فهو بيع واجارة وان اختلف اصطلاح الناس في الالفاظ والافعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والافعال وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا في لغة بل بتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم..” ثم قال “وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد”.
وقد اتجه بعض الكتاب إلى القول بان جميع العقود النمطية هي من عقود الإذعان لافتقارها إلى المناقشة والمساومة بين طرفيها، ولان معدها وهو دائماً الطرف الأقوى ويرجح فيها مصالحه وهو غير مستعد لإحداث أي تغيير فيها وفي كثير من الأحيان لا تقبل حتى مناقشة محتوياتها بصورة تفصيلية.
لا يمكن إطلاق الحكم على صيغة العقد بأنها تفتقد الى الرضا لمجرد كونها نمطية، أو لأنها قد أعدت من قبل طرفي العلاقة أو أنها تحتوي شروطاً قد تبدو مرجحة لمصلحة طرف على الطرف الآخر. ذلك ان تحقق الرضا من طرفيها على ما فيها أمر محتمل.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى بعد الكلام عن الرضا : “… ولم يشترط لفضاً ولا فعلاً معيناً يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم انهم يعلمون التراضي وطيب النفس..”.
فإذا حصل ذلك خرجت عن وصف الإذعان إلى الصحة بافتراض انها في الأصل من العقود المباحة. إلا ان الخلل ربما دخل عليها من جهة أخرى وهي وجود مبرر لادعاء أحد طرفيها بعدم حصول الرضا وكونه مكرهاً على التعاقد.
8- مجالات عقود الإذعان :
أضحت اكثر معاقدات الناس في يوم الناس هذا هي من العقود النمطية التي هي مظنة الاذعان من عقود الإذعان، إذ ان هذه العقود يعدها طرف واحد ويضمنها الشروط المحققة لغاياته والمرجحة لمصلحته على مصالح الطرف الآخر. ويمكن القول بصفة عامة ان العلاقات التعاقدية بين الأفراد والشخصيات الاعتبارية تقوم جميعها على أساس صيغ جاهزة للعقود تعدها الشركات والمؤسسات والهيئات ولا تتضمن إمكانية المجاذبة على الشروط أو المراوضة على العقد. ولذلك كانت مجالات عقود الإذعان هي السلع والخدمات الاستهلاكية وكذلك عقود العمل والاستخدام التي يرتبط الفرد فيها مع مؤسسة أو جهة عامة. فالمعاقدات التي تجري بين فرد وشخصية اعتبارية سواء كانت خاصة أو حكومية هي في اغلب حالاتها محكومة بعقد جاهز (هو مظنة الإذعان). أما المعاقدات التي تجري بين الشركات والحكومات أو الشركات والحكومات مع بعضها البعض فهي لما تزل معتمدة على المساومة والمناقشة والتراضي على الشروط في العقد في غالب أحوالها. إذا خلصنا إلى القول بان عقود الإذعان هي تلك التي تتضمن شروطاً ما كان للقابل لها إن يرضى بها لو كان له الحرية التامة في المساومة بشأنها. يمكننا القول عندئذٍ إن مثل هذه العقود يكثر العمل بها في حالات معينة تتسم بما يلي :
كون القوة التفاوضية بين طرفي العلاقة التعاقدية متفاوتة تفاوتاً عظيماً، مثال ذلك الفرد العادي أمام شركة عظيمة لا يمثل ما يشتريه ذلك الفرد منها إلا قدراً لا يكاد يذكر ولا تأثير له عليها.
كون السلع أو الخدمات محل العلاقة ضرورية بصفة عامة كخدمات الكهرباء والماء والهاتف أو كونها ضرورية عند توقيع العقد مثل الخدمات الطبية في الحالات الطارئة التي لا يكون للطرف القابل قوة تفاوضية حقيقية لحاجته الماسة للعناية العلاجية العاجلة.
9- أمثلة على عقود يعدها الناس من عقود الإذعان :
أ- عقود الاشتراك في الخدمات العامة :
كعقد الاشتراك في خدمة الكهرباء والماء والهاتف ونحو ذلك إذ يعرض مقدم الخدمة سواء كان شركة عامة أو خاصة عقداً نمطياً لا يقبل من المستفيد من الخدمة إلا التوقيع عليه بدون مناقشة أو رفضه بدون مناقشة، وليس فيه مجال لاختلاف الثمن او شروط العقد.
ب- عقود المصارف وشركات التأمين :
ومنها عقود فتح الحسابات المصرفية بأنواعها وإصدار بطاقات الائتمان وشهادات التأمين بنوعيه التجاري والتعاوني.
وان كان في هذه إمكانيات المساومة على الرسوم ونوعية الخدمات بحسب القوة التفاوضية للعميل. ولكن يبقى ان العقد نمطي لا يتغير.
ج- عقود العمل :
من المعتاد لدى الشركات ان تعد عقداً نمطياً تطلب إلى جميع العاملين فيها التوقيع عليه ولا يكون لطالب العمل فرصة المناقشة لما يرد فيه من شروط وأحكام. وكذا الحال في العمل لدى الحكومة أو المؤسسات العامة إذ يحكم الوظيفة لوائح عامة تسري على جميع العاملين دون ان يكون لهم حق الاعتراض على أي منها.
د- العقود المتعلقة باستخدامات برامج الحاسوب :
لبرامج الحاسوب طبيعة خاصة ولدت صيغة جديدة للتعاقد بين طرفي العقد فيها. قام استخدام برامج الكمبيوتر قام ليس على أساس ما يسمى “حق الاستخدام لمدة محددة” فلم يجعلوه بيعاً للبرامج ولا إجارة له. ولعل الباعث على ذلك ان البيع (والإجارة) كلاهما يرتب حقوقاً للمشتري (والمستأجر) لا تتلاءم مع طبيعة البرامج الحاسوبية. ذلك ان استخدام هذه البرامج خلال المدة مشروط بعدم التصرف فيها بالتغيير، أو تطوير برامج جديدة معتمدة عليها، أو نسخها أو إتاحة استخدامها للغير وفي نفس الوقت البراءة من كل عيوبها وعدم التعهد بصلاحيتها لأي شئ أو بتحمل الأضرار التي قد تلحقها تلك البرامج بجهاز المستخدم. ونظراً إلى ان هذا المستخدم سيتمكن من استخدام البرنامج والتصرف فيه بالطريقة التي يشاء بمجرد فتحه للغلاف البلاستيكي المحيط بالقرص الذي يحتوي ذلك البرنامج، دون ان يكون لمالك البرنامج القدرة على منعه من الاستخدامات التي قد تلحق الضرر بالمالك اتجه القوم الى التمسك بالحماية القانونية المبالغ فيها لحقوقهم. لذلك فقد وجدت شركات الكمبيوتر ان تمكين المستخدم من فتح ذلك الغلاف قبل إلزامه بعلاقة تعاقدية تحمي حقوق الشركة يتضمن مخاطرة ضياع تلك الحقوق اذ يصعب عليها لو انها اضطرت إلى المرافعة لدى المحاكم ان تثبيت جرمه اذ لم يلتزم بعد بعلاقة تعاقدية. لذلك اتجهت إلى النص على الغلاف الخارجي ان مجرد فتح الغلاف يعني القبول والموافقة على نصوص العقد الموجود داخل الظرف (أو ضمن محتويات القرص). وعلى ذلك المستخدم إن يوافق على نصوص العقد قبل ان يطلع عليها ودليل موافقته فتحه لغلاف المظروف اذ يكتب عليه “اذ لم تكن موافقاً فامتنع عن فتحه”. فجمعت هذه الصيغة للعقود مساوئ عقود الإذعان إضافة الى وقوع المعاقدة فيها على شروط مجهولة، تلزم القابل بها قبل ان يطلع عليها.
10- أمثلة على الشروط التي ترد في العقود النمطية فتجعلها مظنة الإذعان :
غرض معد العقد من جعله نمطياً ليس للطرف الآخر الاعتراض على محتواه ان يضمنه أنواعا من الشروط التي ترجح مصلحته على مصلحة الطرف الآخر القابل به وتحمي حقوق معد العقد أولا وتلزم الطرف الآخر بالتزامات لا يقبلها لو ترك الأمر له أو كان يتوافر على قوة تفاوضية كافية. وإنما وصف العقد بأنه عقد إذعان لما فيه من شروط يرجح ان الطرف الآخر لم يكن ليرضى بها لو كان انعقاد العقد بإرادته الحرة واختياره التام. من ذلك :
أ- اشتراط التنازل عن اللجؤ إلى القضاء لفض النزاع :
كثيراً ما يرد في عقود النمطية شرط التنازل عن حق اللجؤ إلى القضاء في حال الاختلاف أو المنازعة مع الطرف الآخر، وإذعان القابل لحكم هيئة صلح ينص غالباً على طريقة تكوينها في صلب العقد. ويقع ذلك أكثر ما يقع في عقود العمل، وفيها يوقع الموظف على موافقته ان تكون ما تتوصل إليه تلك الهيئة نهائياً يرضاه ولا يلجأ إلى المحاكم بعد ذلك. ولقطع طريق العامل الى المحاكم ينص في العقد على حرمانه من كافة حقوقه الباقية له بموجب العقد كالتقاعد ومكافأة نهاية الخدمة ونحوها اذا لم يلتزم بهذا الشرط. فيكون في لجؤه الى القضاء مخاطرة عليه.
ب- اشتراط ان دفاتر البنك هي البينة على الحسابات عند الاختلاف:
وهذا نص معتاد في اتفاقيات فتح الحسابات المصرفية، إذ يقر العميل بان قد رضي بما يكون مسجلاً في دفاتر البنك في حال الاختلاف، فإذا وجد حسابه ناقصاً وأخبره المصرف انه – أي العميل- سحب منه، بينما يقول هو انه لم يسحب كان الحكم في المسألة بناء على هذا الشرط لما يوجد في سجلات البنك فحسب.
ج- اشتراط سقوط حق المطالبة بعد مدة وجيزة :
من ذلك ما ينص في اتفاقيات فتح الحسابات المصرفية ان للعميل إذا تلقى كشف الحساب من البنك الاعتراض على ما يرد فيه من خطأ خلال 15 يوماً فإذا لم يفعل سقط حقه في الاعتراض على ما ورد في ذلك الكشف من اخطأ حتى لو انه لم يتسلم الكشف إلا متأخرة. وجلي ان هذه الأخطاء يترتب عليها ضياع لحقوق أو أموال صاحب الحساب. لذلك فان النص على موافقته على ما ورد في الكشف وسقوط حقه في الاعتراض عليه بعد هذه المدة يعني إقراره بما ورد في ذلك الكشف، والتزامه بما جاء فيه وسقوط حقه في الإعتراض مستقبلاً.
د- اشتراط ان مجرد إرسال الإشعارات إليه يعد تسلماً لها منه :
وهو نص يرد في العقود النمطية الخاصة بالخدمات وغيرها وينص على انه بمجرد تسليم “الإشعارات” والخطابات والفواتير إلى مكتب البريد يكون العميل قد تسلمها اذا كانت مرسلة الى العنوان الذي ذكره في العقد عند التعاقد. وليس له ادعاء عدم ذلك. وبهذا يسقط الطرف الأقوى المسؤولية عن نفسه بمجرد إيداعها في البريد. بما في ذلك ما يكون من مخاطبات تبلغه بتغيير رسوم الخدمات او إدخال التعديلات في شروط العقد…الخ. وكذا فواتير الخدمات إذ ان مجرد إرسالها يعد تسلماً لها من قبل العميل. ولذلك فان عدم تسديدها يعتبر مماطلة توجب الغرامات وقطع الخدمة وليس له الاعتذار بان الفاتورة لم تصل إليه.
و- جعل العقود جائزة في حق الطرف القوي :
ومنها اشتراط ان يكون العقد جائزاً من جهة الطرف القوي لازماً من جهة القابل به. فينص على حق فسخه في أي وقت بإرادة منفردة وكذا النص على حقه في تغيير شروط المعاقدة دون موافقة الطرف الآخر. من ذلك ما يرد في العقود النمطية للمصارف. “عند إصدار بطاقات الائتمان ونصه : يحق للبنك إلغاء البطاقة الأساسية أو أية بطاقات إضافية تكون قد أصدرت عنها بدون إشعار العميل بإيقاف العمل بها”، ومنها “يحتفظ البنك بحقه في تعديل شروط وأحكام هذه الاتفاقية كلياً أو جزئياً وذلك بدون موافقة العميل وينطبق ذلك على جميع الرسوم الخاصة بالبطاقة”.
ح- البراءة من كل عيب والتحلل من كل التزام والمبالغة في حماية حقوق طرف على حساب الآخر :
أشرنا آنفاً الى خصوصية عقود إستخدام برامج الحاسوب، ويرد في هذه العقود شروط لا باعث عليها إلا الاذعان. ولا ونقدم أدناه أمثلة على نصوصٍ ترد في هذه العقود منها:
(ويشار إلى الطرف الأول فيها بأنه صاحب البرنامج أو الشركة بينما يشار إلى الثاني بأنه المستخدم). وهذه الصيغة أصبحت نمطية تكاد ترد في كافة برامج الحاسوب:
“يتنازل المستخدم عن كل حق له ويبرء ويسامح ويتخلص ويترك كل استحقاق أو ادعاء يدعيه على الشركة وموظفيها أو المسؤولين فيها ووكلائها وموزعيها وملاك أسهمها وممثليها وكل من له صلة أو علاقة بها عن أي حق أو ضرر أو خسارة تقع عليه من جراء استخدام هذا البرنامج سواء كانت بصفة مباشرة أو غير مباشرة خطأ كانت أو عمداً. وفي نفس الوقت فإن المستخدم يتعهد بتعويض الشركة وحمايتها والدفاع عنها وعن شركاتها الفرعية وشركتها الأم وحملة أسهمها والموظفين والمسؤولين فيها وعمالها عن أي ضرر أو خسارة أو ضرائب أو أي مسؤولية من أي نوع كانت وأية مصاريف تتكبدها الشركة أو موظفيها أو عمالها أو حملة أسهمها ناشئة عن قيام الشركة بعملها الطبيعي في إتمام المهام الملقاة على عاتقها”.
“لا يقدم صاحب البرنامج ولا البائع ولا الموزع أية ضمانات أو تأكيدات أن هذا البرنامج صالح للعمل أو مناسب لأي تطبيق ولا انه يعتمد عليه في أي شئ أو أنه مستوفٍ لمتطلبات الدقة أو للشروط والمواصفات الفنية لا جملة ولا تفصيلاً وإنما يبيعه كما هو بدون أية ضمانات أو تأكيدات كما لا يتحمل صاحب البرنامج ولا الموزع أية مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة خاصة أو عامة من أي نوع كان ولا يتحمل التعويض عن الإضرار بأية صفة كانت”.
“يتنازل المستخدم عن كل حق له في الاحتكام إلى أية محكمة بما فيها محاكم البلد الذي يقيم فيه، عدا محاكم إنجلترا ويحتفظ صاحب البرنامج من جهة أخرى بحقه في مقاضاته في أية محكمة يختار بإرادته المطلقة والمنفردة ولا يلزم ذلك أن يكون في مكان إقامة مستخدم البرنامج أو في مقر عمله ولا في مكان صاحب البرنامج وإنما في أي محكمة يختارها وليس للمستخدم الاعتراض على ذلك”.
11- عقود الإذعان من وجهة نظر الاقتصاديين :
شُغل الاقتصاديون –كما شغل أهل القانون- بالعلاقات التعاقدية التي تنشأ بين الناس في مجال النشاط الاقتصادي، ومن ذلك العقود النمطية التي هي مظنة الإذعان. إلا ان الاقتصاديين مختلفون في نظرهم إلى عقود الإذعان عن أهل القانون حيث يرون ان الحكم بوجود الإذعان لا يمكن التوصل إليه بمجرد النظر في الصيغة التعاقدية وشروط العقد بل إلى لابد ان نأخذ في الاعتبار هيكل السوق الذي يستخدم فيه ذلك العقد. فإذا كانت السوق تنافسية لا يسيطر على العرض أو الطلب فيها منتج واحد او عدد قليل من الباعة، فإن العقود لا يمكن وصفها بإنها عقود إذعان حتى لو كانت نمطية لايتاح لأحد طرفيها المساومة على شروطها. لان القابل لها متاح له خيارات أخرى، حتى لو كان قام الطرف الأقوى بصياغة العقد بنفسه وعرضه على القابل به دون مجاذبة او مساومة.
فالقضية ترجع الى وجود الاحتكار، فإذا وجد وجدت عقود الإذعان أما إذا كانت السوق تنافسية بوجود عدد كافٍ من العارضين للسلعة أو الخدمة فإن ذلك يعني حرية التعاقد ويتحقق معه الرضا بصفة مباشرة عن طريق التفاوض بين الطرفين فإذا لم يوحد ذلك حصل الرضا بصفة غير مباشرة عن طريق ما تحدثه قوى العرض والطلب. وبهذا تخرج العقود التي لا يتوافر الطرف المعد لها على قوة احتكارية من تعريف عقود الإذعان، وتكون العقود التي يفرضها المحتكر على عملائه فقط مظنة الإذعان. لا ريب ان هذه المسألة واضحة بالنسبة لعنصر الثمن حيث يسود في السوق التنافسية الثمن الأمثل. إلا ان الاقتصاديين يرون ان القوة المنافسة لا يتوقف تأثيرها الحسن على الثمن إذ انهم يقولون ان الشروط الأخرى في عقود المعاوضات لا تختلف عن الثمن. وبما ان الثمن في السوق التنافسية يتحدد بما يشبه المساومة الجماعية بين الباعة والمشترين بحيث يكون السعر السائد في السوق هو الذي يحقق مصالح الطرفين، كذلك الحال بالنسبة للشروط الأخرى في العقود.
12- تجارب بعض الدول في التعامل مع العقود النمطية :
ان السعي نحو تحقيق العدل في المعاملات التي تجري بين الناس وسد ذرائع الظلم في المعاقدات أحد متطلبات السلام الاجتماعي وهي قيمة إنسانية تشترك فيها كافة المجتمعات المتحضرة عنى بها نظام الاسلام وجاءت مقصداً من مقاصد الشريعة في العقود.
يقول القرافي رحمه الله في هذا الشأن “قاعدة: مقصود صاحب الشرع صلاح ذات البين وحسم مادة الفتن حتى بالغ في ذلك بقوله: لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا”(4). وللأمم الأخرى خبرات في التعامل مع العقود النمطية، وما أنقلب منها إلى عقود إذعان حري بالاستفادة منه.
لقد اختلف تناول السلطات التشريعية والقضائية لهذه المسألة في الدول التي حصلنا على معلومات عنها.
ليس في فرنسا قانون خاص للعقود النمطية، ولكن يجري تنظيم هذه المسألة في التقنين الخاص بأغراض الاستهلاك. فالمادة R132-1 تنظم شروط العقود التي تنشأ بين تاجر ومستهلك، فهي تمنع “الشروط المجحفة” وهي التي تحد من الخيارات المتاحة للمستهلك في حال مخالفة التاجر لشروط العقد مثل ان تمنعه من التحاكم الى القضاء او الحصول على التعويض ونحو ذلك. ويتضمن التقنين المذكور أمثلة على الشروط التي لا يجوز ان يتضمنها عقد بين تاجر ومستهلك. كما ينص القانون على إنشاء هيئة دائمة ضمن إدارة حماية المستهلك تقرر “قانونية” الشروط التي ترد في تلك العقود في حال الاختلاف. وجلي ان المشرع الفرنسي لا يرى العقود التي تنشأ بين التجار أو الشركات بحاجة الى مثل هذا الاهتمام لقدرتهم على حفظ حقوقهم. وقد تضمن القانون المذكور ملحقاً يتضمن قائمة (غير كلية) الشروط التي تعد شروطاً مجحفة ولا يجوز النص عليها في العقود.
وإذا تقرر ان العقد يتضمن شروطاً مجحفة، فإن ذلك لا يعني في المحاكم بطلان العقد برمته وإنما يصح منه ما سلم من ذلك.
ومعالجة قضايا العقود النمطية في الولايات المتحدة يرجع الى المحاكم. إذا أدعى أحد طرفي العقد النمطي أن ذلك كان عقد إذعان فان المحاكم تفرق في النظر بين العقود الاستهلاكية أي التي يكون طرفها القابل فرداً يشتري سلعة أو خدمة من شركة كبيرة وبين العقود التجارية التي تقع بين الشركات. وتعد عقود العمل جزءاً من العقود الاستهلاكية. ثم تقوم بالنظر في نصوص العقد وشروط وتفسرها جميعاً لصالح الطرف الأضعف (أي المستهلك)، فإذا لم يكن ذلك كافياً أبطلت ما كان فيها من شروط تراها منافية لمقتضيات العدالة. ولكنها لا تفسد العقد برمته.
فمثلاً إذا اشترط رب العمل على العامل التنازل عن اللجؤ إلى المحاكم، وانه إن فعل فسوف يفقد حقه في مكافأة نهاية الخدمة أو التأمين الصحي أو التقاعد، فإن المحاكم تسقط هذا الشرط فوراً. ولكن لو نص على مثل ذلك الشرط ولكن أضيف الى ذلك إن عليه إن يعطي فرصة كاملة للصلح وفض المنازعة بواسطة لجنة مشتركة قبل ان يلجأ الى القضاء، فان لجؤه الى القضاء قبل ذلك لا تقبله المحكمة. أو نص على انه إن أراد اللجؤ إلى المحاكم لزم إن يفعل ذلك خلال مدة يحددها العقد وإلا سقط حقه في ذلك، اتجهت المحاكم إلى قبول مثل ذلك الشرط ولم تقبل منه اللجؤ الى المحكمة اذا فات ذلك التاريخ لما تجده من مصلحة واضحة لرب العامل دون ضرر بالغ على العامل(5).
13- الأشكال في عقود الإذعان :
إن تحقق العدل في المعاملات التي تجري بين الناس مقصد شرعي وهو أساس حصول الاستقرار والسلام الاجتماعي ولذلك منع الشارع أنواعا من المعاقدات التي مبناها الظلم كالربا والميسر أو التي تفظي إلى النزاع بين الناس كعقود الغرر والقمار واشترط في المعاقدات ان يدخل فيها الناس برضا وارادة حرة وعلى علم تام وانتفاء جهالة. والرضا أمر خفي لا يمكن الجزم بعدم وجوده بمجرد النظر في صيغة العقد. إلا ان عقود الإذعان لما كانت قد صممت على أساس ان تقبل أو ترفض دون وجود مساومة حقيقية بين طرفيها في الشروط كانت مظنة الفساد لاحتمال ان تكون حقيقتها انها عقود إكراه لا تتوافر على الرضا، وربما تظمنت شروطاً منافية لمقتضيات العدالة أو مخالفة لأحكام الشريعة. ما نحتاج الى الاجابة عنه والحال هذه ثلاثة اسئلة :
الأول : مالصيغة للعقود النمطية التي يجزم فيها بانعدام الرضا فتعد من عقود الإكراه؟
والثاني : هل يعذر المسلم في الدخول في عقد اذعان اذا تضمن شروطاً مخالفة لمجرد عجزه عن تغيير شروط العقد؟
والثالث: مالذي يجب على ولي الأمر عمله حتى نتفادى مفاسد عقود الاذعان دون اغلاق الباب على مصالح تنميط العقود؟
ولكن قبل ذلك نتنازل مسألة الرضا والإكراه ومعنى بيع المكره وحكمه.
14- الرضا وأهميته في العقود:
أ- الرضـــا :
الرضا في اللغة الاختيار والموافقة والارتياح وطيب الخاطر وهو خلاف السخط، والتراضي أساس صحة عقود المعاوضات فيتوقف عليه انعقادها. يدل على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم”(6).
فقد نهى في الآية عن أكل الأموال بالباطل واستثنى التجارة عن تراضٍ من هذا النهي.
ومن السنة ما رواه أبو داود من حديث أبى سعيد الخدري مرفوعاً “إنما البيع عن تراض” أخرجه ابن حبان وابن ماجه والبيهقي وفي روايته قول المصطفى عليه السلام “لألقين الله من قبل ان أعطي أحدا من مال أحد شيئاً بغير طيب نفسه إنما البيع عن تراضٍ”، ومنها قوله عليه السلام “لا يحل مال امرأ مسلم إلا من طيب نفس منه”.
قال ابن العربي في أحكام القرآن، في تفسير قوله تعالى : (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل): “المسألة السابعة: قوله تعالى “عن تراضٍ منكم” وهو حرف أشكل على العلماء حتى اضطربت فيه آراؤهم قال بعضهم التراضي هو التخاير بعد عقد البيع قبل الافتراق من المجلس وبه قال ابن عمر وأبو هريرة وشريح والشعبي وابن سيرين والشافعي… وقال آخرون إذا تواجبا بالقول فقد تراضيا يروى عن عمر وغيره وبه قال أبو حنيفة ومالك والصحابة”(7).
ويرى جمهور الفقهاء ان الانعقاد يتوقف على إرادة التعبير والرضا بالحكم عملاً بآية التراضي والأحاديث التي بمعناها. ولذلك جاء تعريف البيع في كثير من كتب الفقه بأنه “مبادلة المال بالمال بالرضا”. فإذا لم يحصل الرضا وانعقد العقد كان انعقاده على إكراه.
ب- الإكــراه :
والإكراه في اللغة إثبات الكره والكره ما نافى المحبة والرضا، والإكراه في الاصطلاح هو إجبار أحد على ان يعمل عملاً بغير حق من دون رضاه بالإخافة ونحوها. قال صاحب المبسوط في الكره المعتبر “ان يصير خائفاً على نفسه من جهة المكره في إيقاع ما هدده به عاجلاً لأنه لا يصير ملجأ محمولاً طبعاً(8).
وقال صاحب المغني في معنى الإكراه :
“فصل: والإكراه على الفعل ينقسم قسمين أحدهما إن يُلجأ إليه مثل من يحلف لا يدخل داراً فحمل فأدخلها أو لا يخرج منها فأخرج محمولاً أو مدفوعاً بغير اختياره ولم يمكنه الامتناع… والثاني إن يكره بالضرب والتهديد بالقتل ونحوه..”.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن :
“المضطر هو المكلف بالشيء الملجأ إليه المكره عليه ولا يتحقق اسم المكره إلا لمن قدر على الشيء ومن خلف الله فيه فعلاً لم يكن له عليه قدرة كالمرتعش والمحموم لا يسمى مضطراً ولا ملجأ… المضطر المحتاج ولكن الملجأ مضطر حقيقة والمحتاج مضطر مجازاً”.
وقال ابن حزم في المحلى (كتاب الإكراه):
“الإكراه كل ما سمي في اللغة إكراها وعرف بالحس انه إكراه كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به والوعيد بالضرب كذلك أو الوعيد بالسجن كذلك أو الوعيد بإفساد المال…”.
ثم قال : “الإكراه ينقسم إلى قسمين إكراه على كلام وإكراه على فعل فالإكراه على الكلام لا يجب به شئ وان قاله المكره كالكفر والقذف والإقرار والنكاح والطلاق والبيع والابتياع… فصح إن كل من اكره على قول ولم يتفوه مختاراً له فإنه لا يلزمه”.
وقال الشافعي في الأم (باب الدعوى والصلح):
“والإكراه من كان أقوى من المكره في الحال التي يكرهه فيها التي لا مانع له فيها من إكراهه ولا يمتنع هو بنفسه سلطاناً كان أو لصاً أو خارجياً أو رجلا في صحراء أو في بيت مغلق على من هو أقوى منه”.
ولا يكون الإكراه إلا على أمر لا يحبه أو لا يريده أو ما كان له إن يفعله لو كان له حرية الإرادة في ذلك. يقول السرخسي في المبسوط: “.. وفيما اكره عليه إن يكون المكره ممتنعاً منه قبل الإكراه إما لحقه أو لحق آدمي آخر أو لحق الشرع”(9).
وقال أيضاً: “واصل المسألة إن تصرفات المكره قولا منعقد عندنا إلا إن ما يحتمل الفسخ منه كالبيع والإجارة يفسخ ومالا يحتمل الفسخ منه كالطلاق والنظام والعتاق وجميع ما سميناه فهو لازم”(10).
ج- حكم بيع المكره :
قال ابن حزم في المحلى، كتاب البيوع: “مسألة : ولا يحل بيع من أكره على البيع وهو مردود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عفا لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”. وقوله تعالى (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا إن تكون تجارة عن تراض منكم) فصح إن كل بيع لم يكن عن تراض فهو باطل إلا بيعاً أوجبه النص…”.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى (إلا إن تكون تجارة عن تراض منكم) “المسألة الثامنة هذا نص على إبطال بيع المكره لفوات الرضا فيه وتنبيه على إبطال أفعاله كلها حملاً عليه”.
وقال الشيرازي في المهذب كتاب البيوع “فأما المكره فان كان بغير حق لم يصح بيعه لقوله تعالى (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا إن تكون تجارة عن تراضٍ منكم”.
وقال في بدائع الصنائع “فلا يصح بيع المكره إذا باع مكرها وسلم مكرها لعدم الرضا فإذا باع مكرها وسلم طائعاً فالبيع صحيح”(11).
هل الاذعان لشروط الطرف الآخر دليل على الإكراه :
ان الاذعان لشروط الطرف الآخر ليس دليلاً كافياً لوجود الإكراه وانعدام الرضا، يشهد لذلك ما ذكره الفقهاء من ان المكره اذا تصرف بعد التعاقد تصرفاً لم يكن فيه مكرهاً فقد حصل منه الرضا. وكذا في المبسوط “ولو اكرههما على البيع والشراء ولم يذكر لهما قبضاً فلما تبايعا لم يتقابضا حتى فارق الذي اكرههما ثم تقابضا على ذلك البيع فهذا رضائهما بالبيع أجازه له”(12).
قال صاحب المجموع: “المصادر من جهة السلطان وغيره من يظلمه بطلب مال وقهره على إحضاره إذا باع ماله ليدفعه إليه للضرورة والأذى الذي يناله.. فيه وجهان مشهوران … أحدهما لا يصح كالإكراه وأصحهما يصح.. لأنه لا إكراه على نفس البيع ومقصود الظالم تحصيل المال من أي جهة كان” (المجموع شرح المهذب).
وقال في بدائع الصنائع “فلا يصح بيع المكره إذا باع مكرهاً وسلم مكرهاً لعدم الرضا فأما إذا باع مكرهاً وسلم طائعاً فالبيع صحيح” (البدائع كتاب البيوع فصل في شرائط الصحة في البيوع).
ولا يغير كثيراً من الحكم كون القابل مضطراً الى التعاقد ان كان اضطراراً من حيث الحاجة الى التعاقد وليس الإكراه عليه بالقوة الغاشمة.
قال النووي في المجموع (كتاب البيوع باب المكره على البيع): “فرع: ذكر الخطابي في تفسير حديث علي رضي الله عنه إن بيع المضطر يكون على وجهين أحدهما إن يضطر إلى العقد عن طريق الإكراه عليه فلا ينعقد العقد والثاني إن يضطر إلى البيع لدين أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس من أصل الضرورة فسبيله من حيث المرؤة إن لا يترك حتى بيع ماله ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له فيه بلاغ فان عقد البيع على هذا الوجه صح ولا يفسخ ولكن كرهه عامة أهل العلم هذا لفظ الخطابي رحمه الله”.
ولذلك نقل صاحب درر الحكام عن الزيلعي قوله “والحاصل ان عدم الرضا معتبر في جميع صور الإكراه وأصل الاختيار في جميع صوره ثابت لكن في بعض الصور يفسد الاختيار وفي بعضها لا يفسد” (مادة 948).
15- ماهي الصيغة من العقود النمطية التي يجزم فيها بانعدام الرضا وانها من عقود الإكراه :
لا يكون الإكراه إلا بوجوده قوة قاهرة يذعن لها الفرد خوفاً من وقوع امر لا يحبه وتكون قادرة على ذلك الأمر به، فإذا دخل في العقد تحت هذا الضغط كان مكرهاً ولكن لو انه تصرف بما يدل على الرضا لم يكن مكرهاً حتى تحت ذلك الضغط فلو ارغم على البيع بتهديد، ولكنه أقبض البائع برضاه لم يكن مكرهاً.
ولو كان في حاجة ماسة فدخل في العقد لحاجته لم يكن مكرهاً. ولو كان مكرهاً على أمر لا يتم إلا بالدخول في عقد فدخل فيه لم يكن من عقود الإكراه كمن اكره على دفع المال فباع بعض متاعه فليس بيعه فاسداً للاكراه.
وقد قدمنا أعلاه النقول الدالة على ما ذكره اذاً لا يمكن وصف العقد النمطي الذي يدخل فيه الفرد حتى لو دخل فيه دون مناقشة ولا قدرة على تغير شروطه او المساومة عليها بانه من عقود الإكراه إلا اذا ارغم على الدخول فيه بالتهديد ونحوه ولم يتصرف تصرفاً بعد ذلك يدل على رضاه. ومثل ذلك لا يقع في المعاملات المعاصرة. وليس في عقود الاذعان مثل ذلك.
جلي مما سبق بحثه إن عقود الإذعان، وهي التي تتضمن شروطاً ما كان للقابل إن يرضى بها لو كان له حرية الاختيار، مثل هذه العقود لا تصل إلى وصف الإكراه فإن الدخول فيها يبقى قراراً يتخذه القابل ويمكنه الامتناع عنه. فإذا اندفع إليه بحكم حاجته إلى الخدمات أو ما إلى ذلك فليس هذا مما يدخل في تعريف الإكراه. حتى لو كان محل العقد سلعة ضرورية او حاجة ماسة له.
16- لا يعذر المسلم في الدخول في عقود فيها شروط مخالفة لأحكام الشريعة لمجرد كونها من عقود الاذغان :
اذا وجد من المتعاملين في الأسواق من يبيع سلعاً او خدمات مباحة إلا انه يعتمد في بيعه على صيغ عقود نمطية لا يسمح للطرف الآخر بمناقشة ما فيها وانما له ان يقبلها كما هي او يرفضها كما هي، وقد ضمنها شروطاً مخالفة لأحكام الشريعة، تؤدي الى فساد العقد فلا يجوز للمسلم الدخول فيها. فان قيل لعله يكون مضطراً لكونها من عقود الاذعان فالجواب عن ذلك ان الاضطرار الذي يبيح المحظور هو ما فصل الفقهاء في وصفه ولا يقع مثل ذلك في معاملات الناس المعتادة. يقول ابن حزم في المحلى كتاب البيوع “المضطر الى البيع كمن جاع وخشي الموت فباع فيما يحمي به نفسه وأهله وكمن لزمه فداء نفسه او حميمة من دار الحرب او كمن أكرهه ظالم على غرم ماله بالضغط…” وإذا كان الانسان في مثل ذلك الوضع ابيح له المحظور بقدر ما يسد رمقه او ينقذه من الهلاك. قال الجصاص في أحكام القرآن في قوله تعالى “إلا ما اضطررتم إليه” قال “فعلق الإباحة بوجود الضرورة والضرورة هي خوف الضرر”. وكل ذلك لا نراه يقع في المعاملات التي تجري بين الناس والتي مجالها العقود النمطية.
17- ما يجب على ولاة الأمر عمله في العقود النمطية :
قد بينا آنفاً ما في العقود النمطية من فوائد على المتعاملين بها وتنميط العقود كسائر امور الحياة فيه جهتا نفع وضرر ويجب العمل على تغليب النفع فيها وسد الذريعة الى ما فيه ضرر. ويحصل ذلك بتبني السياسة الصحيحة التقنين المناسب في المسألة مستفيدين من تجارب الأمم الأخرى في هذه القضايا. ومن ذلك تبني الخطوات التالية :
عند الحاجة الى العقود النمطية يجب العمل على ان يتم اعداد صيغها من قبل أهل الاختصاص وأن توافق عليها جهات رسمية كوزارات التجارة أوهيئات حماية المستهلك واتحادات العمال ونحوها، وان تأخذ باعتبارها عند الاعداد مصالح اطرافها جميعاً.
ان تعنى جهات حماية المستهلك بإيجاد قائمة بالشروط التي لا يجوز ان تتضمنها العقود النمطية اذا كانت تئول الى الإذعان أويترتب عليها الظلم أو الاقتصاد الى النزاع بين الناس.
اهتمام المحاكم عند النظر في القضايا المتعلقة بالعقود الاستهلاكية، بمسألة تحقق الرضا فيها وبعدها عن الإذعان وان تفسر نصوص العقود لصالح الطرف الأضعف.
إيجاد اتحادات المستهلكين التي من شأنها ان تجعل القوة التفاوضية لأفراد الناس مجتمعة ومؤثرة مما يحقق الحماية لهم امام الشركات العظيمة والمؤسسات الكبيرة.
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم والحمد لله أولاً وأخراً ،،،،
الحواشي
1- ذكر ذلك السنهوري في الموجز في النظرية العامة للالتزام ص 68. عبدالرزاق السنهوري: النظرية العامة للإلتزامات، مطبعة لجنة التأليف والترجمة للنشر 1983م.
2- أورد الحديث الرازي في مختار الصحاح .
3-W. David Slawson Standard Form Contracts & democratic Control of Lawmaking Power Harvard Law Review 84 (1971).
4- القرافي في الذخيرة، عند افتتاح الباب الأول من القسم الخامس في السلم، ص225، ج5.
5- جميع ذلك من موقع LEX2K على الشبكة العالمية. LEX2K.ORG
6- سورة النساء، آية 29
7- ابن العربي في أحكام القرآن، تفسير سورة النساء.
8- درر الحكام، مادة 948.
9- المبسوط كتاب الإكراه.
10- كتاب الإكراه.
11- بدائع الصنائع، ص 177
12- كتاب الإكراه
Privacy Policy Webmaster Elgarisite
اترك تعليقاً