الفقه الإسلامي و الحقوق المعنوية
الدكتور عبد السلام داود العبادي
الحمد لله رب العالمين و أصلي و أسلم على رسول الله محمد بن عبد الله و على آله وصحبه و من اقتدى به إلى يوم الدين … أما بعد
فإن الحقوق المالية المعنوية من القضايا المستجدة التي برزت بشكل واضح نتيجة تطور الحياة المدنية و الاقتصادية و الثقافية و العلمية .. فكثرت الأمور المعنوية ذات القيمة المالية التي بات موضوع اختصاص أصحابها و مدى سلطاتهم عليها محل بحث ومناقشة.. وقد انتهت كثير من القوانين الوضعية على اختلاف بينها إلى تقرير هذا الاختصاص و تحديد سلطات أصحابها عليها .. و قد أوجب ذلك ضرورات تشجيع النشاط الإنساني المبدع بكل صوره و حماية مكتسباته ، ومنع صور التلاعب و التحايل و الاستغلال لجهود الآخرين و أي إثراء غير مشروع على حسابهم و قد
درس فقهاء الشريعة الإسلامية المحدثون هذا الموضوع ، وبينوا استيعاب قواعد الفقه الإسلامي له ، و أوضحوا حرص الشريعة على حماية هذه الحقوق و تنظيم أوضاعها بما يكفل تحقيق المصالح المشروعة و صيانة قواعد العدالة و حماية مسيرة التقدم الإنساني من كل مظاهر الاستغلال و التلاعب.
و أعرض فيما يلي المقصود بالحقوق المعنوية ، ثم أبين موقف القوانين الوضعية منها .. و بعد ذلك اعرض موقف الفقه الإسلامي منها مبيناً القواعد الشرعية التي تحميها و تصونها و تنظم أمورها.
أولاً : المقصود بالحقوق المعنوية :-
يستعمل القانونيون اصطلاحات متعددة في وصف الاختصاصات التي تقوم الأشخاص على الأشياء المعنوية ذات القيمة المالية بحيث يخوّلهم ذلك سلطات معينة عليها.. و بعض الاصطلاحات شامل لأنواعها أو لكثير منها، وبعضها يطلق على نوع منها دون غيره ، و من هذه الاصطلاحات : الحقوق المعنوية ، الحقوق الذهنية ، الحقوق الأدبية ، الحقوق الفكرية ، حقوق الابتكار ، الملكية الأدبية و الفنية الصناعية ، الاسم التجاري ، حق الاختراع ، حقوق التأليف.
و قد عرف القانونيون الحق المعنوي بأنه سلطة لشخص على شيء غير مادي هو ثمرة فكره أو خياله أو نشاطه كحق المؤلف في مؤلفاته العلمية و حق الفنان في مبتكراته الفنية و حق المخترع في مخترعاته و حق التاجر في الاسم التجاري و العلامة التجارية و ثقة العملاء. و الحق المعنوي نوع من أنواع الحق المالي، وهو الذي يمكن تقويمه بالمال فهو يخول صاحبه قيمة مادية تقدر بالمال أو النقود و الحق في نظر فقهاء الشريعة : اختصاص ثابت في الشرع يقتضي سلطة أو تكليفاً لله على عباده أو لشخص على غيره.
و يطلق فقهاء الشريعة لفظ الحقوق المالية على كل حق هو مال، أو المقصود منه المال، مثل حق الملك ، وحق التملك و حق الانتفاع. لذا فإن قواعد الفقه الإسلامي تغطي هذا النوع من الحقوق كما سنرى تفصيلاً فيما بعد.
و يتجه الأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي إلى ترجيح تسمية هذا النوع من الحقوق بحقوق الابتكار ، لأن اسم الحقوق الأدبية – أحد التسميات المشهورة لهذا النوع من الحقوق كما بين – ضيق لا يتلاءم مع كثير من أفراد هذا النوع من كالاختصاص بالعلامات الفارقة التجارية و الأدوات الصناعية المبتكرة ، و عناوين المحال التجارية مما لا صلة له بالأدب و النتاج الفكري ( أما اسم حق الابتكار فيشمل الحقوق الأدبية كحق المؤلف في استغلال كتابه ، والصحفي في امتياز صحيفته ، و الفنان في أثره الفني من الفنون الجميلة كما يشمل الحقوق الصناعية و التجارية مما يسمونه اليوم بالملكية الصناعية كحق مخترع الآلة و مبتدع العلامة الفارقة التي نالت الثقة ، و مبتكر العنوان التجاري )
ثانياً : موقف القوانين الوضعية من هذه الحقوق:-
اتفق القانونيون على اعتبار الحقوق المعنوية من الحقوق المالية التي يقسمونها إلى حقوق عينية و حقوق شخصية و لكنهم مختلفون بعد ذلك .. هل تعتبر هذه الحقوق من الحقوق المالية العينية أم أنها حقوق مالية مستقلة بالإضافة إلى الحقوق العينية الشخصية ، فذهب بعض القانونيون إلى أن الحقوق المالية تقسم إلى : حقوق عينية ، وحقوق شخصية ، وحقوق معنوية ، فالحق المعنوي قسم للحق العيني و الحق الشخصي. و كان ذلك نتيجة أن معنى الحق العيني عندهم عبارة عن سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شكل معين . و هذا الشيء المعين لا بد أن يكون شيئاً مادياً متعيناً بذاته في الوجود الخارجي، فتنصب سلطة صاحب الحق عليه مباشرة.
و لما ظهرت الحقوق المعنوية ، نتيجة لتطور الحياة ، وأقرتها القوانين العصرية اعتبرها هؤلاء القانونيون نوعــــاً مستقلاً من أنواع الحقوق المالية لم تتصف به من خصائص تميزها عن الحقوق العينية و الشخصية نتجت من كون محلها غير مادي. وذهب قانونيون آخرون إلى أن الحق المعنوي لا يعتبر نوعاً من أنواع الحق المالي بالإضافة إلى الحق العيني و الحق الشخصي إنما
هو حق من الحقوق العينية ، و إن الشيء الذي تنصب عليه السلطة في الحق العيني أعم من أن يكون مادياً أو معنوياً.
ثم إن هؤلاء اختلفوا فيما بينهم حول طبيعة هذا الحق المعنوي ، بعد أن قرروا أنه عبارة عن حق عيني: فمنهم من اعتبر الحق المعنوي حق ملكية أو نوعاً خاصاً من الملكية لذلك فهم يطلقون على هذا الحق تسمية : الملكية الأدبية و الفنية الصناعية. و منهم من اعتبره حقاً عينيا أصلياً مستقلاً عن حق الملكية بمقوماته الخاصة.
و قد احتج المانعون أن يكونا الحق المعنوي حق ملكية ، بان حق الملكية ينصب على شيء ويخول صاحبه سلطة استعمال الشيء و استغلاله و التصرف فيه ، و الاستعمال لا يتصور بالنسبة للحق المعنوي ، لأن الاستفادة منه لا تكون إلا باستغلاله و التصرف فيه ، فلا يمكن أن يستفاد منه إذا قصر صاحبه استعماله على نفسه ، فعنصر الاستعمال الذي هو أقوى عناصر الملكية غير موجود في هذا الحق ، لذلك يسميه بعض القانونيون بأنه حق احتكار الاستغلال ، وليس حق ملكية. كما أن حق الملكية حق مؤبد ، في حين أن هذا الحق بطبيعته حق مؤقت .
و قد أجاب الآخرون عن هذه الحجج بأنها لا تمنع من أن يكون الحق المعنوي نوعاً خاصاً من الملكية، وذلك أن الحق المعنوي يتفق مع الملكية العادية في نواحٍ ، ويختلف عنها في أخرى فهو عبارة عن سلطة تنصب على الشيء المعنوي مباشرة دون و ساطة و تخوّل صاحبه حق الاستغلال و التصرف في حين أنه بحكم طبيعته و هو كونه يقع على شيء غير مادي لا يقبل الاستئثار ، ولا يصح أن يكون مؤبداً.
و قد كان القانون المدني المصري القديم سنة 1883 م يتضمن في المادة ( 12) منه : أن الحكم فيما يتعلق بحقوق المؤلف في ملكية مؤلفاته و حقوق الصانع في ملكية مصنوعاته يكون حسب القانون الخاص بذلك .. مما يدل على أن القانون القديم يذهب إلى اعتبار هذه الحقوق حقوق ملكية ، ولكن لم يصدر القانون الخاص الموعود حتى صدور القانون الجديد سنة 1948م ، الـــذي أشـــار فـــي المادة ( 86) منه إلى أن تنظيم هذه الحقوق متروك لقانون خاص يصدر به . لكنه لم يسمّ هذه الحقوق بالملكية ، كما فعل القانون السابق بل سمّاها الحقوق التي ترد على شيء غير مادي مما يدل على أن القانون المصري لم يرد الخوض في الخلاف حول طبيعة هذه الحقوق , و حسمه بشكل ما.
يقول الأستاذ عطا الله إسماعيل : ( ويتضح مما ذكر عن مختلف النظريات في شأن هذا الحق أن جوهره ما زال موضع التقصي و البحث..) ثم يقول : ( وحسناً فعل المشرّع المصري إذ لم يتقيد بنظرية بعينها فيما وضع من حلول لمختلف الفروض و المسائل التي عرض لها في تقنية لحقوق التأليف ).
ثالثاً: موقف الفقه الإسلامي من الحقوق المعنوية :-
أمّا الأمر في الفقه الإسلامي فيختلف ذلك أن دائرة الملك في الشريعة أوسع منها في القانون ، فلا تشترط الشريعة أن يكون محل الملك شيئاً مادياً معيناً بذاته في الوجود الخارجي إنما هو كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع على الراجح من أقوال الفقهاء و الذي معياره أن يكون له قيمة بين الناس ، و يباح الانتفاع به شرعاً و هو ما تقرر وفق اصطلاح جمهور الفقهاء كما سنرى .
و على ذلك فمحل الحق المعنوي الذي سماه القانون بالشيء غير المادي ، داخل في مسمى المال في الشريعة ، ذلك أن له قيمة بين الناس ، ويباح الانتفاع به شرعاً بحسب طبيعته ، فإذا قام الاختصاص به تكون حقيقة الملك قد وجدت.
كما أن الاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإسلامي ، ليس معناه احتواء الشيء من قبل المالك إنما معناه أن يختص به دون غيره .. فلا يعترضه في التصرف فيه أحد و التصرف يكون في الأشياء حسب طبيعتها ، لذلك يختلف مدى التصرف في أنواع الملك الشرعية من نوع إلى آخر .
و الشريعة أيضا لا تشترط معنى التأبيد لتحقيق معنى الملك .. بل إن طبيعة ملك المنفعة مثلاً ، تقتضي أن يكون مؤقتاً .. كما في منفعة ملك العين المستأجرة ، وملك منفعة العين الموصى بمنفعتها دون رقبتها.
فإذا كان لا بد أن يتأقت الحق المعنوي بمدّة معينة بحجة أن صاحب الحق المعنوي قد استفاد من جهد غيره ، فهو ليس جهداً خالصا له كما أن جهده ضروري لتقدم البشرية ورقيها ، و مقتضى ذلك أن لا يكون حقه حقاً مؤبداً .. فإن هذا التأقيت لا يخرجه من دائرة الملك في الشريعة.
و يبدوا أن هذه الحقوق لم تقم في المجتمع الإسلامي رغم نشاط حركة التأليف. – مثلاً – فيه من ا لقديم لأن الإسلام يدعوا إلى ما فيه نفع للأمة ، بل إن ما لا تستغني عنه الأمة يعتبر من فروض الكفاية التي تأثم الأمة جميعها بتركها ، كما أن العلم و خاصة العلم الشرعي لا يحل كتمه .. فالتأليف مثلاً كان عبارة عن شعور بالواجب و رغبة في الثواب و الأجر بل كان المؤلف يحرص على نشره بكافة الطرق ، لأن في ذلك مزيداً من الأجر و الثواب و عليه لم تبرز فكرة استحقاق الشخص لما ينتجه من أشياء غير مادية و إن كانوا حريصين على نسبة الآراء إلى أصحابها.
ولكن إذا انصرف الناس عن إنتاج ما هو نافع من الأشياء غير المادية، و أخذ بعض الناس يستغلون ما ينتجه غيرهم من هذه الأمور .. ما يؤدي على الإضرار بهم و من ثم امتناعهم عن إنتاج و نشر مثل هذه الأمور، فإنه يمكن أن توضع القواعد التي تكفل تنظيم هذا الأمر بالشكل الذي تتحقق به مصلحة الأمة.
و لما كانت الأشياء غير المادية تدخل في مسمى المال في الشريعة ، لأن لها قيمة بين الناس و مباح الانتفاع بها شرعا و قد قام الاختصاص بها فعلى هذا الأساس يمكن أن تنظم باعتبارها نوعاً من أنواع الملك. و قد اهتم بعض القانونيون بالحقوق المعنوية في الشريعة و حاولا تلمس أسس حمايتها و تنظيمها فيها .. يقول الدكتور محمد صادق فهمي : ( و نعتقد أن الروح التي تهيمن على التشريع الإسلامي تأبى إلا أن تعترف بحقوق المؤلفين ، لأن التشريع يأبى على الشخص أن يضر بغيره، كما اغتيال عمل مؤلف إن هو إلا سلوك إجرامي تأباه الشريعة الإسلامية ، و في قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار ) ما يكفي لحماية حقوق المؤلفين.
و أوضح أن فيما عرضناه بياناً شافياً للأسس التي يمكن أن نعتمد عليها بسهولة لحماية هذه الحقوق و تنظيمها. و لنزيد هذا الأمر إيضاحاً لا بد من التعريف بإيجاز بحقيقة كل من المال و الملك في الفقه الإسلامي
1- حقيقة المال في الفقه الإسلامي :
الذي يؤخذ من المعاجم والقواميس اللغوية ، أن المال في اللغة العربية يطلق على كل ما تملّكه الإنسان و حازه بالفعل من كل شيء سواءً أكان عيناً أو منفعة .. أما ما لم يتملكه الإنسان و لم يدخل في حيازته بالفعل ، فلا يعد مالاً في اللغة كالطير في الهواء و السمك في الماء و الأشجار في الغابات.
ففي القاموس المحيط : ( المال ما ملكته من كل شيء ) و في لسان العرب : ( المال – معروف – ما ملكته من جميع الأشياء )
و المال في الاصطلاح لم يرج له تعريف عن الشارع يحدد معناه تحديداً دقيقاً بل ترك لما يتعارف الناس عليه منه .. فالعربي الذي نزل القرآن بلغته حين يسمع لفظة المال يفهم المراد منها كما يفهم ما يراد بلفظة السماء و الأرض ، ولذلك نجد بعض أصحاب المعاجم اللغوية يقولون: ( المال معروف ) ، فالكتاب الكريم و السنة الشريفة جاءت فيهما كلمة المال مرات كثيرة ، و ترك للناس فهمها كما يعرفون ويألفون .. ولم يحدد الشارع له حقيقة اصطلاحية بحيث إذا أطلق تبادرت إلى الأذهان كما هو الحال في الصلاة والصيام .. فإذا قرأ العربي أو سمع حديث الرسول عليه الصلاة والسلام : ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) فهم المراد من المال بالطريقة التي يفهم بها كلمة العرض و كلمة النفس من غير الرجوع إلى اصطلاح خاص .
و عندما قامت المذاهب الفقيه و استعمل لفظ المال مراداً به معان اصطلاحية انشغل الفقهاء بوضع تعار يف له .. وقد اختلفت تعريفاتهم على ضوء اختلافهم في المعاني الاصطلاحية المرادة منه و قد قام بهذا الصدد اصطلاحان رئيسيان هما : اصطلاح الحنفية و اصطلاح الجمهور.
( أ ) اصطلاح الحنفية :-
عرّف فقهاء المذهب الحنفي المال بتعريفات كثيرة مختلفة في ألفاضها متقاربة في مفهومها ومعناها . و الاختلاف بينها ليس ناشئاً عن اختلاف في فهم حقيقة المال في المذهب الحنفي ، بل هو اختلاف في العبارات و مدى دقتها في بيان اصطلاح الحنفية في معنى المال . و فقها الحنفية يوجبون لتحقيق مالية الشيء اجتماع أمرين :
أولاهما:- أن يكون شيئاً مادياً يمكن إحرازه و حيازته فيخرجون عن معنى المالية كل ما لا يتحقق فيه هذا الشرط كالمنافع و الديون و الحقوق المحضة مثل حق التعلي و حق الأخذ بالشفعة و حق الشرب و المسيل كما يخرجون منه أمثال حرارة الشمس و ضوء القمر و كل الأمور المعنوية كالشرف و الصحة.
ومن هنا يظهر أ ن فقهاء الحنفية لا يشترطون أن يكون الشيء مملوكاً بالفعل ليعتبر مالاً ، كما هو مقرر في اللغة إنما يكتفون بإمكان تملكه ، فالصيد في الفلاة و كذلك الطير في السماء يعتبر عندهم مالاً لإمكان إحرازه و تملكه.
ثانيهما: أن يكون الشيء منتفعاً به انتفاعاً معتاداً فلحم الميتة و الطعام الفاسد ليسا بمال لأنهما لا ينتفع بهما أصلاً و حبّة القمح وقطرة الماء ليستا بمال ، لأنهما لا ينتفع بهما انتفاعاً معتاداً فهذه الأمور لا تعد مالاً و إن أمكن حيازتها وذلك لعدم تحقق العنصر الثاني من عناصر المالية. و المراد بالانتفاع الانتفاع المشروع في حال السعة و الاختيار دون حال الضرورة فجواز الانتفاع بلحم الميتة في حال الضرورة لا يجعل منه مالاً فيقتصر على جواز الانتفاع و لا حاجة للقول بالمالية لأن الضرورة تقدر بقدرها. وليس المقصود بالانتفاع هنا ، انتفاع الناس كافة بل يكفي فيه انتفاع بعضهم فلا تزول مالية الشيء إلا إذا ترك الناس كلهم تموله ، لم تكن له منفعة أصلاً أما إذا ترك بعض الناس تموله و بقي منتفعاً به عند بعضهم فلا تزول ماليته كالملابس القديمة التي يستعملها بعض الناس دون بعضهم الآخر. و واضح أن هذه العنصرين قد نص عليهما بوضوح في تعريف من عرف المال من فقهاء الحنفية بأنه : ما يمكن حيازته ، و إحرازه و الانتفاع به انتفاعاً معتاداً.
وقد عرف بعض فقهاء المال باصطلاح الحنفية بأنه : كل عين ذات قيمة مادية بين الناس فصاحبه نظر في إلى أن اعتاد تمول عين و صيانتها و الانتفاع بها يستلزم القيمة إذ لا يعتاد الناس هذا في الشيء.. بحيث يحمي تارة ويبذل تارة أخرى إلا لمنعة مادية أو معنوية يقدرونها فيه فتتجه إليه الرغبات و الرغبات يبذل في سبيل تحقيقها و الحصول عليها أعواض مادية .. لذلك استغنى عن النص في التعريف على الانتفاع المعتاد و وضع بدله أن تكون العين ذات قيمة مادية بين الناس مشيراً إلى أن القيمة هي القيمة بالمعنى الاقتصادي العام والتي خرج بها ما لا قيمة له من الأعيان بين الناس إما لحرمته على جميع الناس كالميتة أو لتفاهته كحبة القمح.
( ب) اصطلاح الجمهور :
اصطلح جمهور الفقهاء على معنى معين للمال هو أوسع من اصطلاح الحنفية و الناظر في تعار يف الجمهور و نصوصهم الفقيه بهذا الصدد يستطيع أن يستخلص أن أساس المالية في نظرهم هو :
1- أن يكون الشيء له قيمة بين الناس .
2- أن تكون هذه القيمة ناتجة من أنه ينتفع به انتفاعاً مشروعاً فلا قيمة في نظر الشريعة لأية منفعة اعتبرتها غير مشروعة.و على هذا الأساس يمكننا تعريف المال في اصطلاح الجمهور بأنه : ( ما كان له قيمة مادية بين الناس و جاز شرعاً الانتفاع به في حال السعة و الاختيار).
و فيما يلي شرح لألفاظ التعريف :
ما : جنس يشمل أي شيء أكان أم منفعة وسواء أكان شيئاً مادياً أم معنوياً له قيمة مادية بين الناس : قيد لإخراج الأعيان و المنافع التي لا قيمة لها بين الناس لتفاهته كحبة القمح أو قطرة ماء و كمنفعة شم تفاحة…
وجاز الانتفاع به شرعاً : قيد لإخراج الأعيان و المنافع التي لا قيمة لها بين الناس و لكن الشريعة أهدرت قيمتها و منعت الانتفاع بها كالخمر و الخنزير و لحم الميتة و منفعة آلات اللهو المحرمة.
في حال السعة و الاختيار: قيد جيء به لبيان أن المراد بالانتفاع الانتفاع المشروع في حال السعة والاختيار دون حال الضرورة فجواز الانتفاع بلحم الميتة أو الخمر أو غيرهما من الأعيان المحرمة لا يجعلها مالاً في نظر الشريعة فيقتصر الأمر على جواز الانتفاع فلا تصبح هذه الأعيان أموالاً لأن الضرورة تقدر بقدرها.
و الواقع أن مسلك الجمهور أولى بالأخذ و الاعتبار ..ذلك أن عدم اعتبار المنافع أموالاً محل نقد شديد و هو ما بيناه تفصيلاًً في كتاب الملكية .. كما أن هذا المسلك في بنائه مالية الشيء على كونه منتفعاً به انتفاعاً مشروعاً وله قيمة بين الناس يسمح بتوسيع دائرة الأموال في هذا العصر لتشمل أشياء لم تكن معروفة فيما سبق مادام قد تحقق فيها أساس المالية و ذلك مثل الأشياء المعنوية فيما يعرف بالحقوق الذهنية و حقوق الابتكار و يمكن أن يقال مثل هذا الكلام في الدم البشري الذي يؤخذ من الإنسان ليحتفظ به في بنوك الدم من أجل الانتفاع به انتفاعاَ مشروعاَ في العمليات الجراحية و يكون له قيمة بين الناس و كذلك الجراثيم التي يتم تصنيعها في معامل الأدوية إلى أمصال لمقاومة الأمراض… وغيرها.
2- حقيقة الملك في الفقه الإسلامي :
ذكرت قواميس اللغة أن معنى الملك : احتواء الشيء و القدرة على الاستبداد به و التصرف بانفراد. أما في الاصطلاح فقد تعددت تعار يف العلماء له ، أذكر منها:-
أ- تعريف صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود بأنه : ( اتصال شرعي بين الإنسان و بين شيء يكون مطلقاً لتصرفه فيه و حاجزاً عن تصرف الغير )
ب – تعريف القرافي بأنه : ( إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض منها من حيث هي كذلك )
جـ – تعريف القاضي حسين بأنه : ( اختصاص يقتضي إطلاق الانتفاع و التصرف )
د- تعرف ابن تيمية بأنه : ( القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة )
وقد كنت قدمت دراسة مستقصية عن حقيقة الملك في الشريعة الإسلامية استعرضت فيها التعاريف و غيرها و ناقشتها ، وانتهيت إلى أن تعريف الملك حتى يكون جامعاً مانعاً لا بد من أن تبرز فيها الأمور التالية :-
ا- أن الملك اختصاص أو علاقة يختص بها الإنسان بشيء.
ب- أن موضوع هذا الاختصاص القدرة على الانتفاع و التصرف بهذا الشيء .
جـ- أن هذا الانتفاع و التصرف قد يمنع منهما كما في المحجوزين للصغر أو الجنون.
د- أن هذا الانتفاع و التصرف قد يتم أصالة أو وكالة و يهمنا هنا ما يتم أصالة.
هـ -و كل هذا مقررة أحكامه في الشرع جملة وتفصيلاً.
و على ذلك فقد عرفت الملك بأنه : ( اختصاص إنسان بشيء يخوله شرعاً الانتفاع و التصرف فيه و حده ابتداء إلا المانع ).
الخلاصة :
و بعد هذا البيان الموجز لحقيقة كل من المال و الملك في الفقه الإسلامي يظهر لنا جليّاً انطباق حقيقة كل منها على هذا النوع من الحقوق .. المال وفق ما استقر من اصطلاح لجمهور الفقهاء، والملك ما اتفق عليه الفقهاء .. و إن هذا التخريج الفقهي مضطرد لا إشكال عليه و لا مانع منه بل إن قواعد الشريعة ومبادئها العامة تؤكد هذا و تؤيده .. ذلك أن محور هذه الحقوق أمران :
الأول : الحق في الاحتفاظ بنسبة محل هذا الحق لصاحبه .. وهذا جانب معنوي بحت .. فإن الأمانة والصدق يقتضيان نسبة كل لصاحبه، و الشريعة تبنى على تقرير هذه النسبة أشياء كثيرة منها الحساب و الأجر والثواب و التحري والدقة و التثبت و بخاصة في المجالات العلمية بخصوص تفسير القرآن الكريم و نقل الحديث النبوي و شرحه و في الشهادة و إثبات الحقوق و غيرها .
الثاني : الحق في الاختصاص بالمنفعة المالية التي تعود على صاحبه من استغلاله أو نشره ضمن ما هو مقرر شرعاً و قانوناً.
و الشريعة و إن كانت تدعوا إلى تعميم المنفعة و نشر ما فيه مصالح الناس و خيرهم لكن ذلك في نظرها لا يبرر الاعتداء على حقوقهم فيما هو نافع و مفيد .. بل إن تعميم المنفعة بما يبتكره الأفراد له قواعده و أصوله و من أهم هذه القواعد التي تحقق المصلحة و تمنع الضرر الاعتراف بهذه الحقوق و تنظيم نشرها و الاستفادة منها بأحكام تنسجم مع طبيعتها و ظروف التعامل معها و قد استقرت الأعراف الإنسانية في كثير من الدول على ذلك و المالية يقررها العرف ما دام الأمر غير ممنوع في الشرع .. و إن تطور الحياة الإنسانية يملي بذلك حماية لها التصور و دفعاً لمزيد من العطاء و البذل .
و قد يقال إن من أبرز الحقوق المعنوية حقوق التأليف ، وقد وجد التأليف في وقت مبكر في التاريخ الإسلامي فلماذا لم يقل فقهاؤنا السابقون بمالية هذه الحقوق و جواز بيعها ؟. و الجواب على هذا يعود بالإضافة لما سبقت الإشارة إليه إلى أن جهود النساخ للكتب قبل اختراع الطباعة كان يقضي على جهد المؤلفين و بخاصة مع حرص المؤلفين على نشر العلم و كسب الجر.
و هكذا يتبين لنا أن الشريعة الإسلامية تعترف بالحقوق المعنوية و تدعوا إلى تنظيم كل ما يتعلق بها و بخاصة في مجال استغلالها و التصرف بها بأحكام تفصيلية تحقق المصالح المشروعة لأصحابها و للمجتمع و هو ما قد يختلف من حق إلى آخر و مما يترك للدراسات الخاصة بكل حق على حدة .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
اترك تعليقاً