الحصانة الجنائية والمدنية للبعثات الدبلوماسية والقنصلية دولة اليمن نمودجا
ثمة حقيقة ثابتة لا يختلف اثنان في صحة ثبوتها ، وهي قائمة منذ أن خلق الله البشر على هذا الكون وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ألا وهي استحالة العزلة. فقد جبلت البشرية على الحاجة إلى بعضها البعض بتبادلها المنافع والمصالح والتي تتزايد حيناً بعد حين بتزايد تطور المجتمعات نفسها ووسائلها في مجالات السلم والحرب. فكانت هناك ظاهرة الرسل في ظل مجتمع الجماعة والعشيرة والقبيلة لحل الخلافات والنزاعات ، وكانت تلك الرسل متمتعة بعدم الاعتداء عليها ويعاملون معاملة تليق بكرامتهم ومكانتهم لما يقومون به من دور، وهو ما كان نواة للحصانات الدبلوماسية عند ظهور الدولة . وفي نفس الوقت كانت هناك بعثات تجارية متنقلة لتبادل المصالح التجارية بين تلك المجتمعات وهو ما كان أساساً للعلاقات القنصلية فيما بعد.
ولذلك أصبحت حاجة الدول إلى جهاز يقوم بتنفيذ تلك المهمة للحفاظ على حسن العلاقات وتوطيد أواصرها بين تلك الدول؛ وقد كانت تتم أحياناً من خلال مبعوثين من رؤساء الدول إلى أمثالهم في الدول الأخرى. فكان المبعوث آنذاك يرسل لتنفيذ مهمة محددة، ثم يعود فور انتهائها .
ونتيجة للتطور التاريخي الذي ظهر على العلاقات الدولية ، نشأت الحاجة إلى إرسال سفراء ومبعوثين لفترات أطول حتى ارتقى الأمر إلى صورته الحالية من التمثيل الدبلوماسي الدائم الذي يعرف بالسفارات والقنصليات والذي جسد بصورة أساسية وعملية ثبوت سيادة الدولة الحديثة ، وأصبح قيام التمثيل الدبلوماسي والقنصلي الدائم ضرورة هامة فرضتها دواعي استقرار العلاقات والمصالح الدولية وحمايتها بصفة رسمية.
وبذلك يتضح أن البعثات الدبلوماسية وحصاناتها وامتيازاتها قد وجدت بوجود العشيرة، حيث كان الساعي في الصلح محصناً لا يتعرّض لأذى عندما كان الصراع والحرب على الماء والكلأ. كما وجدت الحصانة كذلك بوجود القبيلة؛ حيث كان الاعتداء قديماً على الرسول الدبلوماسي يعد انتهاكاً للشعائر المقدسة في الدولة لأن المبعوث يمثل رئيس الدولة الذي كان يجمع آنذاك بين السلطة الروحية والزمنية. واستمر هذا العرف حتى ظهرت الدولة الحديثة بعد اتفاقية وستفاليا عام 1648م نتيجة لحروب دامت ثلاثين عاماً من (1618- 1648م) والتي كانت بين البروستانت والكاثوليك من جهة والأمراء والإقطاع من جهة أخرى وبعدها استمرت الحرب فيما بينهم للاستيلاء على الأراضي التي تم اكتشافها من قبل الأوروبيين.
وبعد حرب نابليون بونابرت وهزيمته كان أن أفرد أول مؤتمر للدول الأوروبية المنتصرة المنعقد في فيينا عام 1815م حيزاً كبيراً لمناقشة وإقرار القواعد الأولى للعلاقات الدبلوماسية، والتي أغنيت في اتفاقية اكس لا شابل عام 1818م بإضافة ترتيبات جديدة إلى ما أقره مؤتمر فيينا السالف الذكر. ولحداثة تلك القواعد المحصورة في التمثيل الدبلوماسي بين الدول الأوروبية التي لم تطبقها بعض الدول متذرعة بقوانينها الداخلية، إلى أن ظهرت عصبة الأمم عام 1919م والتي قامت على أنقاضها بعد الحرب العالمية الثانية منظمة الأمم المتحدة عام 1945م التي وضعت الأسس القانونية لكيفية التعايش السلمي بين الشعوب وحل الصراعات بالطرق الدبلوماسية فكلفت لجنة القانون الدولي بإعداد مشروع اتفاقية دولية للعلاقات الدبلوماسية، فكان أن أُقرت بمؤتمر دولي في فيينا عام 1961م، وتلتها اتفاقية دولية للعلاقات القنصلية أقرت بمؤتمر دولي أيضاً في فيينا عام 1963م. وأصبحت قواعد كل منهما ملزمة لجميع الدول الأطراف فيها وفقاً لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969م حيث أصبحت الدولة المخلة بتلك القواعد عرضة للمساءلة القانونية ضماناً لتعزيز وتطوير العلاقات بين الدول وجميع شعوب المعمورة حفاظاً على الأمن والسلم الدوليين.
ويمكن القول أن ليس هناك في عصرنا الحديث أي دولة ذات سيادة لا يوجد بها بعثات دبلوماسية وقنصلية أو لا تقوم بابتعاث دبلوماسيين وقناصل إلى دول أخرى؛ حيث أصبح ذلك السبيل هو الشريان الرئيس في العلاقات الدولية.
والجمهورية اليمنية إحدى تلك المنظومة الدولية التي لها تمثيل دبلوماسي وقنصلي خارج إقليمها ولديها بعثات دبلوماسية وقنصلية من معظم دول العالم وتعمل وفقاً لتلك القواعد القانونية الدولية.
أهمية الدراسة وأسباب اختيارها:
إن خروق الحصانات والامتيازات الدبلوماسية التي أثبتتها الدول من واقع ممارستها العملية لتلك الحصانات والامتيازات تعد بحد ذاتها خروقاً لنصوص دولية عامة تضمنتها اتفاقيتا فيينا لعامي 1961م و 1963م للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية اللتان حملتا طابع الإلزام والذي يوجب على جميع الدول أن تحترم نصوصهما وتلتزم بتنفيذها وتتحمل المسؤولية عند إخلالها أو تقصيرها إزاء تلك النصوص. وما تخلفه تلك الخروق من استياء لدى مختلف الدول يكون فادحاً أحياناً ، فلطالما أدى تفاقم تداعياتها إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين بعض الدول؛ وهو بذلك ما يتنافى مع ما تنشده آمال وتوجهات ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ العلاقات الدبلوماسية والقنصلية في حد ذاتها.
ودراستنا هذه تحتوي على إظهار ما يلتزم وما يخل بقواعد القانون الدولي ونصوص القواعد القانونية في التشريعات اليمنية المتعلقة بتعهدات اليمن والتزاماتها الدولية، وكيفية التعاطي معها.
وقد كان اختيارنا لموضوع هذه الرسالة ناتجاً عن عدم وجود مادة علمية متخصصة لتدرس عبر المراحل الدراسية التي مر عليها الباحث، ومن ضمنها الجامعة والكليات العسكرية منها والمدنية؛ اللهم إلا إذا كانت خطوطاً عريضة وعلى وجه الإيجاز ؛ الأمر الذي شكل للباحث اهتمامه الخاص بهذه المشكلة كموضوع جديد في موروثه العلمي والمعرفي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لما يوجد من إشكالية للحصانات والإمتيازات بشكل خاص محاولاً استجلاء الغموض الذي يكتنفها وتقديم دراسة علمية للمكتبة القانونية والدبلوماسية حول الطابع القانوني والأدبي للحصانات والامتيازات الدبلوماسية والقنصلية ومدى تطبيق التشريعات الوطنية لها سلباً أو إيجاباً.
من هذا المنطلق جاء اختيار الباحث لموضوع هذه الرسالة هادفاً من خلالها تقديم رسالة مميزة لحصانات وامتيازات المبعوثين، الدبلوماسيين والقنصليين، من الجانب النظري والعملي، وبيان المكانة التي تحتلها في التشريعات اليمنية ، آخذاً بعين الاعتبار مقتضيات حق الدولة في سيادتها على إقليمها وسلامة وصون تشريعاتها ونظمها الداخلية؛ وكذلك -من جانب آخر- حق المبعوثين الدبلوماسيين والقنصليين في الحماية الكاملة وحرمة شخصهم وذاتهم وكرامتهم ، محاولاً قدر الإمكان إيجاد معيار للتوازن والمقارنة بين التشريع الدولي والوطني وإشكالية تطبيقها على الواقع اليمني.
منهج الدراسة:
1-المنهج القانوني التاريخي:-
لما كانت طبيعة الدراسة بالأساس تستند إلى قواعد القانون الدولي العام المنظم للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية أياً كانت – جماعية أو ثنائية- فإن استخدام المنهج التاريخي لظهور وضرورة وجود الحصانة الدبلوماسية والقنصلية بظهور ووجود الدبلوماسية نفسها يصبح أمراً لا غنى عنه في هذه الدراسة ..
وتكمن أيضاً ضرورة إيجاد التكييف القانوني لعملية خرق الحصانات والامتيازات الدبلوماسية والقنصلية ، بهدف الوصول إلى أسبابها ووسائل معالجتها بتفسير تلك النصوص في التشريعات الوطنية للجمهورية اليمنية وعلى أرض الواقع من جهة، والممارسة الدبلوماسية السائدة في التطبيق الدولي من جهة أخرى.
2-المنهج التحليلي:
كما استلزمت هذه الدراسة وفرضت على الباحث أن ينهج المنهج التحليلي لتحليل وتفسير جزئيات مفردات هذا الموضوع، وإظهار مفهوم الحصانات والامتيازات الدبلوماسية وتطورها وتلازمها مع الدبلوماسية نفسها ، وأسباب لجوء الدول إلى تقييد التمتع بها ، وكذا توضيح الفرق بين النظرية والممارسة فيما يتعلق بتناول هذه الحصانات والامتيازات، والخروج بنتائج علمية موضوعية لآثار عدم تمتع المبعوث الدبلوماسي والقنصلي بالحصانات والامتيازات أو تقييدها حفاظاَ على سلامة سيادة الدولة الموفدين إليها وسلامة تشريعاتها الوطنية … الخ، كل ذلك دفع بالباحث إلى الاعتماد على المنهج التحليلي لاستنباط واستقراء هذه الظاهرة من مختلف وجوهها وصورها.
3-المنهج التأصيلي:
بما أن طبيعة الدراسة ومحور البحث بالأساس هو إشكالية تطبيق الحصانات والامتيازات الدبلوماسية والقنصلية ، فإن ذلك قد استلزم من الباحث تجميع بعض تلك الإشكاليات وتحليلها ومعرفة أسبابها ليتم وضع قواعد عامة تحكمها وتحكم مثيلاتها. فكان من البديهي لزاماً علينا أن نعتمد المنهج التأصيلي كذلك ، لما له من أهمية قصوى في هذه الدراسة.
فضلاً عن ذلك فإن ضرورته كانت ملحة في ما كان ينقل الباحث تارة من التطبيق والخرق لتلك الحصانات والامتيازات إلى قاعدتها العامة الأصلية الدولية الآمرة، وتارة أخرى من خصوص الموضوع إلى عمومه في مجال العلاقات الدولية.
خطة الدراسة:
في سياق دراسة إشكالية ضمانات الحصانة الجنائية والامتيازات الدبلوماسية في القانون الدولي العام وماهي عليه في التشريعات الوطنية للجمهورية اليمنية وعلى ما يثبت من خلال الممارسات الفعلية للحصانات والامتيازات الدبلوماسية والقنصلية، وسيراً مع ما يتطلبه البحث العلمي من تعمق وشمول ، فإن الباحث ارتأى بأن الأسلوب المنطقي لتحليل هذه الإشكالية يتطلب تقسيم هذه الدراسة إلى مدخل تمهيدي وفصلين.
المدخل التمهيدي ويتناول الباحث فيه الضرورة الملحة لقيام العلاقات فيما بين الدول والتي لن تتأتى إلا ببعثات دبلوماسية دائمة وقد تزامنت تلك الفترة بتزامن الضمانات لحصانة المبعوثين وامتيازاتهم كي يؤدوا تلك المهمة على خير وجه وذلك مما يلاحظ بنشأة الدبلوماسية وتطوراتها التاريخية القديمة والحديثة والمعاصرة التي مرت بها عموماً والحصانات والامتيازات الدبلوماسية والقنصلية وتقنينها على وجه الخصوص ، والتبرير الفلسفي لها ومدلولها ، والأهمية الكبيرة التي اكتسبتها الممارسة الإسلامية.
أما الفصل الأول الضمانات القانونية لحصانة المبعوث الدبلوماسي والقنصلي، من القضاء الجنائي وامتيازاتهما المدنية، فقد قسمه الباحث إلى مبحثين ، حيث خصص المبحث الأول لدراسة نصوص اتفاقيتي فيينا لعام 1961م و 1963م للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية والمتعلقة بحصانات وامتيازات المبعوث الدبلوماسي والقنصلي كونها قواعد دولية آمرة ملزمة للدول باحترامها وتنفيذها سواء كانت موفدة للمبعوثين الدبلوماسيين والقنصليين أو معتمدة لهم لديها، في ذات الوقت الذي تجد فيه النصوص قانونيتها لإلزام المبعوثين المعتمدين لدى الدول باحترام سيادة اقليمها والحفاظ على قوانينها ولوائحها وانظمتها الداخلية ومواءمة نصوص التشريع اليمني لتلك النصوص الدولية فيما يخص هذا الموضوع.
ثم تناول الباحث في الفصل الثاني : إشكاليات الحصانات والامتيازات الدبلوماسية المتمثلة في خرق تلك النصوص سواء كانت من قبل الدولة –الموفد لديها المبعوث الدبلوماسي والقنصلي- ممثلة بمواطنيها وموظفيها من جهة ، أو كانت من قبل المبعوثين الدبلوماسيين والقنصليين أنفسهم لاستغلالهم لهذه الحصانات والامتيازات استغلالاً غير مشروع وجعلها ذريعة للإخلال بقوانين وانتهاك نظم وتشريعات البلدان الموفدين إليها.
وقد أنهى الباحث دراسته بخاتمة تضمنت بعض من الاستنتاجات التي خرج بها مستخلصاً إياها من خلال دراسته لموضوع بحثه وتوصيات يرى الباحث أهميتها كضرورة حتمية لتطوير العمل الدبلوماسي بصفة عامة ، وإبقاء الحصانات والامتيازات في مكانتها المرموقة التي استحقتها بفضل الدور الحيوي الذي تضطلع به في تعزيز وتثبيت أواصر المجتمع الدولي في جو يسوده الأمن والسلم الدوليان، والحفاظ عليهما، وهو جل ما تبتغيه مفاهيم الدول وميثاق الأمم المتحدة.
ومن هذا المنطلق فإننا في دراستنا هذه قد تناولنا موضوع الحصانة الجنائية والمدنية للمبعوث الدبلوماسي والمبعوث القنصلي طبقاً لنصوص اتفاقيتي فيينا لعام 1961م الخاصة بالبعثات الدبلوماسية و 1963م للعلاقات القنصلية؛ ومسألة إشكالية التطبيق لتلك الحصانات والامتيازات في الواقع العملي وفي التشريع اليمني معتمدين على ثلاثة محاور هي :-
1-القواعد القانونية الدولية المتمثلة في اتفاقية فيينا لعام 1961م للعلاقات الدبلوماسية.
2-اتفاقية فيينا لعام 1963م للعلاقات القنصلية .
3-قواعد التشريع اليمني ، مع الاستهداء – عند الضرورة- ببعض التشريعات لبعض الدول والتي أصبحت اليوم لا تفي بالمتطلبات الأساسية للعلاقات الدولية الحديثة ولا تتناغم وقواعد القانون الدولي المعترف بها.
اترك تعليقاً