عقوبة السارق بين مشنقة تيبرن والحد الشرعي
د. سعد العتيبي
من أشهر المشنقه التي خلّدها التاريخ: مشنقة (تيبرن) في لندن، وبحسب وصف موقعها، يظهر أنَّها كانت في ميدان (ماربل أرش) الذي يلتقي فيه شارع (إيجور) بشارع (أوكسفورد). وقد نقل الشيخ الصحفي الأزهري أحمد الجرجاوي -رحمه الله- وصف كاتب إنجليزي لهذه المشنقة بقوله: كانت هذه المشنقة عبارة عن ثلاثة أعمدة طويلة، تلتقي أفقيا على شكل مثلث، محمولة فوق ثلاثة أعمدة أخرى، ولها مسرح مرتفع من الخشب، حتى يتيسر للجموع الحاشدة أن ترى كلّ ما يجري فوقها؛ إذا كانوا يجتمعون من كل حدب وصوب ليشهدوا تنفيذ عملية الشنق في المحكوم عليه بالإعدام، وكان أشراف القوم وعظماؤهم وكذا السيدات، يتخذون لأنفسهم أماكن قريبة من المشنقة؛ ليشاهدوا كل ما يجري عن كثب!
ويقال: إن عدد الذين شنقوا على هذه المشنقة يزيد عن خمسين ألف شخص! وأنَّ أوّل من شنق عليها الدكتور (جوستري) في سنة 1571م، وانتهى استعمالها وهُدمت في سنة 1783م، وكانت الأحكام في ذلك العهد صارمة، حتى إنَّهم كانوا يحكمون بالإعدام على من يسرق ولو نعجة أو حملاً صغيرا؛ وكانوا اللصوص الأغنياء يشترون حياتهم وحياة أتباعهم بالمال!
قلت: ويهمني مما سبق: أنَّ السارق في إنكلترا قبل عام 1783م كانت عقوبته القتل على المشنقة! وأنَّ كبار اللصوص والسراق يَفْدون أنفسهم بالمال! و أنَّ عدد من شنق عليها يزيد على خمسين ألف شخص! وأنَّ المشنقة –لا عقوبة القتل- قد أزيلت في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي..
ومن هنا نعود من لندن إلى المدينة النبوية في أوائل القرن السابع الميلادي، حين شرع الله عز وجل عقوبة السارق والسارقة بقوله:(فاقطعوا أيديهما) وختمه بوصف يرد على كل معترض يتعقّل:(نكالا من الله والله عزيز حكيم)، تلك العقوبة الحدّيّة المجمع عليها بين أهل الإسلام، التي لا يملك كائنٌ من كان إلغاءها، ولا العفو عنها بعد استحقاقها؛ وهي جزاء ونكال يقوم على فلسفة عميقة، تتطلب توفر شروط دقيقة، مع انتفاء موانع رفيقة؛ ولذلك كان تنفيذها على مرّ تاريخ دول الإسلام قليلا وربما معدوداً، وكان أثر تشريعها مع ذلك في الأمن والأمان مشهوداً..
وقد بيّن عدد من كبار فقهاء الإسلام شيئاً من فلسفة تشريع عقوبة القطع في السرقة خاصّة، دون غيرها من الجرائم المشابهة كالاختلاس والانتهاب والغصب، ومن ذلك قولهم على سبيل المثال لا الحصر: إنَّ الاختلاس والانتهاب والغصب، يسهل إقامة البينة عليها، واسترداد الحق المأخوذ فيها في ظل الحكم العادل، بخلاف السرقة، فإنّه يندر إقامة البينة عليها، لشدّة احتياط السارق أو السارقة في التخفي لها، ومن ثم يعسر ردّ الحق لصاحبه ويختل الأمن، فعظُم الزجر عنها بهذه العقوبة الرادعة. أمَّا كبار اللصوص والسرّاق، فلا فرق بينهم وبين الصغار في شرع الله، فقد حسم أمرهم الإعلان التشريعي النبوي العظيم: ( أيها الناس إنمَّا أهلك الذين قبلَكم أنهَّم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وايْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)؛ فلا يحل لذي سلطانٍ أن يقبل من صغيرٍ أو كبيرٍ فدية ينجو بها من العقوبة إذا ما استحقها شرعاً، ولا يملك العفو عنها ولا قبول الشفاعة فيها.
غير أنَّ فرداً من غير الأغنياء، ربما تقع منه السرقة اضطرارا لشدّة الجوع، فيسرق شيئاً يبقي حياته، فلا يقام حدّ السرقة! لا لأنَّ حدّ السرقة يمكن أن يُفدى بالمال، ولا لأنَّ حدّ السرقة يمكن أن يوقف فضلاً عن أن يلغى كما يدعي بعض المنحرفين اليوم؛ وإنَّما هو إعمال لقاعدة: “درء الحدود بالشبهات”؛ وهي قاعدة مجمعٌ عليها بين فقهاء الإسلام، ووردت في تطبيقها آثار في عهد الخلافة الراشدة . وبعبارة أخرى: فإنَّ الحدّ إنَّما يُدرأ بالشبهة بعد النظر في الواقعة القضائية؛ لا في تبديلٍ وتغييرٍ وتقنينات وضعية، يُستبعد منه حدُّ السرقة ..
وإنّما يتحقق الأمن من الجرائم، بإعمال الأحكام الشرعية الأصلية والاستثنائية في محالّها الشرعية، لتتجلى السياسة الجنائية في الإسلام، تلك السياسة التي تحقق الأمن والأمان: بالوقاية مع التجريم والعقاب المتوازن..
والحديث فيها ذو شجون، فهو يُشِعّ حكمة، ويتتلألأ عدلاً، ويُشيع أمناً لمن تفحّصه.. لكن المقال قد استوعب مساحته ..
اترك تعليقاً