حدود حرية الإعلام في المحاكم الجنائية
كفل الدستور العراقي حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل ، كما نص كفالة الدولة لحرية الصحافة ضمن الفقرة ثانيا من المادة 38 منه ، وأكدت المادة 45 من الدستور حرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني
وألزمت الدولة أيضا على دعمها وتطويرها واستقلاليتها بما ينسجم مع الوسائل السلمية لتحقيق الاهداف المشروعة لها . وحرصت الدولة العراقية على توفير الاسس الكفيلة لممارسة الحرية في وسائل الاعلام ، بان ألغت الرقابة الاعلامية ، ولم تقيد الاعلامي بخطوط وقيود وحدود ، ما سهل عملية الابداع والتحليق في فضاء الحقيقة الرحب ، والتمتع بأجواء الحرية والديمقراطية التي وفرها الدستور بالضوابط التي تلزم السلوك المهني ومعايير الحقيقة ومتطلبات البناء الجديد
باعتبار أن الاعلام في ظل النظام الديمقراطي يتكامل مع عمل السلطات الثلاث ، ويسعى لترسيخ مبادئ نظرية فصل السلطات ودعم سيادة دولة القانون باعتبارها هدفاً سامياً من أهداف بناء الدولة الديمقراطية الفيدرالية ، بالنظر لما للاعلام من دور مهم وكبير في نشر الثقافة القانونية والدستورية ومساندة عملية البناء ووعي المجتمع ، مع نقد الاساليب الخاطئة والوسائل البائدة نقدا بناء موجها ومساهما في ترصين عملية البناء السياسي بشكل عام بما يليق بالاعلام والمرحلة التي نواجه بها العديد من أشكال التخريب والارهاب والعداء.فقد شكلت منظومة الاعلام في العصر الحديث أساسا مهما من أسس ثقافة الانسان ، اذ تعمل من أجل ايصال الخبر والمعلومة اليه بكافة الطرق المقروءة والمسموعة والمرئية ، وزاد التطور التكنولوجي من أهمية دور الاعلام في أن تضع هذه المنظومة امكانياتها الهائلة أمام المتلقي دون عناء كبير ، حيث توفرت السبل والوسائل التقنية التي تمكنها أن تفرض نفسها لتصبح جزءاً مهماً من مصادر ثقافته ، وأن تدخل الى بيته و تفاصيل حياته اليومية دون استئذان ، وأن يعتمد عليها اعتمادا كبيرا في ثقافته ومصادر معلوماته ، ولذا فأن أهميتها اليوم تكمن ازاء علاقتها الوثيقة والماسة بحياة الناس ، بحيث أصبحت زادا مهما لايستغني عنه في كل الاحوال.كما يعتبر الاعلام المرآة الحقيقية التي تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي . ويلعب الاعلام دورا تنويريا في دعم الثقافة الانسانية ونشر الوعي وتبسيط مفاهيم المواطنة والوطنية والحث على احترام حقوق الانسان واحترام الرأي الآخر.وأمام سعة المساحة التي تعمل بها تلك المنظومة يتوزع دورها وتأثيرها سلبا أو ايجابا من خلال انسجامها أو مصداقيتها ، فهي تشكل تأثيرا واضحا على المتلقي ، وهذا التأثير يمكن توجيهه بوسائل متعددة ، مثلما يمكن تشويه الحقيقة أو تحريفها في جانبه السلبي ، ما ينعكس على المستمع أو القارئ أو المشاهد المتلقي ، يتحدد ذلك بالقصد أو الهدف الذي تعمل في اطاره تلك المنظومة الاعلامية ، ونحن هنا نتحدث عن الجانب الايجابي على اعتبار أن مهمة الاعلام من المهمات الانسانية التي تدخل ضمن هيكل الثقافة الانسانية ، فهي بكل تأكيد تعمل وفق تلك المناهج الانسانية التي تسعى لخدمة الانسان ، وفي سبيل ايصال الثقافة الانسانية الى المتلقي بجميع الطرق والوسائل الممكنة ، وهذه المهمة تكون في توفير المعلومة الصادقة والتحليل الصائب والدقيق والخبر الواضح البعيد عن التشويه والدس والقصد السلبي المبيت ، لانها في الحال الاخير تتحول الى ثقافة مشوهة وتحريفية وتعتمد القصد المبيت ساعية لتحقيق غاية أو غرض معين على حساب الحقيقة . وتنعكس تلك الحالات على ما ينقله الاعلام عن القضاء ، وخصوصا ما يتعلق بعملية التحقيق والقرارات القضائية والقضايا الجنائية بشكل عام ، مع أن الاعلام يستطيع أداء الدور الايجابي المهم في رصد العملية القضائية والاشارة الى مواقع الخلل والزلل التي ربما تعتري سير العملية القضائية خصوصا واننا أمام نهج جديد وتأسيس قضاء يلتزم بمعايير حقوق الانسان والمبادئ الاساسية التي أكدها الدستور في الحقوق والواجبات ، غير أن التقاط مايتسرب من اجراءات يتم اتخاذها خلال سير التحقيق ، يضر ضررا بليغا ليس فقط بالقضاء أنما بالعدالة بشكل عام ، حيث أن العديد من أنظمة القضاء في العالم ان لم تكن كلها أجمعت على عدم جواز اطلاع احد غير أطراف القضية أو وكلائهم من المحامين على الاوراق التحقيقية ، مع ان الاعلام يستطيع رصد ما يقع من خرق في الادوات الشرعية الدستورية أو في ضمانات المتهم التي رسمها الدستور ونص عليها قانون أصول المحاكمات الجزائية أو التطبيق العملي لمبادئ واعلانات حقوق الانسان في هذا المجال ، أو في كل اعتداء على النفس أو المال ، فتكون مهمته النقدية وفي الاشارة الى الخلل والخرق نقدا ايجابيا بقصد المساهمة في الاصلاح بعيدا عن التشويه والاثارة والتحريض والاساءة المتعمدة.
ووفقا لهذا يتعين على الاعلام التقيد بالمبادئ والقيم التي تفرضها أخلاق المهنة ومعايير السلوك المهني ، مثلما عليه أن يعرف أن القضاء مقيد بنصوص قانونية واجبة التنفيذ والتطبيق ، حيث تنحصر مصادر التجريم والعقوبة ضمن النصوص الواردة في قانون العقوبات والقوانين العقابية الاخرى، موضوعيا أو شكليا ضمن القوانين التي تنظم أصول التحقيق أو المحاكمات أو سير الدعوى المدنية.وفي الدول التي تعتمد نظرية فصل السلطات كما في العراق نجد أن السلطة التشريعية المتمثلة في البرلمان أو مجلس النواب هي التي تصدر القوانين ، وأن هذه القوانين تقرر الحماية الاجتماعية حسب مفهوم السلطة التشريعية ، بينما تأخذ السلطة التنفيذية على عاتقها مهمة تطبيق وتنفيذ تلك القوانين ، أما مهمة السلطة القضائية فهي السلطة التي تحمي الحقوق والحريات وتتكفل باضفاء الحماية على مصالح المجتمع من خلال تطبيق النصوص القانونية تطبيقا مجردا وحياديا تطبيقا أمينا وسليما . أي أن القضاء يصنع من تلك النصوص الجامدة قرارات قضائية ملموسة وواجبة التنفيذ ـ أي أنها تتحول الى واقع ـ بالاضافة الى مهمة كبيرة تتلخص في السهر على تطبيق القانون ، ولهذا جعلها الدستور سلطة مستقلة لاسلطان عليها لغير القانون ، هذه الآلية في توزيع الادوار والاعمال جعلت الشراكة والتخصص في المهام رابطا منسجما تحرص على أدائه كل سلطة من هذه السلطات وبالتالي فان الدور الاعلامي الايجابي يكمن في تعميم ونشر هذه الثقافة القانونية والدستورية في مهماتها الاعلامية ، لان خلق حالة من الضبابية والتشويش على ذهن المتلقي يدخلها في جانب الاعمال السيئة المقصودة لتحقيق نتائج تعارض العدالة وتخالف الحقيقة.ونلاحظ انه في جميع القضايا التي تعرض على القضاء هناك أطراف ثلاثة في كل قضية ، أولها الادعاء العام باعتباره ممثلا عن المجتمع في دعاوى الحق العام ، وثانيا المشتكي أو المتضرر من الفعل ، وأخيرا المتهم بارتكاب الفعل المعاقب عليه قانونا ، ففي الوقت الذي يلتزم القضاء بحياديته واستقلاله ، فانه يسعى الى تحقيق العدالة دون تغليب أي طرف من هذه الاطراف على الاخر ، معتمدا في ذلك على ما يتوفر أمامه من أدلة وأسانيد في القضية ، ولايمكن للقضاء أن يعتمد الادلة التي يعرضها الاعلام أو يعتقدها صحيحة ، لان ضوابط الاعتماد على الادلة معتمدة قانونا ، كما لايمكن اعتماد وجهات النظر والآراء التي يقوم الاعلام بالتركيز عليها واعتمادها في القضايا المطروحة للمناقشة والتحليل لانها تعتبر خارج نطاق القضية التي تتحدد بأدلتها واسانيدها دون اعتماد حتى المعلومات التي توفرت للقاضي بعلمه الشخصي لان القانون لايعتمد ذلك.نص قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 في المادة 235 على معاقبة من يقوم بنشر باحدى طرق العلانية امورا من شانها التأثير في القضاة الذين أنيط بهم الفصل في دعوى مطروحة أمام جهة من جهات القضاء او في رجال القضاء او غيرهم من الموظفين المكلفين بالتحقيق او التأثير في الخبراء او المحكومين والشهود الذين قد يطلبون لاداء الشهادة في تلك الدعوى او ذلك التحقيق أمورا من شانها منع الشخص من الافضاء بمعلوماته لذوي الاختصاص ، فاذا كان القصد من النشر أحداث تأثير او كانت الامور المنشورة كاذبة فتشدد العقوبة ، كما عاقبت المادة 226 عقوبات كل من نشر باحدى طرق العلانية اخباراً بشأن محاكمة قرر القانون سريتها أو منعت المحكمة نشرها او تحقيقا قائما في جناية أو جنحة أو وثيقة من وثائق هذا التحقيق اذا كانت سلطة التحقيق قد حظرت اذاعة شيء عنه ، وكذلك ماورد في نص المادة 228 بخصوص النشر بسوء نية في الجلسات العلنية لمجلس النواب أو النشر بسوء قصد وبغير أمانة ما جرى حتى في الجلسات العلنية السرية لمجلس النواب.
أو نشر أخبار بشان التحقيقات أو الاجراءات في دعاوى النسب أو الزوجية أو الهجر أو التفريق أو الزنا ، بالاضافة الى نشر مداولات المحاكم وماجرى في الجلسات العلنية للمحاكم بغير أمانة وبسوء قصد ، بالاضافة الى نشر أسماء أو صور المجني عليهم في جرائم الاغتصاب والاعتداء على العرض وأسماء او صور المتهمين الاحداث وما جرئ
في الدعاوى المدنية أو الجنائية التي قررت المحاكم سماعها في جلسة سرية او ماجرى في التحقيقات او الاجراءات المتعلقة بجرائم القذف او السب او افشاءالاسرار ولاعقاب حتما اذا تم النشر بموافقة المحكمة وبأذنها.كما أشارت المادة 433والمادة 434 الى معاقبة من يقذف غيره باحدى طرق الاعلام وعده القانون ظرفا مشددا ، والقذف يعني اسناد واقعة معينة الى الغير باحدى طرق العلانية من شانها لو صحت أن توجب عقاب من اسند اليه او احتقاره عند أهل وطنه.كما أشار القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 المعدل ضمن أحكام الاعمال غير المشروعة في المادة 204 الى ان كل تعد يصيب الغير بأي ضرر يستوجب التعويض ، ويتناول حق التعويض الضرر الادبي كذلك فكل تعد يصيب الغير في حريته أو في عرضه أو في شرفه أو في سمعته أو في مركزه الاجتماعي أو في اعتباره المالي يجعل المعتدي مسؤولا عن التعويض.أن ذكر تلك النصوص لايأتي من باب التخويف بل من باب التذكير والعلم بالنص القانوني ، لاننا ندرك أن الاعلام يعمل بالشكل الايجابي ، أما الاستثناء فهي الممارسات السلبية في العمل الاعلامي ، لذا فلا مجال للاعلام في تبرير أو خلق صورة متناقضة أو متعارضة مع النص العقابي والدفع باتجاه تشكيل رأي أو تحشيد باتجاه مخالف لهذه المصادر وبالتالي الاساءة الى القضاء بالنتيجة دون وجود منطق أو تبرير معقول ، لان العديد من هذه المواقف ما يشوش عمل القضاء ويربك عمل المحاكم ، كما أنه يؤثر نفسيا وعمليا على حسن أداء القضاء لمهمته النبيلة ، وبالتالي يساهم الاعلام وفقا لهذا عن قصد أو حتى دون قصد في حرف العملية القضائية عن مسارها وبالتالي الاضرار بقضية العدالة.أن اغلب القوانين عاقبت الجهة التي تنشر أمورا من شأنها التأثير في القضاة الذين أنيط بهم الفصل في دعوى مطروحة أمام جهة من جهات القضاء ، كما عاقبت القوانين كل من نشر باحدى طرق العلانية اخبارا بشان محاكمة قرر القانون سريتها أو منعت المحكمة نشرها أو تحقيقا قائما في جناية أو جنحة أو وثيقة من وثائق التحقيق أو اخبارا بشان التحقيقات أو الاجراءات الجارية ، وما يجري في الجلسات العلنية للمحاكم بسوء قصد ونية وبغير أمانة ومخالفة قرار المحكمة سرية ما يجري من تحقيقات في القضية المنظورة أمام المحكمة.أن معرفة الاعلام باختصاصات المحاكم ضرورة في توجيه المواطن بدلا عن المساهمة في نشر الخطأ ، فالقانون يقيد المواطن اقامة دعواه أمام المحاكم المدنية اذا كان بقصد المطالبة بحق مدني عيني أو شخصي ، وهو مقيد أيضا أن يقيم الشكوى الجزائية أمام المحاكم الجزائية ، وبهذا الالزام لايمكن مخالفة الاختصاص مع وجود ترابط بين تلك الاختصاصات ، غير أن عدم معرفة هذا الاختصاص والخلط في عمل المحاكم يخلق أثره السلبي تجاه المواطن فيدفعه للاعتقاد بصحة الخطأ.وتقع على عاتق الاعلام الالتزام بالمهنية وتجنب الخوض في تفاصيل القضايا المطروحة أمام القضاء تجنبا للارباك والتأثير على مسار العملية القضائية ، ومن هنا يتعين حجب المعلومات عن الاعلام تجنبا لتلك النتائج التي تؤثر ليس على مسار القضية المطروحة ، انما على القاضي بشكل غير مباشر وعلى العدالة بشكل مباشر.ووفق ذلك يتعين أن تكون المعلومات المتوفرة أمام القضاء بعيدة عن الاعلام ، وهذا الحجب من واقع الاستقلالية التي يتمتع بها القضاء ، وهو أمر واجب التقدير والاحترام والالتزام به من الجميع ، ومن المؤكد أن التحليلات والاستنتاجات التي ينشرها الاعلام في تناول قضية معينة لم تزل معروضة أمام القضاء ستؤثر بالتأكيد على مسار هذه القضية.
اترك تعليقاً