البحث الكامل و الشامل في التفسير القضائي .
تم الحصول عليه من احد المواقع القانونية الجزائرية
التفسير القضائي
المقدمــة:
إن الـتطبيق الصحـيح للقانون يتطـلب من القاضي تفسـيره، و التفسير ليس خاصا بالقاضي وحده بل يلجأ المشرع و الفقيه إلى التفسير أيضا. يمكن تفسير القاعدة القانونية بأنها التعرف على معنى الحكم الذي تتضمنه هذه القاعدة، بحيث تتضح من ألفاظها أو مضمونها حدود الحالة الواقعية التي وضعت القاعدة من أجل تنظيمها.
يتضح من هذا التعريف أن معنى التفسير واسع ينصرف إلى كافة القواعد القانونية أيا كان مصدرها، سواء كانت قواعد تشريعية أو دينية أو عرفية أو أحكام القضاء غير أن ذلك لا يعني أن القواعد القانونية تتساوى من حيث حاجتها إلى التفسير.
فالواقع أن القواعد التشريعية تكون عادة في حاجة إلى التفسير أكثر من غيرها من القواعد الأخرى فالقواعد التشريعية ترد عادة في صورة مواد مختصرة موجزة مما يؤدي في كثير من الحالات إلى صعوبة الوقوف على معناها و بالتالي إلى حاجتها للتفسير، لهذا سنركز دراستنا هنا على القواعد التشريعية.
فماذا يقصد بالتفسير القضائي ؟ و ما هي أهم مدارسه و أهم طرقه ؟
وسنعرض في بحثنا هذا دراسة التفسير في الخطة الآتية:
في المبحث الأول: أنواع التفسير.
– في المبحث الثاني: مدارس التفسير و نقدها.
في البحث الثالث: حالات التفسير وأهم طرقه.
خطة البحث
المقدمة:
المبحث الأول: أنواع التفسير
المطلب الأول: التفسير الفقهي
المطلب الثاني: التفسير القضائي
المطلب الثالث: التفسير التشريعي
المبحث الثاني: مدارس التفسير و نقدها
المطلب الأول: مدرسة الشرح على المتون و نقدها
المطلب الثاني: المدرسة التاريخية و نقدها
المطلب الثالث: المدرسة العلمية و نقدها
المطلب الرابع: موقف المشرع الجزائري من مدارس التفسير
المبحث الثالث: حالات التفسير و أهم طرقه
المطلب الأول: حالات التفسير
الفرع الأول: حالة الخطأ
الفرع الثاني: حالة الغموض
الفرع الثالث: حالة النقص
الفرع الرابع: حالة التعارض
المطلب الثاني: أهم طرق التفسير
الفرع الأول: طرق التفسير الداخلية
الفرع الثاني: طرق التفسير الخارجية
الخاتمة
المبحث الأول: أنواع التفسير
ينقسم التفسير، بحسب الجهة التي تقوم به، إلى ثلاثة أنواع هي:
التفسيـر الفقهـي، التفسير القضائي، التفسير التشريعي:
المطلب الأول: التفسيـر الفقهـي
يعبر التفسيـر الفقهـي عن الجهد الذي يبذله شراح القانون والفقهاء في تفسير القواعد التشريعية وأحكام القضاء والتعليق عليها وانتقادها. ويستعين الفقهاء في تفسيرهم بقواعد المنطق السليم واعتماد ما يؤدي إليه، دون نظر إلى النتائج العملية التي يؤدي إليها تطبيق التشريع على الحالات الواقعية، لأن مهمة الفقه لا تعرض عليه حالات واقعية يطلب منه الفصل فيها. فالتفسير الفقهي يعتبر غاية في ذاته وليس وسيلة، ولذلك فهو يغلب عليه الطابع النظري، وان كان يلاحظ أن الفقه الحديث يراعي بقدر الإمكان أن يصوغ تفسيره بشكل لا يبتعد عن واقع الحياة الاجتماعية، سواء كان يشهدها بنفسه أو كما يستخلصها من أحكام القضاء.
ومن حصيلة الجهد الشراح ت تكون مجموعة من الاتجاهات الفقهية التي تكون خير معين للقاضي في تكوين آرائه أو مراجعتها، وخير معين للمشرع في تعديل القواعد التشريعية وتطويرها بشكل يتمشى مع الظروف المتجددة في المجتمع.
المطلب الثاني: التفسير القضائي
إذا لم يوجد تفسير تشريعي، فإن القضاة يقومون بتفسير النصوص الغامضة أو الناقصة أو المتناقضة، و القاضي ملزم بتفسير النص ليتيسر عليه تطبيقه، و لكن لا يقوم القاضي بالتفسير إلا بمناسبة واقعة معروضة عليه، فلا يجوز للأفراد مطالبة القضاة بتفسير نص قانوني يثار الشك بصدد معناه الحقيقي، لذلك يقال إن القضاة ليس دارا للإفتاء و لا يخضع القاضي في تفسيره للنصوص القانونية لأي جهة أو سلطة، فهو مستقل في وظيفته و يمكنه الاستئناس بآراء الفقهاء و أبحاثهم.
و ليس للتفسير القضائي قوة إلزامية، فهو ملزم لأطراف النزاع الذي صدر التفسير بصددهم، و غير ملزم للمحاكم الأخرى، فما استقر عليه القضاء من تفسير معين لا يعد ملزما و يمكن العدول عنه و الأخذ بتفسير آخر في قضية مماثلة.
المطلب الثالث: التفسير التشريعي
يصدر هذا النوع من التفسير من المشرع نفسه حين يرى ضرورة لذلك، فإذا اختلفت المحاكم في فهم المعنى الذي قصده المشرع و صدرت الأحكام متضاربة و متناقضة في حل مسائل متشابهة، فقد يعمد المشرع إلى إصدار قانون يفسر به القانون السابق، كما قد يصدر التفسير في نفس الوقت الذي يصدر فيه التشريع، و يصدر القانون التفسيري من السلطة التي أصدرت القانون المراد تفسيره، إلا إذا فوضت السلطة التي أصدرته سلطة أخرى صلاحية تفسيره. و يلاحظ أن القانون المفسر نادر الوقوع، و لكن بصدوره يلتزم القاضي بالتفسير التشريعي، فيتقيد به عند تطبيق التشريع السابق، و يطبق بأثر فوري على الوقائع التي حدثت منذ بدء نفاذ التشريع الأصلي إذا لم يصدر حكم نهائي بشأنها، و قد سبق أن تعرضت بصدد تطبيق القانون من حيث الزمان إلى أن هناك من يعتبر القانون المفسر تطبيقا للقانون بأثر رجعي و لكن الواقع أنه يطبق على المراكز القانونية الجارية فهو تطبيق للقانون بأثر فوري.
المبحث الثاني: مدارس التفسير و نقدها
يرتبط تفسير التشريع بالمدارس المختلفة في أصل القانون و نشأته ارتباطا وثيقا. و تبعا لذلك ظهرت مدارس ثلاث في تفسير النصوص التشريعية هي: مدرسة الشرح على المتون ( التزام النص ), المدرسة التاريخية ( الاجتماعية) و مدرسة البحث العلمي الحر ( المدرسة العلمية ).
المطلب الأول: مدرسة الشرح على المتون و نقدها
ظهرت هذه النظرية في فرنسا على يد Rau و مجموعة الفقهاء الذين تعاقبوا خلال القرن 19 م على إثر تجميع أحكام القانون المدني الفرنسي في مجموعة واحدة أطلق عليها” تقنين نابليون” Code Napoléon, وما صحبها من انبهار هؤلاء الفقهاء بها انبهارا أدى إلى اعتقادهم في أنها جاءت شاملة لكل شيء وصالحة لكل زمان, إذ جمعت و حوت, فلم تترك كبيرة ولا صغيرة إلا أحصتها.و من أشهر فقهاء هذه المدرسة Demolombe وRau و Aubry في فرنسا و Laurent في بلجيكا.
وقد أطلق هذا الاسم على هذه المدرسة نظرا للطريقة التي جرى عليها فقهاؤها في شرح تقنين نابليون متنا متنا, أي نصا تلو الآخر, بنفس الترتيب الذي وردت به نصوص هذا التقنين, ولذلك عرفت هذه المدرسة أيضا باسم مدرسة التزام النص .
فالتفسير عند هذه المدرسة يجب أن يتجه إلى الكشف عن نية المشرع الحقيقية وقت وضع التشريع, و في حالة وجود النص يلجأ أصحاب هذه المدرسة إلى التفسير اللغوي, أي استخدام دلالة الألفاظ, أما في حالة عدم وجود نص فيجب البحث عن إرادة المشرع المفترضة, و ذلك باستعمال وسائل الاستنتاج عن طريق القياس, و الاستنتاج من باب أولى و الاستنتاج بمفهوم المخالفة.
وللوصول إلى نية المشرع المفترضة كانوا يستعينون بالمصادر التاريخية وبالأعمال التحضيرية.
و قد وجهت إلى هذه المدرسة عدة انتقادات منها:
أنها تعتبر التشريع هو المصدر الوحيد للقانون, و بالتالي تنكر و ترفض دور العرف و المصادر القانونية الأخرى بينما يصعب على التشريع تناول جميع التفصيلات و لابد من الناحية الواقعية الاعتراف بالمصادر القانونية الأخرى.
إن إصرار أصحاب هذه المدرسة على البحث عن نية المشرع المفترضة و الأخذ بها يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها. إذ قد يكون سكوت المشرع عن أن يضع نصا يعالج وضعا أو مسألة معينة فيكون سببه جهله أو عدم توقعه عند وضع التشريع, فلا يمكن إذن أن ينسب إلى المشرع ما لم يقله بحجة أن ذلك هو تعبير عن إرادته المفترضة.
إن تفسير التشريع وفقا لإرادة المشرع المفترضة وقت وضع النص دون الأخذ بعين الاعتبار، ما استجد من تغيرات في المجتمع يؤدي إلى جمود التشريع، فالمشرع الفرنسي مثلا سنة 1804 لم يكن يعلم بتطور الآلات و طرق المواصلات، فلا يمكن الاستناد إلى أفكار المشرع آنذاك لحل المسائل المترتبة على الحوادث الناتجة عنها.
المطلب الثاني: المدرسة التاريخية أو الاجتماعية
ظهرت هذه المدرسة فالفقهاء الفرنسيين في ألمانيا على يد الفقيه Savigny ردا على مدرسة التزام النص. وقد أيدتها قلة من الفقهاء الفرنسيين على رأسهم Saleilles.
يرى أصحاب هذه المدرسة أن تفسير التشريع يجب أن يتم وفقا للظروف الاجتماعية و الاقتصادية القائمة في الوقت الذي تفسر فيه النصوص، إذ التزام نص المشرع وقت وضع النص أمر غير منطقي، لأن ظروف المجتمع في تغير مستمر، فلا عبر بإرادة المشرع الحقيقية أو المفترضة عند وضع النص، و إنما العبرة بإرادته المحتملة أي الإرادة التي كان يتجه إليها المشرع لو أنه وجد في الظروف الحالية التي تحيط بالمفسر عند تفسيره للقانون.
نقد النظرية: رغم المرونة التي تطبع هذه النظرية و رغم تقديرها للظروف الاجتماعية و ضرورة مواكبة التشريع لها, إلا أنها فتحت مجالا واسعا للقاضي أو الفقيه للخروج عن إرادة المشرع الحقيقية تحت حجة تفسير النص وفقا للمعطيات الاجتماعية الجديدة و كان مصيرها مثل مصير الإرادة المفترضة التي نادى بها أصحاب مدرسة الشرح على المتون.
المطلب الثالث: مدرسة البحث العلمي الحر
ظهرت هذه النظرية في فرنسا على يد الفقيه Gény بهدف تجنب التطرف الذي عرفت به كل من المدارس السابقة. فهذه النظرية تحارب من جهة أولى مصادر القانون في التشريع، ومن جهة ثانية لا توافق المدرسة التاريخية في ربط تفسير التشريع بتطور ظروف المجتمع.
انطلقت هذه المدرسة من فكرة أن التشريع قد يكون مشوبا بالنقص، و أن هذا النقص ينبغي أن يجبر بالرجوع إلى مصادر، بلرى, لذا يتعين على المفسر أن يتقيد بإرادة المشرع دون يلجأ إلى تحريفها أو تعديلها. لأن التفسير عملية يراد من خلالها البحث عن إرادة المشرع الحقيقية التي يهتدي إليها المفسر من خلال الألفاظ الواردة في النص أو من خلال مضمونه و فحواه. فلا يملك المفسر أن ينسب للمشرع ما لم يقل ويفترض في النص مسائل لم ينظمها كما ذهب لذلك أصحاب مدرسة الشرح على المتون. كمالا يملك المفسر أن يصلح من إرادة المشرع وأن يخضعها للتطور الاجتماعي كما ذهب لذلك أصحاب المدرسة التاريخي، بلل يفسر النص ويتقيد به لفظا وروحا.
المطلب الرابع: المشرع الجزائري و مدارس التفسير
نصت المادة الأولى من القانون المدني على أن:(( يسري القانون على جميع المسائل التي تتناولها نصوصه في لفظها أو في فحواها. و إذا لم يوجد نص تشريعي حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم يوجد فبمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي و قواعد العدالة. ))
إلا أن المشرع و إن بدا في المادة المذكورة متأثرا بمدرسة الشرح على المتون خاصة في الفقرة الأولى، إلا أن ذلك اقتصر فقط على الإرادة الظاهرة للمشرع و التي يستلهمها القاضي سواء من ألفاظ النص أو معناه و هو ما عبر عنه المشرع بفحوى النص. فليس للقاضي أن يبحث في الإرادة المفترضة كما ذهبت إلى ذلك مدرسة الشرح على المتون، بل يتقيد بالنص لفظا و روحا. و يبدو تأثر المشرع أيضا بمدرسة البحث العلمي الحر و هذا ما ينضح من الفقرة الثانية و الثالثة من المادة المذكورة حيث سلم المشرع بظاهرة قصور التشريع على معالجة كل الوقائع و وضع مصادر أخرى احتياطية يلجأ إليها القاضي في حالة عدم وجود نص في التشريع معترفا له في الفقرة الأخيرة بالاجتهاد وفق ما تقتضيه مبادئ القانون الطبيعي و قواعد العدالة.
المبحث الثالث: حالات التفسير و أهم طرقه
يقصد بحالات التفسير الأسباب التي تجعل المفسر يبحث عن التعرف على معنى النص المراد تفسيره. و تتمثل هذه الأسباب في بعض المشاكل التي تسم النصوص التشريعية التي تلحقها بسمة عدم الوضوح الذي يستدعي الوقوف على قصد واضعها منها. أما طرق التفسير فهي الأدوات أو المسائل التي يستعين بها المفسر لبلوغ مقصده, و هو مغزى النص الذي ينبغي تفسيره.
المطلب الأول: حالات التفسير
متى كانت صياغة النص المراد تفسيره واضحة و كان معناه جليا، بحيث يكفي التفسير اللغوي لألفاظه للإحاطة بقصد المشرع منه، فإن دور القاضي حينئذ يقتصر على تطبيق النص دون تأويله إذ “لا اجتهاد مع وجود النص”. و في هذا المعنى قضت محكمة النقض المصرية في حكمها الصادر بتاريخ 02/12/1965 بأنه: (( متى كان النص واضحا جلي المعنى قاطعا في الدلالة على المراد منه، فإنه لا يجوز الخروج عليه أو تأويله بدعوى الاستهداء بالحكمة التي أملته، لأن البحث في حكمة التشريع و دواعيه إنما يكون عند غموض النص أو وجود لبس فيه مما يكون معه القاضي مضطرا في سبيل تعرف الحكم الصحيح إلى تقصي الغرض الذي يرمي إليه و القصد الذي أملاه، لأن الأحكام القانونية تدور مع علتها لا مع حكمتها، و من ثم فلا يجوز إهدار العلة و الأخذ بالحكمة عند وجود نص واضح سليم. ))
غير أنه باستثناء الحالات القليلة التي يكفي فيها وضوح عبارات النصوص التشريعية لتطبيقها، فإن القاضي غالبا ما يضطر، قبل تطبيق النص التشريعي، إلى استكشاف كنه هذا النص و الإحاطة بمعناه إذ قد يكون معيبا إما لوجود خطأ به أو لغموض صياغته أو لنقص في عبارته أو لتعارض في أحكامه.
الفرع الأول: حالة الخطأ
الخطأ الذي ينشب نصا تشريعيا قد يكون ماديا أو قانونيا و حينئذ يجب تصحيح هذا الخطأ على هدي القواعد العامة في القانون و على هدي طرق التفسير، التي سنعرضها بعد حين، حتى يستقيم معنى النص التشريعي.
أولا: الخطأ المادي
الخطأ المادي هو الخطأ الذي لم يقصده المشرع. و يتحقق الخطأ المادي إما بإيراد لفظ غير مقصود أو بسقوط لفظ من النص كان يلزم ذكره, بحيث لايتم معنى النص إلا إذا حذفنا اللفظ الزائد غير المقصود في الحالة الأولى, أو أضفنا اللفظ الذي سقط سهوا في الحالة الثانية.
أمثلة لحالة الخطأ المادي:
من أمثلة هذه الحالة إحلال لفظ في النص محل لفظ آخر. و من قبيل ذلك ما نصت عليه المادة 220 من تقنيننا المدني من أنه (( إذا برئت ذمة الدائن قبل أحد الدائنين المتضامنين لسبب غير الوفاء فلا تبرأ ذمته قبل الدائنين الآخرين إلا بقدر حصة الدائن التي برئت ذمته من أجله)). فهنا نجد أن الصحيح أن توضع كلمة المدين في بداية عبارة نص هذه المادة, لأن المدين هو الملزم بتنفيذ الالتزام, و بالتالي هو الذي تبرأ ذمته بأحد أسباب انقضاء الالتزام.
ثانيا: حالة الخطأ القانوني
الخطأ القانوني هو الخطأ الواضح غير المقصود الذي تدل عليه القواعد العامة, بحيث لا يوجد أدنى شك في وجوب تصحيحه.
أمثلة لحالة الخطأ القانوني:
و ذلك ما ورد بالفقرة الأولى من المادة 92 من تقنيننا المدني التي تقضي بأنه (( يجوز أن يكون محل الالتـزام شيئا مستقبلا و محققا )), إذ يتضح أن كلمة
” محققا ” خطأ, ذلك أن التعامل في الشيء المستقبل جائز ما دام ممكنا غير مستحيل, و لكن هذا الشيء قد لا يوجد: فمحل العقود الاحتمالية يمكن أن يوجد و يمكن ألا يوجد. فليس صحيحا أن المحل المستقبل يجب أن يكون محقق الوجود, بل يكفي أن يكون وجوده ممكنا لا مستحيلا استحالة مطلقة.
الفرع الثاني: حالة الغموض
يكون النص غامضا أي مبهما إذا كان أحد ألفاظه أو مجموع عبارته يحتمل التأويل، بأن كان له أكثر من معنى، بحيث يتعين على القاضي أن يختار أيا من معانيه التي يراها أدنى إلى الصواب و أقرب إلى مقصود المشرع.
مثال لحالة الغموض:
المثال على هذه الحالة ما جاء بالمادة 1599 من التقنين المدني الفرنسي التي تقضي بأن (( بيع ملك الغير باطل )). فما المقصود بالبطلان هنا؟ أهو البطلان المطلق أم البطلان النسبي ؟ إذ أن أحكام كل منهما تختلف عن أحكام الآخر: فالبطلان المطلق يجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسك به، و يكون للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، وهو لا يزول بالإجازة، أما البطلان النسبي فلا يملك التمسك به إلا من شرع حق طلب لمصلحته، و هو يزول بالإجازة، كما يسقط حق إبطال العقد بالتقادم.
فإزاء هذا الغموض حول طبيعة البطلان في هذه الحالة، يتعين على القاضي الوقوف على النية الحقيقية للمشرع، فيأخذ بأحد نوعي البطلان على المعروضة عليه.
الفرع الثالث: حالة النقص
يكون النص ناقصا إذا غفل المشرع ذكر لفظ أو ألفاظ لا يستقيم النص بدونها، أو إذا سكت المشرع عن إيراد حالات كان يلزم ذكرها. ففي هذه الحالة يتعين على القاضي تكملة النقص لتطبيق النص.
أمثلة لحالة النقص:
ما ورد بالمادة124 من تقنينا المدني التي تقضي بأن (( كل عمل أيا كان يرتكبه المرء و يسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض)). فالمعنى الحرفي لعبارة هذا النص يفيد إلزام مسبب الضرر بتعويض المضرور، يستوفي ذلك أن، يكون فعل مسبب الضرر مشروعا أو غير مشروع. والداعي إلى مثل هذا الفعل هو وجود نقص في النص يتمثل في خلو النص من ذكره وذلك لخطأ، في حين أن مقصود المشرع هو وجوب أن يكون الفعل الذي انجر عنه الضرر خطئا. لذا فإنه يجب حينئذ على القاضي أن يكمل النقص الذي يعتريه حتى يستقيم معنا، وذلكك بإضافة وصف الخطأ إلى الفعل، بحيث يصبح النص كما يلي (( كل عمل أيا كان يرتكبه المرء ويسبب بخطئه ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض)).
الفرع الرابع: حالة التعارض
يقصد بالتعارض وجود تناقض بين نصين تشريعيين يحمل كل منهما حكما يخالف الآخر, بحيث يستحيل الجمع بينهما. و التعارض قد يكون بين نصوص تشريع واحد, وقد يكون بين نصوص تشريعين أو أكثر. مثال ذلك التعارض الذي وقع فيه المشرع الجزائري في المادة 42/1 و المادة 43 مدني.
إذ تنص المادة 42/1 مدني على ما يلي: (( لا يكون أهلا لمباشرة حقوقه المدنية من كان فاقد التمييز لصغر في السن أو عته أو جنون.))
ثم تنص المادة 43 مدني على ما يلي: (( كل من بلغ سن التمييز و لم يبلغ سن الرشد و كل من بلغ سن الرشد و كان سفيها أو معتوها، يكون ناقص الأهلية وفقا لما يقرره القانون )).
فاعتبر المشرع الجزائري المعتوه تارة عديم الأهلية فتكون كل تصرفاته باطلة طبقا لنص المادة 42 مدني بينما اعتبره تارة أخرى ناقص الأهلية وفقا للمادة 43 مدني فتكون تصرفاته قابلة للإبطال.
و لابد من التفسير لمعرفة موقف المشرع الجزائري و قد بين الأستاذ علي علي سليمان, أن سبب هذا التعارض يرجع إلى أن المشرع ترجم العبارة الواردة في النص الفرنسي للمادة 43 بلفظ المعتوه و نسي أنه ذكر العته في المادة 42. و المقصود هنا هو ذو الغفلة الذي يلحق بالسفيه و يعتبران ناقصي الأهلية بينما يلحق المعتوه بالمجنون و يعتبران غير أهل لمباشرة حقوقهما المدنية.
المطلب الثاني: أهم طرق التفسير
و هما الأدوات أو الوسائل التي يستعين بها المفسر للتعرف على مغزى النص الذي هو بصدد تفسيره. و تنقسم طرق التفسير إلى نوعين: طرق تفسير داخلية و أخرى خارجية.
الفرع الأول: طرق التفسير الداخلية
يقصد بهذه الطرق الوسائل التي بها يستخلص القاضي من داخل النص ذاته مدلول هذا النص وحكمه دون اللجوء إلى أية وسيلة خارجية عن ذات النص و ينقسم إلى ما يلي:
أ – الاستنتاج من مفهوم الموافقة:
يقصد به إعطاء واقعة مسكوت عنها حكم واقعة أخرى منصوص عليها لاتحاد العلة في الواقعتين. و يطلق على الاستنتاج بهذه الطريقة مصطلح القياس.
و هما نوعان: قياس عادي و قياس من باب أولى.
القياس العادي: هو إعطاء واقعة غير منصوص على حكمها الحكم الذي ورد به النص في واقعة أخرى لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم، إذ إن الحكم يوجد حيث توجد علته.
مثال: تحريم الخمر بسبب أنه مسكر و يذهب العقل، فألحق به المخدر لاشتراكهما في العلة و هي إذهاب العقل.
القياس من باب أولى: يتحقق هذا النوع من القياس حيث توجد حالة منصوص على حكمها، و تكون علة هذا الحكم متوافرة بشكل أوضح و أظهر في حالة أخرى غير منصوص عليها، فيثبت لها الحكم من باب أولى.
مثال: إذا منع المشرع الالمخالفة: عقارات القاصر مثلا، فيفهم من باب أولى منعه من هبة أموال القاصر.
ب ـ الاستنتاج من مفهوم المخالفة:
يقصد بالاستنتاج من مفهوم المخالفة إعطاء حالة غير منصوص عليها عكس حكم حالة منصوص عليها، و ذلك إما لاختلاف العلة في الحالتين، وإما لأن الحالة التي نص عليها المشرع تعتبر استثناء من الحالة غير المنصوص عليها. و بعبارة أخرى فإن الاستنتاج بمفهوم المخالفة صورة عكسية تماما للاستنتاج من مفهوم الموافقة.
و يمكننا أن نعبر عن الاستنتاج من مفهوم المخالفة بالمقولة التالية (( كل ما ليس محظورا فهو مباح))
مثال: اختلاف العلة بين الحالتين ما ورد في المادة 369 من القانون المدني:
(( إذا هلك المبيع قبل تسليمه بسبب لا يد للبائع فيه سقط البيع و استرد المشتري الثمن، إلا إذا وقع الهلاك بعد إعذار المشتري بتسليم الثمن)) إذ يستفاد من مفهوم المخالفة لهذا النص أن هلاك المبيع بعد تسليمه إلى المشتري لا يكون سببا لسقوط البيع و لا لاسترداد المشتري الثمن.
الفرع الثاني:طرق التفسير الخارجية
و يقصد بها الوسائل الخارجية عن ذات النص التي يستعين بها القاضي للوقوف على إرادة المشرع الحقيقية, بحيث لا تعتمد هذه الطرق على تحليل عبارات النص و ألفاظه, بل على عناصر خارجة عنه و تتمثل هذه الطرق بالرجوع إلى كل من: حكمة التشريع, الأعمال التحضيرية و المصادر التاريخية.
أ- حكمة التشريع: يراد بحكمة التشريع أو روح التشريع الباعث على وضع الحكم الذي يتضمنه هذا التشريع. و يتمثل هذا الباعث إما بالمصلحة التي يقصد المشرع تحقيقها أو بالمفسدة التي يرمي إلى دفعها، فعلى ضوء هذه الغاية يسهل تفسير النص.
ب- الأعمال التحضيرية: يقصد بها مجموعة الوثائق الرسمية التي تضم المذكرات الإيضاحية و تقارير و مناقشات اللجان و الهيئات التي قامت بإعداد التشريع فهذه الأعمال تساعد المفسر كثيرا في الكشف عن مقصود المشرع.
ج- المصادر التاريخية: المصدر التاريخي لنص تشريعي ما هو إلا الأصل التاريخي الذي استقى منه المشرع حكمه. و بذلك الرجوع إلى هذا الأصل يساعد على معرفة الإرادة الحقيقية للمشرع إن لم تسعفه طرق التفسير الأخرى. فمثلا في القانون الجزائري تعتبر مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر التاريخي لمسائل الأحوال الشخصية الذي يتعين رجوع المفسر إليه لفهم نصوص قانون الأسرة.
الخاتمة:
يتضح لنا من خلال دراستنا لهذا البحث أنه قبل تطبيق النص القانوني يجب الوقوف على المعنى الحقيقي له أي الكشف عن مضمونه و مقصد المشرع من خلاله. فالتفسير يسبق عملية التطبيق و عليه يتعذر تطبيق القاعدة القانونية قبل تفسيرها خاصة إذا كانت ذات مدلول غامض من الصعب الاهتداء إليه.
قائمة المراجع:
د – محمدي فريدة زواوي – المدخل للعلوم القانونية ( نظرية القانون ) 2002.
د – محمد سعيد جعفور – مدخل إلى العلوم القانونية – الطبعة الثالثة.
اترك تعليقاً