بحث قانوني رائع عن الضمانات غير العقدية لاستثمار المعرفة
إعداد
الدكتور نصير صبار لفته الجبوري
كلية القانون – جامعة القادسية
بحث منشور في العراق_بغداد، مجلة القانون المقارن: العدد / 51 سنة 2008
المقدمة
جيداً أننا نعيش في عصر اقتصاد المعرفة الذي يعتمد اعتماداً أساسياً على استثمار المعرفة بشكل فعال، في الوقت الذي يرمي فيه المشرع العراقي إلى تشجيع الاستثمارات ونقـل التقنيات الحديثة للإسهام في عملية تنمية العراق وتطويره وتوسيع قاعدته الإنتاجية والخدمية وتنويعها، وحماية حقوق وممتلكات المستثمرين ” “. بالإضافة إلى تعزيز الثقة في البيئة الاستثمارية والتعرف على الفرص الاستثمارية وتحفيز الاستثمار فيها والترويج لها ” “. في مقابل التزام المستثمر في تدريب مستخدميه من العراقيين وتأهيلهم وزيادة كفاءتهم و رفع مهاراتهم و قدراتهم وتكون الأولوية لتوظيف واستخدام العاملين العراقيين ” “. وذلك من اجل دفع عملية التنمية الاقتصادية وتطويرها و زيادة الطاقة التصميمية للمشاريع الاستثمارية في العراق ” “.
لذا فأن أهمية الموضوع تتجلى في ضرورة ضمان حقوق مستثمر المعرفة إذ انه لا يحصل عليها إلا بتكاليف قد تكون باهضة في ظل التداول العقدي للمعرفة.
بيد انه إذا كانت الضمانات العقدية لاستثمار المعرفة من خلال الأدوار التي تلعبها عقود بيع المعلومات والترخيص والعمل والمقاولة ونقل التكنولوجيا، لا توفر الضمان اللازم للمستثمر فأنه يمكن اللجوء إلى ضمانات أخرى غير عقدية توفر الحماية اللازمة والتعويض المناسب لمستثمر المعرفة. وتحقق الغرض من الإسراع في حسم النزاع وتسهيل طرق الإثبات بمنأى عن أركان المسؤولية العقدية.
لذلك فأن من يحقق منافع على حساب شخص أخر من دون وجه حق سوف يكون ملزماً بتعويض هذا الشخص الذي تم تحقيق المنافع على حسابه من غير أن يكون لمن حقق هذه المنافع مسوغاً قانونياً في ذلك، ثم أن القانون، وعلى الرغم من إعطائه الحق للأشخاص في ممارسة مختلف الأعمال التي يرغبون في القيام بها، إلا أن ذلك لا يسوغ القول بأن ليست هناك حدود قانونية تحد من تصرفات هؤلاء الأشخاص، إذ ينبغي أن تكون ممارستهم لمثل هذه النشاطات وفقاً لما يفرضه القانون من التزامات بعدم الاعتداء على حقوق الغير.
وإذا كان الأمر كذلك، فأن أكثر من تساؤل يمكن أن يطرح ويتعلق بمدى أمكانية تطبيق الأحكام المتقدمة على فكرة استثمار المعرفة وصولاً إلى توفير الضمان المناسب لها، فهل للمستثمر في هذه الحالة، عندما تتعرض حقوقه للاعتداء من قبل الغير، الارتكاز على نظرية الكسب دون سبب، ومن ثم يطرح تساؤل أخر عن دور نظرية الكسب دون سبب في توفير الضمان لاستثمار المعرفة، ثم انه أذا لم يتبع الشخص الوسائل المشروعة في مزاولة نشاطاته واتبع أساليب غير مشروعة من اجل الوصول إلى ما يبتغيه، فأن تساؤلاً أخر يتعلق بدور فكرة المنافسة غير المشروعة في توفير الضمان لاستثمار المعرفة. جميع هذه المسائل سوف نتناولها في هذه الدراسة التي قسمناها على مبحثين، نخصص المبحث الأول: لدور نظرية الكسب دون سبب في ضمان استثمار المعرفة. والمبحث الثاني: لدور فكرة المنافسة غير المشروعة في ضمانها، بالإضافة إلى مبحث تمهيدي لبيان مفهوم استثمار المعرفة. وذلك على النحو الأتي :-
مبحث تمهيدي مفهوم استثمار المعرفة
يستخدم مصطلح المعرفة، بصورة واسعة، حتى يبدو للبعض مفهوماً دارجاً لا يحتاج إلى عناء فهمه. وهذا الأمر يشوبه الكثير من الخطأ، صحيح أن نمو وتطور العقل الإنساني وما رافقه من تقدم حضاري، تدلنا الشواهد والتجارب على انجازاته قد اشر لنا مقدمات بناء تراكم معرفي يعتد به….. إلا أن غالبية البشر مازالوا غير قادرين على تحديد السر الذي يقف خلف كل تلك الشواهد، على عكس ما بذلوه من جهود لاكتشاف الآثار والسير التاريخية، ذلك السر هو المعرفة التي نشأت بخواص متطورة لا تحتاج سوى بذل الجهود من اجل تنظيمها وتوظيفها وبما يجعلها ميسرة وأكثر فاعلية وكفاءة ولكي يحاط موضوع مفهوم استثمار المعرفة بشمولية اكبر سيتم بيان كل من مفهوم المعرفة وخصائصها واستثمارها ضمن فقرات هذا المبحث. وعلى النحو الأتي :
أولاً:- مفهوم المعرفة
تعد المعرفة من الظواهر القديمة. لكن البحث في مفهومها وخصائصها هو أمر حديث ظهر مع بدايات القرن التاسع عشر عندما ظهرت الثورة العلمية والتكنولوجية، وتعززت خلال القرن العشرين مع بداية التطبيق الحقيقي للاكتشافات العلمية في مجال الكيمياء والذرة والاليكترونيات. كما يرجع مفهوم مصطلح المعرفة (knowledge) إلى الابستملوجيا (epistemology) أي نظرية المعرفة وهي : فرع في الفلسفة العامة يبحث في أصل المعرفة وطبيعتها ومداها ومدارسها المختلفة، فالتجريبيون يردون المعرفة إلى الحواس، والعقليون يؤكدون أن بعض المبادئ مصدرها العقل لا التجربة الحسية. وعن طبيعة المعرفة، يعترف الواقعيون أن موضوعها مستقل عن الذات العارفة. ويؤكد المثاليون أن ذلك الموضوع عقلي في طبيعته لان الذات لا تدرك إلا أفكاراً. ويختلف الفلاسفة في توصيفهم لمدى المعرفة. فمنهم من يؤكد أن العقل يدرك المعرفة اليقينية، ومنهم من يجعل المعرفة احتمالية ومنهم من يعلن أن المعرفة اليقينية مستحيلة ” “. وإذا كان العلم يعرف بأنه مجموعة معلومات أو النشاط الذي ينقاد إليه العلماء والباحثون ” “. فإن المعرفة أوسع وأشمل من العلم، فالمعرفة تتضمن معارف علمية وأخرى غير علمية، ويمكن التمييز بينهما على أساس قواعد المنهج وأساليب التفكير التي تتبع في تحصيل المعارف، والمعرفة أنواع فهي:- أما معرفة حسية ” “، أو معرفة فلسفية تأملية ” “، أو معرفة تكنولوجية ” “، أو معرفة علمية تجريبية ” “. إلى جانب ذلك ثار التساؤل عن خصائص المعرفة ؟ وهذا ما نحاول الإجابة عليه في الفقرة الآتية:
ثانياً:- خصائص المعرفة
تتكون المعرفة من البيانات والمعلومات والأفكار ومجمل البنى الرمزية التي يحملها الإنسان، إذ توجه سلوكه في مجالات النشاط الإنساني كافة سيما أنتاج السلع والخدمات. وتتميز المعرفة بالعديد من الخصائص، والتي يمكن تلخيصها بالاتي :
1- المعرفة غير قابلة للنفاد؛ بمعنى متواصلة البقاء، أي أن المعرفة لا تفنى بالتداول من شخص لأخر. فمتى توصل الإنسان إلى المعرفة أو اكتسبها التصقت به ولا يمكن نزعها منه. ومهما استعمل الإنسان هذه المعرفة وكانت محلاً لاستغلاله فإنها لا تنفد أبداً ” “.
2 – المعرفة متنامية بالاستعمال؛ فهي مورد أنساني لا ينقص بل ينمو باستعماله. وعليه فان عمليات نشر وتوليد المعارف الجديدة توفر للمعرفة خاصية الازدياد بالاستعمال ” “.
3 – المعرفة من قبيل الأشياء؛ للمال في القانون العراقي مفهوم قانوني يميزه عن الشيء. فطبقاً للمادة (61) فقرة أولى من القانون المدني (كل شيء لا يخرج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون يصح أن يكون محلاً للحقوق المالية). وتقرر المواد (65 و66) من القانون المدني بأن (المال هو كل حق له قيمة مادية أياً كان هذا الحق سواء أكان عينياً أم شخصياً). أما الشيء سواء أكان مادياً أم غير مادي فهو محل ذلك الحق، فإذا كان الشيء غير المال لكون هذا الأخير الحق المالي الذي يرد على الشيء والشيء هو محل هذا الحق ” “. كما أصبح من الثابت أن المعرفة تكون محلاً للمبادلات. وتتسم هذه المبادلات بطابع المبادلات السلعية ” “. والأصل أن التصرفات القانونية المتعلقة بالأشياء ترد أما على إنشاء أو نقل أو إنهاء حق من الحقوق العينية الواردة على الشيء أو حق شخص متعلق بالشيء أو حق ذهني على الشيء. وبعبارة أخرى تدور فكرة التصرف القانوني حول فكرة الحق بمفهومه القانوني. لذلك فإن تبادل المعرفة تعد من القيم، أي في عرف القانون من الأشياء الداخلة في دائرة التعامل ” “.
4 – المعرفة قابلة للتداول، بمعنى الأثيرية، أي قدرة المعرفة على تخطي المسافات والحدود خاصة أذا كانت مصحوبة بدلالات رقمية. ويمكن القول انه بتوافر خصيصة عدم القابلية للنفاد في المعرفة قد توافرت فيها عنصر قابليتها للتداول. فعدم القابلية للنفاد يطلق تداول المعرفة من حيث الزمان والأشخاص. حيث لا ٌتقدّر قيمة وأهمية المعرفة إلا بقدر انتشارها ومساهمتها في تحقيق غاية أو منفعة للبشرية عموماً. فالفكر بوجه عام حياته في انتشاره، لا في الاستئثار به ” “.
بيد إنه على الرغم من قابلية المعرفة للتداول فهي محل لكل محاولات الاستئثار بها والاختصاص بها اختصاصاً فردياً من قبل مبتكرها نظراً لأهميتها الاقتصادية. إذ تتمتع المعلومات بقيمة اقتصادية جديرة بأن ترفعها إلى مرتبة الأموال إذ يتحدد سعرها بوصفها سلعة وفقاً لسوق العرض والطلب متى ما كان من غير المحظور قانوناً التعامل فيها. وبذلك تنسب هذه المعلومات بما تحتويها من عناصر للشخص الذي قام بإعدادها، بصورة تعطي لهذا الأخير ميزة التسلط وحرية التصرف بمواجهة الكافة، طالما أن قانوناً لا يمنع هذا الاستئثار بشرط تمتع هذه المعلومات بالحماية القانونية ” “. وهذا يعني عدم قابلية المعرفة للتداول وذلك بتوافر عناصر خارجية عنها كشيء يستحق الاستئثار: وهذه العناصر الخارجية أما أن تتمثل في عناصر الاحتكار القانوني للمعرفة ” ” وأما في عناصر احتكارها احتكاراً واقعياً، بواسطة السرية مثلاً ” “.
مما تقدم يلاحظ على هذه الخصائص أنها تعطي للمعرفة أهمية مضافة تزيد من ثقلها المنفعي وتجعل أمكانية الحصول عليها واستخدامها وانتشارها اكبر من أية سلعة أخرى خاصة أذا ما توفرت هناك الرغبة في استثمارها سواء من الأفراد أو المؤسسات أو الدولة، وهذا ما دعانا إلى محاولة بيان مفهوم استثمار المعرفة، كما في الفقرة الآتية :
ثالثاً:- استثمار المعرفة
عرّف التقرير العربي للتنمية البشرية لسنة (2003) ” “مجتمع المعرفة بأنه (ذاك المجتمع الذي يقوم أساساً على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات نشاط المجتمع: الاقتصاد والمجتمع المدني والسياسية والحياة الخاصة وصولاً بالارتقاء بالحالة الإنسانية باطراد أي إقامة التنمية البشرية).
ولما كان العالم يشهد ازدياداً مضطرداً لدور المعرفة في إنتاج السلع والخدمات وتحركها.فأن نجاح المؤسسات والشركات يعتمد كثيراً على فعاليتها في جمع المعرفة واستعمالها لرفع الإنتاجية وتوليد سلع وخدمات جديدة. وهناك أنواع عديدة من شبكات المعرفة مثل شبكات الجامعات وشبكات مراكز البحوث وشبكات مؤسسات المعلومات كالمكتبات ودور النشر ومراكز التوثيق وشبكات الصناعات المختلفة وغير ذلك من الشبكات، والتي ُتعنى باستثمار المعرفة بالإضافة إلى توليدها طبعاً. ويزداد استثمار الدولة للمعرفة من خلال الصرف على التعليم والتدريب والتطوير في القطاعين العام والخاص. ومن هنا كانت عملية انتقال نتاج حضارة ما إلى حضارة أخرى يعبر عنه باستثمار للمعرفة.
وعرف المشرع العراقي الاستثمار في المادة الأولى من قانون الاستثمار العراقي رقم 13 لسنة 2006 على انه :- (توظيف المال في أي نشاط أو مشروع اقتصادي يعود بالمنفعة المشروعة على البلد).
عليه يمكن تعريف استثمار المعرفة بالمعنى الذي نتحدث عنه هنا بأنه توظيف المعرفة بطريقة يتوقع أن تدر دخلا على المستثمر، عليه فأن عناصر استثمار المعرفة هما المعرفة والمال(إذ لابد من مالٍ لتوظيف المعرفة).
ومن ابرز الأمثلة لاستثمار المعرفة : انتقال المعرفة من شركات الاستثمار الأجنبي إلى شركات الاستثمار المحلية مما يؤدي إلى تحسين الإنتاجية والكفاءة في الشركات المحلية، ويحدث نشر المعرفة هذا عندما تعزز الشركات المحلية من إنتاجيتها ببساطة من خلال نسخ التكنولوجيا التي تستخدمها شركات الاستثمار الأجنبي التي تعمل معها في السوق المحلي، كذلك يحدث نشر المعرفة عندما تجبر المنافسة الحادة في السوق المحلية التي تشكلها الشركات الأجنبية الشركات المحلية على أن تكون أكثر كفاءة في استخدام مواردها، وإلا تواجه خطر الخروج من السوق، بالإضافة إلى انتشار المعرفة عندما ينتقل العمال المحليون الذين تلقوا تدريبا جيدا خلال عملهم مع شركات الاستثمار الأجنبي للعمل في شركات محلية أو يقومون بتأسيس شركاتهم الخاصة ” “.
عليه فأن استثمار المعرفة، من أهم الوظائف التي ينبغي الاعتناء بها وذلك بتوفير المؤسسات الوسيطة بين جهات توليد المعرفة وفعاليات الإنتاج والخدمات مثل المؤسسات التكنولوجية ومثل المخابر الهندسية والهندسة العكسية ومثل دعم براءات الاختراع وحماية الملكية الفكرية وغيرها من الإجراءات. إذ أن استثمار المعرفة يجلب معه تحسينات في التكنولوجيا والكفاءة والإنتاجية، وهذه العناصر تؤدي بالتالي إلى حدوث نمو اقتصادي، والمساهمة في تقدم البلد.
لذا لم تعد المعرفة في حياتنا المعاصرة مجرد وسيلة بسيطة من وسائل تبادل المعلومات تخلوا من التعقيد، تتحكم في تبادلها رغبة الأطراف في الاطلاع على المعرفة ويسهل اللجوء إليها في التبادل الاقتصادي والتجاري. وهذا ما دعانا إلى محاولة البحث عن السبل لضمان استثمار المعرفة خارج نطاق العلاقة العقدية ؟ والذي سنتناوله في المبحثين الآتيين:-
المبحث الأول دور نظرية الكسب دون سبب في ضمان استثمار المعرفة
يعرف القانون المدني العراقي ” “، الكسب دون سبب باعتباره مصدراً من مصادر الالتزام، إذ نظم أحكامه وذلك في المواد (233 – 244)، وكرس القاعدة العامة فيه في المادة(233) التي تنص على أن ( كل شخص ولو كان غير مميز، يحصل على كسب دون سبب مشروع على حساب شخص أخر، يلتزم في حدود ما كسبه بتعويض من لحقه ضرر بسبب هذا الكسب، ويبقى هذا الالتزام قائماً ولو زال كسبه فيما بعد). عليه فأن الكسب دون سبب يعرف بأنه اغتناء ذمة شخص بسبب افتقار ذمة شخص أخر من دون سبب مشروع ” “. ومن هنا فأن الفقه يذهب إلى القول، بأنه إلى جانب الفعل الضار كمصدر من مصادر الالتزام، يقوم من الناحية الأخرى الفعل النافع أو الإثراء بلا سبب، إذ نكون أمام شخص يثري على حساب أخر من دون وجه حق، فيرتب القانون لمن افتقر حقاً يستطيع بمقتضاه أن يرجع على من أثرى على حسابه، ويلزم هذا الأخير بتعويض ما لحق بالطرف الأخر من خسارة وفي الحدود التي حصل فيها الإثراء ” “. وتستند هذه النظرية- التي تدخل في أطار مصادر الالتزام غير الإرادية لأنها واقعة قانونية وليست تصرفاً قانونياً- إلى العدالة، إذ تأبى العدالة أن يحتفظ الشخص بالإثراء الذي حصل عليه من دون مسوغ مشروع وينبغي رده إلى صاحب الحق فيه ” “. ولكي يتمكن المستثمر من أقامة هذه الدعوى لابد من تحقق شروط معينة وهي كالأتي ” ” :-
أ – الإثراء: إذ لابد من يغتصب المعرفة أن يثري أو يفشي أسرارها.
ب – أن يفتقر مستثمر المعرفة.
ج – أن يكون الإثراء نتيجة الافتقار.
د – أن يكون الإثراء دون سبب، والسبب هو المبرر القانوني فلو أذيعت المعرفة على نحو أصبحت به ملكاً عاماً أو تم التنازل عنها يتحقق السبب القانوني الذي يمنع أقامة دعوى الإثراء.
بيد انه أذا كانت نظرية الكسب دون سبب تستند إلى قواعد العدالة، فأن تساؤلاً يطرح عن مدى أمكانية الأخذ بها في ظل فكرة استثمار المعرفة، أي انه في حالة تعرض مستثمر المعرفة لخطر يهدد استثماره أو تم الاعتداء عليه بالفعل، فهل يمكن لهذا الشخص اللجوء إلى قواعد نظرية الكسب دون سبب لضمان حمايته مما تعرض إليه أو ما يمكن أن يتعرض إليه ؟ تقتضي الإجابة عن هذا التساؤل بحث أمكانية تطبيقها على استثمار المعرفة كوسيلة لضمانها. بيد أن الفقه في أطار تطبيق هذه النظرية قصر تطبيقها في دائرة ضيقة تارةً، في حين تجد لها تطبيقاً واسعاً عند الاتجاه الأخر تارةً أخرى. عليه سنقسم هذا المبحث على مطلبين وذلك على النحو الأتي :-
المطلب الأول الاتجاه الضيق
اعتمد جانب من الفقه الفرنسي تطبيق نظرية الكسب دون سبب في نطاق استثمار المعرفة بأنه ينبغي على المدعي أن يثبت أن المدعى عليه قد أثرى بسبب المدعي ذاته- أي بسبب ما استثمره المدعي من معرفة- وان ذلك أدى إلى افتقار المدعي، ولكن أذا كان الإثراء أو الافتقار يشكلان وقائع قانونية يمكن أثباتها بوسائل الإثبات كافة، إلا انه ينبغي الملاحظة في هذا السياق أن وجود الرابطة السببية الضرورية بين هذين الأمرين ليس سهل الإثبات دائماً، فضلاً عن أن على المدعي أن يثبت الصفة الثانوية أو الاحتياطية لدعوى الكسب دون سبب” “، حيث لا تعد هذه الدعوى دعوى أصلية كما هو الحال مع القانون العراقي الذي يعتبر الكسب دون سبب مصدراً أصلياً مستقلاً من مصادر الالتزام. فدعوى الكسب دون سبب في القانون الفرنسي ليست متاحة، في الواقع، أمام المدعي إلا وفق شروط عدم أمكانية إقامة دعوى أخرى بغية الحصول على إعادة التوازن والعدالة ” “. عليه فأن الصفة الثانوية أو الاحتياطية هي صفة صارمة وشديدة من قبل القضاء الفرنسي، ذلك لان الإمكانية البسيطة لإقامة مثل هذه الدعوى صعبة التحقيق بالنظر إلى صعوبة تحقق شروطها، حيث على المدعي أن يثبت عدم وجود وسيلة أخرى من وسائل الضمان من اجل تطبيق دعوى الكسب دون سبب،بسبب هذه الصفة الاحتياطية لهذه الدعوى” “.
بيد أن دعوى الكسب دون سبب في ظل النظام القانوني الفرنسي، بسبب الصفة الثانوية لهذه الدعوى من ناحية وانعدام سبب الإثراء من ناحية أخرى، يؤديان إلى تضييق تطبيقها عندما يتعلق الأمر بإفشاء سرية استثمار المعرفة بطريقة غير مشروعة. إذ انه لابد من وجوب التمييز بين أمرين في هذا الخصوص: يتعلق الأمر الأول بالإفشاء أو كشف سرية استثمار المعرفة الذي يتم بطريق الغش أو من قبل الغير، فمثل هذا الأمر يشكل من جانب، جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي، ومن جانب أخر يمثل خطأ ً مدنياً موجباً للمسؤولية المدنية، وهنا تظهر الصفة الثانوية لدعوى الكسب دون سبب، فبوجود الدعوى التي يعاقب عليها القانون الجنائي أو بوجود دعوى المسؤولية المدنية بشكل عام، فأن ذلك يؤدي إلى ركن دعوى الكسب دون سبب جانباً، واللجوء إلى هذه الوسائل المباشرة لتوفير ضمانة بالنسبة لمستثمر المعرفة في ضمان استثماره، أما الأمر الثاني، فيتمثل في أن استثمار المعرفة سوف يفقد صفته السرية وتصبح المعرفة معلنة حتى في حالة عدم وجود أي تصرف غير مشروع أو فعل غش من قبل الغير الذي يستطيع بحيازته لها أن يحقق بعض المنافع أو الإثراء من الناحية المعلوماتية أو الابتكارية، عليه فان إجراءات دعوى الكسب دون سبب لا يمكن أن تفضي إلى تحقيق ضمانة ناجعة لاستثمار المعرفة بالنسبة للمستثمر لأنها لا تؤدي إلى تقرير مسؤولية الغير الذي حصل عليها بطريقة غير مشروعة ” “.
المطلب الثاني الاتجاه الواسع
تجد نظرية الكسب دون سبب تطبيقاً لها بشكل واسع عند جانب أخر من الفقه الذي اعترف بأنها دعوى مستقلة تستند إلى مبادئ العدالة بشكل واسع” “. فإلى جانب الأساس الذي يستند إليه الشخص الذي تم الاعتداء على حقوقه في أقامة دعواه، المرتكز على علاقة الثقة- كما في حالة وجود علاقة عقدية بين طرفين- فان نظرية الكسب دون سبب قد يتم اللجوء إليها بغض النظر عن هذا الأساس، باعتبارها الأساس الوحيد لحصول المتضرر على حقوقه التي تم الاعتداء عليها وهي في هذه الحالة، انتهاك سرية استثمار المعرفة ” “.
بيد انه أذا كان باستطاعة المحكمة أن تأمر المثري استناداً إلى قواعد العدالة برد ما فات على المفتقر من ربح معين، ومن ثم فأنه توجد دائماً أمكانية في حصول المتضرر على مبالغ تفوق مقدار الافتقار الذي أصابه، وهذا الأمر له أهمية كبيرة بالنسبة لمستثمر المعرفة، ذلك أن مطالبته بالاسترداد لمقدار افتقاره فقط قد لا يعوضه التعويض العادل ولا سيما وان المثري في هذه الحالة غالباً ما يقوم باستغلال المعرفة استغلالاً يقوم على انتهاك سرية هذه المعرفة، لذلك فان المحكمة تحكم برد مقدار الافتقار إلى جانب ما فات المتضرر من كسب ” “.
بيد انه أذا كان القانون المدني العراقي قد نص على اعتبار نظرية الكسب دون سبب مصدراً مستقلاً وأصلياً من مصادر الالتزام وان دعواها هي دعوى أصلية تجيز لمن لحقه ضرر، عن طريق أصابته بافتقار وإثراء شخص أخر على حساب هذا الشخص الأول دون سبب مشروع، الرجوع عليه ( أي على المثري) مباشرةً بهذه الدعوى.
بيد أننا نرى أن هذه الأخيرة لا يمكن أن تشكل قاعدة رئيسية في ضمان استثمار المعرفة، والسبب في ذلك يعود إلى عدة أمور: الأول، أن التعويض في نطاق الكسب دون سبب هو اقل القيمتين، قيمة الإثراء وقيمة الافتقار، وبذلك لا يحصل مستثمر المعرفة على تعويض كامل، فضلاً عن الصعوبة الفنية في التقدير. والأمر الثاني، قد يحصل الغير على أسرار المعرفة من دون غش ومن ثم هناك سبب لإثرائه وهو انه عندما تذاع فكرة تصبح ملكاً عاماً يستطيع جميع الناس الاستفادة منه ” “. أما الأمر الأخير، فهو وجود وسائل ضمان أخرى تؤدي حتماً إلى إعطاء الشخص الذي يطلق عليه “بالمفتقر” قدرة اكبر في الحصول على حماية ناجعة بسبب انتهاك حرمة استثماره للمعرفة. وهذا ما سنحاول بيانه في المبحث الثاني :-
المبحث الثاني دور فكرة المنافسة غير المشروعة في ضمان استثمار المعرفة
لكل شخص أن يتخذ في تنظيم أعماله وتجارته من الطرق ما يراه مناسباً في در اكبر قدر ممكن من الأرباح وليس للآخرين أن يتظلموا مما لحق بهم من ضرر إذ فوت عليهم هذا الشخص الحصول على زبائن جدد أو أدى نشاطه إلى ركود أعمالهم وتجارتهم، فالمنافسة بين التجار هي ركن أساس في تقدم المجتمعات لأنها تدفع المنتجين إلى أجادة أنتاجهم وتخفيض الأسعار وتحسين أساليب الصناعة، بيد أن هذه المنافسة لا تحدث هذا الأثر النافع إلا أذا بقت في حدودها المشروعة وظلت قاصرة على السعي إلى التقدم والتسابق نحو الرقي، لذلك فإذا كانت الوسائل التي يتبعها المنافس في سبيل الحصول على زبائن أو ترويج البضاعة التي ينتجها، غير مشروعة وتتنافى مع النزاهة، كان لكل من أصابه ضرر من جراء ذلك الحق في الرجوع على المتسبب فيه بالتعويض عن طريق دعوى المنافسة غير المشروعة ” “.
وهذا ما استقر عليه القضاء الفرنسي، من اعتبار تحريض العمال على ترك عملهم والالتحاق بعمل في مشروع منافس من اجل التعرف من خلالهم على الأسرار الصناعية للمشروع الذي كانوا يعملون فيه من قبيل أعمال المنافسة غير المشروعة، نظراً لما يؤدي إليه ذلك من إحداث اضطراب تجاري خطير في المشروع ” “.
ومن هنا يثور التساؤل عن الدور الذي يمكن أن تؤديه هذه الفكرة القانونية في توفير الضمان لاستثمار المعرفة، وخاصةً أن المستثمر شأنه شأن أي شخص أخر يبتغي تحقيق الربح من وراء استثماره وهو يخضع بلا شك لمنافسة من قبل الآخرين. بيد انه من اجل أن يتم اللجوء إلى هذه الوسيلة القانونية في ضمان استثمار المعرفة، فأنه لابد من الإشارة إلى أن ذلك لا يتم إلا أذا حصل اعتداء على حقوق مستثمر المعرفة، أو كانت لديه خشية من احتمال وقوع مثل هذا الاعتداء، أي أن الآخرين الذين يعملون في ذات المجال الذي يعمل به مستثمر المعرفة يعتدوا، أو يمكن أن يعتدوا، على حقوق هذا الأخير بوسيلة أو بأخرى، فينتهك سرية استثمار المعرفة التي هي من أهم الخصائص التي تميز هذا الاستثمار عن غيره من الأشخاص.
ومن هنا فأن جانب من الفقه اعتمد فكرة المنع إذ ذهب إلى القول أن لدعوى المنافسة غير المشروعة وظيفة وقائية إلى جانب وظيفة إصلاح الضرر، فإذا وجدت أعمال تنافسية غير مشروعة تهدد بحصول الضرر، كان للمحكمة إزالة الوضع التنافسي غير المشروع كإجراء وقائي غايته منع وقوع المنافسة غير المشروعة والحيلولة من دون حصول الضرر إلى جانب أمكانية الحصول على التعويض ” “. في حين رفض اتجاه أخر هذه الفكرة واكتفى بحصول المتضرر على التعويض من دون أعطائه الحق في أمكانية إلزام من قام بإعمال المنافسة بالامتناع عن استعمال واستغلال المعرفة. وهذا ما سنتناوله في هذا المبحث والذي سنقسمه على مطلبين، نخصص المطلب الأول لرفض فكرة المنع، والثاني نتناول فيه القبول بفكرة المنع. وذلك على النحو الأتي :-
المطلب الأول الاتجاه الرافض لفكرة المنع
يرفض هذا الاتجاه أن يترتب على دعوى المسؤولية أي اثر في ما يتعلق بمنع المعتدي من استخدام أو استغلال المعرفة، أي انه يقيم تفرقة بين الأثرين الذين يرتبان على دعوى المنافسة غير المشروعة. إذ أن المعرفة، حسبما يراه هذا الاتجاه، لا يمكن اعتبارها محلاً لحق معين، بمعنى انه يشترط المساس بمصلحة قائمة ومشروعة للمتضرر حتى تتحقق المسؤولية، على اعتبار أن للمعرفة قيمة مالية ذاتية ولو أنها ليست محلاً لأي حق محدد. لذلك فانه أذا ما تم الاعتماد على النظريات الحديثة التي تقر وجود الخطأ الموجب للمسؤولية في كل مرة يحدث فيها ضرر للغير نتيجة عمل غير مشروع، وبغض النظر عما أذا كان هناك مساس أو انتهاك لحق معين، فانه ينبغي اعتبار الاعتداء على مستثمر المعرفة خطأ موجباً للمسؤولية، أما فيما يتعلق بإصدار حكم قضائي لحرمان المعتدي من استخدام أو استغلال المعرفة، فانه لا يمكن الاعتراف بحق المتضرر في إصدار حكم قضائي لوقف هذا الاعتداء، حيث لا يمكن منح هذا الحكم إلا في حالات الاعتداء على الملكية أو غيرها من الحقوق الاستئثارية ” ” .
كما أن القضاء الفرنسي اقر بان حظر استخدام المعرفة لا يمكن تقريره بسبب أن مستثمر المعرفة هو الذي يعلم وحده بها، إذ أن ذلك يكون مخالفاً لمبدأ حرية التجارة ” “. ويضيف رأيٌ أخر قولٌ، مفاده أن النصوص المتعلقة بالمنافسة غير المشروعة لا تسمح في الواقع مقاضاة الشخص الذي يقوم بانتهاك سرية المعرفة وذلك عن الإفشاء التام إلا أذا قام به لصالح الغير بقصد الحصول على منافع من وراء هذا الإفشاء، أي إلا أذا قام بتحويلها وإيصالها إلى الغير، وبعبارة أخرى، أن مرتكب فعل المنافسة هنا سيتخلص من المسؤولية لعدم ممارسته أو استخدامه اساليباً صناعية أو تجارية غير مشروعة، ما دام انه لم يقم بإيصالها إلى الغير حتى وان استغلها بنفسه فان ذلك لا يشكل منافسة غير مشروعة ” “.
وبناءً على ما تقدم فان الأصل في هذا الاتجاه هو أن إلزام المعتدي على مستثمر المعرفة بعدم استخدام أسرارها التي حصل عليها بطريق غير مشروع، لا يمكن القبول به وهو أمر مرفوض، ولكي يمكن تقرير المسؤولية الناجمة عن ارتكاب فعل من أفعال المنافسة غير المشروعة، فانه ينبغي نقل المعرفة التي تم انتهاك سريتها إلى الغير الذي يقوم باستثمارها اواستغلالها، أما أذا لم يقم هذا الشخص بنقلها إلى الغير وإنما قام بإعلانها بقصد إلغاء صفتها السرية، فلا يمكن القول هنا بوجود فكرة المنافسة غير المشروعة، وبالتالي فلا سبيل سوى التعويض لجبر ما حصل من ضرر.
بيد أن دعوى المنافسة غير المشروعة قائمة بصورة رئيسية على رفع أو وقف استخدام الوسائل المستخدمة في تحقيق هذه المنافسة، إذ أن استخدام هذه الوسائل يسبب ضرراً ولكن التعويض في هذه الحالة هو كما يقول العميد روبية (Roubier) هو تابع للدعوى تنفيذ العقد أو دعوى غش متعلقة ببراءة من دون أن يجعل الدعوى دعوى مسؤولية ” “. وهذا ما دعا جانب من الفقه إلى تبني اتجاه يقبل بفكرة المنع، وكما سنبحثه في المطلب الأتي :-
المطلب الثاني الاتجاه القابل بفكرة المنع
نجد في هذا الاتجاه ميلاً واضحاً جداً إلى اعتماد فكرة المنع إلى جانب أمكانية الحصول على التعويض، إذ يرى في دعوى المنافسة غير المشروعة أنها دعوى لا تقتصر فقط على التعويض وإنما تشمل أيضاً منع الشخص الذي يقوم بأفعال المنافسة غير المشروعة في نطاق استثمار المعرفة، من استمرار استغلاله لهذه المعرفة، لذلك فان الحائز غير الشرعي لها لا يستطيع استثمار أو استغلال أو نقل تلك المعرفة إلى الغير” “. ولما كان الأمر ينبغي أن يترك للقاضي فان اعتباراً عملياً هاماً ينبغي أن يُحسم اختياره للتعويض أو المنع، وهو الحرص على طلب عدم الاستمرار في استغلال هذه المعرفة بطريقة تعرض حقوق مستثمر المعرفة للخطر، فضلاً عن أمكانية مطالبته بالحصول على تعويض عادل من جراء هذا الاعتداء على استثمار المعرفة ” “.
وتماشياً مع هذا الرأي، يدلل أصحاب هذا الاتجاه بما أورده القضاء الأمريكي من قرارات تؤيد ذلك؛ ففي قضية تتلخص وقائعها في أن العامل Nasland اكتسب من خلال عمله في شركة Du pont العملاقة، أسرار المعرفة الخاصة باستثمار معين لتصنيع الجلود الصناعية، وعند انتهاء علاقة هذا العامل مع الشركة المذكورة، فقد بدأ هذا العامل، بطريقة مستقلة، تصنيع هذه النوعية من الجلود مستخدماً في ذلك المعلومات الفنية التي اكتسبها أثناء خدمته في الشركة، عندئذٍ رفعت الشركة دعوى لاستصدار أمر بمنعه من الاستمرار في استثمار هذه المعرفة، فأصدرت محكمة أول درجة حكماً بمنعه من القيام بالترخيص للغير باستثمارها ولكنها لم تمنعه من استثمارها بنفسه في أطار مشروعه الخاص، ثم رفعت القضية إلى المحكمة العليا فحكمت بتأييد حكم محكمة أول درجة ثم حكمت أيضاً بمنع العامل من استثمار ما اكتسبه من معلومات فنية وذلك على أساس انه قد تمكن من الحصول عليها من خلال ثقة معينة، ومن ثم فان هذه المعلومات وصلت إليه في أطار معين لا ينبغي أن يستفيد منها بخلاف ما تفرضه طبيعة هذه المعرفة، وعلى أساس هذا الحكم فان الفقه هنا اعتمد وجود علاقة ثقة بين المدعي والمدعى عليه وان أول ما ينبغي التأكد منه هو إلا يعمد المدعى عليه في إساءة استغلال الثقة التي وضعت فيه ” “.
وقد هجر القضاء الفرنسي الاتجاه السابق الرافض لفكرة المنع ” “، إذ اقر بمسؤولية العامل في مثل هذه الحالة عن إفشاء الأسرار الصناعية للمشروع الذي كان يعمل في خدمته، حتى في غياب أي التزام تعاقدي بعدم إفشاء هذه الأسرار أو بعدم استخدامها بعد انتهاء عقد العمل، على أساس أن هذه الأسرار لم تصل إلى علم العامل ألا بسبب ما كان يقوم به من عمل وما وضع فيه من ثقة، ومن ثم فان الإخلال بهذه الثقة يشكل خطأ موجباً للمسؤولية ” “.
ولقد حافظت محكمة استئناف باريس في حكمٍ حديث لها على احترام هذا الاتجاه، والذي انتهت فيه إلى تقرير مسؤولية احد المشروعات عن استغلاله للمعرفة الفنية لمشروع أخر منافس بعد ما تبين للمحكمة من أن المشروع الحائز للمعرفة الفنية كان قد كشف النقاب عنها للمشروع الأخر في طريق المفاوضات التي جرت بينهما تمهيداً لإبرام عقد من عقود نقل التكنولوجيا والتي انتهت دون التوصل إلى أبرام هذا العقد. إذ اعتبرت المحكمة أن قيام المشروع باستغلال المعرفة الفنية دون أذن من المشروع الحائز لها يعتبر عملاً من أعمال المنافسة غير المشروعة ” “.
أما في العراق فانه على الرغم من غياب التنظيم التشريعي الخاص بفكرة المنافسة غير المشروعة والآثار التي تترتب على ارتكاب فعل من أفعال المنافسة بشكل عام واستثمار المعرفة على وجه الخصوص، إلا أن هذا لا يمنع من الاستفادة من أحكام دعاوى (منع التعرض و وقف الأعمال الجديدة) ومن ثم تطبيق هذه الأحكام على ضمان استثمار المعرفة، وذلك بإلزام من لحقه العلم بطريقة استثمار المعرفة، عن طريق أفعال المنافسة غير المشروعة، بالكف عن استثمار هذه المعرفة بطريقة تؤدي إلى إلحاق الضرر بمستثمر المعرفة.
بيد أن التصرفات التي تعد من قبيل المنافسة غير المشروعة وتخالف العرف التجاري ليست محددة على وجه دقيق، وإنما تخضع لسلطة القضاء التقديرية ” “. ومثل ذلك يمثل قصوراً تطبيقياً في وضع ضمان كافي لاستثمار المعرفة.
لذا نتفق مع من يقول، أن الدعوى المترتبة على المنافسة غير المشروعة تأخذ طابع دعوى عدم التعرض” “، لغرض منع مرتكب فعل المنافسة من الاستمرار بأفعاله التي تتعارض مع حقوق مستثمر المعرفة، إذ أن حق هذا الأخير يقترب من حق الحائز، فدعوى منع التعرض ترمي إلى حماية الحائز من كل تعرض يعكر صفو حيازته ” “. وانه أذا وجدت أعمال من شأنها أن تهدد حقوق مستثمر المعرفة، فأنه يستطيع أن يلجأ إلى دعوى وقف الأعمال الجديدة ” “، لأنها لو تمت لا صبحت المعرفة في خطر الإفشاء وانتهاك السرية وضياع حقوق المستثمر عليها.
خلاصة القول :
أن أيراد نصوص تشريعية خاصة تحدد أفعالاً يعدّ مرتكبها منافساً بصورة تخالف الممارسات النزيهة، هو أمر ولاشك جدير بالاحترام، ذلك أن مثل هذه النصوص الخاصة بفكرة المنافسة غير المشروعة سوف تسهل الأمر على القضاء أو على المعنيين بأمور استثمار المعرفة في معرفة متى يعدّ الشخص متجاوزاً للممارسات التجارية والصناعية النزيهة، إلى جانب هذا، فان وجود نصوص خاصة تحدد الإجراءات التي يمكن أن يتم اللجوء إليها في حالة وقوع اعتداء على استثمار المعرفة من خلال أفعال المنافسة أو التهديد بوقوعها، هو أمر جدير بالملاحظة أو الأخذ به أيضاً، إذ أن مثل هذه الإجراءات ستقود هي الأخرى إلى تسهيل الأمر على مستثمر المعرفة، ذلك لان نوع الأجراء الذي يمكن أن يطلبه من المحكمة لغرض المحافظة على استثمار معرفته من الأخطار التي تهددها هو محدد مسبقاً، ومن ثم فان فكرة المنافسة غير المشروعة يمكن أن تحقق منفعة لمستثمر المعرفة شريطة أن توصف إزالة المخالفة بأنها ” تعويض عيني”. والسبب في ذلك هو انه حتى وان تم التعرض أو انتهاك السرية أو الإفشاء، فان مثل هذه الأعمال تحصل من قبل العاملين بذات المجال الذي يعمل فيه صاحبها أو على الأقل من قبل أشخاص علموا بها بطريقة أو بأخرى، كما هي الحال في ظل عقد الترخيص باستغلالها أو عقد العمل أو عقد نقل التكنولوجيا، لذلك يستطيع مستثمر المعرفة أن يطلب من المحكمة إصدار أمر يمنع المنافسين له بالكف عن محاولة استغلالها، لأنهم حصلوا عليها بطريقة غير مشروعة، وفق الإجراءات التي ينص عليها التنظيم التشريعي الخاص بالمنافسة غير المشروعة، لضرورة حتمية لتلافي نتائج انتهاك سرية المعرفة. وبذلك تبقى صفة السرية متحققة في استثمار المعرفة، والتي تعد وسيلة لنقل المعارف من الدول المتقدمة إلى الدول النامية.
وإذا كان المشرع العراقي قد نص على ” حماية حقوق وممتلكات المستثمرين ” في الفقرة الرابعة من المادة الثانية من قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 م . لذا نوصي الهيئة الوطنية للاستثمار بضرورة توفير حماية خاصة لمستثمر المعرفة وذلك عند إصدار تعليمات تسهيل تنفيذ أحكام قانون الاستثمار العراقي.
وفي الختام أن ما ورد في هذا البحث يٌعرض ولا يٌفرض، كما نعتذر عن النقص الذي استولى على جملة البشر.
وأخر دعوانا أن الحمدٌ لله رب العالمين
قائمة المراجع
أولاً / باللغة العربية :-
1. د. أحسان الحسن ود. عبد المنعم الحسني، طرق البحث الاجتماعي، الموصل، 1982.
2. د. احمد إبراهيم البسام، مبادئ القانون التجاري،ج 1 ، بغداد، 1961.
3. احمد بدر، أصول البحث العلمي ومناهجه، وكالة المطبوعات، 1977.
4. تقرير التنمية الإنسانية العربية نحو إقامة مجتمع معرفة، الصندوق العربي للإنماء الاجتماعي والاقتصادي ، المكتب الإقليمي للدول العربية،عمان، 2003.
5. د. توفيق حسن فرج، النظرية العامة لالتزام-ج1 في مصادر الالتزام،بلا مكان طبع، 1978.
6. د. جلال علي العدوي، أصول الالتزامات، مصادر الالتزام، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1997.
7. د. جلال وفاء محمدين، فكرة المعرفة التقنية والأساس القانوني لحمايتها،دراسة في القانون الأمريكي، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 1995.
8. د.حسام محمد عيسى، نقل التكنولوجيا، دراسة في الآليات القانونية للتبعية الدولية، ط1 ، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1987.
9. د.سعيد عبد الكريم مبارك، شرح القانون المدني العراقي، الحقوق العينية الأصلية، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1973.
10. د. سميحة القليوبي، القانون التجاري،ج 1 ، دار النهضة العربية، القاهرة، 1981.
11. د. صبري حمد خاطر و د. عصمت عبد المجيد بكر، الحماية القانونية للملكية الفكرية، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2001.
12. د. عبد الرزاق احمد السنهوري، الوسيط، ج8، حق الملكية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1967 .
13. د. عبد المجيد الحكيم وعبد الباقي البكري ومحمد طه البشير، الوجيز في نظرية الالتزام في القانون المدني العراقي، جامعة بغداد، 1986.
14. د. عصمت عبد المجيد بكر، المدخل إلى البحث العلمي، الموسوعة الصغيرة، دار الشؤون الثقافية، وزارة الثقافة، بغداد، 2001.
15. د. فائق محمود الشماع ود. صبري حمد خاطر، دور الحيازة الشخصية في حماية المعرفة التقنية، بحث ألقي في المؤتمر العلمي العالمي للملكية الفكرية المنعقد في جامعة اليرموك-كلية القانون اربد- الأردن في (10-11)/7/2000م، ومنشور في مجلة الحقوق، جامعة النهرين، المجلد (5)، العدد (7)، آذار، 2001م.
16. فلاديمير كورغانوف وجان كورغانوف، البحث العلمي، ترجمة يوسف وميشال أبي فاضل، بيروت، 1983.
17. د. كامل ألكيالي و د. عبد الوهاب الزهيري، الموسوعة السياسية، الدار العربية للنشر والتوزيع، بيروت، 1974.
18. د. محسن شفيق، القانون التجاري المصري، ج 1 ، ط 1، دار نشر الثقافة، بالإسكندرية، 1949.
19. د. محمد حسنين، الوجيز في الملكية الفكرية، الجزائر، 1985.
20. محمد حلمي مراد، دور التكنولوجيا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، محاضرات منشورة في مجلة مصر المعاصرة، العدد 349، يوليو 1972.
21. السيد محمد السيد عمران، حماية المستهلك أثناء تكوين العقد، منشأة المعارف، بالإسكندرية، بلا سنة طبع.
د. محمد لبيب شنب، دروس في نظرية الالتزام، مصادر الالتزام، بلا مكان طبع،1989.
.ثانياً / القوانين :-
1. القانون المدني العراقي رقم ( 40 ) لسنة 1951م.
2. قانون الاستثمار العراقي رقم 13 لسنة 2006 م. القانون منشور في جريدة الوقائع العراقية بالعدد ( 4031 ) في 17/ 1 / 2007 م .
3. قانون الاستثمار الخاص في تصفية النفط الخام العراقي لسنة 2007 م.
ثالثاً/ باللغة الأجنبية:
1. Albert Chavanne et Jean Jacques Burst: Droid de la propriete industrielle. ed 4. Paris. 1993.
2. Dessemontet: The legal protection of know-how in the united states of America. Ed 2. Geneva. 1976.
3. Drakidis: la subsidiarite caractere specifique de l,action d,enrichissement sans cause. Chro. Rev. Dr. CIF. 1961.
4. Encyclopedie Dalloz : Repertoire de Droid Commercial. T.II. Concurrence de Loyale. Paris. 1988.
5. ENGLERT: L’invention faite par l’employe dans l’enterprise privee Etudes de la propriete intellectuelle, Bales,1960.
6. Jehl : Le commerce intemational de technologie, Paris,1985.
7. Jehl (J): le commerce international de la technologie app roche juridique, librairies techniques, Paris, 1985.
8. Kenichiro Osumi: know-how and its investment, in law in japan,1967.
9. Magnin (F): know-how et propriete industrielle. Paris. 1974 .
اترك تعليقاً