مقال قانوني مفيد حول البيع انواعه شروطه و كل ما يتعلق فيه
أ / مصطفي فاروق
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعريف البيع :
البيع لغة : مقابلة شيء بشيء، وهو من أسماء الأضداد أي التي تطلق على الشيء وعلى ضده، مثل الشراء كما في قوله تعالى : {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي باعوه، ويقال لكل من المتعاقدين : بعائع وبيّع، ومشتر وشار.
واصطلاحاً : مبادلة مال بمال على وجه مخصوص أو هو مبادلة شيء مرغوب فيه بمثله على وجه مفيد مخصوص أي بإيجاب أو تعاطٍ.
والمراد بالمال عند الحنفية : ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم. أو هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس. وعليه لا تعتبر المنافع والحقوق المحضة مالاً عند الحنفية. أما جمهور الفقهاء فقد اعتبروها مالاً متقوماً، لأن المقصود من الأعيان منافعها.
والمقصود من البيع هنا : هو العقد المركب من الإيجاب والقبول.
مشروعية البيع :
البيع جائز بأدلة من القرآن والسنة والإجماع.
أما القرآن : فقوله تعالى : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وقوله سبحانه : {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وقوله عز وجل : {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء : 29].
وأما السنة فأحاديث، منها : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الكسب أطيب ؟ فقال : “عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور” رواه البزار وصححه الحاكم. أي لا غشي فيه ولا خيانة، ومنها حديث : “إنما البيع عن تراض” وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم والناس يتبايعون فأقرهم عليه، وقال : “التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء” قال الترمذي : “هذا حديث حسن”.
وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمة تقتضيه، لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي تشريع البيع طريق إلى تحقيق كل واحد غرضه ودفع حاجته، والإنسان مدني بالطبع، لا يستطيع العيش بدون التعاون مع الآخرين.
ركن البيع أو كيفية انعقاده :
ركن البيع عند الحنفية : هو الإيجاب والقبول الدالان على التبادل أو ما يقوم مقامهما من التعاطي. فركنه بعبارة أخرى : الفعل الدال على الرضا بتبادل الملكين من قول أو فعل، وهذا قولهم في العقود.
وللبيع عند الجمهور أركان أربعة : هي البائع والمشتري والصيغة والمعقود عليه وهذا رأيهم في كل العقود.
والإيجاب عند الحنفية : إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولاً من كلام أحد المتعاقدين، سواء وقع من البائع كبعت، أو من المشتري كأن يبتدئ المشتري فيقول : اشتريت بكذا.
والقبول : ما ذكر ثانياً من كلام أحد المتعاقدين. فالمعتبر إذاً أولية الصدور وثانويته فقط سواء أكان من جهة البائع أم من جهة المشتري.
وعند الجمهور : الإيجاب : هو ما صدر ممن يكون منه التمليك وإن جاء متأخراً. والقبول: هو ما صدر ممن يصير له الملك وإن صدر أولاً.
فقالوا : ينعقد البيع بصيغة الماضي مثل : بعت، واشتريت. وبصيغة الحال مع النية مثل : أبيع وأشتري.
بيع المعاطاة :
بيع المعاطاة أو بيع المراوضة : هو أن يتفق المتعاقدان على ثمن ومثمن، ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد لفظ من أحدهما.
مثل : أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع للبائع الثمن، أو يدفع البائع المبيع، فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلم ولا إشارة، سواء أكان المبيع حقيراً أم نفسياً. وقد اختلف الفقهاء في حكمه.
فقال الحنفية والمالكية والحنابلة : يصح بيع المعاطاة متى كان هذا معتاداً دالاً على الرضا ومعبراً تماماً عن إرادة كل من المتعاقدين، والبيع يصح بكل ما يدل على الرضا، ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر، ولم ينقل إنكاره عن أحد، فكان ذلك إجماعاً، فالقرينة كافية هنا في الدلالة على الرضا.
وقال الشافعية : يشترط أن يقع العقد بالألفاظ الصريحة أو الكنائية، بالإيجاب والقبول، فلا يصح بيع المعاطاة، سواء أكان المبيع نفيساً أم حقيراً، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : “إنما البيع عن تراض” والرضا أمر خفي، فاعتبر ما يدل عليه من اللفظ، لا سيما عند إثبات العقد حالة التنازع، فلا تقبل شهادة الشهود لدى الحاكم إلا بما سمعوه من اللفظ.
صفة الإيجاب والقبول – الكلام في خيار المجلس :
لا يكون كل من الإيجاب والقبول لازماً قبل وجود الآخر فإذا وجد أحدهما لا يلزم قبل وجود الشطر الآخر، ويكون لكل من المتعاقدين حينئذ خيار القبول والرجوع، فإذا تم الإيجاب والقبول، فهل يكون لأحد العاقدين في مجلس العقد خيار الرجوع ؟
اختلف العلماء فيه.
فقال الحنفية والمالكية : يلزم العقد بالإيجاب والقبول، لأن البيع عقد معاوضة، يلزم بمجرد تمام لفظ البيع والشراء، ولا يحتاج إلى خيار مجلس، ولقول عمر رضي الله عنه : “البيع صفقة أو خيار”.
وقالوا عن حديث “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا” : المراد بالمتبايعين : هما المتساومان والمتشاغلان بأمر البيع، والمراد بالتفرق التفرق بالأقوال : وهو أن يقول الآخر بعد الإيجاب : لا أشتري، أو يرجع الموجب قبل القبول، فالخيار قبل القبول ثابت. ورد بعضهم هذا الحديث لمعارضته لآية {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وآية {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1} وقال بعضهم : إنه منسوخ.
بهذا يظهر أن خيار المجلس مقصور عند هؤلاء على ما قبل تمام العقد، فإذا أوجب أحد المتعاقدين، فالآخر بالخيار : إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد، وهذا هو خيار القبول وخيار الرجوع.
وقال الشافعية والحنابلة : إذا انعقد البيع بتلاقي الإيجاب والقبول، يقع العقد جائزاً أي غير لازم، ما دام المتعاقدان في المجلس، ويكون لكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ما داما مجتمعين لم يتفرقا أو يتخايرا، ويعتبر في التفرق : العرف : وهو أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه.
والمراد به التفرق بالأبدان، وهو التفرق حقيقة. وهو الذي يكون لذكره في الحديث فائدة، لأنه معلوم لكل واحد أن المتعاقدين بالخيار إذا لم يقع بينهما عقد بالقول.
وهذا هو خيار المجلس الثابت في أنواع البيع، لما روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: “البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر : اختر” أي اختر اللزوم.
شروط البيع :
شرائط الانعقاد : وهي ما يشترط تحققه لاعتبار العقد منعقداً شرعاً، وإلا كان باطلاً. وقد اشترط الحنفية لانعقاد البيع أربعة أنواع من الشروط : في العاقد، وفي نفس العقد، وفي مكانه، وفي المعقود عليه.
أما ما يشترط في العاقد فهو شرطان :
1-أن يكون العاقد عاقلاً أي مميزاً، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير العاقل. ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فيصح تصرف الصبي المميز.
2- أن يكون العاقد متعدداً : فلا ينعقد البيع بواسطة وكيل من الجانبين إلا في الأب ووصيه والقاضي والرسول من الجانبين، بخلاف الوكيل في عقد النكاح، فإنه يصح أن يعقد النكاح وكيل من الجانبين.
والفرق بين البيع والنكاح : هو أن للبيع حقوقاً متضادة مثل التسليم والتسلم والمطالبة بتسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب والخيارات. ويستحيل أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلماً ومتسلماً، طالباً ومطالباً، وهذا محال. وبما أن حقوق العقد مقتصرة على العاقد فلا يصير كلام العاقد كلام الشخصين. وأما الوكيل في النكاح فإن حقوق العقد لا ترجع إليه، وإنما ترجع إلى الموكل فكان سفيراً محضاً بمنزلة الرسول.
وقد استثني الأب فيما يبيع مال نفسه من ابنه الصغير، بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس فيه عادة، أو يشتري مال الصغير لنفسه، لأنه حينئذ اقترب من مال اليتيم بالتي هي أحسن، لكمال شفقته ووفرة رعايته بحكم طبيعة الحال. والوصي مثل الأب عند أبي حنيفة إذا تصرف بما فيه نفع ظاهر لليتيم أو بمثل القيمة، لأنه مرضي الأب، والظاهر ما رضي به إلا لوفور شفقته على الصغير.
والقاضي لا ترجع إليه حقوق العقد، فكان بمنزلة الرسول، والرسول لا تلزمه حقوق العقد، لأنه معبر وسفير، فجاز لكل من القاضي والرسول تولي العقد عن الجانبين.
وأما ما يشترط في نفس العقد فهو شرط واحد : وهو أن يكون القبول موافقاً للإيجاب.
وأما ما يشترط في مكان العقد : فهو شرط واحد أيضاً وهو اتحاد مجلس الإيجاب والقبول. ومجلس البيع : هو الاجتماع الواقع لعقد البيع.
وأما ما يشترط في المعقود عليه أي المبيع فهو أربعة شروط :
1- أن يكون المبيع موجوداً : فلا ينعقد بيع المعدوم قبل وجوده وماله خطر العدم. من أمثلة الأول : بيع نتاج النتاج أي ولد ولد هذه الناقة مثلاً، وبيع الثمر قبل انعقاد شيء منه على الشجرة. ومن أمثلة الثاني : بيع الحمل، وبيع اللبن في الضرع، فكل من الحمل واللبن متردد بين الوجود وعدم الوجود فهما على خطر العدم.
ودليله في الجملة : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها. ويلحق به بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، ففي هذا غلط في الجنس فلا ينعقد البيع، لأن المبيع معدوم.
ويستثنى بيع السلم والاستصناع وبيع الثمر على الشجر بعد ظهور بعضه في رأي بعض الحنفية.
2- أن يكون المبيع مالاً متقوماً :
والمال عند الحنفية : ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. وبعبارة أخرى : هو كل ما يمكن الإنسان وينتفع به على وجه معتاد. والأصح أنه هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس. والمتقوم : ما يمكن ادخاره مع إباحته شرعاً. وبعبارة أخرى : هو ما كان محرزاً فعلاً ويجوز الانتفاعبه في حال الاختيار، فلا ينعقد بيع ما ليس بمال كالإنسان الحر والميتة والدم، ولا بيع مال غير متقوم كالخمر والخنزير في حق مسلم، ويجوز بيع آلات الملاهي عند أبي حنيفة لإمكان الانتفاع بالأدوات المركبة منها، وعند بقية الأئمة : لا ينعقد بيع هذه الأشيءا، لأنها معدة للفساد.
3- أن يكون مملوكاً في نفسه : أي محرزاً وهو ما دخل تحت حيازة مالك خاص. فلا ينعقد بيع ما ليس بمملوك لأحد من الناس مثل بيع الكلأ ولو في أرض مملوكة، والماء غير المحرز، والحطب، والحشيش، والصيود التي في البراراي، وتراب الصحراء ومعادنها، وأشعة الشمس والهواء، ولقطات البحر وحيواناتالبر في البراري.
4- أن يكون مقدور التسليم عند العقد :
فلا ينعقد بيع معجوز التسليم، وإن كان مملوكاً للبائع، مثل الحيوان الشارد والطير في الهواء، والسمك في البحر بعد أن كان في يده.
شروط الإيجاب والقبول :
يفهم مما ذكرناه من شرائط الانعقاد أنه يشترط في الإيجاب والقبول ثلاثة شروط :
1- الأهلية : هي عند الحنفية أن يكون كل من الموجب والقابل عاقلاً مميزاً يدرك ما يقول ويعنيه حقاً، فهو في الحقيقة شرط في العاقد لا في الصيغة، إلا بالنظر لصدورها من العاقدين. والتمييز مقدر بتمام السنوات السبع، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير المميز، لأن العقد ارتباط بين إرادتي طرفيه.
والكلام ونحوه كالكتابة والإشارة دليل على هاتين الإرادتين، فكان لابد من أن يكون هذا الدليل صادراً من مميز عاقل.
والبلوغ والاختيار ليس من شروط الانعقاد عند الحنفية.
بيع الصبي المميز :
قال الحنفية والمالكية والحنابلة : ينعقد تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي، وإلا كان موقوفاً على أجازة وليه. ودليلهم أن المدار في التصرف على إذن الولي، لا على الصبي، فصح البيع، لأن الصبي حينئذ كالدلال، والعاقد غيره، ولأن دفع المال إلى الصبي بعد رشده متوقف على اختباره بالبيع والشراء، وأنه يغبن أم لا، فكان لابد من القول بصحة تصرفاته وعقوده، ولكن بإذن الولي لتحصيل المصلحة وحفظ أمواله.
وقال الشافعية : لا ينعقد بيع الصبي لعدم أهليته، وشرط العاقد بائعاً أو مشترياً : أن يكون راشداً : وهو أن يتصف بالبلوغ وصلاح الدين والمال، ودليلهم قوله تعالى : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] والتصرف بالبيع والشراء في معنى إعطاء السفهاء المال لاستلزام البيع والشراء لبذل المال، والجامع بينهما نقص العقل المؤدي بكل منهما لإضاعة المال في غير طريقه الشرعي.
بيع المكره وبيع التلجئة :
بيع المكره :
قال جمهور الحنفية : إن عقود البيع والشراء والإيجار ونحوها من المكره إكراهاً ملجئاً أو غير ملجئ تكون فاسدة، لأن الإكراه يزيل الرضا الذي هو شرط في صحة هذه العقود، لقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وحينئذ يحق للمستكره فسخ ما عقد أو إمضاؤه.
وقال الشافعية والحنابلة : يشترط أن يكون العاقد مختاراً طائعاً في بيع متاع نفسه، فلا ينعقد بيع المكره في ماله بغير حق، لقوله تعالى : {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ولقوله عليه الصلاة والسلام : “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”.
وأما الإكراه بحق فلا يمنع من انعقاد العقد، إقامة لرضا الشرع مقام رضاه، مثل الإجبار على بيع الدار لتوسعة المسجد أو الطريق أو المقبرة، أو على بيع سلعة لوفاء دين أو لنفقة زوجة أو ولد أو الأبوين، أو لأجل وفاء ما عليه من الخراج الحق.
وقال المالكية : بيع المكره غير لازم، فيكون للعاقد المستكره الخيار بين فسخ العقد أو إمضائه.
بيع التلجئة : صورة بيع التلجئة أو بيع الأمانة : أن يخاف إنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فراراً منه ويتم العقد مستوفياً أركانه وشرائطه. وقد اختلف العلماء في شأنه.
فقال الحنابلة : إنه عقد باطل غير صحيح، لأن العاقدين ما قصدا البيع، فلم يصح منهما كالهازلين. وعبارة الحنفية : بيع المضطر وشرؤاه فاسد.
وقال الشافعي : هو بيع صحيح، لأن البيع تم بأركانه وشروطه، وأتي باللفظ مع قصد واختيار خالياً عن مقارنة مفسد، فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقد البيع بغير شرط. وأما عدم رضاه بوقوعه فهو كظنه أنه لا يقع، لا أثر له لخطأ ظنه.
2- الشرط الثاني – من شروط صيغة البيع : أن يكون القبول موافقاً للإيجاب : بأن يرد على كل ما أوجبه البائع وبما أوجبه فإذا قال إنسان لآخر : بعتك هذين الثوبين بألف ليرة، فقال المشتري : قبلت في هذا الثوب، وأشار إلى واحد منهما، لا ينعقد البيع. وإذا قال لآخر : بعتك هذه الدار بما فيها من مفروشات بألفي ليرة، فقال المشتري : قبلت شراءها دون ما فيها بألف ليرة مثلاً، لم ينعقد العقد أيضاً، لتفريق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها، لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد، ترويجاً للرديء بواسطة الجيد.
فلو قبل المشتري بأكثر مما طلب، انعقد البيع : لأن القابل بالأكثر قابل بالأقل طبعاً، غير أنه لا يكون ملزماً إلا بالثمن الذي طلبه البائع.
ولو قبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد.
وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع البيع بثمن حالّ، فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين فقبل المشتري بأجل أبعد منه، فلا ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب.
3- أن يتحد مجلس العقد : بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، بأن كان الطرفان حاضرين معاً، أو في مجلس علم الطرف الغائب بالإيجاب. ونتائج هذه الشرط ما يلي :
لو أوجب أحد الطرفين البيع فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد البيع. ولكن يشترط الفور في القبول، لأن القابل يحتاج إلى التأمل، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل، واعتبر المجلس الواحد جمعاً للمتفرقات للضرورة.
وكذلك قال المالكية : لا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع لغيره عرفاً.
وقال الشافعية والحنابلة : يشترط أن يكون القبول بعد الإيجاب بألا يفصل بينهما فاصل كثير : وهو ما أشعر بالإعراض عن القبول. ولا يضر الفصل اليسير لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول. ويضر تخلل كلام أجنبي عن العقد ولو يسيراً بين الإيجاب والقبول.
التعاقد حالة المشي أو الركوب : إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة أو دابتين : فإن اتصل الإيجاب والقبول من غير فصل بينهما، انعقد العقد، حتى ولو مشيا خطوة أو خطوتين جاز، فإن كان بين القبول والإيجاب فصل وسكوت، وإن قل، لا ينعقد العقد، لأن المجلس تبدل بالمشي والسير. بخلاف الوكالة فإنها لا تقتصر عليها وتوكيل الرجل زوجته بتطليق نفهسا يقتصر على المجلس.
ولو تبايعا وهما واقفان، انعقد البيع، لاتحاد المجلس.
ولو أوجب أحدهما البيع وهما واقفان، فسار الآخر قبل القبول أو سارا جميعاً أو سار البائع قبل القبول، ثم قبل المشتري بعدئذ لا ينعقد، لأنه لما سار أحدهما أو سارا، فقد تبدل المجلس قبل القبول، ويجعل السير دليلاً على الإعراض.
التعاقد على ظهر سفينة أو طائرة : لو تبايع الطرفان على سفينة أو طائرة أو قطار، انعقد العقد، سواء أكانت هذه الوسائل واقفة أم جارية، بخلاف المشي على الأرض والسير على الدابة، لأن الشخص لا يستطيع إيقاف تلك الوسائل، فاعتبر المجلس فيها مجلساً واحداً، وإن طال، أما الدابة، فإنه يستطيع إيقافها.
التعاقد مع غائب : إذا أوجب أحد المتعاقدين البيع أو الشراء والآخر غائب، فبلغه الإيجاب، فقبل، لا ينعقد البيع، كأن يقول : “بعت هذه البضاعة من فلان الغائب” فبلغه الخبر، فقبل : لا يصح، لأن القاعدة الأصلية في هذا : أن أحد شطري العقد الصادر من أحد العاقدين في البيع يتوقف على الآخر في مجلس العقد “أي يظل قائماً ساري المفعول ضمن المجلس لا بعده” ولا يتوقف على الشطر الآخر من العاقد الآخر فيما وراء المجلس بالاتفاق، إلا إذا كان عنه قابل “أي وكيل” أو كان بالرسالة أو الكتابة.
التعاقد بواسطة رسول : أما الرسالة : فهي أن يرسل أحد المتعاقدين رسولاً إلى رجل فيقول المتعاقد الآخر : “إني بعت هذا الثوب من فلان الغائب بكذا” فاذهب إليه، وقل له : “إن فلاناً باع ثوبه منك بكذا” فجاء الرسول، وأخبره بما قال، فقال المشتري في مجلس أداء الرسالة : “اشتريت” أو “قبلت” : تم البيع بينهما، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب بالإيجاب فقبل، فينعقد العقد.
التعاقد بالمراسلة : أما الكتابة : فهي أن يكتب رجل إلى آخر : “أما بعد، فقد بعت فرسي منك بكذا” فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه “أي مجلس بلوغ الكتاب” : “اشتريت أو قبلت”. ينعقد البيع لأن خطاب الغائب كتابة يجعله كأنه حضر بنفسه، وخوطب بالإيجاب فقبل في المجلس، فإن تأخر القبول إلى مجلس ثان لم ينعقد البيع.
وللكاتب أن يرجع عن إيجابه أما شهود بشرط أن يكون قبل قبول الآخر ووصول الرسالة. ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف مداها.
اترك تعليقاً