فكره الطبيعه الانسانيه كمصدر للقانون
الخلفيات التاريخية والفلسفية لحقوق الإنسان المعاصر. فالأمر يتعلق إذن بكتابة تاريخ فكرة حقوق الإنسان، لا بل بإعادة كتابة هذا التاريخ، فكل كتابة للتاريخ هي في واقع الأمر إعادة كتابة، فليس هناك كتابة “أولى” ولا “أخيرة” للتاريخ. ونحن عندما نتجه إلى التاريخ سواء لقراءته –قراءة ما- أو لإعادة كتابته، فإنما نفعل ذلك، وفي جميع الأحوال، بدافع من الحاضر. والتاريخ –أعني الماضي كما يعيد الناس كتابته أو قراءته- قابل لأن يتعامل الناس معه بوصفه يحتوي على كل شيء. والتعامل مع التاريخ، من هذا المنظور، يتم في الغالب على أساس اعتباره أنه أشبه ما يكون بما لا يحصى من المسالك والطرق والشعاب الملتوية المتداخلة المتقاطعة تمتد من الحاضر إلى الماضي. ونحن نرجع القهقرى ونتتبع مسلكا أو طريقا بعينه تاركين المسالك والشعاب الأخرى إلى حين الحاجة. فالحاجة، حاجة الحاضر، هي التي تدفعنا إلى اختيار مسلك معين، دون غيره. حاجتنا اليوم إلى التمتع بحقوق الإنسان هي التي تدفعنا إلى الرجوع القهقرى مع تاريخ تطور نظرة الإنسان إلى هذه الحقوق. وهذا المسلك الذي يشكل ما نعبر عنه اليوم بـ”الخلفيات التاريخية والفلسفية لحقوق الإنسان” كان موجودا دوما. غير أن اهتمامنا به كان ضعيفا أو منعدما لأنه لم يكن هناك في الحاضر ما يدفعنا إلى الاهتمام به، ليس ذلك لأننا لم نكن في حاجة إلى حقوق الإنسان، بل فقط لأن وعينا بهذا الموضوع كان ضعيفا أو منعدما. وهكذا فالتاريخ لا وجود له بدون من يهتم به ويبلور هذا الاهتمام في طلب المعرفة به وكتابته وإعادة كتابته. بعبارة أخرى: الإنسان هو الذي يصنع التاريخ، ليس التاريخ بوصفه أحداثا واقعية وحسب بل أيضا التاريخ كمعرفة. وكل شعب يصنع تاريخه باستمرار، تاريخه الفعلي اليومي وتاريخه المكتوب. وأوروبا صنعت في القرن التاسع عشر تاريخها المكتوب، وهو المعتمد اليوم إلى حد كبير. وبما أنها كانت، في ذلك القرن، هي التي تصنع التاريخ الفعلي، تاريخ الحاضر في العالم كله، بالعلم والاستعمار… الخ، فقد جعلت من تاريخها الذي أعادت كتابته تاريخا للعالم كله.
وفي مجال حقوق الإنسان لا فرق في الحقيقة بين “الخلفيات التاريخية” و”الخلفيات الفلسفية” لأن الأمر يتعلق في الحالتين معا بتاريخ الأفكار. ومع أنه يمكن التثبت من وجود فكرة ما في هذا العصر أو ذلك، والقول إنها كانت من المفكر فيه الذي يؤسس لما بعده، فليس من الممكن التثبت بسهولة من وجود رابطة ما سببية بين فكرة سابقة وأخرى لاحقة؛ فقد تؤدي الظروف المتشابهة إلى ظهور أفكار متشابهة. ومع ذلك فإقامة علاقة ما بين هذه الأفكار هي مسألة اجتهاد وتخمين، والمهم في الأمر –في الغالب- ليس الوجود الفعلي لهذه العلاقة بل ما ينبني على وجودها من نتائج. والنتائج تقاس بمدى أهميتها بالنسبة للحاضر. والنتائج التي تؤثر في الحاضر هي التي تأتي وفق منطق مقبول به. أما التي تفرض فرضا فهي مجرد دعاوى. والمنطق المقبول اليوم في الموضوع الذي يهمنا هو أن “تاريخ” حقوق الإنسان بمعناها المعاصر يبدأ مع فلاسفة اليونان، أو لنقل يبدأ من الحاضر الراهن ويمتد في الماضي على الخط الذي يربطها باليونان.
هذا ما يقرره “التأريخ” في أوروبا، ولا يعني هذا أن هذا التأريخ الأوروبي هو وحده الممكن. كلا. إنه بالإمكان دوما بناء تواريخ أخرى عبر مسلك آخر من المسالك التي تمتد وراء اللحظة الراهنة لتشكل الماضي. من الممكن مثلا بناء مسلك في الثقافة العربية مماثل أو مكمل أو مصحح أو مختلف للمسلك الذي شيدته أوروبا. وهذا ما لم ينجز بعد. وقد تكون لنا عودة إلى هذا الموضوع.
بعد هذه الملاحظة نعود فنتابع مسار فكرة “حقوق الإنسان” كما ظهرت في الثقافة الأوروبية.
ظلت فكرة الحق الطبيعي الذي قال به فلاسفة اليونان وبعض مفكري الرومان غائبة، أو بالأحرى مغمورة في كتبهم طوال القرون الوسطى: لقد حل محلها قانون الإيمان الذي تحدده الكنيسة هو و”الحق الإلهي” للملوك الذي باسمه كانوا يحكمون ويشرعون ويضعون القوانين ويحددون الحقوق…
مع القرن السابع عشر أخذت الأمور تتغير: لقد قطع العلم الحديث وعلى رأسه علوم الطبيعة أشواطا جديدة تماما من التقدم والازدهار. وأصبح لمفهوم “القانون الطبيعي” معنى آخر: لم يعد يعني، كما كان الشأن عند اليونان، مجرد النظام والترتيب اللذين يسودان العالم، بل صار القانون الطبيعي وسيلة العقل البشري للسيطرة على الطبيعة: الإنسان هو الذي يكتشفه وهو الذي يستثمره لصالحه. العقل هو واضع القوانين. وقوانين العقل متطابقة مع قوانين الطبيعة، لأن الأمر يتعلق في الحقيقة بقانون واحد “القانون يظهر في الطبيعة وفي العقل البشري معا، ولا تناقض بين الاثنين”. العقل البشري هو واضع القوانين والقيم، يكتشف قوانين الطبيعة بعقله، أو لنقل في عقله، ويحدد القيم التي يجب أن يعمل بها الإنسان وفقا لطبيعة الإنسان نفسه.
ها نحن إزاء فكرة جديدة تحل محل فكرة قديمة: فكرة الطبيعة الإنسانية التي تحل محل الطبيعة الكونية أو الكوسموس التي كانت تؤسس من قبل فكرة القانون الطبيعي. إنه انقلاب في الفكر الأوروبي، يقطع مع التصور اليوناني القديم: كان اليونانيون يتخذون من الطبيعة ونظام الكون مرجعية لتأسيس القانون والقيم على المستوى البشري، أما مع القرن السابع عشر فقد غدت الطبيعة الإنسانية هي نفسها المرجعية للقانون والقيم. ومع ذلك فلم تكن هذه القطيعة عامة فلقد تمسك فلاسفة ذوو وزن بالطبيعة ونظام الكون كمرجعية، ربما لأنها كانت تقدم لهم ما كانوا في حاجة إليه أكثر مما تقدمه فكرة “الطبيعة الإنسانية”. ومهما يكن فقد شهدت أوروبا القرن السابع عشر تيارين في موضوع الحق الطبيعي: تيار يتخذ الطبيعة الإنسانية، وبالتالي العقل البشري نفسه، مرجعية له، وتيار يتمسك بالطبيعة بمعنى نظام الكون وقوانينه.
كان غروتيوس، وهو رجل قانون وديبلوماسي هولندي أول من طرح سنة 1625 فكرة الطبيعة الإنسانية كمصدر للقانون. لقد استبعد المصدر الإلهي بحجة أن شعوب الأرض تدين بديانات مختلفة، وبالتالي فلو كان القانون راجعا إلى المصدر الإلهي لكان واحدا لدى جميع الشعوب، وهذا غير الواقع. فلكل شعب قوانين قد تختلف قليلا أو كثيرا عن قوانين الشعوب الأخرى، مما يدل على أن المصدر الحقيقي للقانون يوجد في الطبيعة الإنسانية ذاتها: في عقل الإنسان كما في عاطفته. فأساس القانون إذن، هو أن الناس يرتبطون فيما بينهم بوشائج التعاون والمحبة، مدفوعين إلى ذلك بعقولهم وعواطفهم، مما يجعلهم ينظمون حياتهم بقوانين يلتزمون بها وقيم يحترمونها. ويشمل هذا النظام تلك المؤسسة التي يقيمونها بالتعاقد فيما بينهم والمسماة “الدولة”، ومن هنا كانت الدولة مؤسسة ترتكز هي الأخرى على العقل وروابط العاطفة والمحبة التي تجمع بين الناس.
لم تحظ هذه النظرية بالقبول من كافة الفلاسفة الأوروبيين، ليس لأنها تعلي من شأن العقل الإنساني وتستبعد المصدر الإلهي، بل لأنها تغيب العلم وتسد الأبواب أمامه بإلغائها “الطبيعة” بمعنى نظام الكون، واقتصارها على ما تسميه “الطبيعة الإنسانية” وهي فكرة غامضة، غير علمية.
اترك تعليقاً