جرائم الاشاعة في التشريع الليبي
بقلم: المستشار سعد العسبلي
بالمحكمة العليا الليبية
الإشاعة من الأسلحة الخطيرة ، خاصة إذا ما وجدت التربة الصالحة لتنمو وتكبر وتعيش فيها، ومهما ارتقت الشعوب في سلم التقدم والحضارة فإنها في كثير من الأحيان ما تكون مستهدفة ببث الإشاعة أياً كان نوعها – وقد يكون السبب في كتابة هذا المقال ما قامت به الجهات المعنية من تكذيب إشاعة انتشرت كالنار في الهشيم ، ألا وهي إشاعة تأثير بعض المكالمات الهاتفية التي تأتي عبر النقال في المتلقي ، وأيضاً قد وفقت الجهات المختصة في التصدي لهذه الإشاعة وبشكل سريع. وهو من التصرفات التي يجب القيام بها دون ترك الحبل على الغارب لأقوال لا سند لها من الواقع بل والمنطق السليم.
هذا، ولا يخفى تأثيرات الإشاعة في أي مجتمع من المجتمعات ، خاصة مع سرعة الاتصالات وسرعة انتقال البشر من مكان إلى آخر.
وقد لا يكون أمر الإشاعات حديثاً بل هو قديم وتطالعنا بعض الكتب عن هذا الأمر الذي فتك بالكثيرين من الأشخاص دون أن يكون للإشاعة من سند إلى قوة تأثيرها في المتلقي وعدم التحقق من صدقها أو كذبها خاصة عندما تأتي من أشخاص يعتقد مستقبلها في صدقهم رغم أنهم يقصدون بث هذه الإشاعة لأمر في نفوسهم يدركونه وينسجون له الحبائل .
ـ الإشاعة عبر التاريخ:
الإشاعة كظاهرة من الظواهر الاجتماعية لازمت البشرية منذ القدم، وعاشت في جميع الحضارات وتكونت بألوانها وتأثرت بمسيرتها؛ فهي تتأثر تأثراً عكسياً بالثقافة والتعليم ،وقد تصاغ بعبارات وأشكال تتم بطرق شتى يحاول صائغوها أن يضعوا لكل لفظ معاني قد تختلف عن معانيها الحقيقة وقد تتوسع الرؤى حولها فلا يستطاع بعدها اللحاق بها ،وتصور الأمور والإرشاد على أنها الحقيقة في حين أنها لا تمت إليها بأي صلة.
ولقد اعتبرت الإشاعة لدى العديد من المفكرين- بحق- من الأسلحة الفتاكة المدمرة ؛ لذلك فالتاريخ ينطق بقلق الحكام من صولجان الإشاعة حتى أن الحكام والسلاطين كانوا يتجسسون على رعاياهم منذ أقدم العصور؛ وذلك لمعرفة ما تهمس به الإشاعات.
وتطالعنا -على سبيل المثال- قصة مريم العذراء والشائعات التي نشرها اليهود حولها حينما أنجبت عيسى (عليه السلام) من غير أب إلى أن كان الإعجاز الذي أنطق الصبي في المهد.
حراس الشائعات :
وقد يكون من الغريب أن أباطرة الرومان كانوا يلاحقون الشائعات ويتابعونها اعتقاداً منهم بقوة فتكها حتى أنهم عينوا (حراس شائعات) ينحصر عملهم في الاختلاط بالشعب ونقل ما يسمعونه إلى الإمبراطور وصياغة شائعات مضادة لما تنشر من شائعات بين الناس.
ـ الشائعات والحرب الحديثة :
لقد تغير في العصر الحديث شكل الحرب أداةً وأهدافاً فبعد أن كانت القوة التدميرية عن طريق المعارك العسكرية هي الأداة التي توصل الجيش إلى النصر أو تؤدي به إلى الهزيمة، جاءت الحرب الباردة ، وهي حرب جلّها حروب كلامية مضمونها وأداتها الكلمة؛ لكنها الكلمة المصوغة والتي اختير لها الزمن والحدث حتى تسري كما تسري النيران في الهشيم اليابس ، فتم التركيز على الحرب النفسية والتي كان لها تأثير خطير على الشعوب وبشكل يفت من عضدها ويجعلها في كثير من الأحيان قريبة من الانهيار وكان من أهم أدوات هذه الحرب ما أطلق عليه الحرب السيكولوجية ( النفسية) المضادة والموجهة نحو الجوانب المعنوية للشعوب من خلال بث أفكار هدامة بغرض تحول الناس عن معتقداتهم. وقد ساعد في ذلك هذه الحضارة الحديثة والتي أنتجت وسائل سهلت نقل الإشاعة وبشكل لم يسبق له مثيل كالإنترنت والهواتف بأشكالها المختلفة؛ وبسبب ذلك صاغت الدول أشكالاً متعددة من الرقابة على الصحف والإذاعات ووسائل الاتصال بشكل عام.
الشائعات- لغة واصطلاحا-:
التعريف اللفظي لكلمة شائعة- (الشائعة) : الخبر ينتشر لا تثبّت فيه. و(الإشاعة): الخبر ينتشر غير متثبّت منه. (شاع) الشيء يشيع شيوعاً وشياعناً ومشاعاً ظهر وانتشر. ويقال: شاع بالشيء : أذاعه.
وفي أحد القواميس الإنجليزية عرفت الشائعة: بأنها (كلام هام أو أفكار عامة انتشرت بسرعة واعتقد فيها وليس لها أي وجود أصلي).
أما اصطلاحاً فإن الباحثين لم يصلوا إلى تعريف جامع مانع لمصطلح الإشاعة باعتبارها تحمل معاني عديدة .غير أن هذا الأمر لم يمنع بعض الباحثين من محاولة وضع تعريف لكلمة شائعة نتعرض لبعضها .
< التعريف الأول :
الإشاعة كل قضية أو عبارة يجري تداولها شفهياً وتكون قابلة للتصديق وذلك دون أن تكون هناك معايير أكيدة لصدقها .
< التعريف الثاني :
الشائعة هي ما يطلق على المعلومات والأفكار التي تنقلها الرواية الكلامية أو أساليب التواصل غير المألوفة كالنّكتة أو الرسم الكاريكاتوري وتوجه طاقتها نحو التأثير على الانفعال الذي يغذي تفكير الإنسان وخياله بالشكل الذي قد يصل فيه هذا الإنسان إلى الدرجة التي قد يرى فيها ما ليس موجوداً فيضيف إليها ما يجعلها سريعة السريان والانتشار .
ـ جريمة نشر الأخبار الكاذبة :
نصت المادة 13 من القانون رقم 2 لسنة 1979 بشأن الجرائم الاقتصادية على أنه ” يعاقب بالسجن كل من نشر أو أذاع أخباراً كاذبة من شأنها إثارة الاضطراب في الأسواق المحلية أو لجأ لطرق أخرى تؤدي إلى سحب الأموال المودعة في المصارف أو ارتفاع أو هبوط أسعار البضائع أو العقارات أو الأوراق أو السندات المالية المتداولة في الأسواق” .
وهذا النص يتعلق بالجرائم المرتكبة عن طريق نشر أو إذاعة أخبار كاذبة بغرض إثارة الاضطراب في الأسواق المحلية ومن ذلك سحب الأموال المودعة بالمصارف. وفي ذلك خطر داهم بأمن المجتمع وزعزعة الثقة في الجوانب الاقتصادية والتي تعد من الدعائم الرئيسية لكيان أي مجتمع من المجتمعات خاصة في العصر الحديث مع ما تستتبعه من انعكاسات على الجوانب الأخرى السياسية والاجتماعية.
< جريمة إثارة الهزيمة السياسية:
نصت المادة 175 من قانون العقوبات على أنه “يعاقب بالعقوبات المنصوص عليها في المادة 173 كل من أذاع عمداً أخبارا أو بيانات أو( إشاعات كاذبة) أو (مغرضة) أو عمد أثناء حالة الحرب أو ما في حكمها إلى دعاية مثيرة؛ وكان من شأن ذلك كله إلحاق الضرر بال
استعدادات الحربية للدفاع عن البلاد أو إلقاء الرعب بين الناس أو إضعاف الجلد في الأمة”.
ومن الجدير بالذكر أن العقوبة المنصوص عليها في المادة 173 المذكورة هي السجن والغرامة التي تتراوح بين خمسمئة دينار وألف دينار.
< جرائم الإشاعة التي تقع خارج البلاد:
نصت المادة 178 من قانون العقوبات على أنه “يعاقب بالسجن المؤبد كل ليبيّ قام في الخارج بنشر وتبليغ أخبار أو إشاعات كاذبة أو مبالغ فيها أو مثيرة للقلق حول الحالة الداخلية في الجماهيرية العربية الليبية بشكل يسيء إلى سمعتها أو يزعزع الثقة بها في الخارج أو قام على أي وجه من الوجوه بنشاط من شأنه إلحاق الضرر بمصالح البلاد”.
هذا، وتعتبر الجرائم التعبيرية ومن بينها جريمة بث الإشاعات من جرائم الخطر؛ حيث يكتفي فيها المشرع بأن يترتب على السلوك خطر على الحق أو المصلحة محل الحماية الجنائية دون أن يستلزم الإضرار الفعلي ويتمثل هذا الخطر في التهديد بالضرر في حين أن جرائم الضرر هي التي يتطلب فيها المشرع الضرر الفعلي بالمصلحة المحمية وتتمثل النتيجة في هذا الإضرار وهذا النوع كثيراً ما يتطابق مع جرائم السلوك والنتيجة.
ومن الجدير بالبيان أن السمة العامة التي تميز جرائم أمن الدولة هي أنها من طائفة جرائم الخطر كما في الجريمتين السابق التعرض لهما (المادتان 175 / 178 عقوبات).
كذلك فإن المشرع لم يحدد في بعض أنواع الإشاعات – كجرائم- أسلوبا معيناً ترتكب به الجريمة بل مد الأمر إلى وسائل عدة ومن ذلك ما نصت عليه المادة 177 عقوبات تحت عنوان (بث روح الهزيمة الاقتصادية) وقد جاء بها (يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات وبغرامة تتراوح بين خمسمئة دينار وألف دينار كل من استعمل في زمن الحرب وسيلة يراد منها الإضرار بسوق الصرف أو التأثير على أسواق الأوراق والسندات المالية سواء أكانت عامة أم خاصة بشكل يعرض للخطر مقدرة البلاد على مقاومة العدو..).
ومهما يكن من أمر الإشاعة فإن من الكلام ما هو طيب زكي ومنها ما هو غير ذلك خبيث وصدق الله- تبارك وتعالى- في سورة إبراهيم { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } الآيات: 24/25/26 .
اترك تعليقاً