إصلاح جهاز كتابة الضبط لبنة أساسية في إصلاح نظام العدالة
أضحى ورش إصلاح القضاء معطى لا محيد عنه في سبيل تحقيق الاقلاع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبلاد، معطا وكما عبر عنه صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله في خطابه الأخير بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب بحجر الزاوية في ترسيخ الديمقراطية والمواطنة لدى شبابنا وأجيالنا الحاضرة والصاعدة.
وقد جاء هذا الخطاب السامي ليتوج عزم جلالته على إحداث ورش ينخرط فيه جميع الفاعلين في الحقل القضائي، وفق استراتيجية واضحة المعالم تستقي وجودها من خلال مخطط قائم على ستة محاور أساسية تتجلى وكما جاء في الخطاب السامي في تعزيز ضمانات استقلال القضاء وتحديث المنظومة القانونية، وتأهيل الهياكل والموارد البشرية، والرفع من النجاعة القضائية وترسيخ التخليق وحسن التفعيل، والإصلاح المنشود رأى فيه صاحب الجلالة نصره الله أن يتميز بطابعه الشمولي العام الذي يمتد إلى نظام العدالة عوض الاقتصار على جهاز القضاء.
والموظفين المكونين لهيأة كتابة الضبط باعتبارهم جزأ لا يتجزأ من هذا النظام يرون في هذه الالتفاتة المولوية السامية فاتحة خير وبداية لعهد جديد عهد يمتاز بطابعه المنفتح على المؤسسات الفاعلة وإيلائها المكانة التي تستحقها في هذا النظام.
وإصلاح جهاز كتابة الضبط والرفع من مستوى أداء هياكله البشرية، يمر حسب رأينا المتواضع عبر محطتين أساسيتين: محطة أولى تعنى بالجانب المعنوي ومحطة ثانية تهتم بالجانب المادي.
إصلاح جهاز كتابة الضبط رهين بإيلائها المكانة اللائقة
يأتي على رأس انشغالات هيأة كتابة الضبط ضمان استقلالية هذه الهيئة عن المكونات المتفاعلة معها، استقلالية يجب أن تكرس في صدر القانون الأساسي المنظم لها بشكل صريح، وتحد من تضارب الآراء فيما يخص تبعية هذه المؤسسة للجهاز القضائي، وتكرس بمنح صلاحيات واسعة ومؤطرة لرئيس كتابة ضبط كل محكمة تعزز سلطته الرئاسية تجاه جميع الموظفين التابعين له دون تدخل من أي جهة قضائية كانت، في إطار سلطة إدارية محضة تمكنه من ممارسة مهامه الإدارية بتجرد واستقلال.
كذلك فإن التسمية التي كتب على هاته الهيئة أن توصف بها وهي كتابة الضبط تجعل العديد من المتعاملين معها يعتقدون بخضوعها للسلطة القضائية، ذلك أن الكتابة ووفق المعايير الإدارية تسخر لفائدة من وجدت لأجله، غير أنه وباستقراء معظم النصوص القانونية التي تطرقت لا من قريب ولا من بعيد لمهام هيأة كتابة الضبط نجدها تكرس استقلالية هذا الجهاز وتجرده في أدائه لمهامه، لذلك فإننا تقترح إعادة النظر في تسمية هذا الجهاز باعتباره أمانة عامة للمحكمة، وباعتبار كاتب الجلسة أمينا للجلسة وصندوق المحكمة هو صندوق للأمانات، وذلك على غرار إعادة تسمية الأعوان القضائيين بالمفوضين القضائيين وفقا لتعديل 14 فبراير 2006 المعدل لقانون 81.03، وهذا الطرح يستدعي تغيير تسمية كتابة الضبط بأمانة المحكمة، وتسمية كاتب الضبط -التي تمتاز بطابعها الدوني- كما سبق بيانه بتسمية أمين المحكمة، وتسمية كاتب الجلسة بأمين الجلسة وفق الدور المنوط به في حفاظه على تدوين ما راج بها بكل أمانة وتجرد.
إن تحديد المهام المناطة بموظفي المحاكم وفق الأسلاك المسطرة في نظامهم الأساسي لمن شأنه أن يضبط الإجراءات والمسؤوليات، وهذا التحديد يجب أن يراعي المؤهلات والإطار الذي تنتمي إليه كل فئة على حدة، فلا يسند الإشراف والتأطير إلى الفئة الأقل تكوينا ولا يسند التبليغ وحضور الجلسات إلى الفئة الأكثر عطاءا في مجال تدبير الموارد البشرية، لذلك فإنه يجب إعادة النظر في تحديد مهام كل فئة على حدة بما يتلائم والغاية المرجوة من إحداثها، كذلك فإن التدرج في الدرجات داخل نفس الإطار الذي أحدثه النظام الأساسي الجديد يعتبر مسا خطيرا بحق موظفي كتابة الضبط في تغيير تسمية الإطار الذي ينتمون له وفق الترقية الجديدة، ويزيد من رتابة العمل ويقتل روح التغيير والتطور داخل الإدارة، فهل يعقل أن يصنف موظف في السلم 11 والحال أنه لا زال محررا قضايئا من الدرجة الأولى، ومن هنا نرى ضرورة العودة إلى التصنيف القديم لمرسوم 1967 والذي يكفل خلق ديناميكية في الإرتقاء بالموظف من الناحية المعنوية بتغيير تسمية إطاره، وهو ما يحقق استقرارا على المستوى النفسي للموظف ومردودية في الأداء.
وفي جانب آخر وعلاقة بالنقطة الخامسة الواردة بالخطاب الملكي السامي والمتعلقة بالرفع من النجاعة القضائية والتصدي لما يعانيه المتقاضون من هشاشة وتعقيد وبطء العدالة، وتسهيل ولوجهم إلى المحاكم، فإننا نقترح إحداث هيئة منبثقة عن كتابة الضبط داخل كل محكمة تتألف من أطر لها من الكفاءة والمؤهلات العلمية ما يؤهلها لتقديم المشورة القانونية لكل الوافدين على المحكمة وتوجيههم التوجيه القانوني السديد اختصارا للوقت وضمانا لحق المواطن في المعلومة والاستشارة القانونية.
وفي إطار تخفيف العبء على الهيئة القضائية وانصرافها إلى البث في القضايا ذات البال وتخليصها من تراكم الملفات البسيطة ، فإنه بات من الضروري تفويض الاختصاص للنظر في القضايا البسيطة لهيأة كتابة الضبط بسبب احترافيتها وقدرتها من الناحية العملية على تسريع وثيرة البث في الملفات، خاصة تلك المتعلقة بالمخالفات والقيام بالمعاينات وتسيير إجراءات الخبرة القضائية إلى حين وضع التقرير والسهر على إصدار الأوامر المتعلقة بالتبليغ، والكل تحت مراقبة السلطة القضائية المفوضة في إطار إنابة قضائية فعالة وجريئة.
وعلاقة بما أصبحت تمتاز به هيأة كتابة الضبط من كفاءات مهنية مدعمة بمؤهلات جامعية عالية، فإنه بات من الضروري انفتاح باقي المهن القضائية على هذا الجهاز وخاصة منها القضاء والمحاماة، وذلك بتعديل النصوص القانونية المنظمة لهاتين المؤسستين بما يضمن إقرار امتيازات في الولوج لهذه المهن على غرار باقي المهن القضائية الأخرى، ولنا في ذلك عدة اقتراحات كالإعفاء من اجتياز المباراة مع ضرورة توافر المؤهل العلمي والأقدمية والنزاهة والكفاءة المطلوبة أو تخصيص نسبة مئوية من عدد المناصب المتبارى بشأنها لموظفي هذه الهيئة، أو الإعفاء من التمرين مع ربطه بضرورة عقد دورات تكوينية خاصة.
وتفعيلا لدور ودادية موظفي العدل وتحقيقا لأهدافها السامية التي سطرها جلالة الملك نصره الله في خطابه السامي لسنة 2003، والتي تمت صياغتها في قانونها الأساسي، فإن وزارة العدل وكذلك جمعية الأعمال الاجتماعية مطالبة بإمدادها بالوسائل المادية الكفيلة بتحقيق ذلك المبتغى.
وعلاقة بالنقطة الرابعة الواردة في الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب، والمتعلقة بإيلاء الاهتمام اللازم للجانب الاجتماعي وبتفعيل المؤسسة المحمدية للأعمال الاجتماعية، فإنه أصبح من اللازم تعزيز تمثيلية موظفي العدل داخل هذه المؤسسة ودمقرطتها بما يضمن استفادة جميع المنخرطين بها من امتيازاتها وخدماتها، وعلى رأسها الاستفادة من قروض السكن لفائدة الموظفين بدون فائدة حسب درجاتهم.
وأخيرا، فإن إنشاء مدرسة وطنية لكتابة الضبط تعنى بالجانب التكويني للموظفين، تقوم بتكوين الوافدين الجدد على الهيأة تكوينا عمليا يراعي خصوصية العمل داخلها، وتهتم بإعادة تكوين الموظفين التابعين لها لمن شأنه أن يعزز ما ورد في النقطة الرابعة من الخطاب الملكي فيما يخص تأهيل الموارد البشرية تكوينا وأداءً وتقويما، خاصة متى علمنا أن معظم هؤلاء الوافدين ينخرطون في أداء مهامهم دون علم مسبق بطبيعة المهام المقبلين على ممارستها.
ضرورة حضور الجانب المادي بقوة في الإصلاح
متى تحقق الشق المعنوي في إصلاح جهاز كتابة الضبط، فإن الشق المادي منه لن يكون بالأمر العسير، بل إن إعادة النظر في أجور موظفي هيأة كتابة الضبط وإقرار تعويضات محفزة لهم تتناسب وطبيعة المهام المنوطة بهم لمن شأنه أن يأتي كتتويج لهذا الإصلاح ويدفع بدفة تخليق الإدارة القضائية نحو الوجهة الصحيحة، ذلك أن حصول الاستقرار المادي والمعنوي غالبا ما يدفع إلى تحصين الذات والرقي بها إلى ما هو أسمى وأجل، نحو خدمة يراعى فيها الوازع الأخلاقي والإنساني وتنأى عن كل خلفيات مادية.
وفي هذا الإطار، فإن المحور الرابع من الخطاب الملكي السامي وردت فيه إشارة قوية إلى ضرورة العمل على تحسين الأوضاع المادية لقضاة وموظفي العدل، وهذا التحسين لن يتأتى إلا بإقرار تعويضات محفزة لجهاز كتابة الضبط، خاصة متى علمنا أن النظام الأساسي لهذا الجهاز جاء وفي سابقة من نوعها فارغا من إي محفز مادي، وفي رأينا المتواضع فإن هذه التعويضات يجب أن تراعي طبيعة المهام المنوطة بكل فئة من الفئات المكونة لها، فيحدث لكتاب الجلسات تعويض عن البذلة، يقابله بالنسبة للمبلغين تعويض عن التنقل والتبليغ والأخطار المحدقة بظروفه، وبالنسبة للقائمين على حسابات الصندوق يحدث لهم تعويض عن مهامهم، وبالنسبة للتقنيين تعويض عن التقنية، وبالنسبة لباقي الفئات تعويض عن الأعباء.
كما أنه بات من الضروري إنصاف الموظفين الذين يؤدون مهامهم خارج الأوقات العادية للعمل، بإحداث تعويض عن الساعات الإضافية وتعويض عن الديمومة.
كذلك فإن مراجعة النظام الأساسي بما يضمن إدماج الموظفين العاملين بكتابة الضبط وفق مؤهلاتهم العلمية أصبح مطلبا ملحا، وهو من جانب سيساعد على تحفيز الموطفين على تنمية قدراتهم الفكيرية موازاة مع خلق تطور في حياتهم الإدارية، وتحسين ظروفهم المعيشية وفق طرق معقلنة وذات مصلحة للطرفين –الموظف والإدارة- ومن جانب آخر سيؤهل الموارد البشرية للإدارة القضائية تكوينا وأداء وتقويما وفق ما ذهب إليه الخطاب الملكي السامي.
إن حذف السلاليم الدنيا بكتابة الضبط يعتبر من بين الأولويات التي على الحكومة أخدها بعين الاعتبار بالنسبة لهذه الفئة من موظفي كتابة الضبط، وذلك بتسريع إدجامها في السلاليم المناسبة.
ولا يخفى على المتعاملين مع الجهاز ما يعانيه من نقص في التجهيز وضعف في البنيات التحتية للبنايات والمكاتب، تجعل من ظروف العمل تمتاز بطابعها الردئ الذي لا يحترم أبجديات حقوق الموظف في ممارسة مهامه داخل مرافق تراعي إنسانيته وتصبغ على المرفق الذي ينتمي إليه قدسيته وهالته التي يجب أن تحفظ.
إن تعزيز دور المعلوميات بسبب ما أدت إليه من تسهيل الولوج إلى المعلومة القضائية، ليطرح مرة أخرى نقاشا حول ضرورة خلق طرق بديلة للولوج لهاته المعلومة، وذلك بإنشاء شبابيك للمراقبة الذاتية – وهو ما تم بالفعل- ومراقبة الملفات على المدى البعيد بإحداث كل محكمة موقع إليكتروني خاص بها هدفه التعريف بها، وتسهيل الولوج إلى خدماتها وخاصة توفير المعلومات الآنية المتعلقة بالملفات ومراحلها.
إن إصلاح جهاز كتابة الضبط يعتبر لبنة أساسية من لبنات ورش إصلاح الجهاز القضائي، لكونه الجهاز الأقرب إليه، والأكثر احتكاكا به، اطلاعا على خصوصياته، لذلك فإننا نأمل أن نكون قد أصبنا مرمى الصواب، وفقنا في محاولتنا هاته في تبيان مكامن الداء واقتراح آليات المعالجة والله الموفق .
اترك تعليقاً