تقييد المجلس التأسيسي :الجدل القائم حول الصلاحيات و المدة الزمنية
يعتبر إقرار مبدإ انتخاب مجلس تأسيسي لسنّ دستور للبلاد، أهم إنجاز قانوني وسياسي لثورة 14 جانفي 2011 وذلك بغضّ النظر عن أنه جاء استجابة لضغط الرأي العام الذي وقع التعبير عنه في اعتصام القصبة II الذي انتظم في أواخر شهر فيفري 2011. وسواء كان المشاركون في هذا الاعتصام يمثلون كلّ التونسيين أو أغلبهم أو أقلية منهم، فإنّ إقرار مبدإ المجلس التأسيسي يعتبر من الناحية الموضوعية والكيفية، تقدما هاما في مسار الثورة التونسية فكلّ حركة شعبية تسمي نفسها “ثورة”، لا بدّ أن تكون حاملة لقيم ومبادئ جديدة ترنو بمقتضاها إلى تغيير منظومة القيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة، وإلاّ عدّت هذه الحركة مجرد انقلاب لا يرتفع إلى مستوى الثورة. وتتمثل أولى الخطوات التي تتخذها الثورات قصد ترجمة هذه المبادئ الجديدة، في سنّ دستور جديد. وإذا تمّ اعتماد مبدأ انتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية فإنّ ذلك يكون أرقى أشكال وضع الدساتير باعتبار أنّه يضمن مشاركة المواطنين في هذه العملية التأسيسية عبر انتخاب ممثليهم في هذه الهيئة، وهذا هو التمشي الذي انخرطت فيه الثورة التونسية ولو بشيء من التردد والصعوبة في البدء.
وسيتولى المجلس الوطني التأسيسي القيام دور السلطة التأسيسية الأصلية أي السلطة التي تجد مشروعيتها ومصدرها في ذاتها فهي سلطة أولى، غير مشروطة ولا مقيدة تتمتع بالسيادة والعلوية إذ لا تعلوها أية سلطة أخري ولا سلطان عليها لأي هيكل. هي إذن سلطة ذات طبيعة خاصة عليا.
ولكن ارتفعت في الآونة الأخيرة عدة أصوات تطالب بالحدّ من صلاحيات المجلس التأسيسي وبتحديد مدّة عمله، وذلك بتنظيم استفتاء مواز لانتخاب أعضائه ويتعلق موضوع الاستفتاء حسب المنادين به، بمدة عمل المجلس وبطبيعة النظام السياسي التونسي، رئاسي أو برلماني وبتحديد صلاحية المجلس في سنّ دستور دون غيرها من الأعمال التشريعية والتنفيذية. وقد صدرت هذه الدعوة بالخصوص عن مجموعة من الأحزاب السياسية وعن بعض الوجوه الإعلامية والقانونية على غرار العميد الصادق بلعيد ومحسن مرزوق ونور الدين بن نتيشة. و أين كانت الدوافع والأسباب والخلفيات التي تحرك أصحاب هذه الدعوة، وسواء تمثلت هذه الدوافع في التخوف من “ديكتاتورية المجلس التأسيسي” بجمعه لكلّ السلطات، أو في التخوف من حزب معين، أو في ثقة مفرطة في “الشعب”، أو في عدم الثقة فيه، فإن مقتضيات الموضوعية العلمية تفرض علينا طرح السؤال التالي: هل يمكن تقييد المجلس التأسيسي؟
الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن إلاّ أن تكون بالنفي. وهذا الرأي هو رأي علمي بحت لا صلة له بإضفاء القداسة على السلطة التأسيسية أو على بعض المؤسسات أو المفاهيم القانونية.ولكن للقانون منطق يفرض نفسه ويصعب تجاوزه. وسنحاول في هذا المقال البرهنة عن استحالة تقييد المجلس التأسيسي بأي وجه من الوجوه.
1- عدم وجاهة التقييد الزمني
للزمن في القانون أهمية بالغة، فمروره لا يمكن ألاّ يكون مؤثرا. بل إنّه عنصر يحدث أثارا وهو عامل هام لاكتساب الحقوق ولضياعها وهو يدخل في تحديد النيابات والإجراءات الإدارية والقضائية. وكلّ القانونيين يعرفون مؤسسات التقادم المكسب والتقادم المسقط والآجال وغيرها من المؤسسات القانونية المرتبطة بعنصر الزمن.
يدعو الذين يعملون على تقييد المجلس التأسيسي، إلى تحديد مدّة عمله بستّة أشهر أو بسنة وذلك بواسطة استفتاء الناخبين على هذه المدّة. ويسمّى هذا في القانون أجلا. غير أنّ طريقة الاستفتاء لا تبدو واضحة فالإستفتاء هو طلب رأي المواطنين في مسألة معينة وذلك بأن يطرح عليهم سؤال محدد تتم الإجابة عنه بالإيجاب أو بالنفي (نعم – لا) أو تخييرهم بين حلين لإشكال معين.
والإشكال الذي يطرح في هذه الحالة هوهل سيتم طرح سؤال من قبيل:”هل توافق على تحديد مدّة عمل المجلس التأسيسي بستّة أشهر أو بسنة)؟” وتكون الإجابة، حينئذ بنعم أو بلا. وفي هذه الصورة يمكن القول إنّ السؤال والإجابة ليس لهما معنى باعتبار أنّ هذه المسألة هي مسألة تفصيلية لا ترقى إلى مستوى الخيارات والتوجهات الكبرى التي يستفتى عليها الناخبون، وهي كذلك ليست مسألة عملية. كما يمكن أن تكون صيغة السؤال كالأتي :”هل ترى أن مدّة عمل المجلس التأسيسي لا يجب أن تتجاوز (مثلا) ستّة أشهر أو سنة؟” وهنا يجب على الناخب الاختيار بين إحدى المدتين المقترحتين. وفي هذه الحالة فإنّ السؤال سيكون مجرد فخّ باعتبار أن تحديد مدّة عمل المجلي التأسيسي سيكون قد تمّ مسبقا ولن يكون للناخبين سوى اختيار المدّة المحددة مسبقا.
والسؤال الذي يطرح هو لماذا يتم تحديد هذه المدّة بستة أشهر أو بسنة؟ لماذا لا تكون المدّة مثلا شهرا واحدا أو خمس سنوات؟ ثمّ ماذا لو تمّ طرح السؤال في صيغته الأولى وصوتت الأغلبية لعدم تحديد المّدة؟ فهل يعني هذا أنّه بإمكان المجلس التأسيسي الاستمرار في عمله لمدّة غير محددة قد تمتد إلى عقود؟ وكلّ هذه الفرضيات تؤكد عدم وجاهة اقتراح تحديد مدّة عمل المجلس التأسيسي بواسطة الاستفتاء.
والأهم من هذا كلّه هو أنّ أصحاب هذه الدعوة يقترحون تحديد أجل بانقضائه تنتهي نيابة المنتخبين في المجلي التأسيسي، والأجل هو برهة أو مدّة زمنية يرتب القانون على مرورها أثارا محدّدة ومعلومة مسبقا كإكتساب حق أو ضياعه أو سقوط حق التتبع…. وفي كلّ هذه الصور، يضبط القانون بصفة دقيقة الآثارالقانونية المترتّبة عن انقضاء هذا الأجل. وحتى في المجالس التمثيلية كالمجلس النيابي والمجالس البلدية وغيرها من الهيئات المنتخبة والتي تكون مدّة نيابتها عادة محدّدة، فإنه قبل نهاية هذه المدّة، يفرض القانون إجراء انتخابات جديدة لاختيار ممثلين آخرين أو نفس الممثلين. وفي هذه الصورة الأخيرة، لا تكون النيابة عادة مرتبطة بانجاز مهمة محدّدة بل إنّها تتمثل في أغلب الأحيان في القيام بوظيفة تشريعية أو بتسيير شؤون محلية أو بتسيير شؤون قطاع مهني معيّن…، وذلك خلافا للمجلس التأسيسي الذي ترتبط نيابته أساسا بسنّ دستور. وهنا يحق لنا التساؤل: ماذا لو انقضى الأجل المقترح دون أن يستكمل المجلس التأسيسي مهمة إعداد الدستور؟ ستكون حينها الكارثة. فإذا كانت الأزمة تتمثل في التوقف الكلي أو الجزئي لمنظومة ما عن السير العادي أي عن العمل، فإن تونس ستدخل حينئذ في أزمة حادة قد تؤدي إلى انهيار الدولة.
2- عدم إمكان التقييد الموضوعي
يقترح الذين يعملون على تقييد المجلس التأسيسي، استفتاء الناخبين على طبيعة النظام السياسي التونسي الذي سيتبنّاه الدستور الجديد : نظام رئاسي أو برلماني أو مختلط ،شبه رئاسي أو شبه برلماني . ونحن لا نفهم سبب التركيز على طبيعة النظام السياسي فهذه مسألة من بين عديد المسائل التي يمكن أن يتضمنها الدستور.فهو يتناول أيضا مسائل الحريات العامة وطبيعة القضاء إن كان موحّدا أو ثنائيا وعلاقته ببقية السلط، إن كان يمثل سلطة مستقلة أو وظيفة، وكذلك طبيعة علاقات الدولة بالجهات وما تطرحه من مشاكل متصلة بالمركزية وباللامركزية وبالمحورية، وبموضوع مراقبة دستورية القوانين من حيث المبدأ وكذلك من حيث الطرق…
وعلى أية حال، إذا تمّ اعتماد هذا الإقتراح فإنه لن يكون لنا حاجة لمجلس تأسيسي منتخب إذ يكفينا في هذه الحالة اختيار أو تعيين أو انتخاب أحد أساتذة القانون الدستوري أو مجموعة منهم أو أي مختص في القانون ليتولى فقط عملية صياغة الدستور.
في الواقع، لا يوجد أي دستور في العالم يسمي طبيعة النظام السياسي الذي يعتمده. فالدستور الأمريكي مثلا لا يسمي النظام الأمريكي نظاما رئاسيا. والدستور البريطاني العرفي لا يسمي النظام السياسي نظاما برلمانيا وكذلك الشأن بالنسبة لدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة. فمسألة تصنيف الأنظمة هي مسألة علمية يتولاها علماء القانون الدستوري والسياسة والإجتماع وذلك طبقا لتقنيات علم تطبيقي آخر هو علم النمذجة. فعلماء القانون الدستوري هم الذين صنّفوا الأنظمة السياسية إلى رئاسي وبرلماني ومختلط. وهم الذين أدرجوا النظام الأمريكي في صنف الأنظمة الرئاسية والنظام البريطاني في صنف الأنظمة البرلمانية. وهم الذين اختلفوا في تحديد طبيعة النظام السياسي الفرنسي الحالي فمنهم من قال إنه نظام شبه رئاسي ومنهم من قال إنه نظام مختلط. فتصنيف الأنظمة ليس إذن مسألة عملية بل هو مسألة علمية تشكّل موضوع أطروحات ونظريات وهي محل اختلافات ومراجعات.
أما المؤسسون فإنهم يتولون وضع القواعد الدستورية التي تكون موضوع نقاشات ومفاوضات وتجاذبات ولا تخضع للقوالب المعدّة مسبقا. لذلك فإننا لا نرى أية جدوى لمشاريع الدساتير التي يعدها البعض على غرار العميد الصادق بلعيد. فالمسألة ليست مسألة معرفية أو مسألة خبرة علمية، بل هي مسألة سياسية بامتياز.
ثم ومن جهة أخرى، إذا تمّ اعتماد الاقتراح وصوّت الناخبون بالأغلبية لفائدة نظام معيّن، فما الذي سيضمن التزام أعضاء المجلس التأسيسي بنتيجة الاستفتاء؟ إذ يمكن، مثلا، أن يقع اختيار الناخبين على النظام الرئاسي وبعد إنهاء المجلس التأسيسي مهمّة صياغة الدستور، يقدم نتيجة عمله على أنها نظام رئاسي، ولكن وجود قاعدة واحدة صلب الدستور تخالف نوعا ما أصول النظام الرئاسي، يمكن أن تغيّر طبيعة النظام السياسي الذي سيكون المؤسسون قد اعتمدوه بكامل حسن النيّة. فما الذي سيؤول إليه الدستور الذي سيكون قد وقع سنّه حينذاك؟ وهذا السؤال جدير بالطرح خاصة في ظلّ ارتفاع عدد الدراسات والبحوث والأطروحات الجامعية والصحفية المتعلقة بطبيعة النظام السياسي التونسي في ضل الدستورالجديد والتي من المؤكد أنها ستتضارب حول تحديد طبيعة هذا النظام وهو أمر مشروع.
وإذا كانت لطبيعة النظام السياسي أهمية عملية، فإن أفضل ضمان لاختيار النظام الذي يرى فيه الناخبون أنه الأنسب، يكمن في عملية الانتخاب ذاتها. فعلى الناخب أن يصوّت للقائمة التي تدافع عن النظام الذي يتناسب مع ميولا ته. أما الاستفتاء المسبق على طبيعة النظام فإنه أمر غير ممكن.
3- استحالة التقييد الوظيفي
يقترح الذين ينادون بتقييد المجلس التأسيسي، الحدّ من صلاحياته وذلك بحصر وظيفته في إعداد دستور للبلاد دون غيرها من الوظائف التشريعية والتنفيذية. ويتمّ هذا التقييد، في نظرهم بواسطة الاستفتاء.
لا تتأتى علوية المجلس التأسيسي وأوليتّه من كونه، كما يدّعي البعض، منتخبا من قبل الشعب. فرئيس الجمهورية في النظام الرئاسي، منتخب مباشرة من الشعب وكذلك أعضاء المجالس النيابية في كل الأنظمة. ومع ذلك فإنهم لا يتمتعون بأي شكل من أشكال العلوية، بل إن صلاحياتهم وسلطاتهم مقيّدة. إذن، لا تتأتى العلوية من المصدر. بل إنه يمكن القول إن من سينتخب أعضاء المجلس التأسيسي هم “مجموع الناخبين” وليس الشعب كما يشاع. فالشعب هو هيئة أو “جسم” مؤسس. فالفصل الثالث من دستور 1959 حين كان ينصّ على أن “الشعب هو صاحب السيادة” كان يؤسس لإحدى الهيآت الدستورية. فمفهوم الشعب هو إذا مفهوم ينشئه الدستور. وكل المختصين في القانون الدستوري من قانونيين وفلاسفة ومؤرخين يعلمون أنه توجد نظريتان تتعلقان بصاحب السيادة كما تحدّده النصوص الدستورية إذ من بينها من يمنح السيادة للشعب ومنها من يمنحها للأمة بمعناها الحديث.
ولكلتا النظريتين انعكاسات وآثار عملية وتطبيقية هامة. وفي هذا دليل على أن الدستور هو الذي ينشئ ويحدّد صاحب السيادة سواء كان الشعب أو الأمة.
تتأتى علوية المجلس التأسيسي من كونه سلطة تأسيسية أي من وظيفته التأسيسية المتمثلة في سنّ دستور وهو القاعدة الأساسية التأسيسية والمؤسسة للمنظومة القانونية. فالدستور هو أعلى قاعدة في التسلسل الهرمي للقواعد القانونية، فالقواعد القانونية مرتبة ترتيبا تفاضليا. ويحتل الدستور المرتبة العليا فيها. وهذا الترتيب التفاضلي هو أمر لصيق بفكرة المنظومة القانونية، إذ لا يتصور وجود منظومة قانونية متناسقة في غياب مبدأ هرمية القواعد القانونية. وهذا المبدأ الأخير هو في صلب الدولة، فالدولة في عمقها هي تنظيم قانوني هرمي. وإذا غابت هذه المنظومة القانونية الهرمية، اندثرت الدولة. ويمكن القول بالتالي، إن مصدر علوية المجلي التأسيسي يكمن في وظيفته التي تتمثل في إنجاز العمل التأسيسي للدولة. ولا يكمن إذن، تقييد صلاحيات المجلس التأسيسي.
ثم إن حصر وظيفة المجلس التأسيسي في سنّ دستور يبدو أمرا غير ذي معنى، إذ يتفق أغلب فقهاء القانون الدستوري على أن موضوع هذا القانون يتمثل في “تأطير الظاهرة السياسية داخل الدولة” وتتعلق السياسة بظاهرة الارتقاء إلى الحكم والتنافس والتداول عليه. والأحزاب والجمعيات والقضاء والإعلام والانتخابات وغيرها كلها عناصر مرتبطة بالحكم بمعناه الواسع. وهي بالتالي من العناصر المكوّنة للقانون الدستوري، فلا شيء إذن، يمنع المجلس التأسيسي من اتخاذ نصوص تتعلق بهذه العناصر. كما أن وضعية الجهات وعلاقتها بالمركز ومسألة التنمية الجهوية أي خلق الثروة ووسائل وطرق الإنتاج وكذلك توزيع الثروة سواء كانت طبيعية أو اصطناعية، هي كلها من العناصر المكونة لظاهرة السياسة، وكذا الشأن بالنسبة لمسائل الصحة والتربية والتعليم والرياضة والمبادئ والقيم التي تحكم هذه المجالات،وتناسق هذه المبادئوالقيم فهي كلها من المسائل المرتبطة بظاهرة السياسة.
فإذا كان المجلس التأسيسي سيقوم بسنّ النص الذي يؤطر ظاهرة السياسة، فإن لا شيء يمنعه من سنّ نصوص في هذه المجالات المرتبطة بها.
وإذا كان للمجلس التأسيسي اتخاذ النصوص في كل هذه الميادين وعملا بمبدأ “من أمكنه الأكثر، أمكنه الأقل” فإنه يحق للمجلس التأسيسي نسخ أي نصّ قانوني سابق له بما في ذلك الأمر الذي يدعو الناخبين لانتخاب هذا المجلس والذي يحدّد مدة عمله بسنة واحدة ويحصر وظيفته في سنّ دستور للبلاد. فالمجلس التأسيسي سيّد ولا يمكن تقييد السيّد!
اترك تعليقاً