مقال قانوني مميز حول نظام الإثبات في الفقه الإسلامي
أ / محود الرفاعي
القضاء من الأمور المعروفة والمقدرة عند الأمم . مهما تفاوتت هذه الأمم في درجات الحضارة رقياً وانحطاط . ذلك لن الخصومة من لوازم الطبيعة البشرية , فلو لم يكن هناك رادع للقوي عن الضعيف لاختل النظام وعمت الفوضى , وإلى هذا أشار المولى عز وجل في الآية الكريمة: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} (الحج:40) , وفي قوله تعالى : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْض} (البقرة:251) , فلا غرابة إذن أن تحترم الشريعة الإسلامية القضاء , وتعنى به وترسى قواعده منذ أول نشأتها .
فبع الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة , ومع بداية إرساء قواعد الدولة الإسلامية , وتأسيس أجهزتها وسلطاتها , أخذ القضاء مكانه في صدارة الأجهزة عنى الرسول الله صلى الله عليه وسلم بتأسيسها , فجاء في الحلف الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين وأهل المدينة من المسلمين وغيرهم , ( وأنه كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث واشتجار يخاف فساده , فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم )فكان هذا صريحاً في أن كل خصومة أو نزاع يرد إلى القاضي الأول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
على أن بساطة ذلك المجتمع الناشىء لم تكن تستدعي في المدينة نفسها كثيراً من القضاة , حيث لم تكن هماك خصومات كثيرة . ومع ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم ينيب عنه بعض أصحابه حين يرسل بعضهم واليا إلى ناحية أعلنت خضوعها لحكومة الإسلام الأولى . فكان هؤلاء يحكمون بما علموه منه _ صلى الله عليه وسلم _ وبما استفادوه من صحبته .
فلا غرابة إذن إذا نبغ في القضاء عدد من الصحابة رضوان الله عليهم , أمثال عليّ رضي الله عنه , الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن قائلاً : ” إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول , فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء . قال عليّ: فما زلت قاضياً وما شككت في قضاء بعد .
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي جمعت رسالته إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أحدث النظريات في النظم القضائية . ومنهم عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت رضي الله عنهم , وغير هؤلاء كثيرون .
فجاء بذلك الفقه الإسلامي منذ فجره حاوياً لنظامه القضائي الذي يتسق مع عدله وشموله , ومن يرجع إلى كتب الفقه الإسلامي يجد بحوث الفقهاء القيمة في مختلف فروعالقضاء , في ضبط الدعوى وشروطها , ونظام قبولها وردها . وفي مراتب القضاء المطلق منه والمقيد كالحسبة وولاية المظالم , وفي أدب القاضي وما يجب ان يتصف به , وإمكان تخصيصه بالزمان والمكان والدعوى , وفي علاقة القاضي بالحاكم , وغيره من علوم القضاء .
ولعل أهم هذه العلوم ذلك الذي يتعلق بالإثبات . والإثبات كما يعرفه رجال القانون الوضعي هو : إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي يجدها القانون على صحة واقعة قانونية يدعيها أحد طرفي الخصومة وينكرها الطرف الآخر أو هو ما عرف عند فقهاء الشريعة الإسلامية بطرق القضاء .
وترجع أهمية الإثبات إلى أنه الأداة الضرورية التي يعول عليها القاضي في التحقيق من الوقائع المطروحة في الدعوى , والوسيلة العملية التي يعتمد عليها الأفراد في صيانة حقوقهم المترتبة على تلك الوقائع , حتى أنه ليصح القول بأن كل تنظيم قضائي يقتضي حتما ً وجود نظام للإثبات . والواقع أن الغالبية العظمى من النظم القضائية نزلت على حكم هذه الضرورة وعنيت بالإثبات , إلا أنها لم تلتزم في ذلك مذهباً معينا . وبالاستقراء والنظر في هذه النظم نجدها قد سلكت ثلاثة مذاهب في الإثبات :
الأول : مذهب الإثبات المطلق , ويرمى هذا المذهب إلى عدم تقييد القاضي بطرق معينه و بل يترك للقاضي الحرية الكاملة في اتخاذ الدليل الذي يطمئن إليه , فله أن يستكمل ما نقص من الأدلة التي عجز عنها الخصم , وله أن يحكم بعلمه الشخصي , وله استدراج الخصوم ومباغتهم لانتزاع الحقيقة من أقوالهم . وإلى هذا المذهب تميل القوانين الوضعية الجنائية الحديثة بحجة تطور الجريمة وأساليبها وصعوبة إثباتها بالطرق المحددة .
غير أن هذا المذهب منتقد من حيث أنه يمنح القاضي سلطة واسعة قد تؤدى إلى اعتسافه وانحرافه عن جادة الصواب . فيتحكم في تعيين طرق الإثبات وتحديد قيمتها بما يهوي دون رقابة , كما يؤدى إلى اضطراب العدالة , وفقدان الثقة بالقضاء لاختلف التقدير من قاض لآخر , كما يشجع الظالمين المماطلين على المنازعة في الحق الثابت أملا في الإفادة من اختلاف القضاة في التقدير ز
الثاني : مذهب الاثبات المقيد , ويقوم هذا المذهب بالحد من السلطة المطلقة الممنوحة للقاضي في المذهب السابق , وذلك بتحديد طرق معينة للإثبات , فلا يستطيع الخصوم إثبات دعواهم من خلالها , ولا يستطيع القاضي تكوين عقيدته إلا بهذا الدليل الذي حدده القانون , فلا يحكم بعلمه الشخصي , ولا يجعل للدليل قيمة أكثر مما هو محدد له بالقانون .
وعيب هذا المذهب _ بالرغم مما يكلفه للقضاء من ثقة واستقرار _ أنه يجعل دور القاضي سلبياً , ووظيفته آلية , مما يؤدي إلى يصدر القاضي حكما بغير ما ارتاح له ضميره , إذا نمى إلى اعتقاده أن الحقيقة الواقعة ظاهرة بدليل من غير الطرق التي حددها القانون .
الثالث :مذهب الاثبات المختلط : هو المذهب الذي يجمع بين المذهبين السابقين , فيحاول الجمع بين مميزاتها , والتخفيف من مضارها , فهو مع تحديده لطرق الإثبات إلا أنه يمنح القاضي سلطة في تقدير الأدلة , فمثلا : له أن يقضي بما أجمع عليه الشهود , أو أن يقضي بعكسه , وله سلطة تقدير القرائن . وهذا المذهب هو ما تأخذ به أغلب القوانين الوضعية المعاصرة , فتبلغ حدها الأقصى في المواد الجنائية من جهة حرية القاضي في تقدير الأدلة , وحدها الأدنى في المواد المدنية حيث تكون سلطة القاضي في تقدير الأدلة أقل كثيرا من سلطنه في المواد الجنائية .
فإلى أى هذه المذاهب يتجه الفقه الإسلامي في منهجه للإثبات ؟
يميل بعض الفقهاء وأبرزهم ابن القيم الجوزية إلى مذهب الإثبات المطلق الذي يعطي القاضي الحرية المطلقة في تكوين عقيدته من أي دليل يعرض عليه و ولا يتقيد بطريق إثبات معين , ويتضح ميل ابن القيم إلى مذهب إطلاق الإثبات مما يأتي :
أولاً : تفسيره للبينة حيث يجعلها كل ما يبين من الحق , ولا يقصرها على شهادة الشهود كما قال غيره من الفقهاء . فيقول : ” فالبينة اسم لكل ما يبين من الحق , ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه ” .
ثانياً : إجازته للقاضي أن يتوصل للحق بالتحايل على الخصم استدلالاً بما كان يفعله إياس بن معاوية وشريح .
ثالثاً : إجازته للقاضي أن يقضي بالفراسة بالرغم من استتار خطوات الاستنتاج فيها , وأن الدليل المأخوذ منها غير معروف لغير القاضي . وستعرض رأي ابن القيم في الحكم بالفراسة بشىء من التفصيل إن شاء الله .
رابعاً : يقول في اعلام الموقعين : ” فإذا ظهرت أمارات الحق , وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان , فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره . والله تعالى لم يحضر طرق العدل وأدلته وأمارته في نوع واحد وأبطل غيره . فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها . والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها , وانما المراد غاياتها التي هي المقاصد
فأنت ترى صراحة نصه على عدم التقيد بطريق محدد للإثبات , فأي سبيل يبين به وجه الحق يكون دليلاً معتبراً مادام قد كشف للقاضي وجه الدعوى .
وبناء على هذا القول الذي يقضي بعدم حصر أدلة الثبوت عنده , فقد ذكر في كتابه الطرق الحكيمة كثيرا من طرق القضاء التي يخالفه فيها كثير من الفقهاء كالقرعة , وشهادة الكفار , والفراسة , وغيرها
مذهب جمهور الفقهاء :
أما بالنسبة لجمهور الفقهاء وما اتجهت إليه أنظارهم في الإثبات , فيرى بعض فقهاء القانون المصرى أنهم أخذوا بمذهب الإثبات المقيد نظراً لما رآه منهم في تحديد الشهادة تحديداً دقيقاً , وجعلها مراتب مترتبة , والتزامهم بهذا التحديد .
وفي نظري أن هذا القول ليس بصحيح , فالفقهاء لم يأخذوا بمذهب تقييد افثبات على ما هو عليه عند أصحابه , إنما القول بأنهم أقرب إلى المذهب المختلط هو الصواب عندي , علما بأن نظرة الفقه الإسلامي للإثبات نظرة متميزة لم يكن همها أن تكون ضمن أي من المذاهب المذكورة.
ونرى ان الفقه الإسلامي كان قريباً من المذهب المختلط للأسباب الآتية :
أولاً : إنهم حددوا طرق الإثبات وجعلوها في أدلة معينة , ولكنهم لم يجدوا من سلطة القاضي في تقدير الأدلة كما فعل أنصار المذهب المقيد . وبذلك لم يجعل الفقهاء وظيفة القاضي آلية لا أثر لها في تقدير الأدلة, فللقاضي عند جمهور الفقهاء أن يقضي بغير ما أجمع عليه الشهود إذا ظهر الحق من طريق غيرهم , ومن ذلك قالوا : لا تحد المرأة إذا شهد عليها أربعة بالزنا وظهر أنها بكر .
ثانياً : إنهم أعطوا القاضي سلطة تقدير القرائن . هذه السلطة وإن كانت تضيق في مجال الحدود , إلا أنها تتسع في غيرها من الدعاوى الجنائية , كما تتسع في دعاوى المعاملات المالية . وسيتضح هذا القول عند كلامنا عن القرائن إن شاء الله . وسلطة تقدير القرائن هو ما نميز به المذهب المختلط .
ثالثاً : إنهم لم يجيزوا للقاضي ان يقضي يعلمه الشخصي , وهذا ما تميز به المذهب المختلط .
رابعاً : قالوا : إنه لا يلزم الأمر باستشهاد رجلين أو رجل وامرأتين في الديون وقت التحمل ألا يحكم القاضي بذلك الدين . فإن ثبت من طريق آخر كالنكول , أو شاهد ويمين المدعى قضى به
ولا شك أن هذا مزج بين تحديد الأدلة وحرية القاضي في تقديرها , كما أنه تخفيف لمضار تقييد الإثبات , وهو ما لجأ إليه أنصار المذهب المختلط .
خامساً : إنهم جعلوا الشهادة حجة فيما قامت عليه مهما كان المدعى به ، ولم يقيدوها بقدر معين كما فعل بعض القانونيين من أنصار المذهب المختلط
وهذا يدل على أن بعض القوانين التي أخذت بالمذهب المختلط أشد تضييقا من الفقه الإسلامي , لأن القاضي في هذه القوانين لا يحكم بشهادة الشهود إذا جاوز الحق المدعى به القدر الذي حدده القانون , ولو اعتقد القاضي صحتها وصدقها فيما قامت عليه.
كل هذه الأسباب جعلت نظرة جمهور الفقهاء أقرب إلى المذهب المختلط الذي يجمع بين مزايا المذهبين الآخرين المقيد والمطلق , ويخفف من مضارها , فهو يحدد أدلة الإثبات ولا يحد من سلطة القاضي في تقدير هذه الدلة , كما لا يطلق للقاضي الحرية ليتخذ دليله في الدعوى من أي دليل يراه أو يطمئن إليه , حتى لا يتعسف القضاة فتتمكن تهمة استغلالهم لسلطة وظيفتهم , فكان أن حدد الفقه الإسلامي طرقا للإثبات لا يتجاوزها القاضي ‘ وليس للخصوم أن يثبتوا دعواهم بغيرها .
وبالرغم من قولنا أن الفقه الإسلامي كان قريبا من مذهب الإثبات المختلط , إلا أنه قد حوى نظاماً لفثبات تفرد به وميزه عن القوانين التي أخذت بالمذهب المختلط , ذلك لأنه لم يكن متأثراً بمذهب معين , إنما هو تشريع من لدن حكيم خبير .
فإذا كان مذهب الإثبات المختلط قد ترك للقاضي الحرية في استخلاص حكمه من أي دليل يعرض عليه في الدعوى الجنائية , فإن الفقه الإسلامي قد قصم الدعاوى الجنائية إلى ثلاث طوائف , قيد الأدلة في طائفتين , وهما الحدود والقصاص , وترك له الحرية في طائفة التعزير , وسنرى إيضاحاً أكثر لهذا القول عند كلامنا عن القرائن إن شاء الله .
كما أن القواينين التي أخذت بالمذهب المختلط قد سعت إلى تقييد الإثبات في الدعوى المديمية بقدر كبير , فلم تأخذ بشهادة الشهود مثلاً إذا جاوز الحق المدعى به قدراً معيناً , كما لم تقبل إثبات بعص الحقوق المدنية إلا بالكتابة , بينما لا نجد هذه القيود في الفقه الإسلامي , فالشريعة الإسلامية بما تغرسه في الفرد من إصلاح وتهذيب , وبما تحثه عليه من مراقبة الله عز وجل تبعده عن تهمة الكذب والتزوير , فهي بذلك تفترض أمانة الشخص .
وصدقه فيما شهد به , ولذلك كانت هذه الشهادة حجة فيما قامت به , وللقاضي أن يستند عليها في حكمه مهما كان القدر المدعى به , وهذا لا يمنعه من مساءلة الشهود ومعرفة مدى صدقهم ومعرفتهم للواقعة المطروحة .
كما أن مبدأ الإثبات بالكتابة مع وجوده واحترام الفقه الإسلامي له وحثه عليه , إلا أن الفقهاء لم يجعلوه شرطا لا يجوز الإثبات إلاّ به
وسائل الإثبات
إذارفع المدعي دعواه فإن القاضي، بعد أن يطلب منه أن يبين دعواه، يسأل المدعى عليه المدعي، فإن أقر بما يثبت بإقراره الحق، الذي يدعيه المدعي صدر الحكم به .وإذا أنكر المدعى عليه ما يدعيه المدعي طلب القاضي من المدعي أن يقدم بينته التي يثبت بها ما يدعيه كالشهود العدول مثلا فإن قدم البينة ثبتت الدعوى وصدر الحكم بها وإن عجز المدعي عن تقديم البينة عرض عليه القاضي حق تحليف خصمه اليمين فإن طلب تحليفه وحلف المدعى عليه رد القاضي الدعوى ، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين على المدعى حكم به للمدعى وحلفه كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
إذا فوسيلة إثبات الحق الذي يدعيه المدعي قد تكون إقرار المدعى عليه أو بينة المدعي ( الشهود العدول ) أو نكول المدعى عليه عن حلف اليمين ، وهناك وسائل أخرى أو دلائل لإثبات الحق المدعى به تفاصيلها في كتب الفقه والقضاء وسنتناول كل واحدة من هذه الوسائل بشيء من الإيجاز .
أولا : الإقـرار :
هو الاعتراف بثبوت حق للغير على نفس المقر ولو في المستقبل . ولا بد أن يكون الإقرار بلفظ دال على ثبوت الحق للغير على نفس المقر نحو أن يقول : لفلان عندي ألف دينار . ويقوم مقام اللفظ إشارة الأخرس المفهومة كما تقوم الكتابة أيضا مقام اللفظ .
ومع أن الإقرار سيد الأدلة كما يقولون، وحجيته ثابتة بالكتاب والسنة ، إلا أنه يعتبر حجة قاصرة على المقر لا يتعداه إلى غيره ، فيؤاخذ به المقر وحده دون سواه لأن المقر لا ولاية له إلا على نفسه . ويشترط في المقر أن يكون بالغا عاقلا مختاراً غير سكران . كما يشترط في المقر به ألا يكون مما لا يمكن عقلا ولا شرعا ، كأن يقر بأنه ابن فلان وهو أكبر منه سنا أو يقر الابن بالتسوية بينه وبين أخته في الميراث ،فالأول محال عقلا ، والثاني مخالف لأصول الشرع في الميراث أما المقر له فيشترط فيه أن يكون ممن يثبت له الحق ، فإن لم يكن كذلك لم يصح الإقرار له كما لو أقر لبهيمة أو لدار بمبلغ من المال لم يصح إقراره وكان باطلا لأن البهيمة والدار لا تملك المال مطلقا إلا أن يكون شخصاً إعتباريا (معنوياً) كالوقف والشركة.كما يشترط أيضا إن كان المقر له أهلا للاستحقاق ألا يكذب المقر في إقراره . وإذا توفرت في الإقرار الشروط المطلوبة لزم المقر ما أقر به من مال أو قصاص ، ولا ينفعه الرجوع إلا إذا أقر بحد فله الرجوع عن إقراره كما لو أقر بالزنا والسرقة ولكنه يلزمه رد المال المسروق .
ثانيا : الشهـادة
وهي إخبار صادق في مجلس الحكم بلفظ الشهادة لإثبات حق على الغير وتسمى البينة لأنها تبين ما في النفس وتكشف الحق فيما اختلف فيه . ويشترط في قبول الشهادة :
1) أن يكون الشاهد بالغا عاقلا مسلما عدلا غير متهم في شهادته لعداوة أو قرابة وأن يكون عالما بما يشهد به .
2) تقدم الدعوى بالحق المشهود به – إلا في شهادة الحسبة- حتى لا يكون الشاهد مدعيا وشاهداً في الوقت نفسه، وذلك في حقوق الله تعالى كحد الزنا والشرب والسرقة وقطع الطريق.
3) طلب المدعى أداء الشهادة من الشاهد فلا تكون الشهادة إلا بطلب من المدعي .
4) إذن القاضي للشاهد بأداء شهادته .
5) نطق الشاهد بكلمة (أشهد ) في مستهل شهادته ولا يقوم غيرها مقامها كقوله ( أعلم ) أو ( أتحقق ) .
6) أن يقتصر الشاهد في شهادته على ما ادعاه المدعي .
7) أن يؤدي الشاهد ما تحمله من الشهادة مصرحا به بلفظه ،فلا يقبل من الشاهد أن يقول : أشهد بمثل ما شهد به هذا الشاهد ، بل لا بد من تصريحه هو بما تحمله وقت أدائه الشهادة .
8) أن ينقل الشاهد ما سمعه أو رآه من وقائع إلى القاضي ،لا أن يشهد بما يستنتجه هو مما رآه. لأن تكييف الوقائع وما يستنتج منها وما يترتب عليها من آثار وأحكام كل ذلك متروك لتقدير القاضي واجتهاده .
9) إذا ارتاب القاضي في الشهود فله أن يفرقهم ويسأل كل واحد عن شهادته على حده فإن اختلفوا سقطت شهادتهم ، وإن اتفقوا حكم بها القاضي إن عرف عدالتهم .
10) أن يبلغ عدد الشهود النصاب المحدد حسب ما يشهدون عليه ففي الشهادة على الزنا : لا يقبل أقل من أربعة رجال عدول مسلمين .
وفي بقية الحدود وهي القذف والسرقة والحرابة وشرب الخمر والردة وكذلك القصاص فإن نصاب الشهادة المقبول هو شهادة رجلين عدلين . وفي النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء ونحو ذلك يشترط شهادة رجلين ذكرين أو شهادة رجل وامرأتين .
وفي الأموال وحقوقها كالقروض والإتلاف والديات والبيوع ونحوها نصاب الشهادة هو رجلان أو رجل وامرأتان باتفاق .
وفي الولادة والرضاع وعيوب النساء تحت الثياب تقبل شهادة النساء وحدهن دون أن يكون معهن رجل
ثالثا : علم القاضي :
كما لو سمع القاضي شخصا يطلق امرأته ، ثم ترافعا إليه ، فهل يجوز له أن يحكم بما علمه من حالتهما قبل الترافع . إن القاضي لا يقضي بعلمه لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم الحف بحجته من بعض ، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها ).
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن القاضي إنما يقضي بالأدلة المسموحة كالإقرار والشهود ولا يقضي بما يعلمه هو في ضميره إذا لم نقم عليه بينة ظاهرة .
رابعا :القرائن :
أخذ الفقهاء بالقرائن واعتبروها وسيلة من وسائل الإثبات وطريقا من طرق الحكم ، فمنهم من صرح بالأخذ بها والتعويل عليها ومنهم من رتب عليها أحكاما فقهية دون أن يصرح باعتبارها. ومن ذلك ما ذهب إليه المالكية من إقامة حد الزنا على امرأة ظهر حملها ولا زوج لها،وإقامة حد الخمر على من تقيأها .
اترك تعليقاً