الأمن القضائي
فقدْ منَّ اللهُ تعالى عَلَى بلادِنَا المُبَاركةِ بخَصَائِصَ عِدَّةٍ ، في طَلِيْعَتِهَا تحْكيمُ شَرْعِهِ ، وإِمْضَاءُ حُكْمِهِ ، فكانتْ بِتَسْدِيْدِهَا ، وتوالي عَزْمِهَا وتَصميمِها شاهداً على الخيريَّةِ ، والأفضليةِ ، في سياق هَدْيٍ رَشِيْدٍ، دَلَّهَا المَوْلَى عليه ، فأخذتْ كتابَه بقوَّةٍ ، لتُبْرِئَ الذِّمة ـ إن شاء اللهُ ـ من عُهْدةِ ميثاقٍ غليظٍ بسُلُوكِ جادَّتِه ، والذبِّ عن حِيَاضِهِ ، وإرشادِ الناسِ إليه ، ليُدَوَّنَ في ثاني الحالِ علَى صَفحَاتِ تاريخِها المُمْتَدِّ ، علامةً فارقةً ، وغُرَّةً لافتةً ، في جبينِها الوضيءِ ، في عِدادِ آلاءَ أنعمَ اللهُ بها علينا ، وأوزعنا شُكْرَها ، وهيَّأ لنا أسبابَ قرارِها.
إنّ العدلَ الإسلاميّ هو صِمَامُ الأمانِ ، ولن نحصلَ على أمْنٍ قضائيٍّ إلا بأحكامٍ تَصْدُرُ عن شرع اللهِ ، فيما نصَّتْ عليه أحكامُه المطهرة ، وعنْ قواعدِها ومقاصدِها ، فيما لا نَصَّ فيه ، (وعلَى الصَّحيح : في كلٍّ نصٌّ؛ بدلالةِ الوَضع اللُّغويِّ ، والمعنى الشَّرعيِّ ، وفي مشمولِهما : “دَلالةُ الأصول”، وفقَ طُرق الدلالةِ ، على تفاصيلَ لا نُطيلُ بسَرْدِها).
إنَّ المتأمِّلَ في نصوصِ الشريعة ، وقواعدها ، ومقاصدها ، يقفُ على مادةٍ موضوعيةٍ في غايةِ الإحكام ، ولا غرْوَ ؛ فهي مِنْ لدُنْ الحكيم الخبير ، إنْ في الكتابِ الكريم ، أو السنةِ النبويةِ المطهَّرةِ ، وهو ما أدْهشَ كلَّ غائبٍ ، أو مُغيَّبٍ ، أو ضالٍّ هداهُ الله إلى مَعِيْنِ الشَّرع ، فَوَقَفَ وِقْفَةَ حِيادٍ وإنصافٍ .
لا شكّ أنَّ الأمْنَ العدليَّ من مهمَّاتِ الأمنِ الوطنيِّ ، بلْ هو أساسُ دولةِ الشرع والنِّظام ، ولذا كان في طليعةِ اهتمام ولاةِ الأمرِ ، وهم مَنْ أوْلَوْهُ الدعمَ والرعاية والمتابعة المستمرة ، فكان الثراءُ التنظيميُّ بهيكلتِه وإجراءاتِه على أكملِ وجهٍ وأحسنِه ، معَ تميُّزٍ عندَ عقدِ الدِّراساتِ المقارنةِ فيما يسمى بـ:
” تنظيماتِ السلطةِ القضائية وقواعدِ إجراءاتِها ” ، وكان الإسنادُ الماليُّ والمعنويُّ مِنْ مُهِمَّاتِ العوْنِ على هذا التحوُّلِ المهمِّ في تاريخِنا العدليِّ ، والعونُ الحقُّ مِنَ اللهِ تعالى، وهو المسؤولُ سبحانَه أن يُسدِّدَ الخُطَى ، ويُباركَ في الجهودِ ، وأن يجعلَها نافعة ، ولوجهِهِ الكريم خالصة .
ولقد برهنَ قضاؤنا بتوفيق اللهِ سبحانه ، ثمَّ ( بعدل أحكامهِ ، وسَدادِ رجالهِ ، وهمْ حَمَلَة علم الشريعةِ ، وحُرَّاسُ العدالةِ ) أنَّه المحضِنُ الآمِنُ لإيصال الحقوق ورفع المظالم ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، ولا يَجْرِمُه شنآن قوم على أنْ لا يعدل ، فالعدْلُ في وجدانِ القاضي المسلم قيمة سامية في بنائهِ الأخلاقِيِّ ، لا تختلفُ معَاييرُها ، ولا تَزدوجُ مقاييسُها ، تحتَ أيِّ ظرفٍ أو ذريعةٍ ، فالعدوُّ والوليُّ أمامَ قِسطاسِها المستقيم على حدٍّ سواءٍ ، قال اللهُ تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) 8 [ المائدة ] ، وهذا الهدْيُ الشرعيُّ أصلٌ من أصول الإسلام ينطوي على الخيريةِ والسلامةِ ، يقولُ الحقُّ سبحانَه : (( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )) 35 [ الإسراء ] ، فإتمامُ الكيل بالميزان السَّويِّ خيرٌ في الحال ، وأحسنُ في المآل .
ولن تجدَ أمناً قضائياً على الحقيقةِ إلا في ظلال شرعِنا المطهَّرِ ، وهو من هَيْمَنَ على جميع النُّظُّم والقوانين الوضعيةِ ، فما كان فيها مِنْ خيرٍ فهو مشمولٌ بنصوصِهِ ، وما سوى ذلكَ فهو ردُّ على أصحابِهِ ، ونحنُ مِنْ أوضارِهِ في عافيةٍ ، بعدَ أنْ هدانا اللهُ لتحكيم شرعه وإنفاذِ حُكْمِهِ ، في المعدودين بفضلِهِ وتوفيقِهِ في قولِه سبحانه : (( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )) 6 [ سبأ ] ، وقولِه : (( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) 101 [ آل عمران ] ، وقولِه : (( قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )) 71 [ الأنعام ] ، وفي جملةِ من يُدْعَى من دونِ اللهِ كلُّ قانونٍ وضعيٍّ يخالفُ الشريعة ، وفهُومَ أهلِ العلم في الاستنباطاتِ الفقهيةِ ، ومع هذا فالحِكمة ضالَّة المؤمنِ ، أنَّى وجدَها فهوَ أحقُّ بها ، فالقوانينُ الوضعية قد تنطوي على معانٍ مقبولةٍ ولاسِيَّما في الجوانبِ الإجرائيةِ أو الاستدلاليةِ ، خاصَّة في المنطق الصحيح ، يقولُ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ : ” فَتِلْكَ الْقَوَاعِدُ الْمَنْطِقِيَّةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي جَعَلُوهَا قَوَانِينَ تَمْنَعُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَضِلَّ فِي فِكْرِهِ أَوْقَعَتْهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَالتَّنَاقُضِ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْقَوَانِينَ فِيهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ ” .
والتوسُّعُ السابقُ في استخدام كلمةِ ( القانونِ ) كان قبلَ مُرَاغَمةِ الشريعةِ لاحقاً بمصطلَحِهِ ، مشمولاً بتوالي هجماتِ موادِّه على حمى الشريعةِ وحياضِها، والاحتيالِ بتسلُّلِ نظرياتِه ببَهرج القولِ وزُخرفِهِ ، حتَّى صارَ شعاراً لهذا العنصرِ الغريبِ ، ووضَعَ الأرضيَّةَ لغَزَاتِهِ الشَّرِسَةِ على ديارِ المسلمين ، لِتقفَ بلادُنا في مواجهتِهِ باعتزازٍ ورُسُوخٍ ، على طريقةٍ سَواءٍ ومَحَجَّةٍ بيضاءَ ، ولن يَعْدُوَ قَدْرَه ، وقد جاءَ التَّحَفُّظُ عليه بعُمُومٍ من هذا المعنَى لا من حيثُ الأصلُ . وعدَمُ التبيٌّنِ في هذا فوَّت على كثيرٍ من الباحثين الوصولَ لِمدْرَكِهِ الصحيحِ ، ولا يؤتَى الباحثُ مثلَما يُؤتَى مِنْ ضَعْفِ المَادَّة وقُصُورِ التتبعِ والاستقْرَاءِ .
لقد أعطى تاريخُ القضاءِ السعوديِّ ـ على توالي مسيرتِهِ المباركَةِ ـ مثالاً أسْمَى عن الأمنِ القضائيِّ ، في حيادِ نظرتِهِ ، وعُيُونِ أقضيتِهِ ، وسَدَادِ ترتيباتِهِ ، وكَفاءةِ رجالِهِ ، وقبلَ هذا وبعدَه : في بَرَكَةِ مصْدَرِهِ وعدالةِ حُكْمِهِ ، فهو العَيْنُ المَعِينُ ، والهَدْيُ القويمُ ، (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ )) 50 [ المائدة ] ، والحمدُ للهِ الذي وفَّقَ وسدَّدَ ، وهدَى وأرشدَ إلى فطرةِ الإسلامِ وزينةِ الإيمانِ ، صبغةً ربانيةً تُضِيءُ القلوبَ وتُنيرُ السبيلَ ، (( صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ )) 138 [ البقرة ] .
ولن يَحزُنَنا ما يقولُه الشانئونَ والمغرضونَ والمتربصونَ ، ولن يَضرُّونا إلا أذىً ، كيف وقد نصرَنا اللهُ عليهم ، ومكَّنَنا منهم ، في كلِّ مَحفِلٍ يَنبري فيه أهلُ العلمِ والإيمانِ ، وبخاصَّةٍ حُرَّاسُ العدالةِ عندَ الْتِحَامِ الحِجَاجِ ومَحَكِّ السِّجَالِ ، حتى يَخرُجَ من الشانئِ الرَّغَمُ بقذائفِ الحقِّ وبيِّناتِهِ وزُبُرِهِ .
وأسوقُ في هذا أنموذجاً ذكرَهُ الشيخُ مصطفى أحمد الزرقاءُ – رحمه الله تعالى – في مقدمةِ كتابهِ ( المدْخَلُ الفقهيُّ العامُّ ) قال فيه :
” في الثاني من تمُّوز عام 1951م عَقَدَتْ شُعبةُ الحقوقِ الشرقيةِ من المجمعِ الدَّوْليِّ للحقوقِ المقارنةِ مؤتمراً في كليةِ الحقوق ـ جامعةِ باريسَ ـ للبحثِ في الفقهِ الإسلاميِّ برئاسةِ المسيو ميو أستاذِ التشريعِ الإسلاميِّ في كليةِ الحقوقِ بجامعةِ باريسَ حضرَه عددٌ من أساتذةِ الحقوقِ في الجامعاتِ العربيةِ والغربيةِ ، وعددٌ من المستشرقينَ , وفي خِلالِ بعض النِّقَاشاتِ وقفَ أحدُ الأعضاءِ وهو نقيبُ محاماةٍ سابقٌ في باريسَ فقال : أنا لا أعرفُ كيفَ أُوَفِّقُ بين ما كانَ يُحكى لنا عن جُمودِ الفقهِ الإسلاميِّ وعَدَمِ صُلُوحِهِ أساساً تشريعياً يفِي بحاجاتِ المجتمعِ العصريِّ المتطوِّر , وبينَ ما نسمعُه الآنَ في المحاضراتِ ومناقشاتِها مِمَّا يُثبتُ خِلافَ ذلك تماماً ببراهينِ النصوصِ والمبادئِ 0 وفي ختامِ المؤتمرِ وضعَ المؤتمرون تقريراً نقتطفُ منه : إنَّ مبادئَ الفقهِ الإسلاميِّ لها قيمةٌ حقوقيةٌ تشريعيةٌ لا يمارَى فيها 0 وإنَّ اختلافَ المذاهبِ الفقهيةِ في هذه المجموعةِ الحقوقيةِ العُظمى ينطوي على ثروةٍ من المفاهيمِ والمعلوماتِ , ومن الأصولِ الحقوقيةِ , هي مناطُ الإعجابِ , وبها يستطيعُ الفقهُ الإسلاميُّ أنْ يستجيبَ لجميعِ مطالبِ الحياةِ الحديثةِ والتوفيقِ بين حاجاتها ” أهـ.
ولن نُسْهِبَ في تِبْيانِ مزايا أحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ ولاسِيَّما في الوقائعِ القضائيةِ التي يكثرُ دورانُها على ألسنةِ الحقوقيين ، مِثْلِ نظريةِ : الحقِّ ، والعقدِ ، والالتزامِ ، وفي سياقها : المسؤوليةُ العقديةُ والتقصيريةُ والجنائيةُ ، ونظريةُ الظروفِ الطارئةِ ، والتَّوَازنُ الماليُّ في العقدِ ، ورَدُّ الالتزامِ المرهِقِ إلى حدِّهِ المعقولِ ، والتَّعَسُّفُ ( أو الشَّطَطُ ) في استعمالِ الحقِّ ، ونظريةُ الجريمةِ والعقوبةِ ، فهذه وغيرُها انبرَى لها باحثونَ في الفقهِ والقضاءِ الإسلاميِّ ، فأشبعوها دراسةً ، وأصَّلوا جميعَ مسائلِها على ضوءِ أحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ ، وكانَ في التأصيلِ تميُّز ظاهرٌ على النظرياتِ القانونيةِ المقابلةِ ، مبنىً ومعنىً ، وبيَّنوا إعجازَ التشريعِ الإسلاميِّ ، ودلَّلوا على أنه الملاذ الآمِنُ لتحقيقِ العدلِ ، ولا أدلَّ على هذا من كونِ العديدِ من الباحثينَ القانونيينَ لا يسَعُه بعد الاطِّلاعِ على كنوزِ الشريعةِ الإسلاميةِ في الفقهِ والقضاءِ إلا المسارعةُ إلى تضمينِها كُتُبَهُ وبحوثَه عن طريقِ عقدِ المقارنةِ ، وتجدُ الكثيرَ منهم يزدادُ حماسةً في الطَّرْحِ ، وإسهاباً في النقاشِ عندما يُبحرُ في نصوصِ الشريعةِ وكلامِ أهلِ العلمِ ، وتأخذهُ الدهشةُ من دقَّةِ العبارةِ ومتانةِ القاعدةِ الشرعيَّةِ في الفقهِ وأصولِهِ وقواعدِهما ، وهل تجدُ أسعدَ في اللفظِ والمعنى من كلمةِ : “الإفضاءِ”، عوضاً عن “العلاقةِ السَّببيةِ” ومن كلمةِ : ” الإيجابِ والقبولِ” عوضاً عن ” توافُقِ الإرادتينِ” ، وقِسْ على هذا نظائرَ عدةً ، من جنسِ : ” العقدِ الاحتماليِّ” ، ويقابلُه فقها ً: ” عقدُ الغررِ” ، و”العمولةُ والرسمُ والأتعابُ” ويقابلُها : “الأجرةُ” ، و” عقدُ المقاولةِ” ، ويقابلُه “عقدُ الاستصناعِ” ، ومنه ما سبقت الإشارةُ إليه من مصطلحِ “الظروفِ الطارئةِ ” ، وفي معناه: ” القوةُ القاهرةُ والصعوباتُ الماديةُ غيرُ المتوقعةِ ” ويقابلُها جميعاً مصطلحُ : “وضعِ الجوائحِ” ، وكذا : “الوقائعُ الفرديةُ” ويقابلُها : “قضايا الأعيانِ” و “الرابطةُ العقديةُ” ويقابلُها “التعاقدُ” و”المسؤوليةُ التقصيريةُ والمسؤوليةُ العقديةُ والتعويضُ” ويقابلُها “الضمانُ” ، في سلسلةِ مبانٍ كريمةٍ تُشْرِفُ على معانٍ جليلةٍ ، ينشرحُ لها الصدرُ ، وتألفُها السَّليقةُ ، وتُدْلي بهويةٍ وبصمةٍ تبتعدُ عن التَّلقِّي والتبعيةِ ، معَ ما في مضامينِها من الجَزَالَةِ والبعدِ عن ركيكِ العبارةِ ، ووحْشيِّ التركيبِ ، بالرَّغمِ من صُدُورِ الركيكِ ووحشيِّ اللفظِ من قومٍ يدَّعونَ الدِّقَّةَ والحضارةَ وحسنَ العبارةِ ، وفي مثلِ هذا يقولُ ابنُ الأثير في ( مثله السائر ) : ” ومما ترقصُ الأسماعُ له ، ويرنُّ على صفَحاتِ القلوبِ قولُ يزيدَ ابنَ الطَّثَريَّةِ في محبوبته من جَرْمٍ :
بِنفسِــــــــيَ مَنْ لَوْ مَرَّ بَرْدُ بَنانِهِ
عَلَى كبــــدِي كانَتْ شِفاءً أَنَامِلُهْ
وَمَنْ هَابَنِي في كلِّ شَيْءٍ وَهِبتهُ
فَلاَ هُوَ يُعْطِينِي وَلاَ أَنَا سَـــــائِلُهْ
وإذا كان هذا قولَ ساكنٍ في الفلاةِ ، لا يَرى إلا شِيْحَةً أو قَيْصومةً ، ولا يأكلُ إلا ضبَّاً أو يَربوعاً ، فما بالُ قومٍ سكنوا الحضرَ ، ووجدوا رقَّةَ العيشِ ، يتعاطَون وحشيَّ الألفاظِ ، وشَظِفَ العبارات” أهـ .
وليس من تفسيرٍ لهذا التفوقِ والتميُّزِ في رونقِ المبنى وجزالةِ المعنى إلا بركةُ علومِ الشريعةِ ، وتوفيقُ حَمَلتِها لأقومِ السبلِ وأهداها ، وأسلمِ المآلاتِ وأزكاها ، وصولاً إلى مطلبٍ عزيزٍ ، ومقصدٍ جليلٍ يتوخَّى تحصيلَ “الأمنِ القضائيِّ” ، على هذا السَّننِ الشرعيِّ وبنائِهِ اللفظيِّ ، مع الأُلفةِ والانسجامِ عندَ عقدِ المُناسبةِ بين معنيي اللغةِ والشرعِ ، وكان من قدرِ اللهِ أن صاحَبَ ضلالَ المقابلِ في المعنى ضلالٌ في المبنى .
وَختاماً :
فإنَّ من قواعدِ الشريعةِ وعدلِها أنها حاكمةٌ على عملِ الناسِ ، ولا يرِدُ عكسُ ذلك ألبتةَ ، وترتيباً عليه فإن القصورَ الحاصلَ بفواتٍ بشريٍّ ، أو قلةِ بضاعةٍ ، أو غفلةٍ عن مقاصدِ الشريعةِ ، أو عدم المُكنةِ والدُّربةِ على الأدلةِ والنظرِ فيها ، وإنزالِ الوقائعِ عليها ، ليس حكماً على الشريعةِ أيَّاً كان محلُّ التوقيعِ ومكانةُ صاحبِهِ ، والنِّزالُ العلميُّ معتركٌ تحفُّه المخاطرُ من كلِّ وجهٍ ، لكن له ـ بتوفيقِ اللهِ ـ آلاتُه ورجالاتُه ، ” ورحمَ اللهُ امرءاً عرفَ قدرَ نفسِه” ، ” ورحمَ اللهُ امرءاً ذبَّ عن دينِه ولو بالإحجامِ ، للضعفِ وعدمِ اليسارِ في التحصيلِ وفقهِهِ” ، وفي التنزيلِ الحكيمِ : (( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) 91 [ التوبة ] ، وفي الحديثِ : ” المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ ، وفي كلٍّ خيرٌ ” ، وإنه لَيؤسِفُ تَصَدُّرُ من ابتُلي بفتنةِ ” التَّشَبُّع ” ، ليتصدَّى لملاحمَ كبارٍ في مواجهةِ أقوامٍ خَلَفُوا صناديدَ أنزل اللهُ فيهم قولَه سبحانَه : (( وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )) 58 [ الزخرف ] ، ودقائقُ حِجاجِهم ونكدُ سِجالِهم لا يَقوَى له إلا الراسخونَ في العلمِ ، و(( ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )) 4 [ الجمعة ] .
وباللهِ التوفيقُ وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ وعلَى آلهِ وصحبهِ وسلَّم .
اترك تعليقاً