الأمن والسلام الاجتماعي هدف نظام العقوبات الإسلامي
تأملات في نتائج دراسة اجتماعية لسكن الطلاب الجامعيين
ـ الأهمية الخاصة لقانون العقوبات الإسلامي:
لا يملك المرء إلا أن يلحظ إحساس الخوف الذي ينتاب عامة الناس من جرّاء وقع كلمة قانون العقوبات الإسلامي، وما يبدو عليهم من خوف ورهبة من قسوتها المتوهمة. ومما لا شك فيه أن روح التشريع الإسلامي لا يمكن أن تقصد إلى إثارة ذلك الإحساس، فكل ما يصدر عن الإسلام لابد أن يكون فيه النفع والأمن والطمأنينة للبشر.
مثل هذه الخواطر تمر بالذهن حين يثور الجدل حول قانون العقوبات الإسلامي. وهذا الإحساس بالخوف والرهبة يتجسد خاصة حين يدور البحث في أمر العقوبات التي شرعها الإسلام، والتي تتعلق بالأخطاء والجرائم ذات الصلة بالطبائع البشرية وما جبلت عليه من فطرية عواطفها ونوازعها، وما قد يقع فيه بعض الناس ـ وخاصة الشباب ـ من جريمة الزنا والعلاقات الجنسية غير المشروعة، وما يترتب عن ذلك من عقوبة صارمة قد تكون موتاً على أقسى صوره رجماً بالحجارة.
ولذلك فإنه ليس من المستغرب أن يقلب الإنسان بين وقت وآخر نظره وأن يعمل ذهنه في قضايا هذا القانون، ومن هذه القضايا التي يمكن أن تخطر بالبال وأن تمر بالذهن دون أن تتضح حكمتها، اشتراطُ شهادة أربعة شهود شهادةً صريحة قاطعة لإثبات جريمة الزنا، وذلك في الوقت الذي يكفي لإثبات جريمة القتل والقصاص شهادة إثنين فقط.
قضية منهج:
كانت هذه بعض الهواجس التي تمر بالخاطر بشأن قانون العقوبات الإسلامي والتساؤلات التي تعرض بشأنها، والتي لا تمكن الظروف والمشاغل وطبيعة الاختصاص من تركيز البحث فيها والوقوف طويلاً عندها. لقد كان من الواضح عندي أن الإجابة عن مثل هذه القضايا لا تكون إلا من خلال فهم جوانب الفطرة التي تتعلق بالقضايا الشرعية موضع البحث، وهذا يعني منهجية يتكامل فيها الوحي والعقل والطبائع والوقائع. وقد سبق لي أن كتبت في قضايا المنهجية الإسلامية وتكامل مصادر المعرفة في الوحي والعقل والطبائع والوقائع، وكانت تجربة الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا محاولةً للقضاء على الانفصام بين الفكر والواقع ووضع حد للمنهجية الجزئية الموروثة التي كانت تعبر عن ظروف زمانها ومكانها والتي ليس لنتائجها وما ترتب عليها من رؤية فكاك عن هذه الظروف.
وبذلك كانت مهمة تجربة الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا هي أن تضع وتطور هذه المنهجية الإسلامية الشمولية، التي يتكامل فيها الوحي مع العقل والطبائع والوقائع على أساس تحليلي منضبط يقوم على اعتبار ظروف الزمان والمكان وطبيعة الخطاب ومناسبته للمخاطبين سناً وظرفاً ومعرفة وقدرة، والقضاء بشكل عملي على ظاهرة الفصام والجزئية التي أصابت العقل المسلم ومزقت نسيجه المعرفي والاجتماعي، وأدت إلى المواجهة في رحابهما بين العلماء والسلاطين لينتهي الأمر إلى عجز كل منهما عن إدراك المستجدات وتقديم الحلول والبدائل. وكانت نتيجة هذا العجز المعرفي أن لجأ كل من الفريقين إلى استخدام سلاح الخوف والإرهاب، فكرياً من جانب العلماء، وجسدياً من جانب السلاطين، وسيلةً أساسية للضبط والتحكم ومنعاً للانهيار الكامل والفوضى الشاملة. فكان ذلك سبباً في سلبية الإنسان المسلم وخنوعه والقضاء على روح الاستخلاف ي كيانه وأسلوب ممارساته الفكرية والحياتية.
وكان نموذج رجال أمثال ابن حزم وابن تيمية وابن خلدون الذين كان جمعهم لعلم الوحي وعلم الطبائع والوقائع مع تمثل نير منضبط التفكير، هو الدليل الحي الهادي لتجربة الجامعة الإسلامية العالمية وذلك بتحويل منهج أولئك النوادر ليكون مدرسةً تُحتذى في تجديد العقل المسلم وتوليد المعارف والبدائل الإنسانية المهتدية بقيم الوحي ومقاصده ومبادئه. وبذلك يصبح فكر أمثال هؤلاء الرجال ومنهج تفكيرهم مدارسَ تتجدد وتحتذى، وليس شهباً وفلتات عشوائية في أفق الفكر الإسلامي.
فتكامل علم الرجال المجتهدين وممارساتهم الحياتية، أمثال ابن تيمية وابن خلدون وابن حزم، هو الذي يفسر إذاً عطاءهم المعرفي وطاقاتهم الاجتهادية.
فإذا واجه الدارس قضية الفهم السلبي لأمر مهم وخطير كقضية طبيعة العقوبات الإسلامية والغاية منها، فإن الحل لابد أن ينبثق من خلال منهج شمولي إسلامي متكامل، فهذا هو المنهج الذي يمكن أن ينظر بواسطته في قضايا نظام العقوبات الإسلامي وغاياته ومقاصده وحكَمه، دون قهر روح الإنسان وتحطيم ثقته بذاته وفطرته وإشاعة مشاعر الخوف والرعب في ثنايا نفسه، والانتهاء به إلى خضوع العبد المقهور خوفاً ورهبة، لا خيارَ الحر الكريم في إتباع سبل الخير والرشاد.
من ثمار منهج تكامل الوحي والطبائع:
كان تطوير حرم الجامعة الإسلامية العالمية (ماليزيا) في ضاحية بتالينج جايا وما تبعه من تخطيط وبناء الحرم الجامعي الجديد في ضاحية غومباك تجربةً في بناء مدينة جامعية إسلامية، قصد منها أن تحقق القيم الإسلامية في سكن الطالب المسلم على أساس من فهم حاجاته وطبائعه في إطار هذه المدينة الجامعية وفي ظروف ماليزيا وإمكانات الموقع والموارد المتاحة.
وكان من بين القضايا التي كان لابد من التصدي لها وضع أفضل تنظيم ممكن يحقق القيم الإسلامية في أسلوب سكن الطالب المسلم.
وقد كان التصدي لتطوير هذا الحرم يتطلب إدراك القيم الإسلامية وفهم الطبائع والحاجات الإنسانية وما تستتبعه في أحوال السكن، وذلك للوصول إلى حلول وتصورات ناجعة تقدم أفضل الخدمات السكنية بأقل التكاليف. ومن العجيب أن التحليل النفسي والاجتماعي الذي اقتضاه أسلوب سكن الطلاب في إطار القيم الإسلامية قاد إلى رؤية جديدة لمقاصد تشريع العقوبات في الإسلام، ولحكمة شهادة الأربعة في جريمة الزنا، ولحكمة عقوبة الشهود إذا كانوا أقل من أربعة، واعتبار شهادتهم جريمة قذف وتشهير في حق الأبرياء.
والإشكال الأول الذي كان يعرض نفسه في تخطيط سكن الطلاب هو العدد الأنسب لسكن الطلاب في الغرفة الواحدة، خاصة أن المألوف في هذه الجامعة وفي جامعات كثيرة غيرها اشتراك عدد من الطلاب في الغرفة الواحدة مما يفقد الفرد الخصوصية التي يحتاج إليها، ويجعل الصحبة في السكن بين هؤلاء الزملاء مجالاً للخلاف والتنازع.
وأخذت في تحليل الأوضاع النفسية والاجتماعية لسكن الطالب في أحوال أعداد الصحبة المختلفة بدءاً بسكن الطالب الواحد منفرداً، وبالطبع فإنه قد يظنّ للوهلة الأولى أن سكن الطالب الواحد في غرفة مستقلة هو أفضل أحوال السكن.
وبالتمعن الاقتصادي والاجتماعي والنفسي وجدت أن هذا ليس بالحل الأمثل لسكن عامة الطلاب. فاقتصادياً، وفي بلد مثل ماليزيا تتحمل الدولة فيه جل تكلفة تعليم الدارسين، فإن سكن الطالب المنفرد أمر غير ممكن، نظراً للأعداد الكبيرة من الطلاب. وهو أيضاً ليس الأفضل من الناحية النفسية والاجتماعية. فالطالب صغير السن الذي ألف عناية أسرته وقضاء كل حاجاته في المأكل والملبس وما إليه من الاحتياجات، سيكون في حالة نفسية مضطربة، لأنه يجد نفسه فجأة مطالباً بتدبير أمور حياته مأكلاً وملبساً بعيداً عن أسرته وبيئته. ولذلك فالسكن المنفرد المعزول ليس الوضع الأمثل لمثل هذا الطالب، لأن استئناسه بزملائه ومشاركتهم التجربة أمر أفضل وأقدر على تمكينه من التكيف مع بيئته الجديدة في يسر، وإعانته على تحقيق استقلاليته وثقته بنفسه في بيئته الجديدة على غير السابق والمألوف في حياته.
وقد يخطر بالبال أيضاً أن سكن إثنين في غرفة واحدة يمثل الحل الأمثل، ولكن الأمر عند التمعن فيه يتجلى على غير ذلك، فبالنظر الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والأخلاقي يظل هذا الحل ليس أفضل الحلول من جوانب عديدة.
فاقتصادياً ما يزال هذا السكن مكلفاً، والأهم من ذلك أنه أخلاقياً قد يشجع على الانحراف، وإن كان ذلك قد لا يحدث بالضرورة. أما الإشكال الأهم الذي لا مفر منه فهو الإشكال الاجتماعي النفسي، وهذا الإشكال يكمن في صعوبة حل أي نزاع يقع بين الطرفين لأنه لا يوجد طرف ثالث يسهل مهمة حل الخلافات التي لابد أن تنشب بين رفاق السكن الواحد.
وقد ينصرف الذهن إلى أن سكن الثلاثة في الغرفة الواحدة هو الحل الأمثل، والحقيقة أن ذل ليس بالضرورة صحيحاً، لأن هذا الحل أيضاً غير موفق، وذلك أن الطبع البشري عامة قد يميل إلى تشجيع إثنين من بين الثلاثة على إقامة علاقة أوثق بينهما مما يترك ثالثهم في حالة عزلة نفسية قاسية، ولذلك نهى رسول الله (ص) عن التناجي والهمس بين إثنين في حضرة ثالث.
وهذا يقودنا بالطبع إلى فكرة سكن الأربعة في الغرفة الواحدة، وللعجب فإننا سنجد أن سكن الأربعة هو السكن الأمثل الذي يحقق الحد الأدنى للتفاعل الاجتماعي المتكامل أو ما يمكن أن يسمى بالحد الأدنى للمجتمع الإنساني المتكامل.
فمن الواضح أن الأربعة صحبة تختفي فيها كثير من السلبيات ويتحقق معها كثير من الفوائد، فنحن نجد أنه إذا توثقت العلاقة بين إثنين لأمر ما فسوف يجد الآخران في صحبتهما لأحدهما الآخر تعويضاً ومتنفساً، ولابد أن تنتهي العلاقة بين الأربعة بشكل عام إلى حالة تفاعل اجتماعي وصحبة جماعية شاملة، كما أننا سنجد أيضاً أنه إذا قام نزاع بين أي طرفين من الأطراف الأربعة فإن وجود أطراف أخرى سوف يسهل مهمة فض النزاع وإعادة المياه إلى مجاريها.
وخلال هذه المعاناة الفكرية في حل قضية سكن الطلبة والأبعاد الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي بين أفراد الجماعة الإنسانية، اتضح لي فجأة دلالة جمع الأربعة من الناحية الاجتماعية والنفسية، وبالتالي ألقى هذا التحليل أمامي ضوءاً جديداً على دلالة اشتراط نصاب الأربعة شهود في حد جريمة الزنا من الناحية النفسية والاجتماعية، ووجدت أن الدلالة الاجتماعية النفسية لاجتماع الأربعة تضع عندي حداً للتساؤل الذي كثيراً ما كان يخطر بالبال عن حكمة اشتراط أربعة شهود لإثبات جريمة الزنا وإنزال العقوبة بأطرافه، كما وجدت أن هذا التحليل يوضح عندي معنى إنزال العقوبة بالشهود إن قل عددهم عن أربعة أو لم تكن شهادتهم صريحة قاطعة بما يجعل القصد منها الإشهار والإصرار والاستهتار.
الدلالة الاجتماعية لشهادة الأربعة:
وجاءت هذه الدراسة من خلال التحليل النفسي الاجتماعي الذي قمت به في دراسة سكن الطلاب في المدينة الجامعية حيث اتضح لي أن للعدد أربعة دلالة نفسية واجتماعية كبيرة، فقد وجدت أن الأربعة يمثلون الحد الأدنى للتفاعل الاجتماعي الإنساني المتكامل مع كل ما يمكن أن ينشأ عنه من توازن اجتماعي وإشباع للحاجات الإنسانية. ولذلك كان الحد الأدنى لإثبات جريمة الزنا أربعة شهود، يشهدون شهادةً صريحة قاطعة، لأن شهادة الأربعة تعني الإشهار في أربع، ومَن أشهر في أربعة فد أشهر في مجتمع، فالأربعة هو الحد الأدنى لما يمكن أن يسمى مجتمعاً.
وهكذا يتضح من هذا التحليل وما قاد إليه من إدراك الدلالة شهادة الأربعة أن المعيار هو اعتبار أن الفعل قد تم أمام المجتمع جهراً وعلانية، وفي ذلك إشاعة وللفاحشة والفساد، وعدوان على حرية الآخرين وخيارهم، وتعريض لهم ولصغارهم دون خيار منهم لمفاسد المنحرفين، والله سبحانه وتعالى لا يحب الجهر بالسوء.
أما عقوبة الشهود الذين يل نصابهم عن الأربعة ولو كانت شهادة صريحة قاطعة، فقد وضح هذا التحليل أن حكمتها في أن عقوبة الجلد أو الرج إنما هي للإشهار وليست للفعل في حد ذاته، وذلك معناه أن الشهود دون الأربعة قد حولوا ما هو زلة أو خطيئة تمت في خفاء ليصبح فضيحة وتشهيراً، وأن ما كان في دائرة الخاص تم إخراجه إلى دائرة العام. ولذلك لا يجب أن تغيب عن أذهاننا دلالةُ اشتراط الشهود الأربعة لإثبات جريمة الزنا لأنه لو كانت عقوبة الجلد أو الرجم للفعل لكفى فيها إثنان ولكان للقرائن مكانها في إثبات الفعل. ولذلك فلابد من أربعة شهود ولابد أن تكون الشهادات صريحة قاطعة بقصد الإشهار وسلوك الاستهتار.
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) النور: 4 ـ 5.
أما توجيه السلوك الإنساني توجيهاً أخلاقياً بَنّاءً فإنه يعتمد في جوهره على حسن التنشئة وسلامة التربية وتيسير إحصان الشباب. ومن أهم ما تتم به مدافعة الرذيلة والانحراف النصح والتوعية وحسن القدوة والحض على التوبة والعظة والاعتبار. فضلاً عن الوسائل التربوية فإن لولي الأمر، حمايةً لحقوق الناس وأعراضهم، إنزال عقوبات تعزيرية بالفساق تصون المجتمع من تفشي مظاهر الانحلال والفساد.
وفي معالجة الرسول (ص) النفسية والتربوية في هذا المجال قدوة حسنة، فنحن نجد أنه (ص) حين أتاه فتى يافع أجهدته شهوته يستأذنه (ص) في الزنا، يلجأ إلى أساليب المعالجة التربوية الفعالة في مدافعة غريزة الفتى وشهواته وتمكين نفسه من ضبط غرائزها والتحكم فيها ولذلك قرب الرسول (ص) الفتى إليه في رفق ولم يلجأ إلى نهره أو زجره في هذا الموقف الحرج، بل ولم يتهدده أو يتوعده أو يصب على رأسه مواعظ العذاب والتحريم، بل نجده (ص) يخاطب قلب الشاب وكرامته ومكامن الخير في نفسه وطبعه، وذلك حين يذكره بأن كل النساء أمهات وأخوات وخالات وعمات، فإذا كان لا يرضى أن يدنس الناسُ عرضَه، فكيف يرضى لنفسه أن يدنس أعراض الناس وأن يرضى لهم ما لا يرضى لنفسه.
ووجه الرسول الكريم النصح إلى شباب الأمة بأسلوب عملي لمدافعة الشهوات بالحض على الزواج والإحصان، أو رياضة النفس وعونها على الطاعة والطهر والبعد عن المعصية والفحش فقال: ((يا معشر الشباب! مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومَن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
وقد قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) الإسراء: 32، (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان، ومَن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) النور: 24، (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) النور: 30، (أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) العنكبوت: 45، (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومَن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم) آل عمران: 135 ـ 136.
ويستفاد من التحليل السابق أيضاً أن الجهر والإشهار والإصرار والاستهتار هي الأمور المقصودة عامة فيما يتعلق بنزوات النفوس والغرائز، مثل الزنا وشرب الخمر وتعاطي المخدرات. ولذلك نجد أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رض) حين اطلع خلسة على شاربي خمر في منزلهم باعتلاء جدار الدار ورأى من أمرهم ما رأى وأراد عقابهم، جادلوه بأنهم كانوا في خاصة وخلوة ولم يجهروا بالسوء، لذلك عدل الخليفة الراشد عن عقابهم وملاحقتهم.
وعلى العكس من ذلك فإننا نجد أن العقوبة في الأموال والدماء مقصود بها الفعل لذاته، ولذلك نجد أنه وفق قواعد الشريعة يكفي لإثبات الأموال والدماء شاهدان من العدول، ولا يمكن قياساً على جرائم الغرائز وخطاياها التفريطُ في الدماء والأموال ودرء العقوبات بحجة الخصوصية عدم الإشهار، بل يكفي في إثبات جرائمها إثنان من الشهود كما يؤخذ بالقرائن في إثباتها حفظاً للحقوق والأموال وحقناً للدماء.
الأمن هو الحكمة الأعم لقانون العقوبات الإسلامي:
وعلى أساس من تحليل الأمر على النحو الذي أوردناه فإننا نجد أن الحكمة الأعم في أمر العقوبات في النظام الإسلامي أنها تهدف إلى إشاعة الأمن في المجتمع المسلم وحماية أعضائه من عدوان المعتدين، ساء في أمر النزوات والغرائز أم في أمر الأموال والدماء.
ففي حالة خطايا النفوس ونزواتها التي لا يملك الإنسان عامة أن يأمن الوقوع فيها بقطع وفي كل الأحوال وطيلة حياته، نجد أن عقوبة هذا النوع من الخطايا والجنايات ليست مقصودة للفعل في ذاته، ولكنها لعملية إشهاره والإصرار عليه والاستهتار بما يترتب عليه. والنزوات لا يتطلب إرضاؤها أو الوقوع في أوضارها الإشهار، فمن أشهر ليس له مخرج من العقاب، وذلك حفظاً لأمن الناس ورعاية لحقوقهم الدينية والخلقية. وبذلك فإن الفرد لابد أن يشعر بالأمن والطمأنينة لا الخوف والرهبة حين يعلم أن الحكمة من العقوبة التي تتعلق بالجرائم الناجمة عن النزوات هي منع أهل الفساد من إقحام فسادهم في حياة الناس وأهليهم والتغرير بصغارهم دون إرادة أو رغبة منهم. فإنزال العقوبة بالمفسد المستهتر تبعث الطمأنينة والإحساس بالأمن في نفوس أفراد المجتمع. وقسوة العقوبة إلى جانب أنها حماية حاسمة وصارمة لحقوق الإنسان الأساسية في الخيار، فإنها تدل أيضاً على فداحة الفاحشة وما يترتب عليها من آثار اجتماعية خطيرة في مجال الأسرة والمجتمع، قال تعالى: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) الإسراء: 32، وقال: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) النور: 2.
إن من أهم مزايا أحكام الشريعة الإسلامية ونظام المجتمع الإسلامي، معرفة معنى الحرية الإنسانية وإدراك حدودها، وذلك على غير حال المجتمع العلماني المادي الذي يبدو أنه قد فقد الدليل لمعرفة معنى الحرية الإنسانية ومغزى ضوابط النظام الاجتماعي الإنساني. وهذا الجهل والتخطب في هذا الأمر الأساسي يؤدي بالضرورة إلى الفوضى في العلاقات الإنسانية ويؤدي إلى انهيار النظام الاجتماعي الإنساني برمته. فكل نظام في الوجود له حدود وقواعد، وليس النظام الاجتماعي الإنساني في ذلك بدعاً، ولذلك يجب مراعاة أسس النظام الإنساني وقواعده وحدوده والوقوف عندها. وعدم القدرة على معرفة قواعد الاجتماع الإنساني وحدود أدائه يعني أيلولة ذلك النظام حتماً إلى التدهور والانهيار.
أما الجرائم المتعلقة بالأموال والدماء فإننا نجد أن العقوبة فيها على العكس من عقوبة جرائم الغرائز والنزوات، مقصودة للفعل في ذاته وليس للإشهار ولا تفزع العقوبة في مجال الأموال والدماء نفوس عامة الناس الأسوياء، فالإنسان السوي من عامة الناس لا يضمر في نفسه قصد قتل الأبرياء أو سرقة أموالهم وممتلكاتهم، ولكن الإنسان السوي من عامة الناس لابد أن يخطر بباله إمكان تعرضه خلال حياته للعدوان على حياته أو ماله، ولذلك فإن هذا الإنسان يجد في فعالية عقوبة العدوان على الأموال والدماء وتوجهها إلى واقعة الفعل في ذاته حمايةً له وحفظاً لأمنه.
وإذا كان المقصود من عقوبة العدوان على النفوس والأموال توفيرَ الحماية للأبرياء، فإن هذا لا يعني أيضاً قصد العقاب لذاته. فالعقاب ليس غاية في حد ذاته في كل الأحوال، ولكن القصد هو تحقيق الأمن، وما يتحقق به الأمن في حده الأدنى هو الحد المطلوب من العقوبة. ولذلك فإن الشريعة أعطت أولياء الدماء الحق في العفو وشجعت عليه، لأن العفو إنما يصر عن القدرة والإحساس بالأمن.
وليس صحيحاً أن طلب الحد الأدنى من العقوبات الفعالة تفريط في تحكيم الشريعة والالتزام بها، وأنه قد يؤدي أيضاً إلى التفريط في عبادات الذكر، فالفروض من عبادات الذكر إنما تمثل الحد الأدنى من عبادات الذكر، بل هما حالتان تمثلان وجهين لمفهوم واحد وغاية واحدة.
إذا أدركنا طبيعة نظام العقوبات على الوجه الذي سلف، وتكامل فهمنا للطبائع مع فهم هداية الوحي، فإن نظام العقوبات الإسلامي يصبح كما أسلفنا مصدراً للإحساس بالأمن والطمأنينة على عكس ما يسببه العض الناقص لهذا النظام، ذلك العرض الذي يروج لصورته المرعبة والمشوهة بعضُ المخلصين عن جهل، وبعضُ أصحاب الأغراض عن حقد، مما يؤدي إلى إشاعة الخوف والرهبة وانعدام الإحساس بالأمن بشكل واع أو غير واع في نفوس عامة الناس، فيقضي على مشاعر الكرامة والمبادرة والإبداع الخير في نفوسهم.
هذه الخواطر كما يرى القارئ الكريم وهذا الفهم لنظام العقوبات الإسلامي لم يكونا وليدي تأمل نظري مجرد في النصوص، ولكنهما جاءا نتيجة تمعن في الطبائع الاجتماعية والنفسية من خلال الاستجابة لحاجات اجتماعية ونفسية بعينها، فأدى ذلك التمعن إلى فهم يبدو أوفى وأشمل لنصوص الشريعة وأهدافها ودلالاتها في قضية نظام العقوبات الإسلامي ودلالاته النفسية والاجتماعية في إشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس.
وبغضّ النظر عن مدى صحة النتائج التي وصل إليها هذا التمعن والنظر والتحليل، فإن المهم أن هذا التمعن مثّل تجربة حية في نفس الكاتب جسدت ما يمكن أن يحقق التكامل بين هداية الوحي الإسلامي وإدراك الطبائع في الكائنات ومعرفة الواقع وظروفه ومتطلباته. وعلى أي حال فإن أهم نتيجة لهذا النظر والتأمل أنه مع التزامه قواعد الشريعة قدم منهجاً في عرض مفهوم العقوبة في الإسلام من شأنه تأليف قلوب الناس، ودفع مشاعر الخوف والإرهاب عنهم، تلك المشاعر التي إذا سيطرت على النفوس شلتها وقضت على مكامن القوة والفعل فيها.
ن الأمل أن يفضي مثل هذا المنهج الشمولي المتكامل ـ بين هداية الوحي وضوابط العقل ودواعي الطبائع ومستلزمات الوقائع ـ الذي تسعى الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا للأخذ به، إلى تكوين عقليات إبداعية منهجية لدى الدارسين من الشباب المسلم، تتميز بالتكامل والمعرفة والشمولية والانضباط، فيكون بذلك مصدراً فعالاً لتجديد طاقات الأمة واستعادة مكانتها والمشاركة الإيجابية الرائدة اللائقة بها في مسيرة الحضارة الإنسانية وهدايتها من متاهات دروب العلمانية المادية.
درس في المنهجية:
توضح التأملات السابقة كيف أن الدراسة النفسية الاجتماعية بشأن سكن الطلاب أمكن أن تلقي ضوءاً على قضية مهمة من قضايا الشريعة وأن توضح دلالتها والغاية منها، فلا تبقى وكأنها قضية تحكمية اعتباطية، فأصبحت بذلك قواعدَ ذاتَ معنى ودلالة في طبائع النفوس البشرية وأسس التنظيم الاجتماعي.
إن الأهمية الكبرى لهذه التجربة عند الكاتب تكمن في أنها تمثل تجربة حية عملية في فوائد المنهجية الإسلامية الشمولية وفعاليتها، تلك المنهجية التي توحد مصادر المعرفة الإسلامية وتحقق التكامل بينها والفائدة المرجوة منها في طلب الإنسان للمعرفة الحقة وبناء المجتمع السليم، وعلى الله قصد السبيل وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.
اترك تعليقاً