إنما القضاءُ فصلُ الخصومات
أشرت ُ في المقال السابق إلى تباين وجهات النظر واختلاف التصريحات الصادرة عن أصحاب المعالي رؤساء الجهات القضائية حول مسألة نقص عدد القضاة في المملكة، وهل هو حقيقة ٌ أم مبالغة؟.
وإلى ما يؤكده معالي وزير العدل الدكتور محمد العيسى من أن أزمة القضاء السعودي الحقيقية التي تعيق إنجاز القضايا على الوجه المأمول، ليست في نقص القضاة وإنما في عوامل أخرى كثيرة أبرزها النقص الحاد في أعوان القضاة والكوادر الوظيفية التي يفترض توافرها في كل مكتب قضائي، بحيث يتفرغ القاضي لعمله الأصيل في النظر في الخصومات والقضايا وإصدار الأحكام، في حين يتولى أعوان القاضي حسب تخصصاتهم المختلفة كافة الأعمال الإدارية من ضبط القضية وفهرستها وإدارة مواعيد القاضي ويتولى المستشارون منهم تحضير القضية ودراستها وتلخيصها بطريقة ٍ تختصر على القاضي نظره للدعوى.
كما تضمنت تصريحات معالي الوزير الإشارة إلى عوامل أخرى لها أهمية بالغة وحساسية شديدة أجزم ويجزم معي كل من اشتغل بالقضاء أنه لو تمت معالجة تلك الإشكالات والعمل بما ذكره معاليه من اقتراحات، أن نرى إنجاز القضايا يتم على أحسن الوجوه، وأن تتلاشى كل السلبيات التي تشاع حالياً حول القضاء في المملكة.
وقد وردتني اتصالات وملاحظات من كثير من أصحاب الفضيلة القضاة في المحاكم وديوان المظالم، تؤكد معاناتهم من النقص الحاد وضعف التأهيل لدى موظفي مكاتبهم القضائية، وكان من بين تلك الملاحظات التذمر الشديد من الحالة المتردية لأداء موظفي المحكمة العامة في الرياض على وجه الخصوص، حيث أكد لي بعض قضاتها أن القاضي في مكتبه ليس له أي ولاية أو تصرف ٌ في موظفي مكتبه، فإجازاتهم تتم دون علمه وموافقته، وتنقلاتهم الإدارية تتم دون مشورته أو استئذانه، بل إن ضعف الرقابة على الموظفين أدى لانشغال القاضي بمتابعتهم ومحاولة ضبط وجودهم دون أن يكون له في ذلك معين ٌ ولا نصير.
كما اشتكى بعض أصحاب الفضيلة القضاة في هذه المحكمة من حالة شبه غياب لدور إدارة المتابعة والرقابة على أداء الموظفين وحضورهم وانصرافهم، في محكمة يبلغ عدد المكاتب القضائية فيها أربعين مكتباً قضائياً، ويؤكد لي أحد القضاة أنه يعمل في المحكمة منذ أكثر من سنتين لم يمر به يوماً مفتش واحد من هيئة الرقابة والتحقيق للسؤال عن الموظفين لديه.
إن من أنجع الوسائل لضبط أداء موظفي المحاكم أن يتم ربط الموظفين مباشرة بفضيلة القاضي، وأن توضع المعايير الموحدة لتقييم الموظف وتقارير كفايته وترقيته ولضبط حضوره وانصرافه ولإجازاته وتنقلاته، ثم يكون المعني بذلك هو القاضي نفسه، وبذلك يكون للقاضي هيبته وقدرته التامة على ضبط أداء الموظفين لديه مع مشاركة إدارة المتابعة في كل محكمة في هذا الأمر، بحيث يكون دورها يتسم بالتنسيق التام والتكامل مع دور فضيلة القاضي.
وهذا الأمر لو تم سيقضي على البطالة المقننة التي ترزح فيها المحاكم، ويزداد مستوى الإنجاز.
وقد أكد لي أحد القضاة أنه اضطر في أحد الأيام إلى تأجيل جلسات قضائية بسبب غياب الموظف المختص الذي لم يكن يعلم سببه.
وفي حالات كثيرة يفاجأ القاضي حين سؤاله عن غياب أحد موظفيه أنه تم نقله إلى مكتب قضائي آخر! ومثل هذه الملاحظات التي لا يجوز بحال السكوت عنها تؤكد ما سبق أن أشرت إليه في أحد المقالات من أن عملية تطوير القضاء تتطلب بالدرجة الأولى الاعتماد على الكفاءات المؤهلة من الشباب لقيادة مشروع التطوير، ممن يدركون الظروف المرحلية التي تجعل تطوير القضاء والنهوض به خياراً لا بديل عنه، وممن يملكون القدرة على الإبداع، ولا يتهيبون من التحديث والتطوير، بدلاً من أن يبقى في قيادات المحاكم وإداراتها الرئيسية رجل واحد عشرين أو ثلاثين سنة!!
ولعل أصدق شاهد على ذلك ما قام به معالي الدكتور محمد العيسى منذ توليه كرسي الوزارة من إنجازات تصب في صالح التطوير وتحديث أداء الأجهزة القضائية، رغم أن بعض الخطوات الإصلاحية التي قام بها معاليه كانت في السابق لا ترقى إلى درجة الأمنيات والأحلام، فضلاً عن أن تكون واقعاً ملموساً خلال فترة وجيزة.
والسمة البارزة لتلك الإصلاحات القضائية والإدارية أن معاليه استعان في تحقيقها بالكفاءات المشهود لها من جيل الشباب المقتدر المؤمن بأهمية التطوير سواء في وكالات الوزارة، أو في كتابات العدل، أم في الإدارات الرئيسية للوزارة والمحاكم.
وإن كنا نأمل أن يتابع معاليه إصلاحاته بنفس هذا المستوى من الطموح والتحرر من البيروقراطية والجمود، كما نأمل أن يتابع الوفاء بما وعد به من خطوات وإنجازات مماثلة، ونلتمس له العذر في حاجته إلى الوقت الكافي لتحقيق طموحات وتوجيهات خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – التي يتوخى تحقيقها في مرفق القضاء، ولم يدع للقائمين عليه أي عذر في توفير الدعم المالي والمادي والمعنوي لهم.
وكم كنت أتمنى أن يبادر المجلس الأعلى للقضاء بخطوات تطويرية لا تتطلب الكثير من الجهد، ولا تحتاج إلى توفير مبان ٍ أو موظفين، بقدر ما تحتاج إلى شيء من المرونة والتحرر من البيروقراطية، وهذه الخطوات أهم بكثير وأحسنُ أثراً وفائدة من قرار إنشاء المحاكم التجارية الذي تم الإعلان عنه، وذلك بأن يسعى المجلس الموقر إلى سرعة تحرير القضاة من الأعمال الإنهائية التي تقتل وقت القاضي قتلاً، وهي ليست من اختصاصه فوظيفة القضاء الأصيلة هي الفصل في الخصومات، فلا يجوز إثقال كاهل القضاة بأعمال توثيقية تزاحم وظيفتهم الأصلية، وتزيد في معاناتهم، وتجعل باب القاضي مزدحماً بالمراجعين من كل شرائح المجتمع ما بين طالب ِ إثبات حياة ٍ إلى طالب إثبات وفاة!!.
فهل يترك القاضي الفصل بين الخصوم ليتولى توثيق الوصايا التي كان الناس في السابق يوثقونها لدى من اشتهر بينهم بأمانته بمجرد كونه يعرف القراءة والكتابة؟.
كما أنه لم يعد من المقبول في ظل الحاجة الملحة لتطوير القضاء واستغلال كل الطاقات فيه، أن يكون هناك قضاة ٌ يتمتعون بكافة امتيازات القضاء ويشغلون وظائف قضائية بينما يتولون توثيق أنكحة غير السعوديين في محاكم الضمان والأنكحة، في حين يتولى توثيق أنكحة السعوديين أقرب مأذون يضع لوحة على باب بيته أو على طرف جداره!!.
ولا أدري ما السر وراء بقاء الأمر على ما كان عليه؟
ولماذا لا يتخذ المجلس الأعلى للقضاء قرارات فاعلة لوضع حدٍ لهذه العوائق التي تحول دون تطوير القضاء وسرعة إنجاز القضايا؟ رغم أنه مضى على صدور نظام القضاء أكثر من سنتين ونصف.
إن المعاناة الحقيقية التي أرهقت كاهل القضاة، وحالت بينهم وبين الإنجاز، بل حتى أدت لفقد بعض القضاة للصبر والحلم والرفق بالناس، بأنهم وجدوا أنفسهم في دوامة من أعمال لا تنتهي، ينظر القاضي في إثبات حياة وتوثيق وصية ثم ينتقل للنظر في قضية زوجية ثم في قتل ثم دعوى عقار إلى غير ذلك من اختصاصات لا نهائية.
ورغم ذلك فهو يصارع لوحده في مكتب قضائي خاو على عروشه بلا أعوان ولا كفاءات قادرة على تخفيف هذا الحمل.
ولعل القارئ الكريم ينتقد ملاحظاتي بحجة أن نظام القضاء الجديد تضمن الكثير من المعالجة لهذه الإشكالات، وأنه لا يمكنني أن أطلب من الإصلاحات في يوم ما يحتاج إلى سنة؛ وجوابي عن ذلك: بأن كل ما أشرت إليه لا يحتاج فعلاً إلا إلى عزيمة الشباب وإرادة التغيير والإصلاح، ولا أظن أن هناك عوائق تحول دون تحقيقه، أسوة بما اتخذته وزارة العدل فيما يخصها من خطوات تطويرية وإصلاحية أصبحت محل امتنان الجميع وثنائهم.
وختاماً أؤكد أن المشكلة ليست في نقص القضاة، وأن القضاة المعنيين بالأمر ينادون بسرعة تحريرهم من القضايا الإنهائية، وبإمدادهم بالكوادر والكفاءات الوظيفية التي تمكنهم من أداء وظيفتهم الأصلية في الفصل في الخصومات، فلماذا لا نعطي القضاة حق تقرير المصير؟! ولماذا لا نسمع منهم إلى تشخيص المشكلة واقتراح الحلول؟ ونبادر بإنجاز ما يمكن لنا إنجازه منها؟
اترك تعليقاً