أحكام قضائية سعودية في العقار
صدر عن وزارة العدل الإصدار الثاني لمدونة الأحكام القضائية, واشتمل على عدد من الأحكام في القضايا الإنهائية والأحوال الشخصية والحقوقية والجنائية, وتميز الإصدار بعدد من قرارات الهيئة القضائية, وقد كانت المرجعية القضائية العليا قبل إنشاء مجلس القضاء الأعلى, وتعد قراراتها من أفضل القرارات القضائية صياغة ومضمونا, ولو جمعت وحدها ونشرت بعد تصنيفها لأظهرت المستوى القضائي العالي في طريقة التعامل مع الأحكام القضائية, والعمق في فهم الوقائع ودقة التكييف لها, ومهنية عالية في التعامل مع أحكام المحاكم الابتدائية وفقا لما تقتضيه القواعد القضائية.
وعودا على المدونة فقد اشتملت على بعض الأحكام القضائية المتعلقة بالعقار- وسنعلق على بعضها إن شاء الله في هذه الزاوية -, ومنها: الصك رقم 40/2 بتاريخ 10/5/1408هـ الصادر من رئاسة محاكم المنطقة الشرقية, والمتضمن الحكم بفتح دكان المدعي المؤجر على المستأجر الغائب, واستند القاضي في حكمه إلى عقد ملكية المدعي للبيت, وانتهاء عقد الإجارة, وشاهدين يشهدان بغياب المدعى عليه, وتقرير من الجهة المختصة بغيابه, وقرر الحكم أن على مأمور بيت المال تسلم ما في الدكان وحفظ ما لا يتأثر بالحفظ والتخزين, وبيع ما يتلف أو يتأثر بالتخزين, كما قرر أن الغائب على حجته إذا حضر, وقد تأيد الحكم من محكمة التمييز, وهذا – في الحقيقة- هو غاية ما يملكه القضاء في التعامل مع هذه القضايا وفقا للأنظمة المعمول بها, حيث إن عقود الإيجار لا تعد سندا تنفيذيا كافيا عن الأحكام، وبالتالي فلا بد من صدور حكم قضائي من المحكمة المختصة وهو ما حصل في هذه القضية, وبالمناسبة، فالمطالبة باعتبار العقود الموثقة – بما فيها عقود الإيجار- سندا تنفيذيا كافيا عن صدور أحكام من المحاكم المختصة جرى تضمينه في مشروع التنفيذ الجديد, الذي يدرس الآن في الجهات المختصة, وفي حال إقراره فسيكون نظر القضايا من قبل قضاة التنفيذ مباشرة.
وفيما يتعلق بالحكم فقد قرر القاضي أن على مأمور بيت المال تسلم ما يوجد في الدكان وحفظه إلى حين مراجعة صاحب العلاقة, وبيع ما لا يمكن حفظه, وهذا يستند إلى أن بيت المال في المحكمة هو المعني بحفظ أموال الغيب ومجهولي الحال والمفقودين, و “بيت المال المحكمة” يرتبط برئيس المحكمة, وله أحكام وإجراءات تكفل حفظ الأموال وبيعها عند الحاجة, ويختلف عن “بيت مال المسلمين” والأخير هو المراد عند الإطلاق في كلام الفقهاء وله أحكام تخصه, وفيما يتعلق ببيت مال المحكمة فسوف ينقل من المحاكم – وزارة العدل- إلى الهيئة العامة لأموال القاصرين ومن في حكمهم بعد إنشائها.
وقد قرر القاضي- كذلك- أن الغائب على حجته متى ما حضر, وهذا هو ما يقرره الفقه، حيث إن العدالة تقتضي ذلك, وهو يشابه – نوعا ما – ما يقرره القانون من أن الأحكام الغيابية خاضعة لالتماس إعادة النظر لمجرد كونها أحكاما غيابية, وتفصيل ذلك والمقارنة بين ما قرره الفقهاء سابقا بما انتهى إليه القانون اللاتيني في هذا الموضوع وغيره، محله مكان آخر إن شاء الله, كما قرر القاضي رفع الحكم إلى التمييز وهو رفع وجوبي حسبما تقضي به الأنظمة.
أشرت في المقال السابق إلى صدور الإصدار الثاني من مدونة الأحكام القضائية من وزارة العدل, وتضمنها عددا من الأحكام المتعلقة بالعقار, ومن هذه الأحكام: ما ورد في الصك رقم 8 في 21/5/1422هـ الصادر من المحكمة العامة في ثادق, وتتلخص وقائع القضية في أن المدعي اشترى من المدعى عليه أرضا في الرياض بمبلغ قدره أربعون ألف ريال, وأنه حين الشراء لم يشاهد الأرض وإنما وصفت له من قبل البائع “المدعى عليه”, وقد تبين له فيما بعد أنه غبن فيها غبنا فاحشا حيث إن الأرض لا تساوي أكثر من ثمانية آلاف ريال, وأنه قد فسخ البيع من قبله ويطلب من المدعى عليه إعادة المبلغ, وقد عرض القاضي الدعوى على المدعى عليه وأقر بكل ما فيها إلا ما يتعلق بقيمتها الحالية فلا يعلم عنه شيئا, وأنه غير مستعد لإعادة المبلغ. وقد استعان القاضي بالخبراء “هيئة النظر ومعها بعض المكاتب العقارية” للإفادة عن وجود الغبن من عدمه فقرروا أن هناك غبنا واضحا حيث إن الأرض لا تساوي أكثر من عشرة آلاف ريال.
واستنادا إلى ما سبق من وقائع, ولما قرره الخبراء من وجود الغبن الواضح, ولما قرره الفقهاء من أن من غبن في المبيع غبنا يخرج عن العادة فله حق الخيار في الفسخ, وأنه لا يتوقف على حكم حاكم, فقد حكم القاضي بأن البيع منفسخ وأن على المدعى عليه إعادة المبلغ للمدعي, وقد صدق الحكم من محكمة التمييز بالقرار رقم 622/ق2/أ في 26/8/1422هـ.
وتعليقا على هذه القضية يلاحظ ما يلي:
أولا: أن موقع الأرض في الرياض, والدعوى منظورة في محافظة ثادق, اعتبارا لمحل المدعى عليه لنص المادة (34) من نظام المرافعات الشرعية, حيث لا أثر لمحل العقار في تحديد الاختصاص لمحلي خلافا لما هو شائع عند كثير, وإنما له تأثير في الاختصاص الدولي, وبينت ذلك بالتفصيل في مقالة مستقلة.
ثانيا: يلاحظ أن المدعي قرر أنه لم ير الأرض حين العقد وإنما وصفت له, وصادقه على ذلك المدعى عليه, ومع ذلك لم يقرر الحكم تأثير ذلك في العقد وصحته, وسببه: أن العلم الرافع للجهالة يتحقق برؤية المبيع أو وصفه وصفا كافيا, والمبيع هنا موصوف.
ثالثا: قرر الحكم حصول الغبن الواضح استنادا إلى تقرير الخبراء, وهذا يعني أن المعمول به هو أن تحديد ذلك يرجع إلى العرف, حيث لا يوجد في الأنظمة تحديد لذلك والفقهاء مختلفون في تحديده.
رابعا: أرقام مهمة في القضية, افتتحت الجلسة الأولى في 12/3/1422هـ, تاريخ الحكم في 21/5/1422هـ, تاريخ مصادقة التمييز في 26/8/1422هـ, إذ استغرق نظر القضية خمسة أشهر وأربعة عشر يوما, شاملا قيدها والجلسات والكتابة للخبراء في الرياض, ومن ثم الحكم فيها, ومدة الاعتراض, والمصادقة عليها من محكمة التمييز في الرياض.
الخلاصة: أنه بقدر ما أن هناك تأخر في البت في بعض القضايا, فالكثير منها يفصل فيه في وقت مقبول, والله أعلم.
كان الحديث في المقال السابق عن أحد أحكام المدونة القضائية الصادرة عن وزارة العدل, وخلاصته صدور حكم من المحكمة بإفهام المتداعيين بانفساخ العقد بينهما لثبوت الغبن الواضح وذلك بطلب المدعي للغبن, حيث ادعى أنه اشترى العقار بـ 40 ألف ريال, وقد ثبت بعد الاستعانة بالخبراء أن الأرض لا تساوي أكثر من عشرة آلاف ريال, بمعنى أن الربح كان بنسبة 300 في المائة, وكنت أشرت في التعليق على الحكم بما نصه: قرر الحكم حصول الغبن الواضح استنادا إلى تقرير الخبراء, وهذا يعني أن المعمول به هو أن تحديد ذلك يرجع إلى العرف, حيث لا يوجد في الأنظمة تحديد لذلك والفقهاء مختلفون في تحديده, وأضيف هنا أن الظاهر من الحكم هو: اعتبار وجود الغبن المجرد فقط, ولم يبحث في وجود التغرير مع الغبن, وهما قولان مشهوران في الفقه الإسلامي, الأول: يقضي بثبوت الخيار بمجرد وجود الغبن, والثاني: يشترط اقتران التغرير مع الغبن, والمعمول به في القضاء في المملكة القول الأول كما في الحكم المشار إليه.
ومن النصوص المهمة في هذا الخصوص ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – حيث يقول:لا يجوز لأحد استرسل إليه أن يغبن في الربح غبنا يخرج عن العادة وقد قدر ذلك بعض العلماء بالثلث, وبعضهم بالسدس, وآخرون قالوا يرجع في ذلك إلى عادة الناس وقال أيضا:..وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل لأنه شبه بيع المضطر.
ومن أقواله الفقهية التي لها مساس بما نعيشه في الوقت الحالي من جشع بعض التجار ورفعهمالأسعار وربحهم الزائد عن العرف:.. وإذا وجب عليهم – أي التجار- أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم, أو دخلوا طوعا في ما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة, فلا يبيعوا الدقيق والحنطة إلا بثمن المثل, ولا الخبز إلا بثمن المثل بحيث يربحون الربح بالمعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس, والنصوص منقولة من كتاب مبادئ الاقتصاد الإسلامي – نصوص اقتصادية مختارة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية , تأليف :د.عبد العظيم الإصلاحي, وهو كتاب جيد في موضوعه.
ومن أحكام المدونة القضائية الصادرة عن وزارة العدل: الصك رقم 39/6/6 الصادر عن المحكمة الكبرى العامة في الدمام بتاريخ 14/1/1414هـ والمتضمن دعوى شخص على آخر غائب ويذكر المدعي أن الغائب قد باعه كامل بيته الموصوف في الدعوى بموقعه ومساحته ووثيقة التملك, وأن البائع قد تسلم الثمن ووقع على وثيقة المبايعة, ووعده أن يفرغ له العقار لدى الجهة المختصة كتابة العدل إلا أنه لم يحضر في الموعد, وأنه لم يجده بعد ذلك, وقد قدم البائع وثيقة المبايعة للمحكمة والمتضمنة تأكيد ما ورد في دعواه من جهة البيع, كما أحضر شاهدين شهدا على صحة البيع وتفاصيله, وجرى تعديلهما, ثم قرر القاضي أنه جرى البحث عن المدعى عليه الغائب بواسطة الجهات المختصة في السجن والمستشفى ومن خلال عمد الأحياء, كما جرى الإعلان في صحيفة اليوم بإقامة الدعوى وضرورة مراجعة المدعى عليه للمحكمة, وبعد هذه الإجراءات واستنادا إليها فقد قرر القاضي ثبوت واقعة البيع, وأن ملكية البيت انتقلت إلى المشتري المدعي, وأن الغائب على دعواه متى ما حضر, وقد صدق الحكم من محكمة التمييز بالقرار رقم 145 في 19/3/1414هـ.
وتعليقا على هذا الحكم أشير إلى ما يلي:
أولا: الواضح من الحكم أخذه بما تقرر في الفقه الحنبلي – وهو المستقر قضاء في المحاكم- أنه يُحكم للغائب بالبينة, وهي هنا وثيقة المبايعة, والشاهدان العدلان, أما في حال لم يوجد بينة فإن القضاء – في الغالب – لا يحكم له, وهذا يؤكد: ضرورة توثيق المبايعات, والأشهاد عليها, وهو ما ورد الأمر به في الآية .. وأشهدوا إذا تبايعتم…
ثانيا: من المبادئ القضائية المستقرة في قضاء المحاكم: تقرير أن الغائب على حجته متى ما حضر, وهو مبدأ عدلي يحفظ الحقوق للطرفين, حيث لا يؤخر المدعي عن حقه, ولا يمنع المدعى عليه من تقديم بينته في حال حضوره, وكل ذلك مع توفير الضمانات اللازمة للمدعى عليه – كون الأصل خلو ذمته من الالتزامات- بالبحث عنه من خلال الجهات المختصة والإعلان في الصحف, وطلب البينة من المدعي على دعوها.
والمراد في أن الغائب على حجته هو: حقه في طلب إعادة القضية إلى المحكمة لتقديم ما لديه من بينات لنقض الحكم الصادر ضده, وهذا في الحقيقة هو ما تقرره قوانين المرافعات, وأخذ به نظام المرافعات الشرعية في المملكة لاحقا, من جواز طلب التماس إعادة النظر في الأحكام الصادرة غيابيا.
ثالثا: تقرير ضرورة رفع الحكم إلى محكمة التمييز لتدقيقه, وهي ضمانة أخرى للمدعى عليه الغائب, وذلك للتحقق من صحة الجوانب الإجرائية والموضوعية وتوافقها مع الفقه والنظام.
اترك تعليقاً