تعليـق علـى قـرارات أحالـة الموظـف الـى المحاكمـة
منعت المادة (136/ب) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المعدل أحالة الموظف المتهم بأرتكاب جريمة أثناء تأدية وظيفته الرسمية وبسببها على المحاكمة مالم يأذن الوزير التابع له . ولقد سبق وأن تم الطعن بأمتناع أحد الوزراء عن أعطاء الأذن بأحالة موظف تابع له على المحاكمة أمام محكمة القضاء الأداري فأصدرت المحكمة قراراً برقم 93/ق أ/1992 في 19/9/1992 , قضت فيه بأن الأمتناع المذكور صلاحية مخولة للوزير المختص, وهي سلطة تقديرية متروكة له بأعتباره يمثل سلطة الدولة , يمارسها ضمن الحدود المسموح بها في القانون وعلى وفق ضوابط وأعتبارات يقتنع بها مراعياً في ذلك تغليب المصلحة العامة ومستلزمات حسن تطبيق القانون , أما الهيئة العامة لمجلس شورى الدولة فهي الأخرى قضت في قرار لها صدر تحت رقم 46/أداري/تمييز/2001 في 2/7/2001 بأن الصلاحية القانونية الممنوحة للوزير المختص طبقاً لأحكام المادة (136/ب) من قانون أصول المحاكمات الجزائية لسنة 1971 المعدل هي صلاحية شخصية كونها محصورة به وتقديرية وتقوم على مبدأ المواءمة , ولهذا قررت أعتبار الحكم المطعون فيه صحيحاً وموافقاً للقانون.
وبعد سقوط النظام السابق أصدر مدير سلطة الأئتلاف المؤقتة (المنحلة) مذكرة برقم (3) لسنة 2003 قضى في الفقرة (هـ) من القسم (4) منها تعليق العمل بأحكام المادة (136/ب) من قانون أصول المحاكمات الجزائية , إلا أن مجلس الوزراء والذي كان يمارس السلطة التشريعية في حينه , أصدر الأمر المرقم (14) لسنة 2005 والمتضمن أعادة العمل بأحكام المادة (136/ب) من الأصول الجزائية فما كان من المفوضية العامة للنزاهة إلا أن تهرع الى المحكمة الأتحادية العليا طاعنة بالأمر المذكور تحت ذريعة أنه خارق لأحكام الفقرة (ج) من المادة (24) من قانون أدارة الدولة العراقية للمرحلة الأنتقالية لسنة 2004 الملغى ومتعارض مع أحكام الفقرة (ج) من البند (4) من الأمر رقم (55) لسنة 2004 والذي تم بموجبه تأسيس المفوضية العامة للنزاهة , وبعد تسجيل الدعوى لدى المحكمة المذكورة والأستيثاق من توافر شروط القبول بحثت في موضوعها فتبدى لها أن المادة (136/ب) من الأصول الجزائية لاتتضمن حصانة الموظف , لأن الأذن ورد على الأحالة دون الأجراءات الأخرى وهي المباشرة معه بالتحقيق , أذ أن الأخير يجري بمجرد الإخبار بوقوع الجريمة وتتخذ جميع الأجراءات القانونية وعند أنتهاء التحقيق يتم أخذ الأذن من الوزير المختص , أذا كانت الأدلة كافية للأحالة . أما أذا أمتنع الوزير المختص عن أعطاء الأذن فأن بأمكان المتضرر إقامة الدعوى أمام محكمة القضاء الأداري على وفق أحكام الفقرة (د/ثانياً) من المادة (7) من قانون مجلس شورى الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل , وأن الحكم الصادر من محكمة القضاء الأداري قابل للطعن فيه تمييزاً أمام هذه المحكمة , لذا والحال هذه لايكون قرار الوزير بعدم أعطاء الأذن باتاً وقطعياً وأنما له طريق طعن قانوني وبالنتيجة فأن الموظف لايتمتع بأية حصانة تعفيه من الجريمة , هذا بالأضافة الى أن النص المطلوب إلغاؤه يعطي الوزير المختص قدراً معيناً من تقدير الموقف بالموافقة على الأحالة أو عدم الموافقة أذا وجد أن التهمة المسندة الى الموظف لاتستأهل الأحالة على محكمة جزائية أو أنها كيدية يراد بها الأساءة الى سمعته أو هيبة الوظيفة العامة . ولما ورد من أسباب قضت المحكمة بقرارها المرقم 1/أتحادية/2005 في 29/5/2006 رد دعوى المدعي وتحميله الرسوم . هذا وبعد بث مضامين القرارات المشار اليها في أعلاه , نود التعليق عليها بما ياتي:-
1. أتجهت محكمة القضاء الأداري والهيئة العامة لمجلس شورى الدولة الى أعتبار السلطة الممنوحة للوزير المختص بموجب المادة (136/ب) من الأصول الجزائية حصينة من رقابة القضاء وبالتالي ليس له التدخل ومراقبة حسن أستعمالها , فهي من مختصات الأدارة وهذا أتجاه غير سليم , لأن السلطة التقديرية ليست سلطة تحكيمية سائبة , بل سلطة منضبطة تعمل في حدود القانون فلاتتعداها فأن داخلها الزيغ والأنحراف , حق للقضاء التدخل وإلغاء القرار الأداري المتمحض عنها.
2. ورد في قرار المحكمة الأتحادية العليا أن المادة (136/ب) من الأصول الجزائية لاتقرر حصانة للموظف , لأن الأذن ورد على الأحالة دون الأجراءات الأخرى , وهذا تعليل غير مقنع , لأن المادة المشار اليها أنطوت على حصانة للموظف , فالوزير يستطيع أن يرفض أحالته الى القضاء , فتذهب الجريمة سدى ويكتوي المجني عليه بنارها ويتحمل كرهاً آثارها , وهذا مجافٍ للعدالة أشد الجفاء , ثم ماقيمة التحقيق الذي جرى مع الموظف , أذا كان هناك مانع قانوني من أحالته الى القضاء؟
3. ذهبت المحكمة الأتحادية العليا الى أن أمتناع الوزير عن أعطاء الأذن يعد قراراً أدارياً قابلاً للطعن فيه أمام محكمة القضاء الأداري بالأستناد الى أحكام الفقرة (د/ثانياً) من المادة (7) من قانون مجلس شورى الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل , وهذا تفسير منطقي لأحكام المادة المذكورة , آية ذلك أن أمتناع الموظف أو الهيئات في دوائر الدولة والقطاع العام عن أتخاذ قرار كان من الواجب عليها قانوناً أتخاذه يعد قراراً أدارياً سلبياً يجوز الطعن فيه أمام محكمة القضاء الأداري حسبما نصت على ذلك الفقرة (و/ثانياً) من نفس المادة , وبالتالي لايعد من قبيل القرارات المذكورة الأمتناع المتمحض عن سلطة تقديرية , إلا أن ذلك لايعني ترك مثل هذا الأمتناع حصيناً من رقابة القضاء , لا بل المقتضى أيضاً تسليط الرقابة القضائية عليه حتى لايكون فُرطاً . بناءً عليه فأن الأستمساك بأحكام الفقرة (د/ثانياً) من المادة (7) من قانون مجلس شورى الدولة وأعتبار أمتناع الوزير عن أعطاء الأذن بأحالة الموظف الى المحاكمة منضوياً تحت مظلتها لهو خير وأحسن تأويلاً.
4. ذكرت المحكمة الأتحادية العليا أن قرار محكمة القضاء الأداري قابل للطعن فيه أمامها , وبالتالي فأن أمتناع الوزير عن أعطاء الأذن بالأحالة ليس باتاً وقطعياً . وبشأن ذلك وحوله نقول أن أختصاصات المحكمة المذكورة والواردة في دستور 2005 جاءت على شاكلة الحصر وبالتالي فأن نص المادة (4/ثالثاً) من قانونها المرقم 30 لسنة 2005 والذي منحها أختصاص النظر في الطعون على أحكام وقرارات محكمة القضاء الأداري يتعارض مع أحكام الدستور وبالتالي فأن مصيره الأهمال طالما أن الدستور لم يجز للقانون تكملة أختصاصات المحكمة . وعليه فأن مايأتي به القانون من أختصاصات جديدة ليس بذي قيمة قانونية . وهذا ما أستقرت عليه أحكام المحكمة العليا الأمريكية ففي قضية أشتهرت بـ (قضاة منتصف الليل) قضت المحكمة بعدم دستورية قانون أتحادي أضاف اليها أختصاصاً جديداً . فلو أراد الدستور أضافة أختصاصات جديدة الى المحكمة الأتحادية العليا بقانون لأجاز ذلك صراحة كما فعل الدستور المغربي في الفصل الحادي والثمانين منه ودستور الأمارات العربية المتحدة في المادة (99) منه.
5. أن المادة (136/ب) من الأصول الجزائية تضمنت من وجهة نظرنا حصانة ذات عود سقيم وحماية لامسوغ لها للموظف , لا بل أنها شكلت خرقاً مبيناً لمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون , فمن يرتكب جريمة جنائية يجب أن ينال جزاءه الأوفى عنها سواء أكان فرداً عادياً أو موظفاً , أما التذرع بحماية الموظف من الدعاوى الكيدية أو المحافظة على هيبة الوظيفة العامة فهو حجة داحضة لأنه بالأمكان أتخاذ الأجراءات القانونية بحق المخبر عن جريمة وهمية أو من يرمي المساس بهيبة الوظيفة العامة . كما لاخشية على الموظف المحال الى المحاكمة لأنه برئ حتى تثبت أدانته . لقد تنبهت دول عديدة للضرر المترتب على الحصانة الممنوحة للموظف فأسقطتها بضربة قاضية من لوح تشريعاتها ومنها فرنسا عام 1875 , لهذا فالحري بالمشّرع العراقي أن يتأسى بالدول المذكورة فيلغي نص المادة (136/ب) من الأصول الجزائية لأننا نعيش في زمن أنتشر فيه الفساد أنتشار النار في الهشيم , فلنبدأ بحرب ضروس ضده ولنقتلع جذوره الغليظة حتى يعود العراق بلداً سليماً معافى ينعم الجميع بخيراته وما ذلك ببعيد.
اترك تعليقاً