بحث قانوني و دراسة حول السن القانوني للزواج
سن الزواج
دراسة فقهية، قانونية، اجتماعية
الباحث
أحمد عبد المنعم أبوزنط
2009
مقدمة
الحمد لله بداية كل أمر ونهايته، والشكر له على النعم وما قد يخصنا به من المحن، والحمد والشكر لله موصول على نعمة العلم ونسأله تعالى أن ييسر لنا سبله وأن يرزقنا الصبر والحلم.
قال تعالى ” ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” الروم (21)
خلق الله الإنسان وعَلِم ما توسوس به نفسه، خلقه من روحٍ وجسد وجعل فيه الخير والشر، خلقه وجعله في الأرض خليفة وعَلِم أنه سَيُفسِد فيها ويسفك الدماء، فمنذ الأزل قتل الأخ أخيه، الأب بنيه والابن أبيه، منذ الأزل كان الإنسانُ للإنسانِ صديقاً وعدو؛ تقاربا وابتعدا تعاونا واختلفا، وحلَّ بينهما السلمُ والحرب، البغضاء والمحبة، منذ الأزل وإلى اليوم الإنسان كما هو؛ لم يتغير عليه شيء فهو المحبُ للسلام وهو الجانحُ للعنف.
هذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومن فطرة الإنسان بأنه ميّالٌ للاستقرار، وأين يجد الاستقرار في غير محيط أسرته ليعيش فيها متفيئاً ظلال المودة والرحمة والأمن والأمان، ليشعر هو بإحساس الأبوة وتشعر هي بغريزة الأمومة، ولمّا كان الإسلام دين الفطرة ما كان له أن يمنع الإنسان عن فطرته ويكبت غرائزه بل على العكس من ذلك جاء الإسلام الحنيف مشجعاً مشرعاً مبيحاً الزواج ومحبباً به ليكون بذلك مستجيباً للطبيعة البشرية فلا تعارض ولا تناقض ما بين الإسلام وفطرة الإنسان.
موضوع ثار حوله الجدل مراراً وتكراراً واختلفت حوله الآراء والقوانين وتبع هذا الاختلاف تعديلات متلاحقة للنصوص القانونية وهذا الموضوع يكمن في تحديد سن الزواج، وهذا ما سأتناوله تمحيصاً وتحليلاً في البحث الآتي.
فإذا قصرت في محاولاتي المخلصة فحسبي أن الكمال لله وحده، وإن حالفني توفيق المولى فذلك منتهى الأمل وغاية الرجاء، والحمد لله بداية كل أمر ونهايته وهو من وراء القصد وإليه حسن المآل.
تمهيد
الزواج لغة: من زَوَجَ، والزوجُّ هو خلاف الفرد، وزوج المرأة بعلها، وزوج الرجل امرأته، والزوج لفظ مذكر؛ يوضع للمذكر والمؤنث وضعاً واحداً فقد قال تعالى “اسكن أنت وزوجك الجنة”.
الزواج اصطلاحاً: “عرف الفقهاء الأقدمون الزواج بأنه عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر على الوجه الشروع”
وعرف قانون الأحوال الشخصية الأردني في المادة الثانية منه الزواج بأنه:
” الزواج عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعاً لتكوين أسرة وإيجاد نسل بينهما”
أما عن مشروعية الزواج فكما ورد في المقدمة بأنه أمر فطري منذ بدء الخليقة فالله تعالى خلق سيدنا آدم عليه السلام وخلق له من نفسه زوجاً ألا وهي سيدتنا أم البشرية حواء كما أن الله جعل الزوجية فطرة الكون فقال تعالى في محكم تنزيله:”ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون” وبذلك جعل الله الزواج مشروعاً وأكد على ذلك رسول الهدى نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك فيما روي عنه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال “جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال أخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، واتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”
وفي القوانين المستحدثة الوضعية لم يحرم الزواج بل وضعت اللوائح القانونية منظمة له مبينة اجراءته ومتطلباته وفتحت له محاكم خاصة لتنظيم شؤونه وتسهيلها على العامة.
هذا وقد باءت كل الأصوات والتشريعات التي وضعت العراقيل في وجه الزواج وفي وجه الفطرة الإنسانية بالفشل الذريع وقد انفض الناس من حولها فلم يعودوا يؤمنوا بالرهبانية والعكوف عن الزواج لأي سبب كان.
أهمية الزواج
أما عن أهمية الزواج فالحديث يطول ولكن اختصاراً أورد ما يلي:
1- الزواج يلبي حاجات الإنسان وغرائزه فهو يأتي استجابة لنداء الفطرة كما أنه يضمن العفة والطهارة فهو علاج وقائي للأمراض الاجتماعية من انتشار الفواحش وجرائم الاغتصاب وهتك العرض كما أنه ضمانة من انتشار الأمراض الجنسية كالإيدز وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”.
2- الزواج يحقق السكينة والرحمة والمودة وهذا هو منطوق قوله تعالى” ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” ونحن بإزاء آية كريمة تنطق نوراً وتروع صدقاً وقوة مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً، فهي تقرر أن المرأة آية من آيات الله… خلقها من أنفس الرجال، لا من طينة أخرى … وخلقها لتكون زوجة لا لتكون خادمة، وخلق تلك الزوجة ليسكن إليها؛ والسكن أمر نفسي، وسر وجداني يجد فيه المرء سعادة لشمل المجتمع، وأنس الخلوة التي لا تكلف فيها”
3- الزواج يضمن تكاثر النسل والمحافظة على الجنس البشري من الزوال وبذلك نستطيع عمارة الأرض وتحقيق معنى الخلافة فيها لحمل رسالة الإيمان والإسلام.
4- الزواج من شأنه أن يشبع غريزة الأمومة لدى الأمهات والأبوة لدى الآباء فنُكَون بذلك أسرة سوية ينعم أفرادها بجوٍ من الطمأنينة لتشكل هذه الأسرة نواة لمجتمع سليم خالٍ من الآفات الاجتماعية والجرائم الأخلاقية فتتوطد بذلك أواصر المحبة بالمجتمع ليكون بذلك كالبنيان المرصوص.
_ المبحث الأول _ سن الزواج بين الدين والقانون
_ المطلب الأول _سن الزواج في الشريعة الإسلامية
لم يرد نصاً في القرآن الكريم ولا بالسنة النبوية الشريفة على وجود سن معينة للزواج ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في سن التاسعة من عمرها ولكنه لم يدخل بها قبل بلوغها الحادية عشر.
وهنا نرى أن الإسلام لم يربط انعقاد عقد الزواج بالبلوغ والبلوغ لغة: من بَلَغَ الشيء بُلُوغاً وبَلاغاً: وصل وانتهى وبلغ الغلام أي احتلم كأنه بلغ وقت الكتاب عليه والتكليف والبلوغ أيضاً يرد بمعنى الإدراك.
أما اصطلاحاً فالبلوغ هو: “بلوغ الحد الذي يصبح فيه الصغير مكلفاً، يجب عليه القيام بالتكاليف التي كلفه الله بها وصحة تصرفاته بيعاً وشراءً وهبةً ووصيةً وزواجاً وطلاقاً ونحو ذلك.”
وبذلك يكون زواج الصغير جائزاً صحيحاً نافذاً وإن لم يصل سن البلوغ الشرعي ولكن تكمن التفرقة هنا بأن الصغير الذي لم يبلغ بعد ليس له أهلية في إبرام العقود بنفسه فهو غير مكلف بعد “وفي مذهب أبي حنيفة لا ينعقد زواج الصغير غير المميز ولا المجنون ولا المعتوه وزواج كل منهم باطل وكذلك لا ينعقد زواج الصغيرة غير المميزة ولا المجنونة ولا المعتوهة، وينعقد زواج الصبي المميز (سبع سنوات قمرية فأكثر حتى البلوغ) والصبية المميزة والمجنونة والمعتوهة بولاية الأولياء عليهم والبالغ العاقل والبالغة العاقلة لهما أن يزوجا نفسيهما”. وبذلك نرى أن تزويج الصغير غير المميز لنفسه يعتبر باطلاً فلا يفيد حكماً ولا تتبعه نفقة ولا إرث ولا عدة وكل ما يترتب على الزواج الصحيح من أثار.
إذاً زواج الصغار تحت سن التميز باطل وإن تم بموافقة الولي وينعقد الزواج صحيحاً إذا تم ببلوغ الصغير سن التمييز وبموافقة وليه.
وعلى هذا الأمر استقر القضاء المصري حتى صدر القانون رقم 56 لسنة 1923 الذي منع سماع دعوى الزوجية إذا كانت سن الزوجة اقل من ست عشرة سنة وسن الزوج اقل من ثماني عشرة سنة وكان ذلك مطلقاً حتى قُيد بقانون ترتيب المحاكم الشرعية رقم 78 لسنة 1931 وفي نص المادة 99/5 بأنه ” ولا تسمع دعوى الزوجية إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة أو سن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة إلا بأمر منا”
أما بالنسبة لباقي الفقهاء (فيما عدا أبو حنيفة) فقد اختلفوا فيما بينهم بمدى مشروعية تزويج الولي للصغير فمنهم من اشترط أن يكون الولي أباً ومنهم من اشترط شروطاً أخرى بالولي كالكفاءة.
ولكن يثور تساؤل هنا هل يكون العقد موقوفاً على إجازة الصغير حين يبلغ الحلم أم أنه يكون ملزماً وأنا صراحة لم أجد جواباً لهذا السؤال فالعقود الموقوفة يختص بها القانون المدني وهي تتحدث عن العقود المدنية وليس عقد الزواج ولكن تكمن المشكلة أن عقد الزواج للصغير إن كان موقوفاً على إجازته حينما يكبر سوف لن يترتب عليه التزاماً فلا يعد عندها فسخ العقد طلاقاً لأنه لم يثبت بعد.
_ المطلب الثاني _سن الزواج في قانون الأحوال الشخصية
أما عن سن الزواج في قانون الأحوال الشخصية الأردني فقد حددته المادة الخامسة ببلوغ الثمانية عشرة سنة شمسية للإناث والذكور وجعلته شرطا لأهلية الزواج فإن فُقد هذا الشرط أُعتبر الزواج فاسداً وهذا بحكم المادة 34 من القانون ذاته التي نصت “يكون الزواج فاسداً في الحالات التالية:
1. إذا كان الطرفان أو أحدهما غير حائز على شروط الأهلية حين العقد… ”
ويترتب على أن يكون العقد فاسداً ما يلي:
– أولاً: يحكم القاضي الشرعي بالتفريق بين الزوجين إن لم يفترقا سواء نتج عن الزواج دخول أم لا.
– ثانياً: الزواج الفاسد الذي لم يقع به دخول لا يترتب عليه أي أثر ولا يفيد حكماً أما إذا وقع دخول فيلزم به المهر والعدة ويثبت النسب وحرمة المصاهرة ولا تلزم الأحكام كالإرث والنفقة قبل التفريق أو بعده
– ثالثاً: لا تسمع دعوى فساد الزواج بسبب صغر السن إذا ولدت الزوجة أو كانت حاملاً أو كان الطرفان حين إقامة الدعوى حائزين على شروط الأهلية.
وعودة لنص المادة الخامسة من قانون الأحوال الشخصية والتي أعطت حكماً أخر عُد فسحة للتنفس ورفعاً للحرج فكان بذلك اقرب للصواب وهذا الحكم يتمثل بجواز إعطاء القاضي الإذن بالزواج لمن لم يتم سن الثامنة عشر بشرط أن يكون قد مضى من عمره خمسة عشر سنة وأن يكون في هذا الزواج مصلحة تحدد أسسها بمقتضى تعليمات تصدر عن قاضي القضاة لهذه الغاية.
أما التعليمات التي صدرت عن قاضي القضاة فتتمثل بما يلي:
يجوز للقاضي أن يأذن بزواج من أتما الخامسة عشرة سنة شمسية من عمرهما ولم يتم أحدهما أو كلاهما الثامنة عشر سنة شمسية وذلك وفقاً للأسس التالية:
1- أن يكون الخاطب كفؤاً للمخطوبة من حيث القدرة على النفقة ودفع المهر ونرى من هذا الشرط أن معيار الكفاءة يكمن في قدرة الخاطب على النفقة ودفع المهر ورجوعاً لنص المادة 20 من القانون ذاته يتضح لنا أن الكفاءة المعتد بها في المال فقط وتراعى الكفاءة عند العقد فقط فإن زالت بعد ذلك فلا يؤثر ذلك على الزواج.
2- أن يكون في زواجهما درء مفسدة أو من شأنه عدم تفويت مصلحة محققة لهما وهذا الشرط واسع ويعود تطبيقه للقناعة الوجدانية للقاضي.
3- أن يتحقق القاضي من رضاء المخطوبة واختيارها وأن مصلحتها متوفرة في ذلك أو يثبت بتقرير طبي إذا كان أحد الخاطبين به جنون أو عته أن في زواجه مصلحة, وهذا الشرط يُعد ضماناً للمخطوبة للتأكد من رضاها وأنه لم يقع عليها إكراه أو إجبار.
4- أن يجري العقد بموافقة الولي وهنا إذا كان الولي من غير أبيه أو جدها وعضلها فلها أن تطلب من القاضي تزويجها إن لم يكن لوليها سبب مشروع لعضلها أما إذا كان وليها أبوها أو جدها فلا يستمع لطلبها إلا إذا أتمت الثامنة عشر من عمرها وكان عضلها بدون سبب مشروع وذلك بمقتضى حكم المادة (6) من قانون الأحوال الشخصية.
5- أن ينظم محضر يتضمن تحقق القاضي من الأسس التي اعتمدها لأجل الإذن بالزواج ويتم تنظيم حجة إذن بالزواج حسب الأصول والإجراءات المتبعة وذلك ضماناً للحقوق وخوفاً من نشوء نزاع بالمستقبل.
ويلاحظ على هذه التعليمات أنها جاءت استناداً لنص المادة الثانية من القانون التي عرفت الزواج، وكان الأولى أن تأتي هذه التعليمات استناداً لنص المادة الخامسة لأنها هي التي أشارت إلى وجوب إصدار هذه التعليمات عن قاضي القضاة.
كما أن هنالك ملاحظة أخرى تمثلت بخروج المشرع عن نص المادة 185 من قانون الأحوال الشخصية والتي نصت على أن ” المراد بالسنة الواردة في هذا القانون هي السنة القمرية الهجرية”
حيث نصت التعليمات الصادرة عن قاضي القضاة والمادة الخامسة من القانون بأن سن الزواج هو ثمانية عشر سنة شمسية.
وهذا خروجاً على المبدأ العام بقانون الأحوال الشخصية ولكن يمكن القول أن هذا الأمر يرجع في نهايته للمشرع حيث أن هنالك مبدأ يقر بأن النص الخاص يقيد العام وهذا يعتبر من النصوص الخاصة التي أتت مقيدة للحكم العام.
كما أنه لا بد من لفت النظر أن التحديد بالسنوات الشمسية لم يرد إلا على سن الزواج بثماني عشرة سنة وبذلك يكون الإذن لمن بلغ الخامسة عشرة من عمره احتساباً على السنوات القمرية الهجرية وليست الميلادية وذلك رجوعاً للمبدأ العام.
ومن الأمور التي أثارت اهتمامي هو وجود نقص بالتشريع القانوني فالمادة (185) من قانون الأحوال الشخصية جاءت بمبدأ عام، وأتت المادة الخامسة من القانون ذاته لتقيد هذا المبدأ في جزئية سن الزواج بكونه ثمانية عشر سنة تحتسب بالسنوات الشمسية وكان الأولى بالمشرع عندما صاغ المادة (185) أن ينتبه لهذا التقييد وأن يلفت النظر إليه لتكون نص المادة كالأتي ” مع مراعاة ما جاء في المادة (5)، المراد بالسنة الواردة في هذا القانون هي السنة القمرية الهجرية” وبذلك يكون المشرع قد أزال اللبس وحسم أمر التعارض بين نصوص القانون.
والجدير بالذكر أن عدم التقيد بسن الزواج المحدد بالقانون والأحكام التي سبق ذكرها يتعلق فيها شق جزائي حيث نصت المادة (179) على معاقبة من زوج فتاة أو أجرى مراسيم الزواج لفتاة لم تتم الخامسة عشرة من عمرها أو ساعد في إجراء مراسيم زواجها بأي صفة كانت، أومن زوج فتاة أو أجرى مراسيم الزواج لفتاة لم تتم الثامنة عشرة من عمرها أو ساعد في إجراء مراسيم زواجها بأي صفة كانت دون أن يتحقق من موافقة وليها وتكون عقوبته الحبس من شهر إلى ستة أشهر.
– المبحث الثاني –العنوسة بين الشريعة والمجتمع
– تمهيد وتقسيم –
إن أول ما يجب التحدث عنه هو تعريف العنوسة لغة واصطلاحاً:
العنوسة لغة: العنوسة والتعنيس، مصدر مأخوذ من الفعل “عَنَسَ “، وعنّسها أهلها أي حبسوها عن الزواج حتى جازت فتاء الناس، وهو يستخدم للرجال والنساء فيقال رجل عانس وامرأة عانس: وهو الذي يبقى زماناً بعد أن يدرك ولا يتزوج
أما العنوسة اصطلاحا ففد عرفها الدكتور محمد خالد منصور بأنها ” بقاء الرجل أو المرأة بدون زواج بعد مضي السن المناسبة له عادة لسبب من الأسباب مع حاجته إليه ورغبته فيه أو امتناعه عنه”
وشرحاً لهذا التعريف يضيف الدكتور محمد منصور بأن بقاء الرجل والمرأة دون زواج أي بقاءهما بدون زواج بعد مضي الوقت المناسب له وعليه نستطيع أن نضيف على هذا القول أنه لا يعد عانساً من لم يتزوج وما زال بعمر الزواج الافتراضي ولا يعد كذلك عانساً من تزوج ولو لساعات ثم طلق وإن لم يتزوج بعدها قط، كذلك يطلق وصف العانس على كل من تعداه السن المناسبة للزواج حتى وإن لم يتزوج لعدم رغبته في الزواج.
أما بالنسبة للتقسيم في تناول مبحث العنوسة، فلم يقصد فيه تفريق العنوسة في الإسلام عن العنوسة في المجتمع؛ لأننا لا نستطيع أن نفصل الدين عن المجتمع، خاصة عندما يكون الدين دين الإسلام، الشامل، الكامل لكل ما في الحياة والذي لا يَصلح لكل زمان ومكان وحسب؛ بل هو من يُصلِحُ كل زمان ومكان، وعندما يكون المجتمع كبيئتنا مجتمع إسلامي، يدين بالإسلام ويحكمه في كل مناحي الدنيا والآخرة… أيضاً لا نستطيع فصله عن الدين. وبما أن المجتمع يستقي أعرافه الملزمة وعاداته التي يدندن عليها من المؤثرات والعوامل التي يعتقد بها ويراها صحيحة كان لابد لمجتمع كمجتمعنا أن يستقي عاداته وأعرافه بما يتفق والعقيدة ويتماشى مع الشريعة.
وبذلك يكون هدف التقسيم هو بيان الأحكام الفقهية بالنسبة للعنوسة في مطلب أول، وبيان الآثار الاجتماعية في مطلب ثانٍ.
-المطلب الأول _العنوسة في الفقه الشرعي
ما هو السن الذي إذا تجاوزته المرأة وهي غير متزوجة تعد عانساً ؟
لم يحدد أحد من الفقهاء سناً معينة تعتبر المرأة بتعديه وهي غير متزوجة عانساً باستثناء فقهاء المالكية الذين اختلفوا فيما بينهم في تحديد سن العنوسة فمنهم من قال ثلاثون سنة وأخر قال خمس وثلاثون سنة وقيل أربعون سنة وهناك من قال بالخمس والأربعين سنة وقيل أيضاً ستون سنة والرأي الراجح أن تحديد سن العنوسة يرجع لعرف الناس ويختلف باختلاف الزمان والمكان.
وبذلك لا يكون هنالك سن معينة حتى تعتبر المرأة عانساً وإن مرد ذلك للعرف السائد في الزمان والمكان ومن الطبيعي إذاً أن يختلف سن العنوسة بمرور الزمن كما قد يتغير أيضاً السن المناسب للزواج كما من المتوقع أن يتغير سن العنوسة من بلد لأخر ومن بيئة لأخرى وهذا سيأتي بيان تفصيله في المطلب الثاني.
أما عن حكم أخذ إذن المرأة العانس في الزواج بحيث هل يُكتفى بسكوتها كعلامة للرضا أم يشترط أن تصرح برضاها.
وبهذا أيضاً اختلف الفقهاء فهنالك من رأى أن المرأة العانس “تعامل معاملة البكر في الاكتفاء بسكوتها وإن زالت بكارتها بطول التعنيس” وهذا هو قول الحنفية والمشهور من مذهب المالكية والأصح عند الشافعية والمذهب عند الحنابلة. أمّا الرأي الثاني فيتمثل بأن العانس تعامل كالثيب إذا زالت بكارتها بالتعنيس وهذا قول المالكية في رواية ابن وهب.
وقد رجح الدكتور محمد منصور رأي من ذهب إلى أن العانس تُعامل معاملة البكر عند تزويجها وإن زالت بكارتها بالتعنيس وذلك لأنه أقرب للأصل فهي لم تزل بكارتها من وطء ولم تعاشر الرجال فيبقى لديها حياء الأبكار. وهذا ما أميل إليه.
العنوسة المقصودة أمر لا يرضاه الدين الإسلامي وإن لم يحرمها تحريماً مطلقاً وذلك حتى لا يحرج العباد ويضيق عليهم في خصوصياتهم فترك أمر الزواج لرضاء الناس وتقديرهم لأحوالهم ومع ذلك فقد حبب الإسلام الزواج لقلوب الخلق وسيّر سبله بل جعله عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل فأنزل الله تعالى في محكم تنزيله آيات تحث على الزواج فتعبدنا بتلاوتها أناء الليل وأطراف النهار.
ومن النصوص الشرعية الحاثة والمرغبة بالزواج:
1- قوله تعالى: ” ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة…” وقد سبق تبيان مدى إعجاز هذه الآية في المبحث السابق.
2- قول الرسول صلى الله عليه وسلم “من استطاع منكم الباءة فليتزوج …”
3- قال تعالى: “وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادك وإمائكم”
4- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم”
5- وأضيف جميع الأدلة الشرعية التي سبق ذكرها ومنها حديث الرهط الثلاث وأتجنب ذكرها منعاً للتكرار المخل.
– المطلب الثاني-العنوسة في ميزان المجتمع
العنوسة آفة في المجتمع منذ الأزل فهي ليست بالظاهرة المستحدثة ولا الجديدة إلا أنه قد طرأ عليها عوامل جديدة أدت إلى تفاقمها وازديادها حتى أصبحت تهدد بنيان المجتمع ولا بد من دق ناقوس الخطر ولفت الانتباه لهذه الظاهرة القديمة الجديدة فهي قديمة في عهدها جديدة بصورها وانتشارها.
إن سن العنوسة بالمجتمعات أمر نسبي يتبع تطور الأعراف ومستجدات الحياة ولكن بنظرة سريعة على سن العنوسة عبر الزمان نرى انه آخذ بالتصاعد فمنذ القدم كانت الفتاة تزوج عند بلوغها وفي البيئات الحارة يصل سن البلوغ للإناث تسع سنوات أما اليوم وحتى في مجتمعاتنا المحافظة نسبيا نرى انه قد ارتفع سن الزواج وما زال آخذ بالارتفاع.
وكتطبيق عملي نأخذ مثالاً في الأردن حيث كان العرف السائد فيما مضى بتزويج الفتاة متى بلغت وكان السن المناسب للزواج بين السادسة عشر والثامنة عشر وهذا هو المتوسط حيث كان من المألوف أن تتزوج الفتاة بسن الرابعة عشر وكانت الفتاة التي بلغت سن العشرون يُتردد في خطبتها والزواج بها وذلك لأنها أصبحت قريبة لسن العنوسة أمّا العرف اليوم فقد تتزوج الفتاة ببلوغ الثامنة عشر وتعتبر أيضا ما زالت صغيرة بنظر المجتمع ولكن متوسط سن الزواج بين التاسعة عشر حتى الخامسة والعشرون، وكمثال على تنوع الأعراف بتغير الأماكن نرى أن في فلسطين سن الزواج للإناث بين السادسة عشر حتى التاسعة عشر وللذكور بين التاسعة عشر والثلاثة والعشرون، كما أن الأعراف تتنوع داخل البلد الواحد لا بل قد تتنوع بين العائلات في المنطقة نفسها.
والأعراف تتبدل وتتطور وفقاً لمتطلبات المجتمع واحتياجاته ويستلزم بالأعراف وجود ركنين ألا وهما العادة والإلزامية وتكون العادة باستمرار الناس عليها فترة طويلة من الزمن حتى باتوا يشعروا بإلزاميتها، وأما عن سبب تتطور الأعراف في سن الزواج وارتفاعه فيعود بالطبع للعادات الجديدة التي دخلت في مجتمعنا وليس بالضرورة أن تكون هذه العادات سيئة بل على العكس هنالك منها ما هو حميد كتأخر سن الزواج بسبب شعور المجتمع بأهمية إكمال الدراسة ولو للثانوية وأنا أستغرب ممن يقودون حرباً ضروس ضد التعليم للإناث وكأنه هو
الذي رفع سن الزواج وأدى لانحراف الشباب عن جادة الصواب وتناسوا أن العلم فريضة ورفعة للأمم وقوة للدول وحصانة للعقول وسداً منيعاً بوجه الجهل الذي يريدونه لنا أعداء الإسلام، كما أن الذي يضعون باللائمة على العلم تناسوا أن انحراف الأخلاق ليس بسبب العلم وإكماله بل على العكس العلم يرفع صاحبه ولكن تكمن المصيبة فيمن يستخدمون الفضيلة سلماً للوصول للرذائل فيستخدمون العلم والالتحاق بالجامعات وسيلة للانحراف عن الأخلاق والابتعاد عن قيم الدين الحنيف إذا المشكلة تكمن فينا نحن؛ فنحن الذين نستخدم الحق للوصول إلى الباطل والعلاج يبدأ في تربية الجيل تربية صحيحة منذ الأساس لا بتحميل العلم خطيئة فساد المجتمع.
ومن العادات المستحدثة التي أثرت على ارتفاع سن الزواج وبالتالي زيادة العنوسة هو غلاء المهور ومتطلبات الزواج وتكلفاته التي يفرضها المجتمع على طالب الزواج مما يؤدي لعزوفه عن الزواج وبذلك كان واجباً على الدولة تقديم يد المساعدة والعون للراغبين في الزواج وتأمين العمل لهم حيث أن البطالة والفقر سبب رئيسي في زيادة العنوسة وكما يقع عاتق التكافل الاجتماعي على ظهر المؤسسات والأفراد للتكاتف لتأمين أولئك الذين لا يجدون للزواج سبيلا ويكون ذلك من خلال أموال الزكاة والصدقات والتبرعات أما الذين يدعون لتعدد الزوجات على أنه يخفف من ظاهرة العنوسة فأقول بأن ذلك له أثر في تخفيف العنوسة ولا ريب ولكن الم يكن الأولى بالقادر على التعدد بدل أن يتزوج الاثنتين والثلاث والأربع بحجة القضاء على العنوسة أن يقوم بتزويج من لم يجد من الشباب للزواج من قدرة واستطاعة، هذا إن كان مدعياً حرصه المخلص القضاء على العنوسة، أما إن كان هو راغباً بالزواج الثاني فلا حرج عليه ولكن ليس هنالك داعٍ لتستر وراء شعار القضاء على العنوسة.
المراجع
1- لسان العرب لابن منظور _ الجزء الأول والسادس – الطبعة الأولى _ دار إحياء التراث العربي / مؤسسة التاريخ العربي _ بيروت 2006
2- الأحوال الشخصية للمصريين المسلمين فقهاً وقضاءً / دراسة تحليلية مقارنة بالتشريعات العربية (1)_ المستشار محمد الدجوى _ دار النشر للجامعات المصرية _ القاهرة 1974
3- فتح الباري بشرح صحيح البخاري – ابن حجر العسقلاني – تعليق الشيخ ابن باز دار المعرفة – بيروت
4- تحفة العروس _ محمود مهدي الاستانبولي _ الطبعة السادسة _ دار الفكر للنشر والتوزيع _ عمان 1985
5- الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني – أد. عمر سليمان الأشقر – الطبعة الثالثة – دار النفائس للنشر والتوزيع – عمان 2006
6- مهلا يا دعاة العنوسة/ دراسة فقهية اجتماعية – الدكتور محمد خالد عبد العزيز منصور – الطبعة الثانية – دار المناهج للنشر والتوزيع – عمان 2000
7- صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة
8- سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي، دار الكتاب العربي
9- الجامع المتين للأنظمة والقوانين – تيسير محمد الزعبي – عمان 2003
الفهرس
المقدمة ……………………………………….. 2
التمهيد ……………………………………….. 3
أهمية الزواج ………………………………….. 4
المبحث الأول: سن الزواج بين الدين والقانون …… 5
– المطلب الأول: سن الزواج في الشريعة الإسلامية…… 6
– المطلب الثاني: سن الزواج في قانون الأحوال الشخصية 8
المبحث الثاني: العنوسة بين الشريعة والمجتمع ……… 12
تمهيد وتقسيم ……………………………………. 13
– المطلب الأول: العنوسة في الفقه الشرعي ………. 14
– المطلب الثاني: العنوسة في ميزان المجتمع ……. 16
المراجع ……………………………………….. 18
اترك تعليقاً